وحدة الإحياءدراسات عامة

الأخلاق والقانون

أدى طغيان الجانب المادي في عصرنا، إلى انتشار العديد من الممارسات اللاأخلاقية من قبيل تفشي الرشوة والفضائح المالية والسرقة والنصب وكل صور التعدي على أموال الدولة والأفراد، وغير ذلك من مظاهر الاعتداء المادي والجسدي على الآخر…[1]، مما أدى إلى فقدان الثقة وانعدام الشعور بالأمان، وللأسف حتى مجتمعاتنا الإسلامية لم تسلم من ذلك، رغم حيازتها على رصيد هام من القيم، خصوصا تلك المستوحاة من الدين الإسلامي الحنيف.

لكن الملاحظ أن هذه الممارسات اللاأخلاقية جعلت الضمائر البشرية تستيقظ، خصوصا في المجتمعات المتحضرة، مما أدى إلى التفكير في إعادة النظر في علاقاتها القانونية على أساس المبادئ الأخلاقية الكبرى، وكان من نتائج ذلك إنشاء جمعيات لمحاربة شتى صور الفساد. وفي هذا السياق تبلور اتجاه فكري عمل على ربط القانون بالأخلاق سواء على المستوى الوطني أو الدولي[2]، وبالتالي بدأنا نسمع شعارات مثل تخليق الحياة العامة وتخليق الحياة السياسية وتخليق الإدارة وغيرها…[3].

وباستقرائنا للقوانين الوضعية الحديثة، سنلاحظ أن أغلبها يستند إلى أساس أخلاقي. وفي مواجهة التباعد المتنامي بين القانون والأخلاق على مستوى التطبيق، فإن العصر الحديث يشهد محاولات موازية لتخليق الحياة العامة في كل مظاهرها، وفي المقدمة تخليق مظاهرها القانونية. وقبل الشروع في عملية التمييز بين الأخلاق والقواعد القانونية نود تحديد مدلول المصطلحات الأساسية في الدراسة.

التحديد المفاهيمي

الأخلاق جمع خلق، وهي المروءة والسجية والطبع، وعلم الأخلاق أحد أقسام الحكمة العملية، ويسمى أيضا الحكمة الخلقية، والمختلق: الكريم الأخلاق.

وفي اللغة اللاتينية هناك كلمة éthique وهو ما يهم الأخلاق، ويطلق على جزء من الفلسفة يهتم بدراسة الأخلاق. والأخلاق la morale علم الخير والشر الذي يتحكم في سلوك الانسان. وفي اللغة اللاتينية لا يذكر المصطلحين إلا مقرونين بكتاب أرسطو حول الأخلاقéthique de nicomaque حيث تساءل أرسطو في كتابه حول الأخلاق عن مصدر المثل العليا داخل المجتمع، فأجاب إن للفضيلة مصدرين أحدهما: فكري، وثانيهما: أخلاقي.

إن الفضيلة الفكرية تأتي في جزئها الكبير من التعليم، في حين أن الفضيلة الأخلاقية تعد وليدة العادات والتقاليد التي نتربى في ظلها بعدما نتوارثها جيلا عن جيل.

وعليه، فإن الفيلسوف اليوناني أراد أن يثبت أن الأخلاق شيء يكتسب، فهي ليست غريزة متأصلة في الإنسان، بل هي عنصر خارجي تغرسه فينا البيئة وأنماط التربية والتعليم[4].

وكلام أرسطو هنا يلتقي مع ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الإنسان يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.”

وهناك من اعتبر الأخلاق مجموعة من القيم الاجتماعية التي ترقى بالإنسان للكمال وتشيع الخير والطمأنينة في المجتمع، وتستأصل الشر وتمنعه من أن يستبد بالناس ويحول علاقاتهم إلى تنافر وتناحر[5].

أما مصطلح القانون، فيعني لغة النظام والثبات والاستقرار، وبالتالي لا يقتصر استعمال لفظ القانون على الظواهر الطبيعية المشاهدة في الكون فحسب، بل يشير من ناحية أخرى إلى مجمل القواعد الكلية التي تتخذ مقياسا لسلوك الفرد في المجتمع، فإذا اتصلت هذه القواعد بالنوايا الباطنية أطلق على هذه القواعد اصطلاح القانون الأخلاقي أو القانون الخلقي، أما إذا اتصلت هذه القواعد بأعمال الإنسان الظاهرة في العالم الخارجي أطلق عليها القانون الوضعي، وهذا المفهوم هو الذي يعنينا في هذه الدراسة. وعموما يشكل القانون الوضعي مجموع القواعد التي تنظم وتوجه سلوك الأفراد في المجتمع بشكل ملزم يقترن بتنفيذ جزاء في حالة مخالفة هذه القواعد.

التمييز بين مبادئ الأخلاق وقواعد القانون

إن الهدف من القاعدة القانونية هو استقرار النظام في المجتمع وتحقيق العدل والمساواة، وغايتها نفعية؛ أي نفع المجتمع وحفظه، أما الأخلاق فغايتها، أكثر من ذلك، مثالية تنزع بالفرد نحو الكمال، فهي تأمر بالخير وتنهي عن الشر، تحض على الفضائل وتوحي بالابتعاد عن الردائل، وبالتالي فهي ترسم نموذجا للشخص الكامل على أساس ما يجب أن يكون، لا على أساس ما هو كائن بالفعل، لذلك فالأخلاق توجه أوامرها إلى ضمير الإنسان وتهدف تحقيق الأمن والسلام الداخلي، أما القانون فيراهن، أكثر ما يراهن، على تنظيم علاقة الأشخاص فيما بينهم، ويهدف إلى تحقيق الأمن والسلام الخارجي بما يشتمل عليه من أحكام تمنع الاعتداء على الغير.

ويذكر الفقه القانوني التقليدي بأن أهم ما يميز قواعد القانون عن قواعد الأخلاق هو عنصر الجزاء، فجزاء مخالفة القواعد القانونية مادي ومحسوس تقوم السلطة العامة بتطبيقه جبرا على المخالف، أما الجزاء في القواعد الأخلاقية، فإنه يخلو من هذا التعبير؛ لأنه جزاء معنوي ينحصر في تأنيب الضمير أو استهجان المجتمع ونفور الناس من مرتكب الفعل المنافي للأخلاق[6].

بالإضافة لما سبق، فإن قواعد القانون تتميز بكونها تظهر دائما في شكل واضح ومحدد، بحيث يكون العلم بها وتطبيقها سهلا وفي المتناول، في حين أن القاعدة الأخلاقية غالبا ما تكون غير واضحة وغير محددة على اعتبار أنها مجرد أحاسيس داخلية مستقرة في ضمير الشخص[7].

لكن رغم وجود اختلافات واضحة بين قواعد القانون وقواعد الأخلاق، إلا أنه يلاحظ أن معظم قواعد القانون تعتبر في نفس الوقت قواعد خلقية، وكلما ارتقت الإنسانية كلما اتسعت الدائرة المشتركة بينهما نتيجة دخول بعض المبادئ الأخلاقية في دائرة القانون، فقد كانت هناك مجموعة من القواعد اعتبرت في البداية مجرد مبادئ خلقية عامة لا تحوز، ولكن مع تطور المجتمع أصبح من الضروري إلزام الأفراد بها بطريقة جبرية لما لها من فائدة اجتماعية، فتم النص عليها في القانون الذي كفل احترامها عن طريق الجزاء القانوني: أي حولها إلى قواعد قانونية.

والأخلاق تتفق مع القواعد القانونية في أن كليهما يمثل قواعد سلوك اجتماعية، كما تتفق الأخلاق مع القانون في أن كلا منهما يسعى في النهاية إلى تنسيق وتنظيم التعايش بين أفراد المجتمع.

إن تأصيل الأخلاق في سلوك الأفراد يؤدي إلى تحويل العادات السلوكية إلى مبادئ خلقية، بحيث يكون تصرف الأفراد نابع من إيمان عميق بهذه القيم، وليس خوفا من عقاب، ولذلك فاستمرار السلوك على نحو أخلاقي معين في المجتمع يخلق بذاته اقتناعا جماعيا بضرورة احترامه، وهذا ما يعطي لهذا الاقتناع الأخلاقي قوة اجتماعية كبيرة: أي تتحول القاعدة السلوكية ذات الأصل الأخلاقي إلى قاعدة قانونية يشعر معها الأفراد بضرورة احترامها، فالكثير من القواعد والنظريات الأخلاقية اندمجت في النصوص القانونية عن طريق التشريع[8].

وتعتبر فكرة العدل قيمة أخلاقية سامية يسعى إليها الإنسان لتحقيق المساواة والفضيلة، بل إن فكرة العدل هي إحدى الأمور الخيرة التي تسعى الأخلاق لتحقيقها للإنسان، لذلك فالقاضي برجوعه إلى تطبيق مبادئ العدالة ومبادئ القانون الطبيعي يسعى إلى تطبيق قواعد أخلاقية سامية.

ورغم أن قواعد الأخلاق لا تفرض على الأفراد بقوة القانون، فإن الظاهرة الخلقية مثل الظاهرة القانونية تظل من الناحية المعيارية واجبة الاتباع، إما لأنها تحقق العدل والخير، أو لأنها تعيد الحقوق إلى أصحابها، أو لكونها تواجه عادات لا تنسجم مع المقتضيات الاجتماعية، وهو ما يعبر عنه بمخالفتها للنظام العام وحسن الآداب، أو لكونها اتفاقات شائعة بين الأفراد يتعين إحترامها وعدم التنصل منها[9].

تأصيل العلاقة بين الأخلاق والقانون

يضع القانون ضوابط تلجم الفرد الذي يحاول أن يتجاوز حدوده، ويسلب الآخرين حقوقهم؛ لأن مثل هذا التجاوز يحدث خللا عميقا في البناء الاجتماعي ويقضي على عنصر الثقة فيه، لذلك تلجأ القوانين لفرض التعويض على كل من يسبب ضرراً للغير، من جراء خطأ يرتكبه، عمداً أو إهمالاً، فمثل هذه المبادئ ليست جديدة، بل هي قديمة جداً، فقد لاحظ الفيلسوف اليوناني أرسطو أن العدالة لاتتحقق إلا إذا تأسست على فكرة المساواة في تبادل الحقوق والواجبات، فالحياة تتطلب وجود سلطة تقدم الخدمات، وتطالب بما يقابلها، فالسلطة العادلة تعمل جاهدة على التوزيع العادل للأعباء، ومنح الأرباح والفوائد: أي أن نسبية العدالة تدعو الفرد إلى احترام السلطة التي تتيح له الفرصة للتطور والارتقاء في جو من الاستقرار والاطمئنان[10].

إن فكرة العدالة، رغم كونها مطلقة، إلا أنها يمكن أن تكون نسبية وفق أهداف الحياة المشتركة للمجتمع، في زمن معين، وفي مكان معين، لذلك نجد أن علماء القانون، على سبيل المثال، يؤيدون الصفة الإلزامية للعقد المبرم بحرية وصدق وبشكل مشروع، إلا أنهم لا يؤيدون تملص المتعاقد من تنفيذ مضمون العقد بحجة الغبن، أو عدم تحقق الأرباح التي كان ينتظر تحقيقها بعد التعاقد، إنهم لا يعتبرون الغبن لوحده سببا لإلغاء العقد، وهذا عكس ما يعتقده علماء الأخلاق. وسبب أخذ علماء القانون بهذا الاتجاه، هو سبب وجيه ومقبول؛ لأننا إذا قبلنا إلغاء العقد بسبب الغبن لوحده، وبدون توافر شروط أخرى، فإن ذلك سيشجع جميع محاولات التملص من العقود، ويقضي على الثقة التي يجب أن تتوفر بين المتعاقدين، ويضع كل ذلك المحاكم والقضاة أمام معضلات يصعب حلها، لذلك لم يؤخذ هنا برأي علماء الأخلاق، وتغلبت فكرة نسبية العدالة؛ لأنه من صالح المجتمع حمل المتعاقدين على الالتزام بالعقود التي قبلوا بها برضاء منهم. إن وراء هذا الاتجاه، المناقض لاتجاه علماء الأخلاق سببين، هما: تيسير سبل العلاقات الاجتماعية، ثم منع هدرها وتفككها؛ لأن ذلك سينمي الثقة بالوعود المبرمة[11].

فإذا قبلنا بالاتجاه الأخلاقي الذي يدعو للعدالة المطلقة، سنعرض القضاء إلى الشلل، وبالتالي فقدان الثقة به؛ لأننا سنضعه أمام مهمة يستحيل عليه تحقيقها. أما السبب الثاني فإنه يدعو الأفراد إلى العناية الشديدة والحرص الكثيف على مصالحهم الخاصة، فتعرض الفرد إلى الخطر يرغمه على بذل جهوده لتلافي ذلك الخطر. إلا أن علماء القانون وجدوا سبلاً لتلافي تلك المخاطر، خاصة في حالة القيود المفروضة على الأجير مثلا، وهي قيود تمنعه من مناقشة ظروف عقد العمل، فلجأ علماء القانون لوضع حد للغبن بوسائل غير مباشرة، مثل حالة عيوب الرضا، أو على أساس الشروط العامة للعقد.

يبدو، إذن، أن علماء القانون جادون في الاقتراب من علماء الأخلاق، بحيث يحاولون أن تقترب النصوص القانونية، شيئا فشيئا من مقصد العدل من خلال العمل على إعطاء كل ذي حق حقه. ومع تلك المحاولات، فإن تحديد حق كل فرد يثير أمامنا مشكلة جديدة، لا يمكن حلها إلا من خلال تنظيم المجتمع، ولا يتم هذا التنظيم إلا من خلال احترام الفرد لفكرة دوره في المجتمع، ولا يتحقق هذا الدور بشكل صحيح إلا عندما يقوم الفرد بتأدية واجباته التي يفرضها عليه وجوده في المجتمع[12].

إن المساواة تقتضيها فكرة العدالة المطلقة على سبيل المثال، إلا أن تلك المساواة قد تتعارض مع مبدأ احترام ملكية الآخرين؛ لأن تلك المساواة قد تستدعي إعادة توزيع الأموال، إلا أن علماء القانون وجدوا الحل لتحقيق المساواة النسبية في توزيع الأموال، وذلك من خلال تشجيع النشاط الفردي، عن طريق منح الحرية للأفراد، مع وضع الضوابط التي تمنع إساءة استعمال القدرة الاقتصادية للأفراد، فالقانون يعمل منذ القدم على الوصول لفكرة الخير العام، وهو بهذا يقترب، شيئا فشيئا، من الفكرة الأساسية للفلسفة الأخلاقية لأرسطو الذي اعتبر أن لكل تصرف إنساني هدفاً معيناً، وتتحقق قيمة هذا الهدف على قدر توخيه للخير[13].

وقد أخذ رجال السياسة هذه الأفكار رددوها في أحاديثهم وخطبهم الموجهة للجمهور، إلا أن هذا الاتجاه جوبه بمعارضة شديدة من لدن بعض المفكرين، الذين وجدوا أن الاهتمام بمصالح المجتمع، والتي تتعارض أحيانا مع مصالح الفرد، قد يؤدي إلى تكريس الاستبداد والدكتاتورية. إلا أن أنصار فكرة الخير العام يردون عليهم بأن هذه الفكرة وحدها هي التي تحدد الهدف النهائي للقانون، وهي وحدها التي توائم بين مقتضيات الحياة الاجتماعية، واحترام حقوق الفرد في الوقت نفسه، وأنه لا تتم تلك المواءمة إلا من خلال تسهيل إقامة العلاقات الاجتماعية واتساعها. ومع ذلك يستطع أنصار فكرة الخير العام الدفاع عن فكرتهم دفاعاً حقيقياً، فظلت فكرة الخير العام تثير المخاوف لدى أنصار الحرية الفردية، حيث لاحظوا أن الأنظمة الدكتاتورية تستغل هذه الفكرة لبسط سيطرتها على مقدرات الناس. وفي الواقع إن نمو المجتمع سيفيد الجميع من حيث النتيجة، إلا أن هذا النمو يؤدي إلى إجبار الفرد على تقديم تضحيات قد تبدو غير متساوية اتجاه الجميع[14].

إن فكرة الخير العام يمكن الدفاع عنها إذا ما اعتبرنا أن الفرد يتمتع بقيمة أسمى، وأن انطلاقه وتطوره يجد مداه في الحياة الاجتماعية، لذلك يجب أن يأخذ القانون في اعتباره غاية المجتمع، فمتى ما كان المجتمع يستطيع أن يحقق مكاسب لعدد أكثر من الأفراد، دون أن يضطهد الآخرين، يبقى القانون متعلقاً بالحق العام، إلا أن اضطهاد الآخرين ينفي عن القانون فكرة اهتمامه بالخير العام؛ لأن ذلك الخير لا يشمل جميع الناس، حتى إن كان ذلك بصورة نسبية.

لكن الحل يكمن ببساطة في فكرة الحد الأدنى للخير العام، فمتى ما استطعنا أن نجعل القانون يحقق الحد الكافي للمجتمع ومتطلباته، نصبح على يقين أن القانون، إنما تم سنّه لمصلحة الجميع، ونجد هذا متمثلاً عند تعرض المجتمع لخطر عام، حيث تدعو الدولة الجميع للتضامن والتضحية بالمال، وبالحياة لدرء هذا الخطر.

إن فكرة الخير العام تبرز حتى في حالة تعارض المصالح الفردية، فمصلحة المدين تقتضي أن…. ليدفع الدين، أو أن يماطل في دفعه، في حين أن مصلحته، التي لا يمكنه إدراكها، تتمثل في أن يدفع ذلك الدين عند الاستحقاق، وبذلك تلتقي المصالح المتعارضة؛ وبهذا نخلص إلى أن المصلحة ذاتية، في حين أن الخير العام يخص الجميع: أي جميع المصالح الذاتية المتعارضة والمتوافقة، وهو ما يفضي بنا إلى الخير الذي نتوخاه، والذي هو خير للجميع. ولا نصل لهذا الخير إلا إذا استطعنا أن نرفع الإنسان فوق آفاق الحيوانية: أي أن يتم توجيهه نحو هدف، من خلال أن ينذر ذاته لمشروع مشترك يحقق ما لا يستطيع أي شخص لوحده تحقيقه، وبالتالي يوصلنا هذا لمنح الطابع الإنساني على المشتركين في هذا المشروع. إن هذا الاتجاه يبرز القوة الذهنية لدى الإنسان الذي يتكون، بلا شك، من مزيج غريب من الحيوانية والعقلانية والذهنية والنزعة العاطفية، وبهذا نصل لعدم وجود تعارض بين الخير الفردي والخير العام، وهذا ماعبرت عنه الأفكار الاشتراكية[15].

إن مثل هذا التوجه ينجح نظرياً، إلا أنه عملياً لا يتفق مع طبيعة الأشياء؛ لأنه يتجاوز حب الذات وحب السيطرة، ويفترض لدى الإنسان نزعة حيوانية يمكن ترويضها، وتنمية قوة الإرادة نحو إنسان أكثر فطنة واستقامة وصفاء نفس. إن هذا النظام المشترك يؤدي عمليا إلى منع الناس ذوي النزعة الحيوانية القوية من أن يهبوا ذواتهم للمشروع المشترك، ويشجع العناصر السيئة على استثمار جهود الآخرين الذين انخرطوا بذلك المشروع المشترك، مضحين بذواتهم. من هنا حاول علماء القانون التأكيد على أهمية القانون الذاتي، أو الوازع الذاتي، أو الامتثال الطوعي للقانون، وحاولوا أن يجعلوه أساساً في كل بناء قانوني؛ أي حاولوا التقريب والتوفيق بين المفهوم الأخلاقي والمفهوم القانوني. وبغض النظر عن هذا الجدل المحتدم، فلا يمكن إيجاد الخير المشترك للجميع إلا إذا اعترفنا بوجود التمايز؛ فلا يكفي أن تتوفر لدينا النوايا الطيبة، لذلك على السلطة أن تدرك اتجاه المصالح العامة، وأن تبرزها وتعمل على إقرارها بسلطة القانون، فالأكثرية تخضع للقانون لأسباب ومبررات مختلفة، والذي يتبع عقله يعدّ أكثر حرفة ممن يتبع نزواته. والحرية هنا تأخذ معنى الاتحاد بين العقل والإرادة، والمشرع يصل بالمجتمع لهذه الحقيقة، من خلال إيجاده لأوسع اتفاق ممكن بين أفراد المجتمع، فيعين هدفاً يدرك أكثر الناس أهميته فيلتفون حوله، فالمجتمع عامة ما يرفض الهدف الذي لا يمكن استساغته من الناحية الأخلاقية، إما لكونه مبالغاً فيه، أو لأن النتيجة التي سيحققها هذا الهدف لا تتناسب والتضحية التي يتطلبها ومتى تم التعامل مع الإنسان ككائن عاقل سهل خضوعه وامتثاله للمنظومة القيمية للمجتمع[16].

 إن تحقيق الخير العام يتم عن طريق مبدأ الموازنة والاعتدال، فلا يمكن أن نطالب الإنسان بتقديم أكثر مما يستطيعه، خاصة عندما ينمو لديه الشعور أن ما يطلب منه أن يقدمه سيجعله ضحية للآخرين. إن التعامل مع الإنسان كإنسان، وتنمية الإحساس لديه بأنه ليس ضحية للآخرين، وأن ما يطلب منه تقديمه هو لخيره وخير أهله ومجتمعه، يبرر للمشرع حقه في أن يضع في قوانينه ميزاناً لسلطته مقرونة بالتهديد، فيستعملها لحمل المتقاعسين على العمل، ويرغم المتمردين على أن يختاروا بين الخير والشر. فدور القانون يبدو واضحاً في جعل الفئة التي تميل للخير تمثل الأكثرية المقتنعة والفعالة[17].

لاشك أن العدالة، مثلها مثل سائر القيم، لا يمكن تحقيقها إلا بشكل نسبي، إلا أن وسائل القانون تتيح وسائل الازدهار لكل إنسان، وتفتح أمامه سبل ذلك الازدهار، وقد أضفى ذلك على القانون قيمة نبيلة وسامية، حيث يستطيع المشرع، عبر القانون أن يفرض ويحدد الأهداف التي تفيد المجتمع، الأمر الذي من شأنه أن يسهم في إيجاد حل للمعضلة التقليدية بين القانون والأخلاق وعلاقة أحدهما بالآخر.

إن زيادة المساهمة الاجتماعية في تكوين القانون، يبعده عن أن يكون مجرد إجراء رسمي صرف، وبالتالي فإن زيادة هذه المساهمة تقرب القانون من الوجدان الأخلاقي للمجتمع، وذلك من خلال ابتعاد المشرع عن تشريع قواعد لا تتفق مع القواعد الأخلاقية أو تعارضها. إن هذه المعضلة التي يجدها البعض في تعارض القانون مع الأخلاق، لم تبرز إلى الوجود إبان العهود القديمة بسبب تأثير الفقه الأخلاقي على القوانين، وحرص المشرعين على الالتزام بالفضائل الأخلاقية، معتبرين أن القوانين البشرية ماهي إلا وسائل لتطبيق القوانين الإلهية والطبيعية. إلا أن حركة علمانية القانون، وانهيار النموذج المسيحي القرسطوي في القرن السادس عشر، هو الذي أفرز ذلك الافتراق بين القانون والأخلاق، فاهتم القانون بالتصرفات الخارجية للإنسان، بينما اهتمت الأخلاق بتصرفاته الداخلية، فالقانون الذي يهتم بالتصرفات الداخلية ونوايا الإنسان لا يمكن تطبيقه، فالقانون الجنائي مثلا لا يمكنه أن يعاقب شخصاً، حتى وإن اتضح أنه كان ينوي ارتكاب جريمة، ما لم تظهر نيته هذه للعيان بأفعال مادية خارجية ملموسة، كما لا يمكن للقانون المدني أن يتقصى نوايا المتعاقدين. فما هو مهم بالنسبة للقانون هو تحول أو عدم تحول النية إلى عمل تنفيذي[18].

 إن القانون يحاكم التصرفات الإنسانية باسم المجتمع ضمانا لوجوده وحمايته لمصالحه، أما الأخلاق فتحيل إلى جملة المبادئ التي تستهدف الإنسان كإنسان، لا كعضو في المجتمع، فالقانون يتحرك إزاء تصرفات الإنسان التي هي على تماس مع باقي أعضاء المجتمع، فالمظهر الخارجي للتصرف الإنساني هو الذي يعنى به القانون، أما الاخلاق فتعني، أول ما تعني، السلوك الإنساني الذي يهذب الإنسان باعتباره إنسانا، أو يحط من قيمته ومنزلته، لذلك فإن الأخلاق تلتقي مع القانون من حيث الأهداف حين تقر أنه على الإنسان أن يكرس نفسه للخير العام. ومع ذلك فإن الأخلاق حين تسعى لتحقيق خير الإنسان بوصفه إنسانا، فإن هذا المقصد، وإن كان البعض يراه من مقاصد القانون، إلا أنه لا يعد المقصد الأول للقانون، رغم أنه يمثل المقصد الأخير له، وهو ما يقتضي منّا الجمع والتوليف بين منطق الأخلاق والقانون، طالما أنهما يوجهان الإنسان نحو مقصد نهائي، رغم أن القانون يشمل جميع النشاطات الإنسانية[19].

ومع أن القاضي لا يصدر حكمه إلا استناداً لأدلة وبينات رسمها القانون مقدماً، ومع عدم اقتناعه أحيانا بها، إلا أنه على القاضي أن يقول رأيه الأخير استنادا إليها، ولا يمكنه أن يعلن لطرفي الدعوى أنه أصدر قراره وفقاً لقناعته الوجدانية، وهذا ما يجده البعض متعارضاً مع الأخلاق، إلا أنه يحقق النظام، الذي لا نصل إليه إلا بوسائل مادية. ومع ذلك فإن العلاقة بين الأخلاق والقانون، تضفي على الأخير الصفة الشرعية متى ما انسجم معها، وأدرك المواطن أن القانون على صلة وثيقة بقيم أخلاقية يؤمن بها الناس، وهو ما سوف يخلق لدى المواطن التزاماً شخصيا باحترام القانون، متى أدرك الضرورة الاجتماعية التي أملت هذا القانون، الذي يستهدف تحقيق أهداف ومقاصد تتضمن تماسك المجتمع؛ عندها فقط يمكننا أن نتكلم عن شرعية القانون، وتنفيذه بطواعية مطلقة[20].

الاتجاه الحديث إلى إدماج المبادئ الأخلاقية في القواعد القانونية

تتضح العلاقة التفاعلية بين القانون والأخلاق على مستويات عدة: منها أن الأخلاق تشكل مصدر المثل الفردية والجماعية التي يستهدفها القانون، وبالتالي فإن بعض المبادئ العامة للقانون تعد في جوهرها قواعد خلقية اقترنت بالصبغة القانونية، ومن أمثلة هذه المبادئ التوازن بين الالتزامات المتقابلة في كل اتفاق، وحسن النية في تنفيذ الالتزامات التعاقدية، والالتزام بعدم الإضرار بالغير، والالتزام بعدم الإثراء على حساب الغير: وعليه فإن المتطلبات الأخلاقية هي التي تضفي عادة على قواعد القانون طابع المشروعية.

 ومن ناحية أخرى، يجب أن يتم تطبيق القواعد القانونية انطلاقا من اعتبارات أخلاقية، بحيث لا يمكن، مثلا، أن ينتج عن مبدأ القوة الملزمة للعقد استغلال متعاقد قوي لمتعاقد ضعيف.

لكن إذا كانت الأخلاق تشكل في أحيان كثيرة أساس العديد من المبادئ القانونية، فإن القانون ه هو الكفيل بإعطاء القاعدة الخلقية طابع الإلزام، فتتحول تبع لذلك إلى قاعدة قانونية واجبة النفاذ[21].

أمثلة لتأثر التشريعات المغربية بالمبادئ الأخلاقية

صارت مسألة تخليق القوانين التي تنظم جوانب الحياة داخل المجتمعات الحديثة من بين اهتمامات المفكرين والباحثين في المجال، وإذا قمنا باستقراء مختلف التشريعات المغربية، فسنلاحظ أن أغلبها ذو أساس أخلاقي، وسوف نحاول استعراض بعض هذه التطبيقات:

1. الفضالة

يعتبر نظام الفضالة من أهم النظم القانونية التي استلهمت قواعد المجاملة والأخلاق وتبناها القانون نظرا لأهميتها في تحقيق التضامن الاجتماعي[22].

وقد استقر الفقهاء حديثا على تعريف الفضالة بأنها: “أن يتولى شخص تلقائيا أعمالا نافعة بنية الفضالة دون أن يكون مكلفا بهذه الأعمال، ويسمى فضوليا لصالح غيره[23].”

ولقد تناول المشرع المغربي أحكام الفضالة في الباب الخامس من قانون الالتزامات والعقود تحت عنوان أشباه العقود المنزلة منزلة الوكالة “الفضالة”.

 ورغم أن المشرع المغربي لم يعرف الفضالة، إلا أنه أسهب في الحديث عن الأحكام الخاصة بها، وذلك ابتداء من الفصل 943 من قانون الالتزامات والعقود إلى غاية الفصل 958 منه.

ويعتبر نظام الفضالة من أهم النظم الأخلاقية العادلة والضرورية لأي مجتمع، بفعل تضمنها لقيم العدل والإنصاف، وهو ما جعل القوانين الحديثة تسعى إلى تبنيه مراعية تحقيق التوازن بين الطرفين؛ فمن ناحية لابد من حماية الأفراد ضد التدخل غير المناسب في شؤونهم؛ لأن ذلك قد يكون ضارا بهم، ومن ناحية أخرى لابد من حماية هؤلاء الأشخاص الذين تدخلوا في شؤون الغير بدافع الإيثار خدمة وحماية لبعض مصالحهم؛ لأن الأخلاق والسلوك القويم يقتضيان مثل هذا التدخل الذي يمثل شكلا من أشكال التضامن الاجتماعي في إطار قواعد الأخلاق الحميدة[24].

2. الوعد بجائزة

رغم أن الفصل 14 من قانون الالتزامات والعقود المغربي ينص على أن مجرد الوعد لا ينشئ التزاما، إلا أن الفصل 15 نص صراحة: “الوعد عن طريق الإعلانات أو أية وسيلة أخرى من وسائل الإشهار بمنح جائزة لمن يعثر على شيء ضائع أو يقوم بأي عمل آخر، يعتبر مقبولا ممن يأتي بالشيء أو يقوم بالعمل…”

ويضيف الفصل 16 أنه: “لا يجوز الرجوع في الوعد بجائزة بعد الشروع في تنفيذ الفعل الموعود بالجائزة من أجله…”.

يلاحظ من هذه النصوص القانونية أن من وجه للجمهور وعدا بجائزة يمنحها عن عمل معين، يجب عليه الوفاء بالتزامه، فالقاعدة في جوهرها أخلاقية تحولت إلى قاعدة قانونية، فالوعد بالجائزة تكون له صور كثيرة، لكن الجانب الأخلاقي فيه يبدو واضحا أكثر عندما يكون هذا الوعد وسيلة لتشجيع البحث العلمي أو المنافسة الشريفة بين الطلبة المتفوقين أو غير ذلك… وذلك بالإعلان عن جائزة لمن يفوز ويحتل المراتب الأولى مثلا…

كذلك يتجلى البعد الأخلاقي في الوعد بجائزة في اشتراط القانون أن يكون الباعث على الوعد مشروعا ومباحا، فإذا كان الباعث مخالفا للنظام العام والأخلاق الحميدة كان الوعد باطلا، وأن يكون الموعود به مشروعا[25] كذلك.

3. نظرية الإثراء بلا سبب

ينص الفصل 66 من قانون الالتزامات والعقود المغربي على أنه: “من تسلم شيئا أو أية قيمة أخرى مما هو مملوك للغير بدون سبب يبرر هذا الإثراء إلتزم برده لمن أثرى على حسابه.”

وينص الفصل 67 من نفس القانون على أنه: “من استخلص بحسن نية نفعا من شغل الغير أو شيئه بدون سبب يبرر هذا النفع التزم بتعويض من أثرى على حسابه في حدود ما أثرى به من فعله أو شيئه.”

يتبين من هذه النصوص القانونية أنه إذا أثرى شخص نتيجة افتقار آخر بغير وجود مبرر قانوني لهذا الإثراء، فإن الأول يلتزم بأن يدفع تعويضا يساوي أقل القيمتين، قيمة الإثراء وقيمة الافتقار، ولذلك يعتبر الإثراء بلا سبب مصدرا للالتزام: أي التزام من أثرى بتعويض من افتقر نتيجة لإثرائه[26].

ويجد هذا المبدأ أساسه الفلسفي في قاعدة خلقية مبنية على فكرة العدل، فالأخلاق تتنافى مع احتفاظ المثرى بما أثرى به على حساب المفتقر نتيجة لإثرائه عندما تتوافر أركان هذا المبدأ وهي: إثراء المدين وإفتقار الدائن وصلة السببية بين الإثراء والافتقار وانعدام السبب القانوني للإثراء[27].

4. القوانين ذات الطابع الاجتماعي

لقد تطورت وثيرة سن التشريعات التي تهدف حماية مختلف الشرائح الاجتماعية، وعلى الأخص الفئات التي تحتاج إلى قواعد حمائية معينة، وبالتالي ظهرت قوانين ذات أهداف اجتماعية مرتبطة بقواعد الأخلاق، نذكر منها القوانين الخاصة بالأشخاص المعاقين، كالقانون رقم 92-7 المتعلق بالرعاية الاجتماعية للمعاقين الصادر سنة 1993، ثم القانون رقم 581 المتعلق بالرعاية الاجتماعية للمكفوفين وضعاف البصر الصادر سنة 1982، كما يدخل في زمرة هذه القوانين الاجتماعية تلك النصوص المتعلقة بحماية المستهلك، كالقواعد الخاصة بمراقبة الأسعار وزجر الغش في البضائع، كما هناك القوانين المتصلة بالشغل والتأمينات الاجتماعية[28].

5. بعض القواعد الجنائية

كما هو حال مجموعة من التشريعات المغربية، ينحو القانون الجنائي المغربي في اتجاه استيعاب بعض القواعد الأخلاقية ومن أمثلة هذه النصوص الجنائية:

نجد الفصل 378 من القانون الجنائي ينص: “من كان يعلم دليلا على براءة متهم محبوس احتياطيا، أو مقدم للمحاكمة من أجل جناية أو جنحة، وسكت عمدا عن الإدلاء بشهادته عنه فورا إلى السلطات القضائية أو الشرطة، يعاقب بما يلي:

ـ الحبس من سنتين إلى 5 سنوات والغرامة من 250 إلى 1000 درهم إذا كان الأمر متعلقا بجناية.

ـ الحبس من شهر واحد إلى سنتين والغرامة من 200 إلى 5000 درهم او إحدى هاتين العقوبتين فقط، إذا كان الأمر متعلقا بجنحة تأديبية أو ضبطية.

ولكن لا يعاقب إذا أدى شهادته متأخرا أو متى تقدم بها من تلقاء نفسه.

 ولا تطبق أحكام هذا الفصل على المتهم في الجريمة موضوع المتابعة ولا على المساهمين أو المشاركين فيها، ولا على أقاربهم، أو أصهارهم إلى الدرجة الرابعة.”

أما الفصل 430 من القانون الجنائي فينص: “من كان في استطاعته، دون أن يعرض نفسه أو غيره للخطر، أن يحول بتدخله المباشر دون وقوع فعل يعد جناية أو دون وقوع جنحة تمس السلامة البدنية للأشخاص، لكنه أمسك عمدا عن ذلك يعاقب بالحبس من 3 أشهر إلى 5 سنوات وغرامة من 200 إلى 1000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.”

ثم الفصل 431 من القانون الجنائي ينص: “من أمسك عن تقديم مساعدة لشخص في خطر، رغم أنه كان يستطيع أن يقدم تلك المساعدة إما بتدخله الشخصي وإما بطلب الإغاثة، دون تعريض نفسه أو غيره لأي خطر، يعاقب بالحبس من 3 أشهر إلى 5 سنوات وغرامة من 200 إلى 1000 درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.”

كما جرم المشرع المغربي شهادة الزور، وعرفها من خلال الفصل 368 من القانون الجنائي على أنها: تغيير الحقيقة عمدا تغييرا من شأنه تضليل العدالة لصالح أحد الخصوم أو ضده، إذا أدلى بها شاهد بعد حلف اليمين في قضية جنائية أو مدنية أو إدارية، متى أصبحت أقواله نهائية. كما جرم المشرع المغربي أيضا اليمين الكاذبة من خلال الفصل 377 من القانون الجنائي، وكذا الامتناع عن الشهادة من خلال الفصل 378 من نفس القانون.

خاتمة

أول ما يمكن أن نلاحظه هو أن قواعد الأخلاق تعد أكثر تشددا من قواعد القانون الوضعي، فإذا كانت هذه الأخيرة تسعى إلى ضمان الاستقرار ولو على حساب العدل، فإن الأخلاق تتمسك بمعيارية مبدأ العدل إلى أبعد الحدود، ومن هنا يتضح لنا الفرق الفاصل بشكل أساسي بين قواعد القانون وقواعد الأخلاق.

فإذا كان القانون الوضعي يربط ربطا حتميا بين الحقوق والواجبات، فإن الأخلاق تهتم بالواجبات التي تترتب عنها حقوق فقط، وإذا كانت المبادئ الأخلاقية تتميز بعلاقتها بالضمير، فإن القانون الوضعي يهتم بشكل أساسي بتحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي، الذي يساهم في تحقيقه المشرع، وكذا القاضي عند تطبيقه للتشريع ارتباطا بالوقائع.

وعلى العموم لا يمكن تجاهل القواعد الأخلاقية في كل مناحي الحياة الاجتماعية، فحتى المنظومة القانونية تتسم أغلب قواعدها بالطابع الأخلاقي، فالمشرع عند صياغته للنصوص التشريعية، يفترض أنه يراعي مجموعة من الاعتبارات الخلقية والدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

ولذلك لا يوجد مبدئيا تعارض بين الأخلاق وقواعد القانون، إلا بصورة استثنائية حينما يجوّز هذا الأخير أمورا لا تقرها الأخلاق، وهذا نادر الوقوع، على أساس أن القواعد القانونية والقواعد الأخلاقية تصدر جميعا وفق منظور الخير الاجتماعي:

وفي كل الأحوال توجد بين قواعد القانون وقواعد الاخلاق روابط قوية وتداخلات تبين بوضوح أن العلاقة بينهما قوية وذات طابع تكاملي، ويبرز ذلك على عدة مستويات، ثم إن تطبيق قواعد القانون الوضعي يجب أن يتم انطلاقا من اعتبارات أخلاقية بالدرجة الأولى.

الهوامش


1. Tulard (J) et Thuillier (G): Administration et corruption, Revue administrative N272, Mars-Avril 1993, p111.

2. René Jean Dupuy: Droit et Ethique: L’ action du conseil de l’EuropeA. C. Roy, M. A.session10-Novembre1986, p109 et s.

3. انظر مقال محمد شعيبي، بعض جوانب التقارب والتباعد بين قواعد القانون الوضعي وقواعد الأخلاق – الإدلاء بالشهادة أمام المحاكم نموذجا، المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية، العدد46، 2002، ص88.

انظر أيضا محمد الكشبور، البعد الأخلاقي لطلاق الخلع، المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية،العدد46، 2002 ص15.

4. محمد الكشبور، تقديم ندوة القانون والأخلاق، المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية، العدد46، 2002، ص12.

5. انظر مرجع رجاء ناجي، مدخل للعلوم القانونية، نظرية القانون، ج1، الرباط: مطبعة المعارف الجديدة، 1998، ص38.

6. انظر مرجع عباس الصراف وجورج حزبون، المدخل إلى علم القانون، الأردن: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2005، ص18.

7. Chestin et Goubeaux: Traité de droit civil, Introduction générale, Paris, 1977, p22.

8. انظر مقال إدريس الفاخوري، ترجيح الاتجاهات الأخلاقية في مجال العقود والالتزامات، المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية، العدد46، 2002، ص104.

9. Charle Larmore-Alain Renault: Débat sur l’ éthique: idéalisme ou réalisme? Bernard Grasset,Paris, 2004, p7.

10. Pierre Aubenque: Théorie et pratique politiques chez Aristote, Genève, Fondation Hardt, 1965,  p99-123.

    www.taakhinews.org: القاضي فتحي الحواري، القانون والأخلاق، مقال منشور على موقع

11. Didier Sicard: Travaux du comité consultatif national d’éthique, PUF, 2003? P962.

12. Angel Kremer-Mariette: L’ éthique, PUF,1987, P3.

13. Angel Kremer-Mariette: op-cit, P69.

14. Didier Sicard: Travaux du comité consultatif national d’éthique, PUF, 2003? P .965.

    www.taakhinews.org15. القاضي فتحي الحواري، القانون والأخلاق، مقال منشور على موقع:

16. Vergote: Crise de la morale: Une chance pour l’éthique? Cahiers universitaires catholiques, Paris, 1984, p3.

     www.taakhinews.org17. القاضي فتحي الحواري، القانون والأخلاق، مقال منشور على موقع:

18.  François Jullien: Fonder la morale, GRASSET, 1995? P151.

    JEAN-Jacques Wunenburger: Question d’ éthique, PUF, 1993, p269.

     Vergote: op-cit, p20.

19. Didier Sicard: op-cit, p935.

20. محمد الناجي، جينيالوجيا الأخلاق، إفريقيا الشرق، 2004، ص56.

21. عبد السلام فيغو، المدخل إلى العلوم القانونية، مراكش: دار وليلي للطباعة والنشر،1997، ص37.

22. فاطمة هموش، الفضالة في القانون، -دكتوراه- كلية الحقوق، القاهرة: جامعة عين شمس، 1988، ص1.

 عبد الرزاق أحمد السنهوري-الوسيط في شرح القانون المدني-مصادر الالتزام-الجزء الأول، ط1، د. ت.

23. انظر إدريس الفاخوري، م، س، ص101.

24. المرجع نفسه، ص107.

25. المرجع نفسه، ص108.

26. محمود جمال الدين زكي، الوجيز في النظرية العامة للالتزامات، ط3، مطبعة جامعة القاهرة، 1978، ص700.

27. محمد لبيب شنب، دروس في نظرية الالتزام، القاهرة: مطبعة دار التأليف، 1977، ص223.

28. انظر إدريس الفاخوري، م، س، ص118.

Science

د. أمين اعزان

أستاذ مساعد بالكلية المتعددة التخصصات بالراشيدية،

 جامعة مولاي إسماعيل 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق