وحدة الإحياءأعلام

الإمام الشافعي ومذهبه الفقهي

 

د. عبد السلام السليماني

(العدد 8)

تحدثنا في العددين 6 و7 من مجلة “الإحياء” عن علمين من أعلام الفقه هما الإمامان: أبو حنيفة ومالك، رضي الله عنهما، وقد كانا يمثلان بصدق مدرستي أهل الرأي، وأهل الحديث، وبفضل اجتهاداتهما وعطاءاتهما العلمية وسيرا على نهجهما نبغ علم آخر من أعلام الفقه والأصول هو الإمام الشافعي، رضي الله عنه، الذي كان تلميذا من تلاميذ الإمام مالك متمذهبا بمذهبه مناصرا له ومناظرا من أجله، وكان شغوفا بطلب العلم منذ نعومة أظافره، لم يذق طعم الراحة ولم يستقر له قرار في طلب المزيد من المعرفة، فبعد أن أخذ بنصيب وافر من علوم أهل الحجاز، اتجه شطر العراق حيث اطلع على الفقه الحنفي بواسطة محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، الأمر الذي جعله يعقد مقارنة بين الفقهين المالكي والحنفي، وبعد هذه المقارنة عنّ له أن يؤسس مذهبا خاصا به، سمي باسمه فكان هو المذهب الثالث من المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة والمتبوعة من طرف جماهير المسلمين لحد الآن.

نأمل أن نكون بهذا التمهيد الوجيز قد أثرنا شغف القارئ بمتابعة القراءة للتعرف على المزيد من المعلومات حول الإمام الشافعي ومذهبه الفقهي عبر المباحث التالية:

المبحث الأول: حياة الإمام الشافعي وفقهه

ونقسم هذا المبحث إلى مطلبين نخصص أولهما لحياته، وثانيهما لفقهه.

المطلب الأول: حياة الإمام الشافعي

هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف، القرشي، المطلبي، الشافعي، يجتمع مع الرسول، صلى الله عليه وسلم، في عبد مناف[1] ولد الشافعي بغزة على الأصح سنة 150، ولم تكن غزة موطن آبائه، وإنما سافر إليها والده وأمه حامل به، فتوفي والده هناك، وعادت به أمه إلى مكة موطن آبائه وهو ابن سنتين، فنشأ بها وحفظ القرءان في صباه،[2] ثم خرج إلى هذيل بالبادية فاستفاد من فصاحتهم، وحفظ كثيرا من أشعارهم وصار يضرب به المثل في الفصاحة، حتى إن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذيليين.[3] وعاد بعد ذلك إلى مكة وتفقه على شيخ الحرم ومفتيه مسلم بن خالد، ثم رحل إلى المدينة بعد أن حفظ الموطأ[4] قال الشافعي: قدمت على مالك بن أنس وقد حفظت الموطأ فقال لي: أحضر من يقرأ لك، فقلت: أنا قارئ، فقرأت عليه الموطأ حفظا، فقال: إن يك أحد يفلح فهو هذا الغلام[5]. اكتسب الشافعي في هذه المدة إضافة إلى فقه مسلم بن خالد حديث سفيان بن عيينة، محدث مكة، ومالك بن أنس محدث المدينة.

وهما أكبر شيوخه[6] وروى عن غيرهما كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن سعد، وعمه محمد بن شافع[7]، وكان إلى جانب معرفته لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة وآثارهم، واختلافهم وأقاويل العلماء وكلام العرب واللغة والشعر[8] يعرف بعض علوم اليونان باللغة اليونانية.[9] ويميل أبو زهرة إلى نفي ذلك مدعما رأيه ببعض الوقائع التاريخية لا نرى فائدة من تتبعها[10].

هذا، وقد اضطر الشافعي بعد وفاة مالك للبحث عن عمل يرتزق منه، فتوجه إلى اليمن وولي عملا استمر فيه مدة إلى أن اتهم بالتشيع على عهد الرشيد، فحمل إليه وامتحن، فنفى التهمة عنه بأسلوب أقنع الرشيد فعفا عنه ووصله[11] وكان ذلك حوالي 184 وهو في الرابعة والثلاثين من عمره [12]وهناك اختلط بمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة واطلع على كتب الحنفية وفقههم، وكانت له مناظرات مع محمد بن الحسن، وعاد من العراق إلى مكة، واستمر بها يستفيد ويفيد، ثم عاد إلى بغداد سنة 195 وأقام بها سنتين رجع بعدهما إلى مكة ثم فاء إلى بغداد مرة أخرى سنة 198ﻫ فأقام بها أشهر أخرج بعدها إلى مصر التي وصل إليها سنة 199 وبقي بها حتى وافته منيته يوم الجمعة آخر رجب 204ﻫ[13]، وقد اتفق العلماء من أهل الحديث والفقه والأصول واللغة والنحو على ثقته وأمانته وعدالته وزهده وورعه.[14] وقد اجتمع للشافعي علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث فتصرف في ذلك وأصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف،[15] ثم طالعته الحياة في مصر بفقه جديد مما أثر عن الليث بن سعد، وواجهته أمور مستحدثة لم يواجه مثلها من قبل، وصحت عنده أحاديث كثيرة سمعها لأول مرة في مصر، نقلا عن الليث، واطلع على آراء جديدة للإمام علي بن أبي طالب لم يتح له الاطلاع عليها من قبل[16]، وكان مذهب الإمام مالك منتشرا بين علماء مصر، فقارن بين كل ما وصل إليه، ونشر مذهبه، وأملى كتبه الجديدة التي يعبر عنها بالقول الجديد، وهو المذهب الذي تغير إليه اجتهاده بمصر.

وغني عن البيان أن الشافعي كان في أول أمره يعد نفسه من تلاميذ مالك ومتبعا لمذهبه وأحد رجال مدرسته، واستمر كذلك إلى سنة 195 حيث قدم إلى بغداد للمرة الثانية، وقد بلغ وقتئذ مبلغ مؤسس مذهب يدعو إليه[17] كما أشار إلى ذلك ابن خلدون بقوله: “… ثم كان من بعد مالك بن أنس، محمد بن إدريس المطلبي الشافعي، رحل إلى العراق من بعد مالك، ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم، ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق، واختص بمذهب، وخالف مالكا في كثير من مذهبه[18] هذا، وإذا كان الفقه والحديث هما القاسم المشترك بين الأئمة على اختلاف درجاتهم في ذلك، فإن الشافعي امتاز بسبقه في تأليف علم الأصول، وفي ذلك قال الدكتور سامي النشار: “قام الأحناف بإقامة الأصول على الفروع، ولم يقيموا الفروع على الأصول، فكان بجانب كل فرع أصله الفقهي الذي خرج عنه، أما إقامة الفروع على الأصول فهي المحاولة التي قام بها الشافعي، ونقل عن الرازي قوله: “كان الناس قبل الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها وترجيحها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع في معرفة مراتب أدلة الشرع إليه[19].

ونرى أن هذا القول لا يخلو من مبالغة، فقد رأينا في المقالين السالفين وجود منهج لدى كل من الإمامين أبي حنيفة ومالك، ولو لم يكن ذلك المنهج مدونا، فقد كان ملحوظا لدى كل منهما، ومتعارفا عليه بين فقهاء مذهبيهما، وهو منهج مأخوذ عن الصحابة والتابعين فكان حقا على من جاء بعدهم إتباعه، ولا شك أن الشافعي استفاد من ذلك المنهج وبنى عليه، وإذا كان له من فضل، فهو سبقه لتأليف أصول الفقه بنفسه، وجعله علما قائما بذاته، في حين كان الأمر قبله ملحوظا ومتعارفا عليه من غير تدوين منظم يجمع شتات الموضوع.

وكان ابن خلدون برر تأخير ظهور علم أصول الفقه فقال عنه بأنه: “من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية، وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا، فمنهم أخذ معظمها. وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم بهم، فلما انقرض السلف، وذهب الصدر الأول، وانقلبت العلوم كلها صناعة، احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فنا قائما برأسه، سموه أصول الفقه، وكان أول من كتب فيه الشافعي، أملى فيه رسالته المشهورة[20].

فهذا الذي قاله ابن خلدون يشهد لما قلناه حوله من أن المنهج الأصولي كان موجودا وملحوظا لدى السلف، وعنهم أخذ، لكن كان للشافعي فضل السبق في بلورة هذا المنهج بتدوينه وتوثيقه.

هذه، باختصار، هي حياة الشافعي العلمية وهي حياة كد ومعاناة وصبر، تمخض عنها تراث فقهي نريد أن نتعرف عليه في المطلب التالي:

المطلب الثاني: فقه الإمام الشافعي

لقد كفانا الشافعي عناء البحث عن فقهه حيث دونه بنفسه، بعد أن طاف بين مختلف الأمصار الإسلامية، فقد قضى حياته متنقلا بين مكة والمدينة واليمن والعراق، قبل أن يحط الرحال بمصر، ولم يتجه الشافعي إلى تكوين مذهب مستقل أو آراء مستقلة عن آراء مالك إلا بعد سنة 195. فهو بعد أن حفظ الموطأ وأحاط بفقه الإمام مالك، واطلع على فقه الأحناف في العراق، قارن بين الفقهين، وإن شئت فقل بين المدرستين وربما ظهر له من خلال هذه المقارنة بعض النقص في هذا الجانب أو ذاك.

وعندئذ رأى أن يوفق بين المدرستين ويؤسس مذهبا خاصا به، وتبعا لذلك ألف وهو بالعراق، كتاب الحجة الذي يقول عنه صاحب كشف الظنون: هو مجلد ضخم ألفه بالعراق، إذا أطلق القديم من مذهبه يراد به هذا التصنيف، كما ألف بالعراق رسالة الأصول، وله مؤلفات أخرى منها:

المبسوط في الفقه، رواه عنه الربيع بن سليمان، والزعفراني، وكتاب اختلاف مالك والشافعي، وكتاب الرد على محمد بن الحسن، وكتاب الأم والإملاء الصغير[21].

ولما حل بمصر أملى على تلاميذه المصريين كتبه الجديدة التي ضمنها مذهبه الجديد[22] وله مسند في الحديث طبع أخيرا، قال عنه ابن حجر العسقلاني في كتابه تعجيل المنفعة، إنما التقطه بعض النيسابوريين من الأم وغيرها من موسوعات أبي العباس الأصم، التي كان انفرد بروايتها عن الربيع، وبقي من حديث الشافعي شيء كثير لم يقع في هذا المسند…[23].

وعلى ذكر هذا المسند الحديثي أشير إلى أن الشافعي يعد في نظر البعض مقلدا في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته[24].

على أن أهم ما خلفه الشافعي يتمثل في كتابيه: الرسالة والأم، وهما مطبوعان ومتداولان، الأول في الأصول، والثاني في الفقه والأصول معا، طبعت الرسالة في مجلد واحد، وطبع كتاب الأم في سبع مجلدات، وهو أكبر أثر للشافعي بين أيدينا رواه عنه تلميذه الربيع المرادي المتوفى سنة 270ﻫ[25] وقد بوب كتاب الأم على أبواب الفقه كما فعل مالك في الموطأ، وفيه فصول في أصول الفقه، وتظهر في كتاب الأم قوة الشافعي في الجدل، فأسلوب الكتاب جدلي، على الجملة، حتى ليفترض مجادلا يجادله فيرد عليه ثم يعترض فيجيب[26]، فالكتاب ليس عبارة عن مسائل تسرد سردا كما هو الشأن في كتب محمد بن الحسن، بل يذكر الشافعي المسألة ودليلها، وكثيرا ما يذكر رأي مخالفيه ويقيم عليهم الحجة[27].

ونسبة الكتاب إلى الشافعي ثابتة، وقد رد أبو زهرة على من شكك في ذلك فقال: “والأخبار متظافرة، والأسانيد متصلة مثبتة أن الشافعي كان يدون كتبه، وأنه دون كتبا بالعراق، ودون مثلها بمصر، وكان يكتب ثم يقرئ ما كتب تلاميذه، ثم ينسخونه، وأحيانا كان يملي، وأن الربيع بن سليمان هو الذي روى كتب الشافعي، التي انتهى إليها ودون آخر آرائه فيها، وأن العلماء كانوا يشدون الرحال إليه لنقل كتب الشافعي[28].

وهذه النظرة الوجيزة لا تغني عن قراءة كتاب الأم للاطلاع على أسلوب الشافعي الجدلي، القوي في عباراته، القوي في مناظراته.

هذا وقد امتاز الشافعي فيما يخص طريقة تدريسه بأمرين هامين: أولهما أنه كان يمنح حرية المناقشة لتلاميذه، ويقول لهم: إذا ذكرت دليلا أو برهانا لم تقبله عقولكم فلا تقبلوه، لأن العقل مضطر لقبول الحق[29]، فالشافعي من هذه الناحية يشبه أبا حنيفة، إلا أنه لم يصل إلى المدى الذي وصل إليه.

وثانيهما: أنه كان يميل إلى التخصص في العلم ويرغب فيه الطلبة فيقول لهم: ما ناظرت ذا فن واحد إلا غلبني، وما ناظرت ذا فنين أو أكثر إلا غلبته[30].

والغريب في الأمر أن الشافعي وهو الذي كان يمثل موسوعة في علوم مختلفة سبقت الإشارة إليها، يوصي تلاميذه بالتخصص، وهذه النصيحة تعد سليمة من المنظور التربوي الحديث، وهي متبعة في عصرنا لدى مختلف الدول، وقد تأثر بها تعليمنا إلى حد ما، حيث أصبح تلاميذنا يوجهون لمختلف التخصصات ابتداء من السنة الخامسة من التعليم الثانوي بناء على ميولهم وقدراتهم على استيعاب هذا الفن أو ذاك.

هذا ولا ينبغي أن يفهم مما قدمناه عن عصامية الشافعي ومعاناته أن مذهبه قام على مجهوده الفردي بداية ونهاية، بل الواقع غير ذلك، فقد كان للشافعي كغيره من الأئمة تلاميذ عملوا على إثراء فقهه، وإذا لم يكن من الممكن أن نتعرض لهم جميعا فإننا نذكر منهم البويطي[31]، والمزني[32]، والربيع المرادي[33]، وهؤلاء من الذين عاصروا الشافعي وتلقوا عنه مباشرة، وخلفهم خلف من الفقهاء وعلماء في الأصول كان لهم إشعاع وتأثير في المذهب الشافعي وقد اهتمت طائفة من فقهاء الشافعية بتقعيد القواعد الفقهية ووضع الضوابط والفروق، وتفريع الأحكام على الأصول فسهلوا على الباحث الرجوع إلى المبادئ والأصول لتخريج الأحكام ولمعرفة أحكام المسائل المتعددة بمعرفة القاعدة أو الأصل المتفق عليه في المذهب، ومن الذين ألفوا في هذا المجال: شهاب الدين الزنجاني، والعز بن عبد السلام، وجمال الدين الأسنوي، وبدر الدين الزركشي، وعبد الوهاب الشعراني، وتاج الدين السبكي، وجلال الدين السيوطي[34] وحيث يطول بنا الأمر لو تتبعنا حياة هؤلاء المؤلفين ومؤلفاتهم، فإننا نكتفي بكلمة موجزة عن اثنين منهم وهما: عز الدين بن عبد السلام[35] وجلال الدين السيوطي[36] ويهمنا من مؤلفات الأول كتاب: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، وهو مطبوع في جزئين، يبحث عن الأحكام الأساسية وقواعدها دون ترتيب على أساس أبواب الفقه المعروفة، فهو مثلا يتكلم عن المصالح ورتبها، وعن اجتماع المصالح والمفاسد، ويتطرق لأمور ذات صبغة سياسية، كتنفيذ تصرفات البغاة وأئمة الجور[37]، ويتحدث عن الحقوق الخاصة والمركبة[38]، وعن المشاق الموجبة للتخفيفات الشرعية[39]، وعن المصالح المتعلقة بالمعاملات والتصرفات[40].

أما كتاب الأشباه والنظائر في قواعد فقه الشافعية للإمام السيوطي، فإنه يختلف عن كتب القواعد من حيث الأسلوب ويتفق معها في أمر واحد، وهو جمع الجزئيات وضبط الفروع بمبادئ وقواعد ترد المتشابهات إلى أصل واحد[41].

ويقول مؤلف الكتاب في مقدمته: “… وتتبعت نظائر المسائل أصولا وفروعا حيث أوعيت من ذلك مجموعا جموعا، وأبديت فيه تأليفا لطيفا، ورتبته على كتب سبعة…” وقد صدر المؤلف كل قاعدة من القواعد بأصلها من الحديث والأثر، فالكتاب كما قال صاحبه لطيف، عظيم الفائدة يفتح أمام البحث بابا واسعا لمعرفة الأحكام الشرعية، ويرشده إلى قياس الأشباه من المسائل على نظائرها، وهذا الفن من التأليف مما تمس الحاجة إليه، ويحتاج إلى أبحاث خاصة تقارن بينما جاء متفرقا من هذه القواعد في مختلف المذاهب الفقهية واختيار الأقوى منها وحذف المكرر، وبذلك ينفرج مجال البحث والاختيار ويسهل على الباحث المهتم بدراسة الفقه الإسلامي أن يجد الحلول لكثير من المسائل المستحدثة بردها إلى أقرب قاعدة يمكن أن تنضوي تحتها.

هذه نظرة موجزة، كان الغرض منها تسليط بعض الأضواء على ما قام به تلاميذ الشافعي من جهود كان لها الأثر البالغ في إغناء مذهب إمامهم ونشره، هذا المذهب الذي بني على أصول حري بنا أن نتحدث عنها في المبحث التالي:

المبحث الثاني: الأصول التي بنى عليها الإمام الشافعي

إذا كانت دراسة أي عالم يجب أن تنصب بالأساس على الجانب الذي امتاز به، فإن الشافعي قد امتاز بسبقه لتأليف علم الأصول كما سبق القول، وسبق القول، أيضا، بأن السلف لم يكن لديهم منهج أصولي محدد بشكل قاطع ومكتوب، وإنما كانوا يعتمدون في استنباط الأحكام من النصوص بناء على ما لديهم من الملكة اللسانية وإلمامهم بمقاصد الشريعة، واطلاعهم على السنة النبوية ومعرفتهم بأحوال الرواة وأقوال الصحابة وقضاياهم، ثم معرفتهم بعلوم القرءان من أسباب النزول، والعام والخاص، والمطلق والمقيد،… ومنزلة السنة من الكتاب، كما كانوا متمكنين من أساليب اللغة ودلالة الكلام بنصه، وظاهره وإشارته،…فكل هذه الأمور، التي هي مدار علم أصول الفقه، كانت معلومة لديهم، لذلك لم يشعروا بالحاجة إلى تدوينها، مثلهم في ذلك مثل العرب في الجاهلية وصدر الإسلام بالنسبة للغة والشعر، فقد كانوا يتكلمون اللغة ويقولون الشعر، دون حاجة إلى ضبط ذلك بقواعد وأوزان، فلما اختلط العرب بغيرهم، وخيف على اللغة وشعرها، مست الحاجة إلى وضع قواعد نحوية وصرفية، ووضع قوالب وأوزان شعرية ضابطة لصيانة اللغة والشعر، وكان سبيل المشتغلين بتأليف هذه القواعد والأوزان، رصد اللغة التي يتكلم بها العرب في مختلف القبائل وحصر الأوزان والقوافي الشعرية لدى الشعراء، وتقنين ذلك وصياغته في شكل قواعد وأوزان لضبط الواقع اللغوي والشعري كما هو دون تزيد، كذلك الأمر بالنسبة لعلم أصول الفقه، فإن الشافعي لم يخلقه من العدم، بل عمل على رصد ما أثر عن السلف وقارن ووازن، وطلع علينا برسالته الأصولية، وبفصول في علم الأصول كتبها في الأم.

على أن الشافعي لم يكن في عمله مجرد ناقل لعلم من سبقه من كبار الفقهاء، وإلا لما استقل بمذهب خاص دعا إليه، بل إنه بعد الموازنة والمقارنة استقر رأيه على اختيار أصول اعتمد عليها في بناء مذهبه، واستبعد أصولا بنى عليها غيره، وهو في ذلك لم يخرج، في الجملة، عما كان عليه السلف الصالح من اتباع المبادئ العامة المشار إليها أعلاه.

والأصول التي اعتمد عليها الشافعي في بناء مذهبه ذكرها في الرسالة والأم، فطريقنا لمعرفتها هو ما قاله الشافعي نفسه، فقد قال في الأم: “العلم طبقات”؛ الأولى: الكتاب والسنة، الثانية: الإجماع فيما ليس كتابا ولا سنة، الثالثة: أن يقول صحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة، الرابعة: اختلاف الصحابة، الخامسة: القياس[42].

وقال في موضع آخر من الأم: “الأصل قرءان وسنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصح الإسناد به فهو المنتهى، والإجماع أكبر من الخبر المفرد، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهرها أولاها به، وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادا أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب، ولا يقاس أصل على أصل، ولا يقال للأصل لم وكيف، وإنما يقال للفرع لم، فإذا صح قياسه على الأصل صح، وقامت به الحجة”[43].

هذه، إذن، هي أصول الشافعي على الجملة: قرآن وسنة، وإجماع، وأقوال الصحابة، والقياس.

فالشافعي ينظر إلى السنة الصحيحة نظره إلى القرآن ويرى كلا منهما واجب الاتباع، ولا يشترط ما اشترطه أبو حنيفة من الشهرة فيما تعم به البلوى، ولا عدم مخالفة الراوي لما يرويه، ولا غير ذلك، ولا يشترط ما اشترطه مالك من عدم مخالفة الحديث لعمل أهل المدينة، وإنما اشترط الثقة والضبط في الراوي، ودافع في رسالته دفاعا شديدا عن العمل بخبر الواحد[44].

والشافعي يعمل بأقوال الصحابة على تفصيل دقيق حيث يقول:

أقاويل الصحابة إذا تفرقوا فيها نصير على ما وافق الكتاب والسنة أو الإجماع، إذا كان أصح في القياس[45] وإذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة ولا خلاف صرت إلى أتباع قوله، إذا لم أجد كتابا ولا سنة ولا إجماعا ولا شيئا في معناه يحكم له بحكمه، أو وجد معه قياس[46].

وقال في كتاب اختلافه مع مالك: ما كان الكتاب والسنة موجودين، فالعذر على من سمعه مقطوع، إلا بإتيانه، فإن لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل الصحابة أو واحد منهم[47].

وكان الشافعي يقدم أئمة الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان، وقد علل ذلك تعليلا سليما فقال: “…إن قول الإمام مشهور بأنه يلزم الناس، ومن لزم قوله الناس كان أشهر ممن يفتي الرجل أو النفر، وقد يأخذ بفتياه ويدعها، وأكثر المفتين يفتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم، ولا يعتني العامة بما قالوا عنا يتهم بما قال الإمام[48].

هذه أهم المصادر التي بنى عليها الشافعي مذهبه، وهي مصادر أخذ بها من سبقه من الأئمة مع اختلاف فيما بينهم من حيث الضوابط التي راعاها كل منهم عند الاستنباط منها، إلا أن الشافعي خالف بعض الأئمة حول بعض المصادر وأنكر الاحتجاج بها، ونخص بالذكر منها الاستحسان الذي قال عنه في الرسالة:

“إنما الاستحسان تلذذ[49] وقال عنه أيضا… لم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والإجماع والآثار وما وصفت من القياس عليها…[50]

وبديهي أن يراعي الشافعي بعض الضوابط عند الاستنباط من المصادر سالفة الذكر، تلكم الضوابط التي سنتعرف عليها في المبحث التالي:

المبحث الثالث: بعض الضوابط التي راعاها الشافعي في الاستنباط

لقد دون الشافعي الضوابط التي راعاها في الاستنباط بنفسه في الرسالة، ودونها تلاميذه من بعده، وحيث لا يمكن تتبعها جميعا في هذا المبحث، فإننا سنكتفي بنماذج منها بصورة مختصرة، والنماذج التي سنأتي على ذكرها تتعلق بالعموم والخصوص في القرءان، وببعض الضوابط التي راعاها الشافعي في خبر الواحد، والإجماع، وبعض الدلالات اللفظية.

العموم والخصوص عند الشافعي

أ. العموم

العموم من عوارض الألفاظ، ويقصد به كل لفظ عم شيئين فصاعدا، وقد يكون متناولا لشيئين، وقد يتناول الجنس، وأقل ما يتناول شيئين، وألفاظه أربعة أنواع:

الأول: اسم الجمع إذا عرف بالألف واللام، كالمسلمين والمشركين، أو بالإضافة كقوله: ﴿يوصيكم الله في أولادكم﴾، فإنه للعموم حقيقة على الأصح.

الثاني: اسم الجنس إذا عرف بالألف واللام، كالرجل والمسلم.

الثالث: الأسماء المبهمة، وذلك من، فيمن يعقل، وما، فيما لا يعقل، في الاستفهام والشرط والجزاء.

الرابع: النكرة في سياق النفي، كقولك ما عندي شيء ولا رجل في الدار[51] فإذا ذكرت ألفاظ العموم المذكورة اقتضت العموم عند الإمام الشافعي[52].

ب. التخصيص

التخصيص هو تمييز بعض الجملة بالحكم، وهو مصدر خصص، بمعنى قصر حكم العام على بعض أفراده، بأن يخص بدليل، فيخرج العام الذي يراد به الخصوص[53].

وتخصيص العموم هو بيان ما لم يرد باللفظ العام، ويجوز دخول التخصيص في جميع ألفاظ العموم من الأمر والنهي والخبر، ويجوز التخصيص إلى أن يبقى من اللفظ واحد[54].

ومن العام الذي يراد به العام ويدخله الخصوص، قوله تعالى: ﴿الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل…﴾ [الزمر: 62] وقوله عز وجل: ﴿ خلق السماوات والأرض﴾ [إبراهيم:22] وقوله سبحانه: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾ [هود: 6] فهذا عام لا خاص فيه.

أما قوله تعالى: ﴿ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه﴾ [التوبة: 120] فهذا عام أريد به من أطاق الجهاد من الرجال، وليس لأحد منهم أن يرغب بنفسه عن نفس النبي: أطاق الجهاد أم لم يطق، ففي هذه الآية الخصوص والعموم[55]. وورد في القرءان العام في الظاهر، وأريد به كله الخصوص، كقوله تعالى: ﴿الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل﴾ [آل عمران: 173] فإذا كان من مع رسول الله ناسا غير من جمع لهم من الناس، وكان المخبرون لهم ناسا غير من جمع لهم، وغير من معه، ممن جمع عليه معه، وكان الجامعون لهم ناسا، فالدلالة بينة مما وصفت من أنه إنما جمع لهم بعض الناس دون بعض، والعلم يحيط أنه لم يجمع لهم الناس كلهم، ولم يخبرهم الناس كلهم، ولم يكونوا هم الناس كلهم، ولكن لما كان اسم الناس يقع على ثلاثة نفر، وعلى جميع الناس، وعلى من بين جميعهم وثلاثة منهم، كان صحيحا في لسان العرب أن يقال: “الذين قال لهم الناس” وإنما الذين قالوا لهم ذلك أربعة نفر، “إن الناس قد جمعوا لكم” يعنون المنصرفين عن أحد، وإنما هم جماعة غير كثير من الناس، الجامعون منهم غير المجموع لهم، والمخبرون للمجموع لهم غير الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غير الجامعين، ولا المجموع لهم، ولا المخبرين”[56]

هذا، وقد وردت في القرءان آيات عامة دلت السنة على أنه يراد بها الخاص، من ذلك قوله تعالى: ﴿ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد، وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس﴾ [النساء: 11] فهذه الآية عامة في استحقاق ما ذكر من الإرث، لكن دلت السنة على أنه أريد بها بعض الوالدين دون البعض، وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود واحدا، ولا يكون الواحد منهما قاتلا ولا مملوكا[57] وما قيل عن الوالدين مع الأولاد يقال في سائر الورثة، حيث يشترط في التوارث بينهم ما اشترط بين الوالدين والأولاد.

وقد وضع الإمام الشافعي ضوابط دقيقة للعمل بخبر الواحد بحيث يجب أن يكون الراوي ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه، كما سمع، ولا يحدث بالحديث على المعنى، لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه، لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام، وأن يكون حافظا إذا حدث بالحديث من حفظه، حافظا لكتابه إذا حدث من كتابه[58].

وقد أجاز أكثر العلماء – ومنهم الأئمة الأربعة – رواية الحديث بالمعنى للعارف بمدلولات الألفاظ ومواقع الكلام، بأن يأتي بلفظ بدل آخر مساو له في المراد منه وفهمه، لأن المقصود المعنى، واللفظ آلة له[59].

وتحدث الشافعي عن الإجماع الذي يعتبره دليلا من أدلة الشرع، لأن ما اجتمع عليه المجتهدون يحتمل أن يكون حكاية عن رسول الله، ويحتمل غير ذلك، وسنة رسول الله لا تعزب عن عامتهم، وقد تعزب عن بعضهم، وأن عامتهم لا تجتمع على خلاف سنة رسول الله ولا على خطأ[60].

والإجماع عند الشافعية لا يختص بالصحابة لصدق مجتهدي الأمة في عصر بغيرهم[61] ومن ضوابط الإجماع عندهم أن يكون له مستند، أي دليل يستند إليه المجتهدون فيما أجمعوا عليه، لأن القول في الدين بلا مستند خطأ، وفائدة الإجماع سقوط البحث عن الدليل إذ يغني عنه ثبوت الإجماع الذي تحرم مخالفته مع عدم العلم بالدليل [62].

وأخيرا، نقول كلمة موجزة عن بعض الدلالات اللفظية عند الشافعية والتي تعد من ضوابط الاجتهاد عند جميع المجتهدين، ونقتصر منها على منطوق الكلام ومفهومه.

فالمنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق حكما كان كتحريم التأفيف للوالدين بقوله تعالى: ﴿فلا تقل لهما أف﴾ [الإسراء: 23] أو غير حكم كمحمد في قولك جاء محمد، بخلاف المفهوم، فإن  دلالة اللفظ عليه في محل السكوت، لا في محل النطق[63].

ولمفهوم الخطاب عدة أوجه:

أولها: فحوى الخطاب وهو ما دل عليه اللفظ من جهة التنبيه كقوله تعالى: ﴿ فلا تقل لهما أف﴾ وقوله عز وجل: ﴿ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده إليك﴾[64] مما ينص فيه على الأدنى لينبه به على الأعلى، وعلى الأعلى لينبه به على الأدنى، لأنه إذا كان التأفيف للوالدين منهيا عنه وحراما، فأحرى سبهما أو ضربهما، وإذا كان الشخص يؤدي الكثير إذا ائتمن عليه فأحرى أن يؤدي القليل إذا ائتمن عليه.

وثانيهما: لحن الخطاب وهو ما دل إليه اللفظ من الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به، كقوله تعالى: ﴿فقلنا اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت﴾ [سورة البقرة:59] أي فضرب فانفجرت.

ومن ذلك حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه كقوله عز وجل: ﴿واسأل القرية﴾[65] ومعناه (واسأل أهل القرية، ولا خلاف في أن هذا كالمنطوق به في الإفادة والبيان).

والثالث: دليل الخطاب، وهو أن يعلق الحكم على إحدى صفتي الشيء فيدل على أن ما عداها بخلافه كقوله تعالى: ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا﴾ [الحجرات:6] فإنه يدل على أنه إن جاء عادل يصدق، فيما أخبر به ولا يتبين، ومن ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم،: “في سائمة الغنم زكاة” فإنه يدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها”[66].

هذه، باختصار كبير بعض الدلالات اللفظية عند الشافعية، أشرنا إليها لاعتقادنا أن معرفتها ضرورية لاستخراج الأحكام من النصوص الشرعية، كما هي ضرورية لرجال القضاء والقانون فهي تساعدهم على فهم النصوص القانونية بطريقة سليمة وتعد بالتالي من ضوابط الاجتهاد تجعل الباحث ينفذ إلى روح النص ولا يقف جامدا مع منطوقه.

وتجدر الإشارة إلى أن الشافعي كان يعتمد في استنباط الأحكام من النصوص على الظاهر الذي تدل عليه تلكم النصوص، ومن تتبع فقهه يجد أثرا لهذا النهج، ومن ذلك أنه أجاز بيوع الآجال مثلا[67] وقد نقل عنه ابن القيم نصا طويلا بهذا المعنى نقتطف بعض فقراته فيما يلي: قال الشافعي فرض الله على خلقه طاعة نبيه، ولم يجعل لهم من الأمر شيئا، فأولى ألا يتعاطوا حكما على غيب أحد بدلالة ولا ظن، لقصور علمهم عن علوم أنبيائه الذين فرض عليهم الوقوف عما ورد عليهم حتى يأتيهم أمره، فإن الله تعالى ظاهر عليهم الحجج، فما جعل إليهم الحكم في الدنيا إلا بما ظهر من المحكوم عليه، ففرض على نبيه أن يقاتل أهل الأوثان حتى يسلموا فتحقن دماؤهم إذا أظهروا الإسلام…[68] وبذلك مضت أحكام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق، أعلمهم أن جميع أحكامه على ما يظهرون والله يدين بالسرائر، ثم ذكر حديث عويمر العجلاني في لعانه امرأته، ثم قال: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا: “لولا ما قضى الله لكان لي فيها قضاء غيره”…وأنفذ الحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب…[69] فهذا المسلك الذي سار عليه الشافعي في مراعاة الظاهر هو الذي دفعه إلى إنكار الاستحسان والإقلال من القياس[70].

والخلاصة التي نود تسجيلها من دراستنا للمذهب الشافعي أن هذا المذهب، كغيره من المذاهب الفقهية، غني بالضوابط التي تساعد على الاجتهاد، وقد تجلت لنا الأدوار التي قام بها تلاميذ الشافعي في إغناء مذهب إمامهم بكثير الضوابط التي تساعد على تفريع الفروع على الأصول، وإن شئنا الصراحة والتخلص من عقدة المبالغة في تقدير الأئمة فإننا نستطيع القول بأن فضل تلاميذ كل من أبي حنيفة ومالك والشافعي كان كبيرا، فقد كتبوا في الأصول والقواعد والفروع بالقدر الذي طور هذه المذاهب وأظهرها في قالبها الحالي، وإن أردنا التوضيح يمكن أن نقول مثلا بأن رسالة الشافعي الأصولية هي وإن كانت الأساس في أصول المذهب الشافعي، فإن تلاميذه قد كتبوا في علم الأصول كتبا لا تقل في أهميتها عن الرسالة، إن لم نقل فاقتها من حيث ذكر التفاصيل والمقارنة، ونفس الدور كان لتلاميذ كل من أبي حنيفة ومالك، ويكفي أن نقرأ مثلا أصول البزدوي الحنفي بشرح عبد العزيز البخاري، وموافقات الشاطبي المالكي لندلل على ما قلناه.

نكتفي بهذه الحصيلة التي توصلنا إليها من دراسة ضوابط الاجتهاد في المذهب الشافعي لنتجه بدراستنا شطر إمام آخر هو الإمام ابن حنبل الذي سنتحدث عنه في مقال لاحق بحول الله.

الهوامش

  1. أبو العباس شمس الدين بن خلكان: وفيات الأعيان، مكتبة النهضة المصرية القاهرة، ط1، 1948، ج3، ص305 وتاريخ التشريع للخضري ص251.
  2. وفيات الأعيان ج3، ص307، وأحمد إبراهيم بك أصول الفقه وتاريخ التشريع، ص41.
  3. وفيات الأعيان ج3، ص305، والفكر السامي للحجوي، ج1، ص394.
  4. حافظ إبراهيم، المرجع السابق، ص41 والخضري المرجع نفسه، ص251.
  5. ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج3، ص306.

6.الخضري، تاريخ التشريع الإسلامي، ص252.

  1. الفكر السامي للأستاذ الحجوي، ج1، ص395.
  2. وفيات الأعيان ج3 ص305.
  3. سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام دار المعرفة القاهرة ط4 1948 ص89 والمراجع التي أشار إليها.
  4. أبو زهرة: الشافعي دار الفكر العربي 1948 ص46 و47.
  5. تاريخ التشريع للخضري ص252 والفكر السامي ج1 ص396.
  6. ضحى الإسلام ج2 ص220 والخضري نفس المراجع ص253 والفكر السامي ج2 ص220.
  7. وفيات الأعيان ج3 ص207.
  8. ضحى الإسلام ج2 ص220 نقلا عن ابن حجر.
  9. عبد الرحمان الشرقاوي أئمة الفقه التسعة ص141 و142.
  10. الحجوي الفكر السامي ج1 ص396.
  11. أحمد أمين ضحى الإسلام ج2 ص222.
  12. مقدمة ابن خلدون ص447 و448.
  13. سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام ص68.
  14. المقدمة: ص455.
  15. عبد الله مصطفى المراغي: الفتح المبين في طبقات الأصوليين ج1 ص133.
  16. الخضري تاريخ التشريع ص254.
  17. الحجوي: الفكر السامي ج1 ص397 و398 حيث المزيد من التفاصيل.
  18. للإمام الشاطبي الموافقات ج4 ص57 وراجع أيضا الفكر السامي حيث نقل الحجوي كلام عياض في مداركه ورد عليه ص395 و396.
  19. ضحى الإسلام ج2 ص231 والخضري تاريخ التشريع ص259.
  20. ضحى الإسلام ج2 ص231.
  21. الخضري تاريخ التشريع الإسلامي ص309.
  22. عبد الله مصطفى المراغي الفتح المبين ج1 ص134.
  23. عبد الله مصطفى المراغي الفتح المبين ج1 ص134.
  24. عبد الله مصطفى المراغي المرجع نفسه ج1 ص134.
  25. هو يوسف بن يحيى البويطي أخذ عن الشافعي الفقه والحديث وله المختصر المشهور الذي اختصره من كلام الشافعي، وكان الشافعي يعتمده في الفتوى، واستخلفه على أصحابه بعد موته فتخرج عليه أئمة تفرقوا في البلاد ونشروا علم الشافعي توفي سنة 231ﻫ (راجع تاريخ التشريع للخضري ص258 والفتح المبين ص146 ج1).
  26. هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني ولد سنة 175 وتفقه بالشافعي حتى صار أخص تلاميذه، أخذ عنه كثيرون من علماء خراسان والعراق والشام قال الشافعي في حقه: “المزني ناصر مذهبي” له عدة مؤلفات منها المختصر.

الجامع الكبير، الجامع الصغير، المنشور… توفي سنة 269 (راجع الفتح المبين ج1 ص156، وتاريخ التشريع للخضري ص258).

  1. هو الربيع بن سليمان المرادي ولد سنة 174 واتصل بخدمة الشافعي وحمل عنه الكثير وهو راوية كتبه، كانت له الرحلة من الآفاق لتلقي كتب الشافعي توفي سنة 270 (راجع الخضري تاريخ التشريع ص259).
  2. راجع د. عبد الرحمن الصابوني محاضرات في المدخل لعلم الفقه ص438.
  3. هو عبد العزيز بن عبد السلام المعروف بسلطان العلماء ولد بدمشق سنة 577ﻫ وتوفي سنة 660 ويعتبر كبير الفقهاء الشافعية في عصره وهو أحد أساتذة الإمام القرافي المالكي وله عدة مؤلفات منها كتاب قواعد الأحكام (راجع الفتح المبين في طبقات الأصوليين ج1 ص73 و74).
  4. هو عبد الرحمن بن الكمال ولد في أسيوط بمصر، سنة 849 وتوفي سنة 910ﻫ أو 911 له عدة مؤلفات منها: الأشباه والنظائر (راجع د. عبد الرحمان الصابوني المرجع السابق ص416 وقارن بما جاء في كتاب الأشباه والنظائر دار الكتب العلمية بيروت ط1 لسنة 1979 ص1).
  5. راجع كتاب القواعد المذكور ج1 ص68.
  6. راجع ص129 وما بعدها.
  7. راجع ص7 ج2 من نفس الكتاب.
  8. راجع ج2 ص58 وما بعدها.
  9. راجع د. عبد الرحمان الصابوني المرجع السابق ص416.
  10. ابن قيم الجوزية أعلام الموقعين ج4 ص121 والشيخ محمد السايس، نشأة الفقه الاجتهادي ص63.
  11. الأستاذ الحجوي الفكر السامي ج1 ص398 والشيخ السايس المرجع نفسه ص63.
  12. الرسالة للشافعي ص369 والخضري تاريخ التشريع ص254 والشيخ السايس ص63.
  13. الرسالة للشافعي ص596 و597 وأعلام الموقعين ج4 ص121.
  14. أعلام الموقعين ج4 ص121.
  15. أعلام الموقعين ج4 ص121.
  16. أعلام الموقعين ج4 ص121 و122.
  17. الرسالة ص507.
  18. الرسالة ص509 و510.
  19. الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، الشافعي: اللمع في أصول الفقه، ط. مكة المكرمة ص69 و72 وشيخ الإسلام أبو يحيى زكرياء الأنصاري الشافعي، غاية الوصول شرح لب الأصول مطبعة مصطفى البابي، الحلبي، بمصر الطبعة الأخيرة 1941 ص71.
  20. اللمع في أصول الفقه المرجع السابق ص81 و82.
  21. غاية الوصول شرح لب الأصول المرجع السابق ص75.
  22. اللمع في أصول الفقه المرجع السابق ص81 و83.
  23. الرسالة 53 و54.
  24. الإمام الشافعي: الرسالة ص58 و60.
  25. الرسالة ص64 و65.
  26. الرسالة ص372.
  27. المرجع نفسه.
  28. ابن السبكي جمع الجوامع شرح المحلى ج2 ص171.
  29. الإمام الشافعي الرسالة ص472.
  30. جمع الجوامع بشرح المحلى وحاشيته ج2 ص178 وغاية الوصول شرح لب الأصول ص107.
  31. ابن السبكي جمع الجوامع بشرح المحلى ج2 ص195.
  32. أجمع الجوامع بشرح المحلى ج1 ص235 و236 وغاية الوصول شرح لب الأصول ص36.
  33. اللمع في أصول الفقه ص110 وغاية الوصول شرح لب الأصول ص37.
  34. المرجع نفسه.
  35. المرجع نفسه.
  36. راجع بداية المجتهد ج2 ص140.
  37. راجع أعلام الموقعين ج3 ص100.
  38. المرجع نفسه.
Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق