لعل من حسن الطالع أن يزاح الستار عن شخصيات مغربية مغمورة، تكشف الأيام عن قيمتها العلمية والثقافية فيتبين لنا من خلال البحث أنها لا تقل مستوى عن غيرها من الشخصيات المشرقية والأندلسية المحظوظة، فلقد سبق أن عرفنا ببعض الشخصيات الأدبية من مثل أحمد الغزال، وأحمد بن عثمان المكناسي(1) ومحمد بن إدريس العمراوي(2) ويأتي اليوم دور شخصية أخرى أن اجتمعت مع من تقدم في أشياء فقد انفردت وحدها بأشياء وأشياء، تلك هي شخصية الأديب الموسوعي محمد بن أحمد أكنسوس، فهو إن كان يلتقي مع أولئك في الأخذ بزمام الأدب شعرا ونثرا، مما أهلهم لتقلد منصب الكتابة، فإنه يلتقي مع صفيه محمد بن إدريس في أن كلا منهما تقلد الوزارة، ونالته عوادي الزمن، بينما شارف كلاهما الذروة في قرض الشعر، غير أنه يمتاز عن كل هؤلاء بأنه كان آخذا بحظ وافر من الاطلاع في جميع فنون المعرفة على عهده، مما يستحق معه أن يوصف بالأديب الموسوعي بحق، أهله لذلك تفرغه الطويل للمطالعة والتأليف، بعد أن عاكسه الحظ في الاستمرار في تبويء المناصب الوزارية، كما أن ما أتيح له من بسطة في العمر ( 83 سنة) كان له أثر قوي في ذلك ! بصفة الأديب محمد غريط (3) بأنه « طلق العنان، كمبت وقته وحبيبه» إلى أن يقول: « مطلعا على قواعد العلوم الرياضية وحقائقها وأسرار الحروف ودقائقها» وهناك أيضا ما يثير انتباهنا عن هذه الشخصية الفذة وهو بعض أطواره الغريبة، وسنحاول بقدر الإمكان تعليلها، وقبل ذلك نسوق نبذة عن حياته. نسبه ونشأته: ولد بسوس بقبيلة أداو كنسوس سنة 1211 ونشأ بين أحضان أسرته التي كانت لها منزلة سامية بين القبيلة إذ تنتسب إلى جعفر بن أبي طالب، وبدون شك فإنه تلقى دروسه الأولية في مسقط رأسه، حيث حفظ القرءان الكريم ومباديء اللغة والفقه وبعض المتون، وذلك جريا على عادة جميع طلبة المغرب آنذاك حيث لا يتاتى للطلاب أن ينخرطوا بالقرويين أو ابن يوسف إلا بعد أن يكونوا قد أتقنوا حفظ كتاب الله، وألموا بمبادئ العلوم اللغوية والدينية، ولا نعرف شيئا عن شخصية والده ولا بعض أساتذته الذين تلقى عنهم دروسه الأولية. انتقاله إلى فاس: في سنة 1229 هـ رحل إلى فاس لطلب العلم كما يحدثنا هو نفسه، وهناك تردد بين علماء أعلام من مثل حمدون بن الحاج، ومحمد بن عامر التادلي، وأحمد بن التاودي بن سودة، وعبد السلام الآزمي، وابن عمرو الزروالي، وابن منصور الشفشاوني، وكل هؤلاء كانوا على مستوى عال من الشهرة والسبق في الحقل الثقافي لذلك العهد، وفي حلقات دروس هؤلاء تعرف على محمد بن إدريس العمراوي وتوثقت عرى الصداقة بينهما كما أسلفنا في مقال عن الأديب المذكور، حيث يذكر أكنسوس أنه لما قدم إلى فاس في السنة المذكورة وجد الشيخ الآزمي في باب الشهادات في مختصر خليل ولازم دروسه صحبة بن إدريس إلى أن ختم الكتاب المذكور فنظم الطلبة قصائد بهذه المناسبة كما اعتادوا ذلك في مثلها، وكان من ألمع المشاركين صاحبنا أكنسوس بقصيدته التي يقول في مطلعها: ختام الهوى قد فض منك يسره فما لك تطوي الحب من بعد نشره وقد أعجب ابن إدريس بالقصيدة وطلبها من رفيقه بقطعة من نفس البحر، ومن هذا نستنتج أن أكنسوس لمي قدم إلى فاس إلا بعد أن كان على حظ وافر من الإلمام بالعربية والتمرس بالشعر، لأن المدة التي قضاها بفاس منذ قدومه إليها وشروعه في الدراسة، وكان الآزمي في باب الشهادات إلى اختتام المختصر عير كافية لأن تكون منه شاعرا على نفس المستوى الذي نلاحظه في القصيدة المذكورة. ومن دون شك فإن الصداقة المتينة التي كانت تربطه بابن إدريس كان لها تأثير كبير عليهما معا، لما كان بينهما من تنافس بريء، ولما اتصفا به من ذكاء وقاد ولاشتراكهما في الطلب والدراسة والمساجلات، وقد تسنم كلاهما ذرى المجد والجاه، ونال كل منهما حظه من المحنة، غير أن حسن الطالع عاد بابن إدريس إلى سابق مجده، بينما انقطع أكنسوس للتأليف والإنتاج وكان محل تقدير واهتمام من الجميع، وقد أتحف المكتبة المغربية بتأليف هام هو كتاب « الجيش العرمرم الخماسي في دولة أولاد مولانا علي السجلماسي» وبفضل هذا الكتاب نعرف الكثير عن الدولة العلوية، سيما والرجل يعني بالدقة في تحري الأخبار واستقصاء الأحداث التي عاصرها.
حياته السياسية وتقلبه في الوظيف: كان من الطبيعي أني تقلد رجل من مثل ذكاء أكنسوس وثقافته أسمى المناصب، فقد قلد منصب الكتابة أولا على عهد السلطان مولاي سليمان سنة 1235 وكلفه هذا السلطان الصالح بمهام عويصة وفي ظروف صعبة، فأنجزها بكل جرأة وشجاعة، فلقد بعث السلطان في شأنه كتابا إلى ولده المولى الطيب بفاس، وكان هذا بالقصر الملكي بفاس الجديد أيام الفتنة، فما كان منه إلا أن أرسل إلى أكنسوس برسالة السلطان مع رسول تسور سور المدينة التي كانت أبوابها مغلقة، واستجاب أكنسوس لدعوة السلطان فالتحق به القصر الكبير، فكلفه بمهام مختلفة، منها توجيهه إلى فاس برسائل لأولاده وبعض الرؤساء، كما أرسله في مهمة أخرى إلى ابن أخيه المولى عبد الرحمن وكان بالرباط وبعثه أيضا إلى سوس، ولما آلت الخلافة إلى المولى عبد الرحمن سنة 1238 وهو ابن أخي المولى سليمان قلده كتابة الإنشاء على الرغم مما كان يجد عليه من انحياشة لبعض أبناء السلطان الفقيد، ونشط السعاة في هذه الفترة للإيقاع به، إلى أن تم لهم ما أرادوا حينما تأكد السلطان بنفسه من مجالسته لتلك الجهات، وحينئذ أشخص إلى مراكش، وهناك أحترم بالضريح الغزواني إلى أن زار السلطان الضريح المذكور فعفا عنه(4)، ومنذ ذلك الوقت انقطع للتأليف والعبادة، متصوفا على الطريقة التيجانية، ويذكر عنه الأديب غريط أنه كان « ممتنعا عن آكل كل ذي روح» فهل كان هذا تقليدا منه للمعري؟ أم كان ناشئا عن تأثر بما بلغه عن الدعاة الوهابيين الذين قيل أنهم كانوا لا يأكلون اللحم وبعض المواد(5)وإذا علمنا أن أكنسوس كان له موقف فعال من الدعوة الوهابية، ودافع عنها ضد بعض المنكرين من مثل أبي القاسم الزياني أدركنا السبب في تركه أكل اللحوم، وقد طال عمره إلى أن أدرك سلطنة المولى الحسن الأول، ولم تدركه الوفاة إلا سنة 1294 هـ بعد أن عمر ثلاثون وثمانين سنة، ودفن بمراكش قرب ضريح الإمام السهيلي. علاقته بصديقه ابن إدريس: سبق أن أفضنا القول في العلاقة بين الرجلين عند مقالنا عن هذا الأخير(6)ويبقى علينا هنا تماما للفائدة أن نضيف شيئا يتصل بعلاقتهما بعد أفول نجم أكنسوس، وشروق نجم ابن إدريس، فلقد كان من سخرية القدر أن يكون الشخص الذي يخلفه في مهامه هو صديقه الحميم ابن إدريس، فهل حقد عليه؟ وهل كانت له بعد فيما حل بصديقه حينما امتحن هو الآخر وأقصي عن مهامه؟ كان من الطبيعي أن يتشكك أكنسوس، ويعتبر صديقه من بين الوشاة، سيما وقد احتل منصبه، غير أن بعض العوامل جعلته لا يضحي بما كان بينهما من صفاء وإخاء، قد يكون من بين هذه العوامل أنه تأكد من براءته، وقد يكون من بينهما مساعدة ابن إدريس له على صروف الزمان وتطبيب خاطر السلطان عليه، أما أن يكون أكنسوس ساهم من قريب أوب عيد في الدرس لصديقه، فهذا ما يستبعد. سيما إذا علمنا تعليقه على تلك النكبة في تأليفه الخالد « الجيش العرمرم» عند تعرضه لترجمة صديقه ابن إدريس فهو يقول بعد ذكر قصيدة ابن إدريس التي أنشدها أمام السلطان بمناسبة عيد الميلاد النبوي الشريف، وذلك بعد حفلة الأمداح التي اعتاد السلطان إقامتها في مثل هذه المناسبة الكريمة: « ولم يختلف قط إلا في المدة التي عزل فيها وقام غيره مقامه ممن حرم مراضع الأدب، ونسلت إليه الحفاوة من كل حدب، ونعاه الدسن السلطاني مع وجوده وندب» وهذا يدل على أن أكنسوس لم يتشف في صديقه، بل إنه يأسف لذلك، ويصرح بأن خلفه- وهو المختار بن عبد المالك الجامعي- لم يكن من مستوى ابن إدريس لا في ميدان الأدب فحسب، ولكن في الطبع كذلك، وكان خلفه بعد وفاته محمد بن المختار الجامعي، وهو ابن الجامعي المتقدم الذكر، وعنه يقول أكنسوس:« فولى السلطان مكانة الفقيه النجيب ذا الأخلاق العاطرة والأنامل الواكفة الماطرة، والرأي الأصيل والأمر المحبوك والباطن الصافي الذي يحاكيه الذهب المسبوك، أبو عبد الله محمد العربي بن المختار الجامعي » فيكون أطرى الولد من حيث طعن في الوالد، حتى إذا أعيد ابن إدريس إلى منصبهن نرى أكنسوس يتحدث عن ذلك بمثل هذا الاعتزاز والتعظيم وكأن الأمر يعنيه،« فلما عاد الوزير الأعظم إلى نصابه، واسترجع حقه من عصابه، عادت الدولة الشريفة على شبابها، وتمسكت بمتين أسبابها، وجرت سنة التعظيم والتشريف على مرجاها، ونالت من المحامد كبراها وصغراها» والحق إن كان من الأدبيين من صلات متينة أسمى من أن يعفي عليها الزمان أو أن يأتي عليها عامل من عوامل الوشاية والضغينة، هذه الصلاة هي التي يتحدث عنها اكنسوس، يقول له: « فتمكن من يومئذ بيننا وبينه حب روحاني، بقضاء سابق سبحاني واقتناء الفضائل والنفائس، وإقامة الأفراح والمنتزهات، والمخاطبات والمساجلات والمباسطات» وهذا ما يفسر أن أكنسوس كان لا يذكره إلا بألفاظ التبجيل والتقدير، فهو تارة « أخونا في الله» وتارة أخرى « لسان الدولة» وأحيانا « الفقيه العلامة» وقلما يذكره خاليا من لقب الوزير، ويحدثنا الأديب غريط أن ابن إدريس كان يستدعي صديقه أكنسوس مع أبي عبد الله محمد غريط إلى بستانه الشهير بمراكش كل يوم خميس، وكان « يحتفل لهما احتفالا جميلا، وبوسعهما مبرة وتبجيلا»(7)وبدون شك، فإن ابن إدريس كان يعرف قيمة أكنسوس الفكرية والعلمية، وهذا ما كان يحمله على الاحتفاء به والتشبث بصداقته، ولا شك أنه ينوه بمكانته فيما قد يكون له من تقييدات وتسجيلات لم نطلع عليها، حيث لا نعلم عن تآليفه أكثر من الديوان الذي جمعه له ولده إدريس.
أكنسوس وأبو القاسم الزياني يقول أبو القاسم الزياني في البستان: « وهؤلاء الثلاثة الذين ظهروا في دولة أمير المؤمنين بعد حمدون والحوات، هذا ابن إدريس واليازغي وأكنسوس» قال ذلك في معرض حديثه عن ابن إدريس، ويذكر أن هذا كان أعرفهم بالتاريخ، لأنه كان يساعده في نسخ تآليفه التاريخية، ولكنه على أي حال يجعل أكنسوس أحد العباقرة الثلاث على عهد السلطان مولاي سليمان، وبدون شك فإن أكنسوس كان من بين الطلبة الذين ترددوا على أبي القاسم الزياني، وإن كان ابن إدريس أكثرهم اتصالا به، قبل أن تحدث بينهما نفرة أدت بهذا إلى الانحباس لجانب حمدون ابن الحاج، فهل استمر أكنسوس في الاتصال بالزياني بعد ذلك؟ من المرجح أن الصلات لم تنقطع بينهما، يدل على هذا أن الزياني لم يتعرض له بشيء من الصراحة الجارحة إذ ذكر ما كان يؤديه له من أجرة مقابل قيامه بنسخ كتبه، بسبب موقف الزياني من الدعوة الوهابية، وتشنيعه على الأديب حمدون بن الحاج لأنه مدح عبد الله بن سعود داعية الوهابيين بقصيدة مشهورة يقول في مطلعها: حق الهناء لكم جبران ذي سلم وبارق واللوى والبان والعلم ويبدو من بعض أبيات القصيدة إنها بإذن من السلطان مولاي سليمان، بدليل فوله: وإنه من سليمان وإنه باسم الله لازلت باسم الله أي سمي وكانت القصيدة جوابا عن الرسالة التي بعث بها سعود إلى علماء تونس، وهؤلاء بعثوا بنسخة منها إلى المغرب، ويقول أكنسوس في الجيش» كان تصدى الشيخ أبي الفيض لذلك الجواب بأمر من السلطان وعلى لسانه. وذهب بجوابه ولده المولى إبراهيم جين سافر للحج » ويستنتج صاحب الاستقصا « إن كانت سعود ورد على السلطان المولى سليمان بالقصد الأول (8)، لا أن نسخة منه وردت بواسطة علماء تونس والله تعالى أعلم» بينما ينفي الزياني أن يكون ذلك بإذن السلطان- أن يطرق خبرها مسامعه ويرتضيه، أو يطلع على ما رسم فيها ويمضيه، ولا تقع إلا من مبتدع مثله.- أي حمدون- ومن يتعاطى مذاهبه وتحله، وهذه الأبيات التي بها يتشدق ويتقرب للمبتدع، ليس لها طلاوة (9)إلخ.. « وفي مكان آخر من الترجمانة يقول مثل ذلك بأسلوب أكثر تهجما على حمدون، وبعد أن يسرد جواب مفني تونس يقول: « فانظر يا مولانا الإمام وعلم الأعلام ما بين هذا الجواب، وبين جواب المادح للكذاب الحائد عن نهج الصواب(10) إلخ.» ولما وصلت نسخة من جواب المفتي التونسي سعود إلى فاس يقول الزياني عن ذلك: « ولما طالعه حمدون سقط في يده، وعلم أنه أخطأ في مدحه، ووقع في الملامة بين أبناء جنسه(11)»، ومن خلال ما ذكره أكنسوس في الجيش يتضح أن الرسالة المرسلة من المغرب أو « جواب السلطان» بتعبير أكنسوس، كانت سببا في تسهيل الحج على ركب الحجاج المغاربة، « وكل من تعلق بهم من الحجاج المغاربة، « وكل من تعلق بهم من الحجاج شرقا وغربا» وكان الوفد يتركب من علماء أعلام، مثل القاضي أبي الفضل العباس ابن كيران، والشريف مولاي الأمين بن جعفر الحسني الرتبي، وأبي عيد الله محمد العربي الساحلي والقاضي أبي إسحق إبراهيم الزداغي» وهذا الأخير هو الذي حاور ابن سعود في شأن مذهبه، قال ابن سعود: - إن الناس يزعمون أننا مخالفون للسنة المحمدية، فأي شيء رأيتمونا خالفنا من السنة؟ القاضي الزداغي: بلغنا أنكم تقولون بالاستواء الذاتي المستأزم لجسيمة المستوي. ابن سعود: معاذ الله، إنما تقول الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، فهل في هذا من مخالفة؟ القاضي وصحبه: لا ويمثل هذا نقول نحن أيضا، وبلغنا عنكم أنكم تقولون بعدم حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه بعجم حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام والسلام في قبورهم:- فلما سمع ابن سعود ذكر النبي ارتعد ورفع صوته بالصلاة عليه وقال: معاذ الله إنما تقول أنه صلى الله عليه وسلم في قبره، وكذا غيره من الأنبياء حياة فوق حياة الشهداء. القاضي: وبلغنا أنكم تمنعون زيارته صلى الله عليه وسلم، وزيارة سائر الأموات مع ثبوتها في الصحاح التي لا يمكن إنكارها. ابن سعود: معاذ الله أن ننكر ما ثبت في شرعنا، وهل منعناكم أنتم لما عرفنا أنكم تعرفون كيفيتها وآدابها، وإنما تمنع منها العامة الذين يشركون العبودية بالألوهية ويطلبون من الأموات أن تقضي لهم أغراضهم التي لا تقضيها إلا الربوبية، وإنما سبيل الزيارة بحال اعتبار الموتى، وتذكر مصير الزائر إلى ما صار إليه المزور، ثم يدعو له بالمغفرة، ويستشفع به إلى الله تعالى، ويسأل الله تعالى المنفرد بالإعطاء والمنع بجاه ذلك الميت إن كان ممن يليق أن يستشفع به، هذا قول أمامنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ولما كان العوام في غاية البعد عن إدراك هذا المعنى منعناهم سدا للذريعة، فأي مخالفة للسنة في هذا القدر ؟»(12). ويضيف أكنسوس « هذا ما حدث به أولئك المذكورين سمعنا ذلك من بعضهم جماعة، ثم سألنا الباقي أفرادا فاتفق خبرهم على ذلك». وإذا علمنا أن الوفد كان على رأسه الأمير إبراهيم ابن السلطان مولاي سليمان أدركنا أن الوفد كان من مهمته أيضا استطلاع ما يجري هناك، مع الاطلاع على حقيقة الدعوة الوهابية، وذلك ما ظهر أثره في الحملة التي شنها السلطان الصالح مولاي سليمان ضد الطوائف والبدع الضالة مما سنفرد له مقالا خاصا بإذن الله. والواقع أن أبا القاسم الزياني حفزه إلى اتخاذ الموقف المذكور ما كان له من روابط مع الأتراك العثمانيين، واتصالاته المتكررة معهم سواء عند سفارته للسلطان عبد الحميد من قبل السلطان سيد محمد بن عبد الله، أو في رحلته الثانية أيام السلطان مولاي سليمان، وكان تسرعا منه أن يعتمد في تقييم الدعوة الوهابية على الشائعات التي رأينا كيف أبطالها ابن سعود لركب الحجاج المغاربة حسب رواية أكنسوس في الجيش، وهذا يجرنا أيضا للحديث عن موقف الرجلين من بعض المتصوفة، من مثل أحمد التيجاني(13)، ومولاي عمرو، فبينما يتعرض الزياني في ترجمانته للأول عدة مواضيع بما ينفي عنه الولاية، ويدخله أهل البدع، مشددا النكير عليه وعلى أتباعه من « خدام الدنيا أهل اليسار» كما يقول، ناعتا إياه بأشنع الألقاب إذا بأكنسوس يؤلف رسالة سماها « الحلل الزنجفورية في أجوبة الأسئلة الطيفورية»، ويقول عنها الأديب غريط: « سدد فيها أسهمه البيانية لبعض المنكرين على طريقته التيجانية » ولعل هذا الأخير كان تيجانيا كذلك !. أما الثاني وهو مولاي عمر الذي قضى ابن إدريس مدة طويلة في خدمته، وهو الذي كلن يلقبه بالسلطان الصغير، وكان ابن إدريس يقول: « إنه ما أدرك ما أدرك إلا ببركة ولي الله تعالى سيدي عمرو»، ويصف أكنسوس الرجل بأنه « صالح مشهور بالزهد والعبادة والتجافي عن جميع أسباب الدنيا» ويصف أيضا اتصاله به فيقول: « فدخلت عليه في بيت بأعلى المدرسة، فرأيت رجلا يذكر الله جالسا على حصير أظنه بلا لبد، لابسا حائكا وقميصا لا غير، وكان الزمان باردا جدا، وهو ضعيف الجسم نحيل، مائل إلى الطول أسود اللحية، فدعا لنا بالخير وقرأنا الفاتحة، والحمد لله على لقاء أهل السعادة(14)» ويقول أنه كان لا يقبل العطية من أحد، وهذا ما يؤكده الزياني نفسه في أول ترجمانته فيقول: « ومثل هذا كان في وقتنا بمدينة فاس زاهد متعبد ناسك شريف اسمه مولاي عمرو ولا يقبل شيئا مما يعطيه الناس، حتى أن أمير المؤمنين مولانا سليمان أبقاه الله لما بلغه زهده وورعه واعتزاله عن الخلق واشتغاله بأمر دينه وجه ولده لزيارته ومعه صلة كبيرة، ولما اجتمع به بمسجد الأندلس دعا له بخير، وترك الصلة وخرج من المسجد كأنه يريد قضاء حاجة، فلم يعد إليه(15)غير أن الزياني يقول في مكان آخر عنه «ثم بعد موته ( أي التيجاني) أظهر مبتدع آخر يزعم أنه من إشراف أهل بلده، وممن يشار إليه من أهل الزهد المصنوع بيده، فانقطع بزعمه عن الناس في بيت بمسجد يأتيه أعيان الناس فيظهر لهم الزهد في الدنيا ويتصوف وقلبه على الدنيا والدرهم يتملق» وبعد هذا يسوق كلاما ينسب فيه لنفسه ( أي الزياني) بعض الخوارق مدعيا أن الآخر لو عرفها وكان يباشرها لادعى النبوة من مثل أنه « يلقي السبحة من يده فتسعى إليه بعد الاستدعاء، وأنه يتكلم على المصباح الموقود فينطفيء إلخ. ومع ذلك فهو جالي في بيته لتسويد الأوراق بما شاهده في الجولان بالآفاق ! (16)وعلى الرغم من عدم توفر العناصر الكافية لتحقيق هذا الموضوع فإننا لا نستنكف عن التنويه مبدئيا بموقف الزياني الصلب من البدع الضالة والطوائف وأصحاب الزوايا، ومن ثم نلمس مدى التقدير الذي أولاه لرسالة السلطان مولاي سليمان في محاربة البدع الضالة، فلقد ساقها بكاملها في ترجمانته، على أننا لا نستنكف أيضا عن تقدير موقف أكنسوس، فلقد كان من المتحمسين للدعوة الوهابية، ولقد تحرى حقيقة هذه الدعوة الوهابية، ولقد تحرى حقيقة هذه الدعوة من خلال ما سمعه من وفد الحجاج المغاربة جماعات وأفرادا، وعلى هذا فإنه وهو العالم المطلع والباحث المحقق مع إيمانه القوي وصلاحه وتقواه، ولم يجد ملجئا بعد فشله في شؤون السياسة سوى في التصوف والزهد، ولعله وجد ضالته في الطريقة التيجانية التي مهما قال الزياني عنها، فإنها لم تكن بالطريقة التي تستعمل آلة من الآلات أو تلجأ إلى الرقص والشطح، ويفهم من كلام صاحب الاستقصا أن الشيخ أحمد التيجاني يرى نفس رأي الوهابيين في زيارة الأولياء، حيث منع أصحابه من ذلك. ويبقى علينا بعد هذا أن نسجل حقيقة واضحة، وهي أن أكنسوس استفاد كثيرا من الزياني، فلقد كان أحد الطلبة الذين يفدون عليه للمذاكرة والاستفادة من تجربته وخبرته، ولا سيما في التاريخ، وذلك ما لا نعدم أثره في المؤلف التاريخي لصاحبنا أكنسوس ( الجيش العرمرم)
نظرة موجزة عن نشاطه الثقافي: يقول عنه صاحب كتاب « فواصل الجمان» « كميت وقته وحبيبه، مطلعا عن قواعد العلوم الرياضية وحقائقها، وأسرار الحروف ودقائقها، ممتنعا عن كل ذي روح لما هو عند الحكماء مشروح» فهو يقارنه بالكميت وأبي تمام من حيث الشعر، وهي مقارنة إن كانت صحيحة إلى حد بعيد بالنسبة للكميت لا في سلالة ألفاظه، بل وطول نفسه كذلك، فإنها لا تجافي الحقيقة بالنسبة لأبي تمام أيضا، وذلك فيما يمس بعض نماذجه الشعرية ولا سيما ما يتصل منها بالطبيعة ونحن نعلم أن أديبا شاعرا مثل المرحوم غريط الذي خبر الشعر، وعاناه دارسا وناظما لا يلقي الكلام على عواهنه، ولا شك أن أطلع على ديوانه، ومعظم تآليفه، وهو ليؤكد أو ليبرر وجها من أوجه مقارنته لأبي تمام يحكي عمن روى له عن صديق اكنسوس العلامة أحمد كلا بناني أنهما ( أي أكنسوس العلامة أحمد كلا بناني أنهما ( أي أكنسوس وبنائي) كانا يجتمعان بالزاوية التيجانية بفاس « فتلقى عليه اقتراحات ممتنعة فيقيد القافية والمعنى، ثم ينجز للطالب ما تمنى، في خفية معنى»(17) أما نثره فجيد، أحيانا هو سهل في غير إسفاف، ومتين في غير تعقيد ولا اعتياص، وهذا ما يغلب عليه كثيرا ولا سيما في كتابه التاريخي، وفي « حسام الأنصار في دولة بني عشرين الأنصار » الذي ألفه للتعريف بالوزير محمد بوعشرين، أما في رسائله ولا سيما الإخوانية منها، وفي بعض مقاماته كالمقامة الكنسوسية فإننا نؤخذ من براعة أسلوب الرجل وتمكنه من اللغة، وحسن اختياره للسجعات، وتلاعبه بأفانين البلاغة والبديع ! على أن الذي يثير انتباهنا أيضا ما يتمتع به أكنسوس من سعة أفق، حيث يخوض في مختلف الموضوعات العلمية والسياسية والدينية والصوفية بأسلوب لا يخلو من نقد لاذع أحيانا، وفهم نافذ سديد، ولعل ذلك وغيره ما حضر الوزير الأعظم للسلطان مولاي الحسن الأول أبا عمران موسى بن أحمد أن يعرض عليه بعض التآليف لإبداء نظره فيها، ومن ذلك كتاب عن المعادن لا نعرف اسم مؤلفه ولا مترجمه إن كان مؤلفه أوربيا وهو الغالب، وقد ضمن رأيه في الكتاب في رسالة بعث بها إلى الوزير المذكور، وفيها ينتقد على المؤلف إغفاله لطريقة استخلاص المعادن من مصادرها، مستهينا بالإحصائيات التي يتوفر عليها الكتاب، على أن النقطة التي تفطن إليها أكنسوس هي مسألة التدريبات العملية المعتمدة على الملاحظة بالعين، والمباشرة باليد، وكان واقعيا جدا في إشارته بالجمع بين الميدانين النظري والعملي. كما كان بعيد النظر في رسالته تلك حينما أشار إلى تأثر المزروعات بالمناخ الجوي وأن ما يصلح في المناطق الباردة لا يصلح بالمناطق الحارة معتمدا في ذلك على التجربة والمشاهدة كما يقول(18)، أما عن إطلاعه على أسرار الحروف كما يذكر الأديب غريط في ترجمته لأكنسوس، فلا نعلم له أي تكاليف في هذا الميدان، ولا أية نادرة تحكى عنه في ذلك، ولا يستعبد الأمر مادام معروفا أن طلبة سوس كان لهم اهتمام بهذا العلم إن صح أن يسمى علما، ونعرف عن أستاذه أبي القاسم الزياني أنه كان يعني بهذا الجانب، كما يحكي هو عن نفسه صراحة. وفي يمدان التصوف نعلم عن طريق مترجمه المذكور أنه ألف رسالة سماها : « الحلل الزنجفورية في أجوبة الأسئلة الطيفورية» ويقول المترجم أنه سدد فيها سهامه البيانية لبعض المنكرين على طريقته التجانية، يضاف إلى ذلك مناظراته مع أحمد الكنتي حول التصوف.
نماذج مقتضبة من شعره: اشتهر أكنسوس بمولدياته التي كانت تلاقي استحسانا من لدن الأوساط الثقافية والأدبية، ومن لدن الملوك الذين كانت تلقى أمامهم وكانوا يدركون قيمتها الأدبية، ومن لدن الملوك الذين كانت تلقى أمامهم وكانوا يدركون قيمتها الأدبية، ومن هذه المولوديات لأميته التي ألقاها أمام السلطان مولاي عبد الرحمن: عهدي بكم جيرة البطحاء موصول يا ناسي العهد إن العهد مسؤول أشيم برقا سرى من نحو ريعكم وفضل ذيلي بوبل الدمع مبلول ومنها مولديته التي هنأ فيها السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن: حنانيك أن الشوق قد بلغ المدى أما ترحم المضنى الكئيب المسهدا ورحماك أن المستهام من النوى له حالة سواى ترق له العدا وهناك رائعته في بستان صديقه ابن إدريس التي تذكر برائعة البحتري ألمم بمغنى الدهر من ذا المجلس وأدر بساحته نجوم الأكؤس وأسعد فإن الدهر أسعد أهله وأحلهم فيه حلول المعرس وأشرب هنىء البال في جنباته يغنيك عن جيرون أهل المقدس وأصرف عن الزهراء ذكرك ساليا وعن الخورنق والرسوم الدرس لو قلت ما نالت بدائع حسنه غرف البديع وحق مجدك لم نس ومن تغزله قوله من مقدمة قصيدة مدح بها السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان: وجوه الأماني حسنها مجدد ومنظرها يحكيه خد مورد قضى الحب في كل القلوب بأنها مماليك أرباب الجمال وأعبد وكم من عصى الهوى متعفف يفر من السود العيون ويبعد تصيده ظبي على حين غفلة مهفهف مستن الوشا حين أغيد فأصبح مفقود الفؤاد مخبلا وأي فؤاد عاشق ليس يفقد وفي الرثاء نلحظ تأثره البالغ ياتي العلاء المعري، وذلك ما نلمسه في مرتبة السلطان مولاي عبد الرحمن: هدى الحياة شبيهة الأحلام ما الناس إن حققت غير نيام إلى أن يقول دار أريد بها العبور لغيرها ويظنها المغرور دار مقام منع البقاء بها تخالف حالها وتكرر الإشراق والإظلام فهل نستطيع أن تربط هذا التأثر على الأقل هنا بما ذكره الأديب غريط من أن أكنسوس كان لا يأكل اللحوم، أم ترجع بالإضافة إلى ذلك ما عرف عن الوهابيين من أنهم كانوا يجتنبون أكل اللحوم وبعض المواد الأخرى ويحق لنا أن نقول في النهاية بأن أكنسوس أديب موسوعي وشاعر مجيد، يستطيع أن يغالب فحوال الشعراء بالشرق في القرن التاسع عشر
1- دعوة الحق- العدد4 السنة 12. 2- دعوة الحق- عدد 9و 10 السنة 12. 3- فواصل الجمان- ص7. 4 - فواصل الجمان ص 11،2) الاستقصا ج 8 ص 120. 5- دعوة الحق عدد 9 و 10 السنة 12 صفحات ( 104 إلى 110). نقلا عن كتاب الإعلام ج 5 ص 271. 6 - فواصل الجمان- ص 40. 7- فواصل الجمان- ص40. 8- الاستقصا ج 8 ص 120. 9- الترجمانة نشر وزارة الأبناء ص 388 10- المصدر السابق ص 402. 11-عن الاستقصاء ص 121 و 122 ج 8. 12- عن الاستقصاء ص 121 و 122 ج 8. 13- الترجمانة ص 460 14 - نقلا عن الإعلام ج 5 ص 267. 15 - الترجمانة ص 102 16- نفس المصدر 390. 17- فواصل الجمان ص 39 18- أورد الأستاذ عبد الله كنون نص الرسالة في العدد الخاص بأكنسوس من سلسلة « ذكريات مشاهير رجال المغرب»
دعوة الحق ، العدد 125