مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الامتداد الصوفي في التاريخ

     من المعلوم أن التصوف تجربة مشدودة بعالم المثال و الواقع، وذهبنا إلى كون الصلحاء عملوا على الانفتاح على المحيط، وشددوا على جوهرية الإفادة والنفع للخلق. فليس بعد المعرفة والوصول إلا إيصال الخير للعباد، والطريق الصوفي عمل بمقتضى هذه القاعدة، فانطلق من الذات لإعادة تشكيلها على مبادئ الأخلاق، حتى تصير الأفعال والسلوكيات مما لا يشوبها أي انحراف، على اعتبار أن القصد والإرادة والتوجه محور السلوك والعمل والخدمة. ولا شك أن هذه القيم الأخلاقية في المجال الصوفي، هي التي أعطت سلوكا اجتماعيا ناجعا، جعلها تقوم بأدوار إنسانية مختلفة، خصوصا في محطات القلاقل والأزمات. كما نلاحظ أن هذه السلوكات الاجتماعية لها علاقة بالانتماء الأخلاقي، أي أن الأدوار التي قام بها رجال التصوف داخل المجتمع، نجدها تنشط دائما في إطار المشارب الأخلاقية؛ وهذا لا يتحصل لدينا الأمر نفسه بالنسبة للمشارب الإشراقية، وهو الشيء الذي أعطى للممارسة الصوفية في بلاد المغرب حضورا قويا، وانتشارا واسعا، لم يقتصر على مجال دون مجال، وإنما شمل بحيويته مختلف المجالات والأطياف والطبقات.

      وقد كان الدور الصوفي، خصوصا في البادية، نابعا من حاجات المجتمع البدوي، ك: فض النزاعات على الماء، والقيام بالاستسقاء أوقات الجفاف، والتحكيم في القبيلة، والتدخل لدى السلطة لرفع مظلمة، وإن دوره في المدينة كان مشتقا من حاجياتها؛ فتوارد السكان على المدينة من جهات شتى وقد يكون بعضهم بدون سند مادي ولا عائلي، كان معه الصوفية في خدمة الغريب المريض، كما كان بعضهم يسعى إلى تفريق الصدقة على الفقير والمسكين، وإطعام الطعام [1]. وبالرجوع إلى كتب التراجم والمناقب يتبين لنا مدى سريان طريق التصوف وعمومها داخل مختلف الشرائح، الغني/الفقير، العالم/الأمي، المتجرد/المتسبب، الصغير/الكبير....الخ. وهنا نستحضر ما قد أشرنا إليه سابقا أيضا، إلى الدور الذي لعبته «الكرامة» في المعالجة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، بحيث لم يقتصر دور رجال التصوف من الناحية الاجتماعية على الجانب الأمني، بل تعداه إلى جوانب أخرى خاصة تهم النشاط التجاري، وتسهيل ربط وتأمين الاتصال بين المناطق [2]، وهو الشيء الذي يبطل دعوى كون التجربة الصوفية منزوية عن الواقع المادي، ومفصولة عن حاجيات الناس.

الفرع الأول: ظاهرة التوسل والاستسقاء.

     من الظواهر البارزة خلال هذه الحقبة الوسيطية، مختلف الأزمات والاضطرابات التي عرفها المجال المغربي، والتي لامست في معظمها الجوانب الاجتماعية للمجتمع، ففضلا عن الأوضاع السياسية المتأزمة التي شهدتها المرحلة الانتقالية للسلطة، فإن هناك أيضا مخلفات اقتصادية واجتماعية وأمنية مساوقة لهذا الوضع، وهي التي استدعت من رجال التصوف التدخل، وذلك من أجل تدارك انعكاساتها على عموم الناس، خصوصا الطبقات الفقيرة منهم. علما بأن هناك من الأمور التي لم تكن ناتجة عن أسباب بشرية، كانحباس المطر مثلا، والتي جعلت الناس يهرعون إلى الأولياء بعدما عجزت الأسباب المعهودة لديهم عن إخراجهم من أزماتهم؛ فلما أجدب الناس جدبا شديدا في وقت الولي أبي زكرياء الجراوي، جاؤوا إليه يسألونه أن يستسقي لهم، فاستسقى لهم فسقوا [3]. كما رُؤي أبو الحسن الصنهاجي وهو يدور في المسجد خلف السواري، فكان كلما فتش سارية انتقل إلى أخرى... فلما ظن أنه لم يكن معه أحد في المسجد، استقبل القبلة ورفع يديه إلى السماء، قنطنا يا رب، قنطنا يا رب، قنطنا يا رب، فأغثنا. فو الله ما أكمل كلامه حتى سمعت وقع القطر وأمطرت السماء مطرا وابلا[4]، وهو الشأن أيضا مع الشيخ أبي العباس أحمد، الذي صعد يوم الجمعة خطيبا، استسقى على المنبر، فلم ينزل عنه حتى سقي الناس، وجاء السيل في الوادي، ويذكر أن أهل البلد جاؤوا إلى داره ليشكروه، فأبى أن يخرج إليهم، وقال: قولوا لهم: فعل الله عز وجل في ملكه ما يشاء، وجئتم تشكرونني على فعل الله؟ انصرفوا عني [5]. وهو حدث تربوي توحيدي بارز، يبين أن اشتغال الولاية إنما هو من باب الاعتقاد بالتصرف الإلهي، وأن ليس للولي إقدام أو إحجام، أو عطاء أو منع، وإنما الأمر موكول إلى الفاعل الأصل عز وجل، وهو عمق ما تشير إليه هذه الواقعة للولي الصالح أبي العباس أحمد.  فتوسل الناس إذا  بالأولياء وصلحاء الوقت، ليس هو مما يقدح في حقائق الإيمان، ولا هو مما يشوش أصول الاعتقاد، بقدر ما أنه التماس«إجابة الدعوة» من الصلحاء والأولياء المقربين، وذلك بتوجههم إلى الله ودعائه،  على اعتبار أن هؤلاء الخاصة من الناس، هم الأجدر بأن يستجاب لهم، لما هُم عليه من صدق التوجه، وصفاء الباطن، وصلاح الحال، وإلا فإن مجال العقيدة ومستلزماتها كان محفوظا ومقررا عند عموم الناس، وقد عمل العلماء على تحصين أمرها، ودفع الشبهات المُثارة حولها، وأن جل صلحاء هذا العصر كانوا من العلماء العاملين، فلا يحتمل السياق التشكيك في سلوكهم.

الفرع الثاني: ظاهرة الجود والإكرام.

     تعتبر الأدوار التي باشرها رجال التصوف لها أبعاد إنسانية رفيعة، ولها أيضا مقاصد تربوية روحية عظيمة، فكثيرا ما يشاهد عند الصلحاء، ارتباط مسألة الإطعام مثلا بالمقامات والأحوال، يروى عن محمد الدغوغي عبارة شهيرة في هذا الشأن، وهي: «طلبنا التوفيق زمانا فأخطأناه فإذا هو إطعام الطعام» [6]. وهو الأمر أيضا يحكى عن أبي يعزى يلنور، فقد كان مذهبه إطعام الطعام، وكان يطعم الزائرين صنوفا من الأطعمة، على أن يكتفي هو بعيون  الدفلي، ولما سئل بماذا نال تلك المقامات المُحصلة لديه، قال: بإطعام الطعام [7]، مما جعل أهل التصوف يتنافسون في هذا الأمر، رجاء حصول المطلوب لديهم، كما أن هذا السلوك مرتبط بإرادة الإفادة والنفع، كأصل من أصول الممارسة العملية الإسلامية. وقد تحدثنا سابقا على أن الولاية عندما تستكمل دورتها العرفانية، لا يبقى لها إلا إرادة الإفادة والرحمة للخلق، لتصير إلى العمل الاجتماعي وغيره كتجل من تجليات العلاقة الموصولة بين الواقع والمثال، خصوصا في أوقات الأزمات والاضطرابات؛ فقد كان لأبي زكرياء قمح من غرفتين على ما حكاه التادلي، فأسر إلى عبد الله الحضرمي أن يتصدق بجميع القمح الذي في الغرفة الواحدة، ففرقه على المساكين، وحين رأى الحال اشتد بالناس، أمر أن يلحق الغرفة الثانية بالأولى، ثم أخرج قدرا من سمن لم يبق له شيء سواه، فجعل يخرج السمن ويجعله على أوراق الكرنب، فانصرم ذلك العام ولم يبق من ماله شيئا [8]. كما أن الشيخ محمد بن إبراهيم المهدوي كان قد خرج يوما من منزله قاصدا المسجد الجامع، وذلك في عام شديد، فرأى جماعة من المساكين يصيحون: الجوع، الجوع، فرجع إلى داره وقال: كيف يكون حالي، والناس يصيحون من الجوع، وعندي في الدار زرع كثير ؟ فتصدق بجميع ذلك، وكان جملة وافرة [9]، فكثيرة هي الأحداث التي استدعت من رجال الولاية التدخل، بقصد رفع المعانات عن المجتمع.

وقد كان للصوفي أبي العباس السبتي نظرية في مفهوم الصدقة، باعتبار أن جوهر الإصلاح يقوم على منع تكديس الأموال، وذلك بإقناع أغنياء المجتمع وفقرائه بِمَدِّ جسور التراحم الأفقي باعتباره السبيل الوحيد للتخفيف من الآثار السلبية للتحولات الطبيعية القاسية، داعيا في البداية إلى محاربة العوارض النفسية المثبطة للهمم عن الإنفاق، من بخل وشح وأثرة، وسماها بالعلة العظمى، مدعما في المقابل أواصر البذل والإيثار والصدقة، بغية تشكيل مجتمع تقل فيه عناصر التمايز الاجتماعي [10]، مما لقي استجابة لدى أعلى سلطة في الدولة الذي أصدر أوامره بتمكين الفقراء والمساكين والضعفاء من مدخرات بيت المال تحت إشراف أبي العباس السبتي، وذلك لِما رأى من اختلال التوازنات الاجتماعية والاقتصادية والطبقية أيضا في البلاد، وهو ما أثار الفيلسوف ابن رشد الذي أرسل أحدهم لمعرفة مذهب الرجل، فلما تحصل له ذلك، قال : هذا رجل مذهبه الوجود ينفعل بالجود[11]، ما يبرز أن مظاهر الاختلال التي يعاني منها المجتمع، قد تكون ناتجة أساسا عن سلوكيات أخلاقية فاسدة، كما أن معالجتها يكون بطريق ترسيخ قيم أخلاقية محمودة مضادة لها، بما يحقق توازنا عادلا وسلوكا صالحا، وهو الشيء الذي سلكه أبو العباس السبتي.  مما يفيد أن المعالجة الصوفية معالجة أخلاقية أساسا.

الفرع الثالث: ظاهرة الحماية والاستقرار.

     لقد ربطنا سابقا مسألة انتشار الظاهرة الصوفية لأدوار التي مارسها رجال التصوف في مختلف المجالات التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية...، وذلك على أساس صعوبة إيجاد نقطة محددة ينبني عليها معطى بداية تشكل الطريق الصوفي في المغرب. وهو الشيء الذي قادنا إلى بيان انعكاس العمل الصوفي على الواقع المعيش، انطلاقا من المقومات الأخلاقية التي تتحلى بها الشخصية الصوفية، مثل الصدق والعطاء ومراعاة الحق في الأشياء، بما ساهم في أن يتخذ الصلحاء مكانا لهم داخل المجتمع، وأن يؤثروا برصيدهم الروحي في توازن مؤسسات البلاد، خصوصا في أوقات الفتن والنزاعات، والتي استدعت من رجال التصوف التدخل والتفاعل وقضايا الناس، بحيث لم يقتصر دورهم من الناحية الاجتماعية على ذلك الجانب المعيشي، بل تعداه إلى جوانب أخرى، خاصة تلك التي تهم النشاط الاقتصادي، وتأمين الاتصال بين المناطق قصد تسهيل القوافل التجارية [12]؛ فقطع الطرق يعني أزمة بطالة أو شح موارد، حيث تقوم الجماعات الثائرة بفرض أتاوات على القوافل لتسمح بمرورها وتضمن سلامة أموالها ونفوس المشاركين فيها[13]، فكان للرباط أدوار تكميلية يقوم بها، منها: نشر الأمن وتمهيد السبل، مما يعطي بعدا اجتماعيا واقتصاديا يتحكم في استمراريته [14]. وقد قدّم الصوفية أروع المشاهد في الدفاع عن الإسلام والمسلمين، حيث ذكرت مجموعة من كتب التراجم والتاريخ، مواقف عظيمة لشيوخ التصوف، ومشاركتهم الفعلية في الحروب التي قادها المسلمون ضد غيرهم، وفي لعب أدوار مهمة في تعبئة المنـتسبين لهم من أجل التصدي لهجمات الغزاة، هذا بالإضافة إلى نشرهم للأمن الداخلي، والارتياح النفسي، في سبيل الحفاظ على أداء الأحكام الشرعية، وصيانتها من أيادي أهل الزيغ والإضلال، بحيث كثيرا ما تعرضت الأمة الإسلامية إلى الهجمات، التي كادت أن تقضي على الممارسة الدينية داخل بلاد الإسلام، إلا أن الله سبحانه وتعالى ضمِن للشريعة المحمدية الحفظ والاستمرار، وهو ما قام به العلماء الربانيون العاملون، وكذلك المجاهدون الصادقون، في الذب عن حوزة الدين.

هــــــــــــــــــــــــوامــــــــــــــــــــــــش

  1. محمد مفتاح: الخطاب الصوفي، (ص 91).
  2. عبد الجليل لحمنات: التصوف المغربي، (ص 276).
  3. التادلي: التشوف، (ص 138).
  4. المصدر نفسه، (ص 255).
  5. المصدر نفسه، (ص 140-141).
  6. ابن الزيات: التشوف إلى رجال التصوف، (ص 223).
  7. التادلي: كتاب المعزى في أخبار أبي يعزى، (ص 134).
  8. ابن الزيات: التشوف، (ص 246).
  9. التميمي: المستفاد، (2/88).
  10. عبد الهادي البياض: تجليات المقاربة الوسطية في منهج التكافل الاجتماعي لمتصوفة مغرب العصر الوسيط، ضمن التصوف السني في تاريخ المغرب: تنسيق: إبراهيم بودشيش، (ص 236).
  11. ابن الزيات: التشوف، (ص 454).
  12. عبد الجليل لحمنات: التصوف المغربي في القرن السادس الهجري، (ص 280).
  13. إبراهيم بركات: المجتمع الإسلامي والسلطة في العصر الوسيط، (ص 259).
  14. عبد الجليل لحمنات: التصوف المغربي في القرن السادس الهجري، (ص، 276).
Science

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

د.طارق العلمي

  • الدكتور طارق العلمي، أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

إصداراته:

  • منهج الإمام الجنيد وخصائص الممارسة الصوفية بالمغرب. (بالاشتراك) (مطبوع).
  • الإعلام بأن التصوف من شريعة الإسلام: عبد الله بن الصديق الغماري، ضبط وتعليق وتقديم. (مطبوع).
  • شرح سيدي محمد بن زكري لحكم ابن عطاء الله.. (قيد الطبع)
  • التجربة الصوفية في الغرب الإسلامي: القرن السادس الهجري. (قيد الطبع).
  • معالم المنهجية الاستقرائية عند الشاطبي واستثمارها في مجال الأخلاق.
  • نشرت له مجموعة من المقالات المتخصصة في الشأن الصوفي.
  • شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق