وحدة الإحياءدراسات عامة

الاجتهاد الفقهي المعاصر.. بين جدلية “المرجع” و”الواقع”

العدد 22 من مجلة الإحياء

بادئ ذي بدء

انطلق الاجتهاد الفقهي مع بداية الدعوة الإسلامية ليواكب حياة المسلمين، وليعالج قضاياهم الواقعية والمصلحية، وذلك وفق المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، وقد أصبح لزاما على الأمة الآن وأكثر من أي وقت مضى، التخلص من حالة الجمود والتقهقر والتخاذل الثقافي، وتأسيس الرؤية الثقافية على أساس النص المقدس المعصوم، وضرورة انبعاث دور العقل في الاجتهاد والنظر، وبيان أهمية الاجتهاد الفقهي والفكري في استيعاب قضايا الأمة ومعالجة مشكلاتها المعاصرة في ضوء النصوص الدينية، ومكتسبات العقل وإبداعاته.

إن المقولة التي اشتهرت في الأدبيات الإسلامية المعاصرة، بأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان لا تكون إلا بتقديم المعالجات الإسلامية المناسبة لكل زمان ومكان، وهذه المعالجات لا تستطيع أن تحمل اسم “إسلامية” إلا إذا حافظت على ثوابت الإسلام وانطلقت من قواعده الأساسية، وهذا يعني، أيضا، أن الشريعة الإسلامية لها من القدرة المعرفية والمنهجية ما يؤهلها،لأن تطبق في كل عصر بحسب شروطه ومقتضياته، ووفق منهج الاجتهاد الذي يحمي الشريعة من أن تصاب بالجمود والتوقف[1]..

ومن المؤكد أن قيمنا الإسلامية الخالدة والمجردة عن حدود الزمان والمكان، لها القدرة الكاملة على إنتاج النماذج الإسلامية المتميزة في كل عصر، ولها القدرة، أيضا، على معالجة مشكلات ونوازل الحياة المتجددة، وإيجاد الحلول لها ووضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة ومشكلاتها، وذلك بتوجيه النظر إلى الواقع وتقويمه بقيم الدين، والاجتهاد في تنزيل القيم الإسلامية على الواقع، بحيث ينطلق النظر والاجتهاد، من خلال الواقع ومشكلاته وحاجاته وإكراهاته[2].

إن الاجتهاد بمفهومه العام هو محاولة لتنزيل النص الشرعي كتابا وسنة على الواقع، وتقويم سلوك الناس ومعاملاتهم به…ومحله دائما المكلف وفعله، وهذا الأمر يتطلب أول ما يتطلب – بعد فقه النص – النظر إلى الواقع البشري وتقويمه، انطلاقا من النص، مع مراعاة كيفيات تنزيله في ضوء هذا الواقع المتغير؛ وهذا يعني أن الاجتهاد هو الذي يقوم بدور نقل الفكر الإسلامي من حيز النظرية إلى حيز التطبيق، ويعطيها التحقق الفعلي ليس بطريقة فورية أو في دفعة واحدة، وإنما على التدرج وفق قاعدة مقتضيات الزمان والمكان[3]. ويميز د. عمر عبيد حسنة بين نمطين من الاجتهاد، اجتهاد فكري واجتهاد فقهي، وعلى الرغم – كما يقول – “من أن الاجتهاد بأشكاله فهو فقهي بالمصطلح العام للفقه، وفكري أيضا، لأنه جاء ثمرة التفكير وإعمال النظر، فإن هذا التقسيم الفني يمكن أن يساهم بتحريك قضية الاجتهاد ويخفف من عقدة الخوف التي تحتل نفوسنا…فالاجتهاد الفقهي هو استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية في الكتاب والسنة في ضوء مراتب الحكم الشرعي…أما الاجتهاد الفكري، فهو الساحة التي تسع المسلمين جميعا، وذلك بعد أن تتوفر لكل منهم مرجعية شرعية ورؤية إسلامية شاملة للحياة”[4]. والاجتهاد كما هو منهج في النظر، والتعامل مع العلم والبحث العلمي، وهو أيضا، منهج في التطبيق وفي التعامل مع الواقع والزمن، وتحصيل أعلى درجات المعرفة بشروط العصر ومكوناته ومقتضياته[5].

مما يعني أن معيارية التجديد في فقهنا الإسلامي المعاصر يجب أن تستخلص من واقع مجتمعنا المعاصر وقضاياه الحيوية، وليس من واقع مجتمع آخر ولا من نماذج المجتمعات الغربية المعاصرة… لذلك فإن جوهر الخلاف بين الاتجاه المحافظ والاتجاه المجدد في فقهنا الإسلامي، ليس فقط، خلاف حول الموقف من النصوص الدينية، وإنما – وهو الشائع – حول الرؤية التي يؤسسها هذا الاتجاه أو ذلك عن الواقع، وحول ما يراه جديرا بالبقاء وما يراه كذلك.

وبكلمة: إن تجديد الفقه الإسلامي يقتضي وصله بالواقع، ليكون الواقع الاجتماعي على أساس اتساق وانسجام دائم مع الأحكام المنزلة…وبهذا يجري التوظيف والتطابق بين الواقع الاجتماعي ومؤسساته وعلاقاته..وبين الأحكام والأفكار..

وبكلمة، إن تمكين الفقه الإسلامي من إحداث التغيير المنشود في واقعنا المعاصر، يتوقف على جملة من المفاهيم والرؤى التي يشكلها الفقه الإسلامي المعاصر عن طبيعة الواقع الذي يستهدفه التغيير والإصلاح، وعن طبيعة العلاقة بين هذا الواقع والنص.

ويمكن اعتبار الاجتهاد الفقهي في كل مرحلة من المراحل وفي كل لحظة زمنية بمثابة جملة الرؤية والمفاهيم التي استقرت في البنية الذهنية للمجتهدين عن الواقع، ومن المنطقي أنه كلما كان فهم المجتهدين للواقع فهما سديدا كلما كان تعاملهم مع المرجعية الإسلامية تعاملا صحيحا.

لذلك، فإن هنالك، اليوم، مجموعة من العقبات والإشكالات تحول دون ذلك، لذلك فمن حق المرء أن يطرح جملة من الأسئلة علها تكون المدخل الرئيس لفهم جوهر المشكلة، لعل أبرزها تتمحور حول علاقة الفقه بالواقع، وعن علاقة النص بالاجتهاد؟..

نحن ملزمون – اليوم – أكثر من أي وقت مضى بالإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، وبإعادة النظر في الاجتهاد الفقهي على ضوء تبدل الواقع وتغيره، واختلاف الزمان وتطوره، الأمر الذي يحتم إعادة النظر في أحكام الفقه الاجتهادية على ضوء معطيات النص الخالد.

واقعنا المعاصر: نظرة تحليلية موجزة

مرت أمتنا الإسلامية عبر تاريخها الطويل بأزمات عديدة لعل أبرزها تشتت هذه الأمة إلى فرق مذهبية من خوارج ومرجئة وشيعة وقدرية…إلخ، كما برزت حركات سرية داخلية نخرت جسم الأمة من الداخل كالباطنية والشعوبية..ثم تعرضت لحملات صليبية مختلفة الحدود والأهداف، أعناها الحملة التتارية[6]

وبالرغم من كل هذه التحديات فقد استطاعت الدولة الإسلامية أن تحافظ على تماسكها واستمراريتها، وتجاوزت جل هذه المنعطفات وهي متشبثة بثوابتها ومتمسكة بقيمها…واستطاعت أن تقاوم كل هذه الضغوطات، وخرجت من كل أزمة وهي أكثر تماسكا وقوة..

وبعد تدمير المغول لبغداد في الشرق وسقوط الأندلس في الغرب..انتقل العالم الإسلامي من أوج ازدهاره وحركيته إلى حالة من الركود والوهن الحضاري..تزامن ذلك مع ما شهده الغرب من تحولات هامة، أوصلته إلى أوج التألق والازدهار، إن على المستوى العلمي (تطور العلوم التجريبية على الخصوص)، أو على المستوى الجغرافي (ما يسمى بالكشوفات الجغرافية) أو على المستوى العسكري، من غزو العالم الإسلامي ومحاولة إخضاعه لسياساته ومنظوماته…

ولعل العقدين الأخيرين من القرن العشرين – وما شهدته منظومات الأفكار في النطاقات العالمية من تحولات شديدة التحول والتغيير – كانا من أشد الأزمنة تحولا وتصادما وانبعاثا أيضا، فمن تراجع منظومة الأفكار الماركسية التي تعتبر من أكبر وأحدث المنظومات الفكرية في الغرب والعالم، إلى الانتقالات النقدية الصارمة في منظومة الأفكار الليبرالية من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، حيث فتحت الحديث حول نقد أهم الثوابت الأساسية في العقل الغربي وهي المركزية الأوروبية التي حددت للغرب شكل الانبعاث والتجديدات في منظومة الأفكار الأساسية[7].

لقد صدم المسلمون عند مقابلتهم مع الحضارة الغربية، فانكشف لهم ضعفهم الثقافي والاقتصادي والسياسي إزاء قوتها وهيمنتها، وحاولوا في البداية مقاومة هذا التيار الجارف فكانت ظواهر الصحوة الإسلامية في القرن الماضي، ثم أورثتهم الهزيمة ميلا إلى الانهيار والانصهار، ثم نضجت استجابتهم للتحدي من بعد منتصف هذا القرن فهم اليوم يحاولون استنقاذ ذاتهم ووجودهم بالعودة إلى أصالتهم الإسلامية…

كان لهذا الاتصال بالآخر نتائج خطيرة على عالمنا الإسلامي، أثرت سلبا على واقعنا الإسلامي بمختلف جوانبه: الثقافية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية…فقام الغرب بتغريب الأمة الإسلامية وذلك بتحطيم كل مقوم وأسس لحضارته وثقافته[8]

فإذا كان الفقه الإسلامي في تاريخه كان يتعامل مع إشكالات فقهية من نتاج البيئة الإسلامية فإنه مع سيطرة الحضارة الغربية وهيمنتها على العالم – خاصة الإسلامي – أصبح هذا الفقه مطالبا بالإجابة على أسئلة فرضتها هذه الهيمنة…وكانت تعبيرا عن التطور الذي عرفه المجتمع الغربي.

إن ارتباك كثير من الفقهاء في إجابتهم على الإشكالات الفقهية المعاصرة نابع من كون أن تراثنا الفقهي الموروت، على سعته وثرائه، لا يسعفنا في تأسيس مقاربات فقهية لهذه المعضلات والمشكلات…لأن هذا التراث الفقهي كان بمثابة إجابات على الإشكالات الداخلية التي ولدها وأفرزها تطور المجتمع المسلم الذي كانت مرجعيته إسلامية (مرجعية التوحيد)…نعم قد يستطيع هذا الموروث الفقهي أن يستوعب جملة من الأسئلة الفقهية التي لها طابع داخلي؛ أي يفرزها المجتمع المسلم من داخل مرجعيته التوحيدية.

والملاحظ أن معظم الإشكالات المعاصرة تتطلب فقها جديدا يأخذ في عين الاعتبار غرابة هذه الأسئلة عن البيئة الإسلامية (التوحيدية) وانتماءها إلى البيئة الغربية (الشركية)…وكمثال بسيط على ذلك، ما يثار الآن حول مفهوم الحداثة والاجتهاد، ومحاولة البعض ربط الحداثة بالاجتهاد…فمفهوم الحداثة مفهوم ابتكره الغرب، ويعبر من خلاله عن تجربته الفكرية والتاريخية…ويعبر كذلك عن رؤيته للتقدم وللحضارة…هذا المفهوم حاول الغرب أن يحتكره لنفسه، ويربطه بتاريخه وجغرافيته، ويلحقه بمنظومته الفكرية والفلسفية، وبطريقة تصور الحداثة في الغرب، والغرب هو الحداثة[9]..

أما مفهوم الاجتهاد، فيمكن اعتباره أحد أهم المفاهيم التي ابتكرتها المنظومة الإسلامية، وانفردت بها الحضارة الإسلامية، فقد نشأ وتطور في الإطار الزمني والتاريخي لهذه الحضارة، وترك تأثيرا مهما في منظومة الثقافة الإسلامية، وفي تكويناتها وتشكيلاتها، وعلى حركتها ومساراتها…والاجتهاد في جوهره وفلسفته هو بمثابة النظم المعرفي الذي يربط الدين بالدنيا، ويؤسس علاقة الشريعة بالحياة والفقه بالواقع والزمن والعصر، هذا النظام المعرفي تبلور في علم هو من أبرز ثمرات العقل الإسلامي الخالص في عصور إبداعه، هو علم أصول الفقه الذي أخذ كما يقول “الغزالي” من صفوة الشرع والعقل سواء السبيل، واعتبره د. جابر العلواني بأنه يمثل فلسفة الإسلام[10]..

ومن المحقق أن حركة التغريب نجحت إلى حد بعيد في غزو الأمة وتخريبها من الداخل..وحملت حضارة الآخر في طياتها مزجا بين مخترعات العلم والتكنولوجيا، وبين منظومة القيم الأخلاقية والإنسانية الخاصة لها…فقدمت حضارتها إلى عالمنا الإسلامي (المتخلف) كأنها وحدة وكل لا يتجزأ… إلا أن العالم الإسلامي وإن كان قد فقد حضارته وتمدنه، وتراجع من هذه الناحية، إلا أنه لم يتراجع أو ينهزم ثقافيا حتى ما حصل في ظروف تاريخية معينة من ابتعاد المسلمين عن جوهر وروح الثقافة الإسلامية…وبتعبير الأستاذ مالك بن نبي فإن الذي تحطم هو عالم الأشياء، وبقي عالم الأفكار على توقده[11]..

أمام هذا الوضع اختلف علماؤنا ومفكرونا وحتى حكامنا في كيفية التعامل مع هذا الوافد من الآخر بين مؤيد ورافض… كما أخذ اتجاه التوفيق والوسطية بين كلا الاتجاهين موقعه في الأمة..وما زالت أمتنا المهزوزة تعاني من مشاكل التبعية والانتماء للآخر، بل هي اليوم خاضعة لاختراق ثقافي عنيف لم تعرفه بهذه الحدة في تاريخها.

أين الخلل إذن؟

من الواضح أنه عندما جمدت الحياة الإسلامية على مستوى الإنتاج والإبداع، قلت الإشكالات والنوازل التي تطرح داخل المجتمع الإسلامي، ومن جهة أخرى أصبح الفقه مرغما ومضطرا في أحايين كثيرة للإجابة، كما أشرنا سلفا، عن أسئلة هي من نتاج الحضارة المادية الغربية؛ هذه الأسئلة التي لا يمكن فصلها بأي حال من الأحوال عن بيئتها التي أفرزتها، ومن الراجح أن يكون هذا المعطى الأخير مما يسر تحول مسارنا الفقهي إلى فقهي ثانوي اضطراري.

وحين يؤخذ فكر كان ثمرة تفاعل مع واقع معين مأخذا مطلقا وينقطع عن إطاره الواقع يصبح تراثا مجردا تنسد طرق الاجتهاد فيه والتجديد؛ لأن التفاعل مع الواقع الحي هو الذي يعرض الفكر لتحديات الظروف المتجددة كل يوم ويستفزه إلى أن يستجيب لها فيتجدد وينمو اضطرادا[12].

ومن جمود الفكر جمدت الحياة، ذلك أن قطاعات واسعة من الحياة قد نشأت من جراء التطور المادي وهي تطرح قضايا جديدة تماما في طبيعتها لم يتطرق إليها فقهنا التقليدي، ولأن علاقات الحياة الاجتماعية وأوضاعها تبدلت تماما ولم تعد بعض صور الأحكام التي كانت تمثل الحق في معيار الدين منذ ألف عام تحقق مقتضى الدين اليوم ولا توافى المقاصد التي يتوخاها، لأن الإمكانات قد تبدلت وأسباب الحياة قد تطورت والنتائج التي تترتب عن إمضاء حكم معين بصورته السالفة قد انقلبت انقلابا تاما[13]

ثم إن العلم البشري قد اتسع اتساعا كبيرا، وكان الفقه القديم مؤسسا على علم محدود بطبائع الأشياء وحقائق الكون وقوانين الاجتماع، مما كان متاحا للمسلمين في زمن نشأة الفقه وازدهاره…وأصبح لزاما علينا عقد تركيب جديد يوحد ما بين علوم النقل وعلوم العقل التي تتجدد كل يوم وتتكامل بالتجربة والنظر…والحق أن التبصر في مقالات الأصوليين وفي تطورها واختلافها يومئ إلى وجهين من التعلق، الاستنتاج من أدلة الشرع وأحكامه وهو الأصل، والاستنباط من بيئة الواقع وهو الأصل الأدنى[14]

إن بعض المباحث والمبادئ في علم الأصول أو منهج الفقه التقليدي لا تستجيب لمتطلبات النهضة الفقهية وحاجاتها، ولا تتلاءم والبيئة المادية الاجتماعية والثقافية الحاضرة…”

وهذا ما يفند من جهة أخرى زعم الكثيرين بأن سبب الفصل الذي وقع بين الواقع والفقه هو إغلاق باب الاجتهاد، بحيث يشير هذا الزعم إلى أن دعوة العلماء إلى وجوب إغلاق باب الاجتهاد أدى إلى عجز الفقه الإسلامي عن استيعاب تحركات الواقع وميكانزماته (آلياته)، بل من العلماء من يزعم أن إغلاق باب الاجتهاد كان السبب الأبرز لفصل الأحكام الشرعية عن السياسة الشرعية.

إلا أن للباحث أن يلاحظ أيضا في هذا الصدد ملاحظة مفادها أنه بالرغم من مناداة الكثيرين ب “إغلاق باب الاجتهاد”، فإن بعض صور الاجتهاد[15] ظلت مستمرة استمرار حركة الفقهاء واجتهاداتهم..فإن كان الاجتهاد المطلق قد أغلق طوال هذه السنين[16] بحيث ما عادت مسألة “الاجتهاد المطلق”[17] تظهر إلا في ظروف خاصة عند التأزم وانسداد الأفق، وعندنا مثلان واضحان على ذلك في تاريخنا الفكري، مثال ابن تيمية (ت 728هـ) في مطلع القرن الثامن الهجري الذي دعا – مستجيبا بذلك للظروف السياسية والاجتماعية الطارئة – بالعودة إلى الأصول… وفي أواخر القرن العاشر الهجري دعا السيوطي إلى الاجتهاد المطلق، غير المقيد بالمذاهب، غير أنه من الملاحظ أن كلا من ابن تيمية والسيوطي قصرا دعوتيهما الاجتهاديتين على مجال “الأحكام الشرعية” لأن الحاجة كانت مقصورة، آنذاك، على ذلك المجال الذي يتناول علاقات “النصوص” بالوقائع المستجدة[18].

فإن الفقهاء قد استمروا في ممارسة عملية الترجيح والتخريج كشكلين بارزين من أشكال الاجتهاد، كما أن الاجتهاد الجزئي ظل المنفذ الوحيد الذي استغله المتأخرون ليجتهدوا في كثير من النوازل والفتاوى.

وللتذكير، فقط، فإن من أقسام الاجتهاد عند الأصوليين، تخريج المناط وتنقيح المناط وتحقيق المناط[19]، ولما بحث الشاطبي في قضية خلو الأرض من المجتهدين، قال: إن ذلك ممكن بالنسبة إلى القسمين الأولين (أي تخريج المناط وتنقيح المناط)، أما بالنسبة إلى القسم الثالث فلا يمكن عقلا وشرعا، وذلك لأن تحقيق المناط معناه تنزيل الحكم الشرعي على آحاد الصور، وذلك كثيرا ما يشتبه فيحتاج إلى الاجتهاد، فلو منع كان ذلك رفعا للتكليف من أصله[20].

وبكلمة فإن هذه القضية قد حملت أكثر مما تحتمل، وبقي لنا أن نتساءل عن الأسباب الأخرى، ونوفيها حقها من الدراسة والبحث علها تكون إحدى أسباب نهضة هذا الفقه وسبيلا إلى تجديده.

الاجتهاد والنص: علاقة تلازم أم مصادمة

شاع في الفكر الإسلامي إدعاء التناقض بين “النص” و”الاجتهاد”…وذاعت مقولة “إنه لا اجتهاد مع النص” بتعميم وإطلاق…تعميم في فهم النص… وتعميم في الغاية من الاجتهاد مع وجود النص.

ومنذ البداية ينبغي التأكيد على أن الأمر الذي يثير اللبس في هذا المقام إنما هو نتيجة منطقية لعدم التمييز بين النصوص الدينية التي تتعلق بالثوابت الدينية، وبين تلك التي تتعلق بالمتغيرات من الفروع الدنيوية.

وإن كان مبدأ “لا اجتهاد في مورد النص”لا جدال فيه بالنسبة للعبادات، والنصوص المتعلقة بالأحكام الكلية التي تشكل مقاصد الشريعة ومبادئها العامة، إما لأنها تعلقت بثوابت دينية أو دنيوية فلا يجوز تجاوز أحكامها أو تغييرها.. وإما لأنها تعلقت بالسمعيات الغيبية والأحكام والشعائر التعبدية، والتي لا يستقل العقل الإنساني بإدراك الحكمة منها، والعلة الغائية من ورائها، فلا بد فيها من الوقوف عند دلالات النص…فإن النصوص المقررة للأحكام الجزئية الخاصة بالمعاملات وتنظيم العلاقات الاجتماعية – في المقابل – قابلة للاجتهاد سواء أكانت دلالتها قطعية أو ظنية، إذ من المؤكد أن النصوص القطعية تبقى – أيضا – قابلة للاجتهاد إذا تغيرت الظروف، وأضحت لا تحقق المقصد الذي شرعت من أجله.

فالنصوص المتعلقة بالمتغيرات الدنيوية ليست – كما تشهد بذلك بداهة الفطرة – مرادة لذاتها، وإنما هي مرادة لعللها وغاياتها ومقاصدها، وهي تحقيق مقاصد العباد..فهذه الأحكام المستنبطة من هذه النصوص تدور مع هذه العلة الغائية – المصلحة – وجودا وعدما، ويشهد على ذلك اتفاق أهل الاختصاص في فكرنا الإسلامي على ضرورة الاجتهاد مع الأحكام التي ارتبطت بعلة تغيرت، أو بعادة تبدلت، أو بعرف تطور، حتى ولو كانت هذه الأحكام مستندة إلى نص، وانعقد عليها إجماع في العصر الذي سبق تغير العلة، وتبدل العادة، وتطور العرف…إلا أن هذا الحكم المخالف للنص يتميز بميزتين أساسيتين، وهما:

– أنه حكم ظرفي” مرتبط بالظروف المتحققة وقت الاجتهاد، فليس فيه شيء من “معارضة النص أو تخطئته”.

– ارتباطه بالعلة، أي حكمة التشريع، فيكون هذا الحكم مع مبادئ الشريعة، ويندرج ضمن وسائل تحقيق مقاصدها، أو مقصدها الأعم وهو تحقيق المصالح ودرء المفاسد[21]. بمعنى أن الاجتهاد في هذه الحالة، أي مع وجود النص (القطعي الدلالة والثبوت، والمتعلق بالمتغيرات من الفروع الدنيوية)، ليس معناه الاجتهاد الذي يرفع وجود هذا النص رفعا دائما ومؤبدا، فهو اجتهاد لا يتجاوز النص فيلغيه، وإنما يتجاوز الحكم المستنبط منه، وهذا التجاوز للحكم ليس موقفا دائما وأبديا…

إن مبدأ “لا اجتهاد في مورد النص” يسري على “الاجتهاد الذي يقصد به “تقييم ” أصل الحكم وما إذا كان “صوابا” أو “خطأ” وقت تقريره في النص. ولا يسري على الاجتهاد الذي ينطلق من الإيمان بسلامة أصل الحكم وقت وروده في النص، ولكن يلاحظ أن الظروف المستجدة أصبح الحكم معها لا يحقق “المصلحة” التي شرع من أجلها، فيقترح تعويضه – مؤقتا ما دامت تلك الظروف قائمة – بحكم يحافظ على المصلحة الشرعية المقصودة في الحكم الأصلي، أو مصلحة أعم تفرضها مقاصد الشريعة[22].

وعلى هدي هذه الحقيقة المتعلقة بالعلاقة بين النص والاجتهاد، ميز المحدثون والأصوليون في نصوص السنة النبوية بين نوعين من السنة، فهذا الإمام القرافي في كتابه “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام”[23]..يميز بين قسمين من السنة النبوية، وهما: سنة تشريعية تتعلق بالغيب وما لا يستقل العقل بإدراك علته، بالثوابت الدنيوية، وهذه أحكامها دائمة لا يجوز معها اجتهاد التغيير، وهي شاملة لكل تصرفات الرسول عليه السلام…وللفتاوى الدنيوية التي هي بيان للرسالة وللوحي…فهذا القسم من السنة تتلقاها الأمة من الشرع دون واسطة، وتلتزم بها التزامها بالرسالة…وسنة غير تشريعية.. تتعلق باجتهادات الرسول في فروع المتغيرات الدنيوية، سواء في السياسة أو الحرب أو المال، وكل ما يتعلق “بإمامته” للدولة الإسلامية..أو بقضائه في المنازعات…وفيها ومعها يجوز الاجتهاد الذي يأتي بجديد الأحكام…

وصفوة القول، إن هذه النصوص إذا وردت فيما هو معقول، يستقل العقل بإدراكه…وتعلقت بحكمة ما وعلة ما، وخرجت عن نطاق الثوابت فإن أحكامها تدور مع هذه العلل وجودا وعدما، لأن الأحكام في هذه الحالة لا تراد لذاتها، وإنما للمصالح التي شرعت من أجل تحقيقها، بل إن النصوص نفسها ليست مرادة لذاتها، وإنما لمصالح العباد التي ما جاءت الشريعة إلا لتحقيقها…

الاجتهاد الفقهي بين القراءة النصية والواقع العملي

إن تطبيق الأحكام يتعلق بإنزال حكم النصوص على الوقائع، والتفسير والاجتهاد فهو استخلاص الحكم الجديد بتحريك النص الثابت على الوقائع المتغيرة، وهذه العملية تشمل أمرين، وهما:

الأول: استخراج دلالات النص بطرق الاستدلال المعروفة في علم الأصول وفي علم المنطق وغير ذلك من أساليب التفسير المعروفة.

والثاني: تكييف الواقعة التي يطبق عليها حكم النص، أي صياغة الواقعة الحادثة صياغة قانونية[24]

وإذا كان الفقه هو التأطير الشرعي للواقع…فمعنى ذلك أن ما ينتجه الفقه والفقهاء يسير دوما متلازما ومتفاعلا مع ما ينتجه الواقع من نوازل وتطورات…فهناك إذن، علاقة متبادلة بين الواقع والفقه، فكما أن الواقع يحتاج إلى الفقه الإسلامي ليضبط سيره ويضمن له مشروعيته، فكذلك يحتاج الفقه إلى الواقع ليغنيه وينميه ويسدده، وقد نبه إلى هذا المعنى صاحب كتاب تاريخ الفكر الإسلامي” بقوله: “ويظهر لي أن ندرة المجتهدين أو عدمهم هو من الفتور الذي أصاب عموم الأمة في العلوم وغيرها، فإذا استيقظت من سباتها، وانجلى عنها كابوس الخمول، وتقدمت في مظاهر حياتها التي أجلها العلوم، وظهر فيها فطاحل علماء الدنيا…عند ذلك يتنافس علماء الدين مع علماء الدنيا، فيظهر المجتهدون”[25].

لذلك كان للواقع أثر واضح في تقرير الأحكام الشرعية وتنزيلها على مختلف الوقائع والنوازل[26]، سواء منها ما تعلق بتحقيق المناط، وهو النظر في تحقيق العلة الثابتة بأي مسلك من مسالك العلة، في جزئية أو واقعة غير التي ورد فيها النص، مما يتطلب معرفة حقيقية للمحكوم فيه. وعملية تحقيق المناط تستوجب معرفة دقيقة وجيدة بالواقع ومستجداته ومتغيراته[27]…أو ما تعلق باعتبار المآل والنظر فيما يمكن أن تؤول إليه الأفعال والتصرفات والتكاليف موضوع الاجتهاد والإفتاء والتوجيه…وهذا المآل يقتضي معرفة ما هو متوقع..أو ما تعلق بمراعاة المتغيرات، بحيث إذا أصابت هذه المتغيرات أمور هي مناط لبعض الأحكام فلا بد من أن تتغير تلك الأحكام التي تغيرت متعلقاتها… وقد صاغ ابن القيم هذا المعنى في قاعدة ساقها على الشكل التالي: “فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات والعوائد”[28].

ومما هو مقرر عند علمائنا أن ما بني على الأعراف والعادات، فإنه يتغير بتغيرها ويتبدل بتبدلها، قال الشهاب القرافي: “الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت”[29].

بعض الممارسات التغييرية للفتاوى

قلنا فيما سلف إن الكثير من الفقهاء أدركوا أن من مبررات تغيرات الفتاوى هو تغير الظروف الزمانية والمكانية التي تغدو غير منسجمة مع الفتاوى التي قيلت في ظروف زمانية ومكانية مغايرة، إما لعادة تبدلت أو لعرف تطور أو لفساد زمان…

والفقيه المالكي “ابن العربي” اعتبر أن الاستحسان الذي يتم فيه ترك مقتضى الدليل ينقسم إلى أربعة أقسام: ذلك أن الدليل يترك إما بسبب العرف أو للمصلحة، أو للتيسير ورفع المشقة، أو لإيثار التوسعة[30]، مع العلم أن هناك عوامل أخر قد تكون مبررا لترك الدليل أو مقتضاه، وعلى رأسها التغيرات التي فرضتها الحاجات الزمنية…وللأسف فإن كثيرا من علمائنا فيما مضى لم يدركوا أهمية دراسة الواقع بجميع خصوصياته ونواحيه، سواء قبل تشريع الحكم وامتثاله أو بعده، لذلك فإن من الواجب اليوم على علمائنا أن يهتموا بهذا العنصر (الواقع) بعد تأصيله ضمن مباحث علم الأصول.

وفي اعتقادنا فإن فقهاءنا قد مارسوا مختلف الأنواع من تغيير الفتاوى بفعل الضغوطات والحاجات الزمنية، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى تغيير بعض الأحكام المنصوصة كما سنرى، وإن كانوا قد أنكروا ذلك من الناحية النظرية أو المبدئية خشية الوقوع في الاجتهاد مع النص، والقاعدة المتفق عليها تقول (لا اجتهاد في مورد النص)، وهذه الممارسات التغييرية للفتاوى يمكن لنا أن ندخلها ضمن ثلاثة أنماط أو مستويات[31].

المستوى الأول: وهو عبارة عن تبديل الحكم بحكم آخر مغاير مع وحدة الدليل الاجتهادي، ويكون نتيجة لتبدل العرف أو العادة في الغالب، ومثل هذا الحكم يكون في دوران دائم ومستمر مع هذه الظروف والأحوال، ومن المقرر لدى الفقهاء أن كثيرا من الفتاوى تتغير وتتبدل تبعا لما هو متعارف عليه من معاملات لفظية وسلوكية، لذلك نجد الإمام الشاطبي يقرر هذه القاعدة التي مفادها أن “الحكم يتنزل على ما هو معتاد فيه، بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده”[32].

وقال بعض العلماء: التحقيق أن لفظ الواقف والحالف والموصي والناذر وكل عاقل يحمل على عادته وفي خطابه ولغته التي يتكلم وافقت لغة العرب ولفظ الشارع أو لا”[33]

من ذلك ما قال القرافي في إيقاع الطلاق الثلاث بقول الزوج (أنت علي حرام، أو حرام يلزمني): “إياك أن تقول إنا لا نفهم منه إلا الطلاق الثلاث لأن مالكا قاله، أو لأنه مسطور في كتب الفقه، لأن ذلك غلط، بل لابد أن يكون ذلك الفهم حاصلا لك من جهة الاستعمال والعادة كما يحصل لسائر العلوم…[34].

على أن مثل هذا الاختلاف بين الفقهاء هو ما كان يعرف لديهم بأنه اختلاف عرف وزمان لا اختلاف نظر وبرهان، لذلك وردت كثير من القواعد الفقهية تؤكد على أهمية العرف والعادة في علاقتهما بتحديد نوع الحكم الشرعي الوضعي، منها: العادة محكمة، الحقيقة تترك بدلالة العرف، واستعمال الناس حجة يجب العمل به، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا…

أما المستوى الثاني من التغيير في الأحكام فقد يحصل نتيجة وجود التعارض بين الأدلة الاجتهادية كنتيجة منطقية لتبدل العرف أو المصلحة، مما يقتضي عملية الترجيح بين الأدلة كأن ترجح الحاجة العرفية والمصلحة المقدرة في الواقع على القواعد والأدلة الاجتهادية كالاستصحاب وغيره من الأدلة، ومن المؤكد أن هناك اعتبارات متعددة لتغير الحكم طبقا للتعارض بين الأدلة، كأن يجتهد المجتهد اجتهادا ثم يظهر له أن يغيره أو يرجح مصلحة ما تعدله عما يفترض أن يطرح من اجتهاد أو حكم، وكان يأتي مجتهد آخر مراعاة لمصلحة ما من المصالح، أو طبقا لعرف من الأعراف، فيفتي بخلاف ما أفتى به الأول…

ويعتبر العرف – على هذا المستوى ـ من أبرز دواعي التغيير عند مذاهب السنة، وهو أقوى من القياس، ومن باب أولى فإنه (أي العرف) مقدم على المصالح المرسلة لأنها مستندة على مجرد مصالح زمنية عرضة للتبدل باختلاف الظروف والأزمنة، وعليه فإن العرف كما يقول صاحب “شرح الهداية” بمنزلة الإجماع شرعا عند عدم النص.

ومجمل القول إن هذا المستوى من تغيير الأحكام من قبل الواقع بحسب تعارض الأدلة إنما يأتي وفي الغالب خلال المصلحة أو العرف.

أما المستوى الثالث من تغيير الأحكام بفعل الواقع، فقد يحصل نتيجة التعارض مع النص، وإن كان من المتفق عليه بين العلماء هو عدم الاجتهاد عند وجود النص، لكن وبفعل الحاجات الزمنية جرت كثير من التغيرات في بعض الأحكام المنصوصة، فالفقهاء خاصة القائلين بالمصالح والاستحسان قد مارسوا نوعين من الاجتهاد وتغيير الأحكام مع وجود النص…أحدهما لا يخرج عن حدود تقييد النص وتخصيصه دون أن يلغي امتثاله كليا، أما الآخر فهو معني بالإلغاء إما على نحو تام، أو على نحو عالق بحسب ما يفترض له من علة.

وفي كتاب “أعلام الموقعين”، ذكر ابن القيم شواهد عديدة من اجتهادات فقهية خالفت أحكاما منصوصة لترجيح القياس والاجتهاد عليها، ومن ذلك ما نص عليه من حالات كثيرة من القياسات غير المنضبطة ما يقرب الأربعين صفحة، وكذا ما ذكر من أمثلة لاجتهادات فقهية كثيرة العدد تقارب الستين شاهدا، تعدل عما جاء من نصوص شرعية وتردها..وما يهمنا منها الآن هو دور الواقع في تغيير الأحكام ومنها أحكام النص:

الواقع وتخصيص الحكم

جنح الفقهاء إلى تخصيص النص وتقييده بمصالح الواقع وحاجاته نتيجة لضغوطات مصلحية، وغالبا ما برروا ذلك بمبدأ العرف، إلا أنهم اشترطوا في هذا العرف لكي يكون حجة مقبولة ترتقي إلى تخصيص النص أو تقييده عدة شروط لعل أبرزها: أن يكون العرف مطردا أو غالبا، وأن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرفات قائما عند إنشائها، فالعرف الحادث لا عبرة له بالنسبة إلى الماضي ولا يحكم فيه، لذا قالوا: “لا عبرة بالعرف الطارئ، أن لا يعارض العرف تصريح بخلافه..أن لا يكون في العرف تعطيل لنص ثابت أو لأصل قطعي في الشريعة..[35] وفقا لهذه الشروط ذهب الحنفية إلى أن العرف العام بنوعيه القولي والعملي يخصص النص، بخلاف العرف الخاص عندهم، ويترك به القياس لأنه حينئذ يقبح القياس، بل إنهم يصرحون بأن تعامل الناس يخصص النص العام. فقد ورد نهي النبي عليه السلام (أن يبيع الإنسان ما ليس عنده)[36] ولكن جرى تعامل الناس من أقدم العصور على جواز الاستصناع فكان ذلك التعامل مخصصا للنص، فكان النهي فيما عداه. ومن ذلك أنه ورد نهي الشارع عن (بيع وشرط)[37]، وحكم أبو حنيفة وصاحباه أن كل شرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين إذا شرط في العقد يفسد إلا إذا كان العقد يقتضيه، كاشتراط تقديم الثمن في البيع إذ يؤكد مقتضاه كاشتراط كفيل بالمهر، أو ورد به نص كجواز اشتراط تأجيل الثمن، أو جرى به عرف، فإن الشرط في هذه الحالة يعتبر صحيحا، ولا يفسد به البيع، فاعتبر جريان العرف عند أبي حنيفة وصاحبيه للنص الناهي كما لو خصصه الأثر.

وهكذا فإن الأصل عند علماء الحنفية والمالكية أن العرف العام يخصص النص العام ويقيد المطلق ويقدم على القياس. بل إن بعض العلماء يرى أن العرف الخاص القائم يخصص النص العام، فقد ذكر ابن العربي في أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى: ﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة﴾ [البقرة: 231]. أن مالكا قال في المرأة إذا كانت شريفة القدر لا يلزمها إرضاع ولدها إن قبل ثدي غيرها لمصلحة المحافظة على جمالها جريا على عادة العرب في ذلك، وخصص بذلك عموم القرآن[38].

إن قبول الفقهاء لمبدأ العرف العام في تخصيصه النص وتقييده يجعلهم يفهمون النص فهما لا يتقيد بحرفية المنصوص كليا، بمعنى أنهم قد منحوا بعض الدور لتأثير الأحوال العامة (الواقع) في فهم النص.

الواقع وتغيير الحكم

لم يقف الفقهاء عند حدود تقييد النص وتخصيصه، بل تعدوه إلى إدخال بعض الإضافات عليه تارة، ونسخه تارة أخرى وفق ما تقتضيه المقاصد الشرعية، ويتضح لنا الاختلاف بين هذا النوع وما قبله، في كون هذا النوع فيه تغيير لحكم النص بكافة صوره وتطبيقاته، بخلاف النوع الأول فإن فيه تغييرا لبعض صور الحكم على سبيل الاستثناء، وذلك طبقا للمصلحة أو الحاجة أو العرف أو غير ذلك.

ومن هنا يتبين لنا مدى حاجة الفقيه إلى معرفة الواقع ومعرفة تداعياته ومآلاته لتقرير الأحكام في ضوئها “وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل”[39].

فقه الواقع شرط من شروط الاجتهاد

 مما سلف نستخلص أن ثمة حاجة ملحة إلى ضرورة مراجعة المعنى التقليدي للاجتهاد الفقهي الذي يحصر مهمة المجتهد في توصله إلى إيجاد الحكم الشرعي للنازلة المسؤول عنها، بيد أن النظر الاجتهادي المنشود اليوم يتعدى هذا النظر الاجتهادي الفقهي البحث، إلى نظر اجتهادي يهدف إلى التمكن من فهم الوحي الإلهي من جهة، والتمكن من فهم الواقع الإنساني الذي يراد تطبيق الحكم عليه من جهة أخرى، بغية تحقيق قيومية الدين على الواقع.

ومن المؤكد أن هناك علاقة جدلية تاريخية وطيدة متواصلة بين نوعية الأدوات المؤهلة للنظر الاجتهادي وبين التغيرات الفكرية والعلمية عبر تاريخ الفكر الأصولي[40]. ومن ثم فلا مناص من إعادة قراءة هذه الأدوات قراءة تحليلية نقدية مركزة. والاعتداد بأداة من أدوات النظر الاجتهادي ينبغي أن ينطلق من ثلاثة اعتبارات؛ الأولى تتجسد في طبيعة النص الشرعي محور العملية الاجتهادية.. والجانب الثبوتي في هذا النص..ثم وسائل تحقيق غايات عملية النظر الاجتهادي..

وإذا كانت كتب أصول الفقه التقليدية تعدد شروطا للمجتهد، تحصرها في الغالب في ضرورة التمكن من العلوم الشرعية (من معرفة لغة الوحي، وأصول الحديث، وأصول الفقه، وعلم المقاصد، ومعرفة علم الخلاف…)[41] ليس من بينها معرفة الواقع؛ وقد تنبه إلى أهمية هذه المعرفة من المتقدمين الإمام احمد، حيث ذكر ابن القيم في أعلام الموقعين نقلا عن الإمام احمد انه قال: “لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمسة خصال…الخامسة: معرفة الناس”. ويضيف ابن القيم: “وهذا مما يدل على جلالة الرجل ومحله من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى، وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه، وقال في شرح الخامسة: وأما قوله الخامسة معرفة الناس فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فغن لم يكن فقيها فيه، ففيها في الأمر والنهي، ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر، له معرفة بالناس، تصور له الظالم بصورة المظلوم وحكمه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال.. وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرقياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة الناس وخداعهم واحتيالهم وعرقياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال”[42].

أما الإمام الشاطبي في موافقاته فقد شرط في المجتهد أن يكون عالما بمقاصد الشريعة، متفهما لها، مدركا لكلياتها وجزئياتها، إذا أراد الارتقاء إلى درجة الاجتهاد، وفي هذا المعنى يقول (الشاطبي) ما نصه: “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: احدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط، بناء على فهمه فيها ـ أي فهمه للمقاصد في مراتبها الثلاث ـ ثم يعلل الإمام الشاطبي، مسوغ أولية هذا الاشتراط، وجوهريته الأساسية، حيث يقول: أما الشرط الأول: فقد مر في كتاب المقاصد[43] أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح..واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب، وأما الشرط الثاني: فهو الخادم للأول، فإن التمكن من ذلك (من الاستنباط) إنما هو بطريق “المعارف” المحتاج إليها في فهم الشريعة أولا، ومن هنا كان خادما للأول. ومن بين هذه المعارف العلم أو الخبرة بشؤون الحياة العامة، والوقوف عن كتب، على ما يجري فيها من وقائع، وما تعانيه من مشاكل وقضايا، تتطلب حلا شرعيا، ولا سيما “القضايا العامة” التي يتعلق بها مصيرها…

ولعل من أهم الأدوات في عصرنا الحاضر التي قد تساعد المجتهد على فقده الواقع والتحكم في ناصيته، إلمامه بمبادئ العلوم الإنسانية المعاصرة”44، وتكمن هذه الأهمية في الدور الهام الذي يمكن أن تؤديه هذه الأداة في تيسير التوصل إلى حسن تصور وتجسيم للمعاني التي تدل عليها النصوص الدينية. كما تتجلى في كونها الآلة المعينة على الإدراك الشمولي المؤصل والمؤسس لمقاصد النصوص، إضافة إلى ما يناط بهذه الأدلة من دور في إعادة النظر في كثير من الاجتهادات السابقة التي رامت تحديد المراد الإلهي من النصوص متأثرة بالأعراف والتقاليد والظروف والبيئات والأحوال والإمكانات. وعليه، فإن قاعدة (لا ينكر بتغير الفتوى يتغير الأزمنة والأمكنة والأعراف والعادات…) ليست سوى دليل واضح على أهمية هذه الأداة ودورها في تيسير التوصل إلى معاني النصوص…ومن ثم، فإن المعرفة الواقعية ـ العلوم الإنسانية والاجتماعية ـ غدت في هذا العصر أهم المعارف التي لا تحقيق لحسن تنزيل المراد الإلهي في الواقع دون الاستعانة بها، كما أن حسن إدراك المعاني الثاوية في جنبات كثير من النصوص يتوقف على إدراك المتصدي للاجتهاد لمبادئ هذه المعرفة…وبكلمة، إن معرفة الواقع الذي يجتهد فيه ويجتهد له، والخبرة بأهله وبأحوالهم وظروفهم شرط لابد منه للفقيه وللمجتهد والمفتي.

خلاصة

إن فقهنا الإسلامي يزخر بثروة كبيرة من تغيرات الأحكام فرضتها ضغوطات الواقع والحاجات الزمنية والمكانية… وإذا كان العلماء فيما مضى لم يدركوا أهمية دراسة الواقع بجميع خصوصياته ونواحه، فإن من الحري بعلمائنا اليوم أن يأخذوا بهذه المهمة الثرية على عاتقهم بعد تأصيلها ضمن مباحث علم الأصول.

الهوامش

  1. زكي الميلاد، في موضوع: الفكر الإسلامي المعاصر بيت الحداثة والاجتهاد، ص67 بتصرف مجلة الطيبة، العدد الخامس، السنة الثانية: 1421هـ/2000م.
  2. انظر تفصيب هذه الفكرة في: مقدمة د. عمر عبيد حسنة لكتاب، من فقه الأقليات المسلمة لخالد محمد عبد القادر، ضمن سلسلة كتاب الأمة، السنة السابعة عشر، رمضان 1418هـ.
  3. زكي الميلاد، في موضوع: الفكر الإسلامي المعاصر بيت الحداثة والاجتهاد، ص60، مرجع سابق.
  4. الاجتهاد للتجديد، سبيل الوراثة الحضاري، عمر عبيد حسنة، ص29- 30، المكتب الإسلامي، بيروت 1998م.
  5. زكي الميلاد، في موضوع الفكر الإسلامي المعاصر بيت الحداثة والاجتهاد، ص64.
  6. راجع في هذا الموضوع: كتاب تاريخ الإسلام لحسن لإبراهيم
  7. زكي الميلاد، في موضوع: الفكر الإسلامي المعاصر بيت الحداثة والاجتهاد، ص51- 52 بتصرف.
  8. انظر سيرج لاتوش في كتابه المهم: تغريب العالم، وهو مترجم إلى اللغة العربية.
  9. زكي الميلاد، في موضوع: الفكر الإسلامي المعاصر بيت الحداثة والاجتهاد، ص59.
  10. المرجع نفسه، ص62- 63.
  11. زكي الميلاد، في موضوع: الفكر الإسلامي المعاصر بيت الحداثة والاجتهاد، ص52- 53.
  12. حسن الترابي، قضايا التجديد، نحو منهج أصولي، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الأولى: 1421هـ/ 2000م.
  13. المرجع السابق: ص154، بتصرف.
  14. المرجع السابق: ص192بتصرف.
  15. انظر في مراتب الاجتهاد: أدب المفتي والمستفتي لابن صلاح ص88إلى 98، والاجتهاد في الإسلام لنادية شريف العمري ص173 وما يليها، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة 1985.
  16. الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، لجلال الدين السيوطي ص118.
  17. انظر الفرق بين المجتهد المطلق والمجتهد المنتسب في: المجموع شرح المهذب للإمام النووي ج 1/75- 76، وكتاب الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي ص112- 113.
  18. راجع مقدمة كتاب: الاجتهاد في الفكر الإسلامي المعاصر، ج 2، مركز دراسات العالم الإسلامي، الطبعة الأولى: خريف 1991م
  19. تحقيق المناط هو النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور الفرعية التي يراد قياسها على أصل، سواء أكانت العلة منصوصة أو مستنبطة…(المستصفى 2/54، الإحكام 3/62، إرشاد الفحول ص 195، أصول الفقه الإسلامي – وهبة الزحيلي 1/694.
  20. الموافقات 4/64إلى 68و 112و 117و 119و 120
  21. المرجع نفسه: 297
  22. نفسه: 298
  23. انظر هذا التقسيم للسنة في الأحكام – سؤال 25، وابن القيم في كتابه: أعلام الموقعين عن رب العالمين/ فصل في تغير الفتاوى والأحكام بتغير العوائد.
  24. طارق البشري، ملاحظات منهجية حول موضوع التجديد في الفقه الإسلامي، ص52- 53 بتصرف، مجلة الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، مرجع سابق.
  25. الأستاذ محمد الحجوي الثعالبي (ت 1376هـ)- كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ج 2/460، نشر المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
  26. الاجتهاد بين النص والمصلحة والواقع/ أحمد الريسوني ص64 وما بعدها، سلسلة حوارات لقرن جديد/ دار الفكر المعاصر، الطبعة الأولى: 1420هـ/2000م.
  27. لقد تحدث لنا الإمام الشاطبي في موافقاته عن ما أسماه ب (تحقيق المناط الخاص)، وهو الذي ينظر فيه المجتهد في الحالات الفردية ويقدر خصوصيته وما تستوجبه تلك الخصوصية في ميزان الشرع، فالنظر الأول “نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما “27 وأما النظر الثاني فهو “نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية” وهو نظر “فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص…الموافقات 4/69إلى 75 والنظر أيضا: الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/264، والبحر المحيط للزركشي 7//324.
  28. أعلام الموقعين 3/3.
  29. الذخيرة 1/176
  30. المحصول في أصول الفقه – لابن العربي المعافري – ص277، تحقيق د. حسين التاويل، أطروحة لنيل الدكتوراه بدار الحديث الحسنية – الرباط، المغرب.
  31. انظر مقال بعنوان: التغير في الفتوى: الأنماط والعوامل / يحيى محمد: ص252 وما بعدها – بتصرف/ قضايا إسلامية معاصرة – ع 13.
  32. الموافقات ج 2/ ص284.
  33. نشر العرف ص133.
  34. الفروق 5/ص: 44- 45.
  35. الأشباه والنظائر لابن نجيم ص101، والأشباه والنظائر للسيوطي ص96، أصول الفقه الإسلامي د. وهبة الزحيلي ج 2/846 وما بعدها.
  36. حديث (لا تبع ما ليس عندك) رواه الترميذي في البيوع – باب كراهية ما ليس عندك (2/350).وأبو داود في الإجارة- باب الرجل يبيع ما ليس عنده (3/495) والنسائي في البيوع – باب بيع ما ليس عندك 4/39 وابن ماجة في التجارات – باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن 2/220 وأحمد في 3/402- 404 كلهم عن حكيم بن حزام (ض) مرفوعا به.
  37. رواه الطبراني في الأوسط والحاكم في علوم الحديث من طريق عبد الوارث بن سعيد عن أبي حنيفة حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله (الدراسة 2/151) وفي طريقة مقال كما قال الهيثمي في مجمع الزائد وقد ذكر قصته 4/88 وانظر جامع المسانيد 2/22- 23.
  38. انظر أحكام القرآن لابن العربي ج 1/204.
  39. الموافقات 4/194
  40. راجع: د. قطب مصطفى سانو، أدوات النظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاص، دار الفكر المعاصر، 2000م.
  41. لمراجعة شروط المجتهد ينظر في المصادر التالية: المستصفى 2/102، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/139، شرح الإسنوي للمنهاج (نهاية السول) 3/244، إرشاد الفحول 220.
  42. أعلام الموقعين 3/3.
  43. الموافقات 4/104 وما بعدها.
  44. د. قطب مصطفى سانو، أدوات النظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاصر، ص103.
Science
الوسوم

دة. بوشرى الشقوري

دكتوراه في الفقه وأصوله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق