مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

إيمان العوام بين القول بالتقليد والقول بالتكفير برأي ابن مبارك السجلماسي اللمطي

 

لما رأى ابن مبارك السجلماسي اللمطي (ت.1156هـ)[1] أنه تمكَّن من ناصية جلّ العلوم، أخذ يحاجج غيره بالحجة والدليل مانحا لنفسه صفة المجتهد في الخلاف في المسائل الكلامية، وقد كانت له بالفعل عارضة في المقابلة بين أقوال العلماء ومجادلتهم بمقتضى ذلك، ومن ذلك تأليفه الشهير “رد التشديد في مسألة التقليد” موضوع هذه المقالة.
ومترجمنا هذا هو الشيخ أحمد بن مبارك بن محمد بن علي السجلماسي اللمطي البكري الصديقي، ولد في حدود التسعين وألف ببلدة سجلماسة (تافيلالت حاليا) بالمغرب. قال عنه الحوات في روضته: «كان رحمه الله شيخا متبحرا وإماما حجة متصدرا إلى أن انتهت إليه الرياسة في جميع العلوم، واستكمل أدوات الاجتهاد على الخصوص والعموم، أحرز قصب السبق في مجال الاستنباط، وارتبطت بذهنه العلل ومسالكها أي ارتباط..»[2]. توفي رحمه الله بفاس سنة (1156هـ)، ودفن بفاس. 
وبفضل تتلمذه على مجموعة من علماء عصره كالفقيه أبي العباس أحمد الحبيب (ت1165هـ)، والحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد القسنطيني المعروف بابن الكماد (ت1116هـ)، وأبي الحسن علي الحريشي (ت1145هـ)، وأبي العباس أحمد الجرندي الأندلسي (ت1125هـ)، وعبد العزيز بن مسعود الدباغ، الشيخ الصوفي الذي تأثر به تأثرا كبيرا وطالت ملازمته له (ت1132هـ)، وأبي عبد الله محمد العربي بن أحمد بردلة (ت1133هـ)، وأبي العباس أحمد بن إبراهيم العطار الأندلسي (ت1115هـ)، وأبي عبد الله محمد بن عبد القادر الفاسي أحد أعلام فاس وسادتها (ت1116هـ).. بفضل هؤلاء الأعلام وغيرهم تسنى للمترجم أن يُسند العلم، ويضرب فيه بنصيب كبير، ويأخذ منه بحظ غير يسير، فاجتمع له علم البيان، والأصول، والحديث، والقراءات، والتفسير.
وبالرجوع إلى مصادر ترجمته نجد جل من ترجمه من العلماء ينوه بمكانته ويشيد بمنزلته، ومن ذلك قول تلميذه محمد بن الطيب القادري في نشر المثاني: «علامة الزمان، فريد الأوان، فارس التدريس والتحقيق، وحامل راية التحرير والتدقيق»، وقال أيضا: «وكان يأخذ الأحكام من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية من غير واسطة أحد على ما هو مقرر ومدوّن في كتب الفقه القديمة المشهورة، ورأيته يسرد في درسه بالقرويين سنة ثمانين وأربعين ـ يعني ومائة وألف ـ من حفظه خمسين حديثا بإسنادها، وما عرض له من العلل والأجوبة عنها»[3].
ومصنفاته نفيسة في علوم شتى ذات فوائد مهمة، وجلها رسائل وتقاييد صغيرة الحجم وأجوبة وأراجيز منها: “أجوبة لعدد من الأسئلة في قضايا تتعلق بالتوحيد والعقائد”، ورسالته “رد التشديد في مسألة التقليد” التي نسبها له كل من ترجم له وعدُّوها ضمن مؤلفاته. 
  ومضمون هذه
الرسالة الرد على المتشددين في مسألة إيمان العوام وتكفير المقلد في
العقائد، فقد تحدث المؤلف فيها بإجمال عن مسألة تحديد دور العقل عند
المتكلمين وبالخصوص عندما يظهر أي تعارض ما بين العقل والشرع، وما تفرع
عن هذه المسألة من توابع ولواحق متعلقة بقضية (إيمان أو تكفير العوام)
انطلاقا من قضية كبرى قبلها وهي (مسألة التقليد في العقائد) سواء عند
الفقهاء المالكية أو علماء الكلام
الأشاعرة.  
وهكذا ابتدأها المؤلف
بطلب العفو من الله تعالى مبينا أهميتها بالقول: «هذه حروف
يسيرة فيها علوم غزيرة سميتها بـ”رد التشديد في مسألة التقليد” جعلها
الله تعالى خالصة لوجهه الكريم، وموجبة لرضوانه العميم، إنه ذو الطول
المديد والفضل العديد، عليه توكلت فهو حسبي ولا
أزيد»[4].
وجاء رد السجلماسي في
هذه المسألة واضحا حيث بين فيه أن التقليد في الإيمان ومعرفة الله تعالى
بصفاته لا تضر وخاصة بالنسبة للعوام الذين يؤمنون بالله تعالى دون
التدبر في مخلوقاته، منتهيا في رده أمام دعاة العقل بأن المقلد في
الاعتقاد ليس بكافر ولا يصح تكفيره، وهي المسألة التي شهد المغرب فيها
عبر تاريخه الفكري والعقدي نقاشا مستفيضا بين مختلف مكوناته
الفكرية.
ولهذا سوف أقوم بنقل
كلامه في المسألة لإثبات طريقته الحجاجية في مناقشة مثل هذه القضايا
الكلامية، يقول ابن مبارك اللمطي:
«إذا ثبت ذلك
فليس اعتقاد المقلد الاعتقاد الصحيح المطابق للواقع بواحد من هذه
الثلاثة، فإنه لم يعتقد في الحق – سبحانه – إلا الحق، ولا في الرسول(ص)
إلا الصدق، ولا أتى أمراً اجتمعت الأمة على أنه لا يصدر إلا من كافر،
فثبت أن المقلد ليس بكافر عن قواعد الشريعة المطهرة، ولا يصح تكفيره إلا
على مذهب المعتزلة الذين يرون أن التكفير عقلي، وينسبون سائر الأحكام
إلى العقل، ويعرضون عن الشرع، ويرون أن شكر المنعم واجب بالعقل، وأن
الإيمان من جملته واجب بالعقل، وأن الإيمان هو المعرفة الكائنة عن
الدليل والبرهان، وأن كل ما لم يكن عن دليل ولا برهان فليس بمعرفة، فليس
بإيمان فيكون كفراً، فيكون المقلد كافراً، فمن كفر المقلد فقد مرَّ على
مذهبهم، حتى قيل إن مسألة تكفير المقلد بقيت في مذهب أهل السنة من عقيدة
المعتزلة، قاله أبو جعفر السمناني -وكان طوداً من أطواد الأشاعرة- نقله
عنه أبو الوليد الباجي وأبو الوليد الطرطوشي. 
قلت: وهو
الصحيح، وإن الشيخ الأشعري -رضي الله تعالى عنه- مرَّ في تفسير الإيمان
على مذهب الصالحين من المعتزلة واختاره، كما نص على ذلك القاضي أبو بكر
الباقلاني في كتاب الاجتهاد، والأستاذ أبو بكر بن فورك في كتابه الذي
جمع فيه مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري -رضي الله تعالى-عنه. وعبارة
الأستاذ: وحكى –أي الأشعري في بعض كتبه- عن أبي الحسن المعروف
بالصالحي، أنه كان يقول: إن الإيمان خصلة واحدة وهو المعرفة بالله، إلى
أن قال: وأن الجهل بالله هو الكفر به. ثم قال بعد ذلك أبو الحسن الأشعري
-رحمه الله -: والذي أختاره من الإيمان ما ذهب إليه الصالحي من أن
الإيمان الشرعي خصال متعددة عديدة، كما في شرح النبي (ص) ذلك لسيدنا
جبريل -عليه الصلاة والسلام- في حديث جبريل المعروف، وقال في آخره: (ذلك
جبريل جاء يعلمكم دينكم) والله أعلم.
وكما أن المقلد ليس
بكافر، فليس بعاص أيضاً بترك النظر، لأن أدلة وجوب النظر نحو قوله تعالى
﴿أنظروا﴾ الآية (أولم ينظروا) (أولم يسيروا) (أولم يتفكروا)، أو نحوها،
كلها في الكفرة الذين يعتقدون ضد الحق، فأمروا بالنظر ليرجعوا عن مذهبهم
الباطل، لا فيمن اعتقد من عامة المؤمنين، نص عليه الحافظ ابن حجر
والقرطبي والقاضي عياض وغيرهم، قالوا: لأن الأخبار تواترت تواتراً
معنوياً، على أنه (ص) لم يزد على أن دعا الخلق إلى الشهادتين وعبادة
الله عز وجل، فسقط ما دعا أحداً ممن آمن إلى نظر
واستدلال»[5].
هذا هو نصه في المسألة،
وقد سبقه غيره من المؤلفين المغاربة في تحرير هذه المسائل كالشيخ مبارك
العنبري والشيخ أبي سالم العياشي والعلامة أبي الحسن اليوسي وغيرهم،
ناقشوا فيها ما فهم من كلام الإمام السنوسي فيما أثر عنه من القول
بالتشديد في هذه المسألة، وخير من عبر عنها بأسلوب مقنع وهادئ العلامة
أبو سالم العياشي في “حكمه وإنصافه” حيث اعتبر أن تشديد الوعيد الوارد
في القرآن الكريم على الكفار وذمهم إنما كان على إشراكهم بالله وعلى
الجحود والعناد وتكذيب الرسل وإنكار البعث، لا على عدم العلم به والجهل
بوجوده، لأن ذلك حاصل لهم. وقد نبه العياشي من يشكك الناس في عقائدهم
ممن وجد في عصره من الطوائف التي اتخذت من التفتيش عن عقائد الناس
وسؤالهم في الطرقات ديدنها، واتخاذ جهل الناس بصفات الله تعالى أو عدم
قدرتهم على التعبير عنها ذريعة لتكفيرهم وإبطال أنكحتهم وتحريم ذبائحهم
والتسلط على أموالهم، أن ذلك ليس من الدين، معتبرا في ذلك المقولة
الشهيرة أن دلالة الأحوال أقوى من دلالة الأقوال. أما اتكاؤهم على ما
ذهب إليه الإمام السنوسي في بعض عقائده من التشديد على المقلد، فقد أكد
العياشي أن السنوسي – كما ذكر ذلك كثير من علماء عصره- قد رجع
في آخر أمره عن كثير من التشديد الذي ظهر  في كلامه في شرح
الكبرى، وخفف على الناس وسهل الأمر على العوام في الكتب التي ألفها بعد
ذلك كما ورد في “شرح الوسطى” وهو من آخر ما ألف[6].
وبالرجوع إلى نص رسالة
“رد التشديد” لابن المبارك نلحظ طريقته تلك في الحجاج مع خصومه في
(مسألة تكفير العوام) و(إيمان المقلد)، فمتى لم يعتقد المسلم في الحق –
سبحانه – إلا الحق ولا في الرسول(ص) إلا الصدق ولا أتى أمراً اجتمعت
الأمة على أنه لا يصدر إلا من كافر، فهذا يثبت أنه -أي المقلد- ليس
بكافر على قواعد الشريعة المطهرة، معتبرا أن من كفره إنما هم المعتزلة
(ولا يصح تكفيره إلا على مذهب المعتزلة) الذين يرون أن التكفير عقلي،
وينسبون سائر الأحكام إلى العقل، ويعرضون عن الشرع في ذلك، هذا تحرير
المسألة الأولى.
أما المسألة الثانية
فهي المتعلقة بحكم المقلد من حيث كونه مؤمن عاص أو ليس بعاص، وتحريرها
جاء كالآتي: وكما أن المقلد ليس بكافر، فليس بعاص أيضاً بتركه النظر،
(لأن أدلة وجوب النظر نحو قوله تعالى: ﴿انظروا﴾ (أولم ينظروا) (أولم
يسيروا) (أولم يتفكروا) أو نحوها، كلها في الكفرة الذين يعتقدون ضد
الحق، فطولبوا وأمروا بالنظر ليرجعوا عن مذهبهم الباطل، وهذا الأمر إذن
كما انتهى إليه اللمطي ليس فيمن اعتقد من عامة المؤمنين والمسلمين، بل
هو متعلق كما سبق بغيرهم، كما نص عليه غير واحد من
المحققين.
وهذا كان غرضه من بسط
المسألة وإيراد الحجج والدلائل عليها بما يكفي المحاجج على معارضته،
ولذلك ختم رسالته بالقول: «وهذا آخر ما قصدته، وقصارى ما
اعتمدته، ورحم الله امرءا سامح بالإغضاء، وسامح بالرضا، وعذر بقصور
الباع، وقلة الاطلاع، وشكر ما فيه من حسن التنبيه ومزيد التعظيم لمولانا
والتنزيه، فإنه لو أعطى القوس باريها، وأسكن الدار بانيها، لما عد
أمثالنا في العير ولا في النفير، ولا ضربوا في سهام السبق بنقير ولا
قطمير، ولا عُدُّوا في عداد الموالي ولا الصميم. ولكن البلاد إذا اقشعرت
وضرح نبتها رعي الهشيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله عدد ما ذكره
الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون»[7].
إعداد الباحث: منتصر
الخطيب
الهوامش:
[1] مصادر
ترجمته: نشر المثاني(4/40)، التقاط الدرر، كلاهما للقادري(2/393-394)،
طبقات الحضيكي(1/120)، سلوة الأنفاس لمحمد بن جعفر الكتاني(2/203)، شجرة
النور الزكية لمحمد مخلوف(352)، إتحاف أعلام الناس لابن زيدان(1/291)،
هدية العارفين للبغدادي( 1/174)، معجم المؤلفين لكحالة(2/56)، الأعلام
للزركلي(1/202).
[2] الروضة المقصودة
والحلل الممدوة في مآثر بني سودة لأبي الربيع سليمان بن عبد الله
الحوات-ج/1-ص:291
[3] نشر المثاني
للقادري- انظر: موسوعة أعلام المغرب- ج/6- ص: 2133
[4] كتاب رد التشديد في
مسألة التقليد- طبع بتحقيق: عبد المجيد خيالي – دار الكتب
العلمية/بيروت-الطبعة الأولى/1422هـ/2001م-ص:3
[5] نفسه –
ص: 47- 50
[6] كتاب الحكم بالعدل
والإنصاف الرافع للخلاف فيما وقع بين بعض فقهاء سجلماسة من الاختلاف في
تكفير من أقر بوحدانية الله وجهل بعض ما له من الأوصاف- لأبي سالم
العياشي (ت1090هـ)- تحقيق- عبد العظيم صغيري- مطبوعات وزارة الأوقاف
والشؤون الإسلامية/2015-ج/1- ص: 175-220-489
[7] كتاب رد التشديد في
مسألة التقليد- ص: 88

لما رأى ابن مبارك السجلماسي اللمطي
(ت.1156هـ)[1] أنه تمكَّن من ناصية جلّ العلوم، أخذ يحاجج غيره بالحجة
والدليل مانحا لنفسه صفة المجتهد في الخلاف في المسائل الكلامية، وقد
كانت له بالفعل عارضة في المقابلة بين أقوال العلماء ومجادلتهم بمقتضى
ذلك، ومن ذلك تأليفه الشهير “رد التشديد في مسألة التقليد” موضوع هذه
المقالة.

ومترجمنا هذا هو الشيخ أحمد بن مبارك
بن محمد بن علي السجلماسي اللمطي البكري الصديقي، ولد في حدود التسعين
وألف ببلدة سجلماسة (تافيلالت حاليا) بالمغرب. قال عنه الحوات في روضته:
«كان رحمه الله شيخا متبحرا وإماما حجة متصدرا إلى أن انتهت
إليه الرياسة في جميع العلوم، واستكمل أدوات الاجتهاد على الخصوص
والعموم، أحرز قصب السبق في مجال الاستنباط، وارتبطت بذهنه العلل
ومسالكها أي ارتباط..»[2]. توفي رحمه الله بفاس سنة (1156هـ)،
ودفن بفاس. 

وبفضل تتلمذه على مجموعة من علماء
عصره كالفقيه أبي العباس أحمد الحبيب (ت1165هـ)، والحافظ أبي عبد الله
محمد بن أحمد القسنطيني المعروف بابن الكماد (ت1116هـ)، وأبي الحسن علي
الحريشي (ت1145هـ)، وأبي العباس أحمد الجرندي الأندلسي (ت1125هـ)، وعبد
العزيز بن مسعود الدباغ، الشيخ الصوفي الذي تأثر به تأثرا كبيرا وطالت
ملازمته له (ت1132هـ)، وأبي عبد الله محمد العربي بن أحمد بردلة
(ت1133هـ)، وأبي العباس أحمد بن إبراهيم العطار الأندلسي (ت1115هـ)،
وأبي عبد الله محمد بن عبد القادر الفاسي أحد أعلام فاس وسادتها
(ت1116هـ).. بفضل هؤلاء الأعلام وغيرهم تسنى للمترجم أن يُسند العلم،
ويضرب فيه بنصيب كبير، ويأخذ منه بحظ غير يسير، فاجتمع له علم البيان،
والأصول، والحديث، والقراءات، والتفسير.

وبالرجوع إلى مصادر ترجمته نجد جل من
ترجمه من العلماء ينوه بمكانته ويشيد بمنزلته، ومن ذلك قول تلميذه محمد
بن الطيب القادري في نشر المثاني: «علامة الزمان، فريد
الأوان، فارس التدريس والتحقيق، وحامل راية التحرير
والتدقيق»، وقال أيضا: «وكان يأخذ الأحكام من
الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية من غير واسطة أحد على ما هو مقرر
ومدوّن في كتب الفقه القديمة المشهورة، ورأيته يسرد في درسه بالقرويين
سنة ثمانين وأربعين ـ يعني ومائة وألف ـ من حفظه خمسين حديثا بإسنادها،
وما عرض له من العلل والأجوبة عنها»[3].

ومصنفاته نفيسة في علوم شتى ذات فوائد
مهمة، وجلها رسائل وتقاييد صغيرة الحجم وأجوبة وأراجيز منها: “أجوبة
لعدد من الأسئلة في قضايا تتعلق بالتوحيد والعقائد”، ورسالته “رد
التشديد في مسألة التقليد” التي نسبها له كل من ترجم له وعدُّوها ضمن
مؤلفاته. 

  ومضمون هذه الرسالة الرد
على المتشددين في مسألة إيمان العوام وتكفير المقلد في العقائد، فقد
تحدث المؤلف فيها بإجمال عن مسألة تحديد دور العقل عند المتكلمين
وبالخصوص عندما يظهر أي تعارض ما بين العقل والشرع، وما تفرع عن هذه
المسألة من توابع ولواحق متعلقة بقضية (إيمان أو تكفير العوام) انطلاقا
من قضية كبرى قبلها وهي (مسألة التقليد في العقائد) سواء عند الفقهاء
المالكية أو علماء الكلام الأشاعرة.  

وهكذا ابتدأها المؤلف بطلب العفو
من الله تعالى مبينا أهميتها بالقول: «هذه حروف يسيرة فيها
علوم غزيرة سميتها بـ”رد التشديد في مسألة التقليد” جعلها الله تعالى
خالصة لوجهه الكريم، وموجبة لرضوانه العميم، إنه ذو الطول المديد والفضل
العديد، عليه توكلت فهو حسبي ولا أزيد»[4].

وجاء رد السجلماسي في هذه المسألة
واضحا حيث بين فيه أن التقليد في الإيمان ومعرفة الله تعالى بصفاته لا
تضر وخاصة بالنسبة للعوام الذين يؤمنون بالله تعالى دون التدبر في
مخلوقاته، منتهيا في رده أمام دعاة العقل بأن المقلد في الاعتقاد ليس
بكافر ولا يصح تكفيره، وهي المسألة التي شهد المغرب فيها عبر تاريخه
الفكري والعقدي نقاشا مستفيضا بين مختلف مكوناته الفكرية.

ولهذا سوف أقوم بنقل كلامه في
المسألة لإثبات طريقته الحجاجية في مناقشة مثل هذه القضايا الكلامية،
يقول ابن مبارك اللمطي:

«إذا ثبت ذلك فليس اعتقاد
المقلد الاعتقاد الصحيح المطابق للواقع بواحد من هذه الثلاثة، فإنه لم
يعتقد في الحق – سبحانه – إلا الحق، ولا في الرسول(ص) إلا الصدق، ولا
أتى أمراً اجتمعت الأمة على أنه لا يصدر إلا من كافر، فثبت أن المقلد
ليس بكافر عن قواعد الشريعة المطهرة، ولا يصح تكفيره إلا على مذهب
المعتزلة الذين يرون أن التكفير عقلي، وينسبون سائر الأحكام إلى العقل،
ويعرضون عن الشرع، ويرون أن شكر المنعم واجب بالعقل، وأن الإيمان من
جملته واجب بالعقل، وأن الإيمان هو المعرفة الكائنة عن الدليل والبرهان،
وأن كل ما لم يكن عن دليل ولا برهان فليس بمعرفة، فليس بإيمان فيكون
كفراً، فيكون المقلد كافراً، فمن كفر المقلد فقد مرَّ على مذهبهم، حتى
قيل إن مسألة تكفير المقلد بقيت في مذهب أهل السنة من عقيدة المعتزلة،
قاله أبو جعفر السمناني -وكان طوداً من أطواد الأشاعرة- نقله عنه أبو
الوليد الباجي وأبو الوليد الطرطوشي. 

قلت: وهو الصحيح، وإن الشيخ الأشعري
-رضي الله تعالى عنه- مرَّ في تفسير الإيمان على مذهب الصالحين من
المعتزلة واختاره، كما نص على ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب
الاجتهاد، والأستاذ أبو بكر بن فورك في كتابه الذي جمع فيه مقالات الشيخ
أبي الحسن الأشعري -رضي الله تعالى-عنه. وعبارة الأستاذ: وحكى
–أي الأشعري في بعض كتبه- عن أبي الحسن المعروف بالصالحي، أنه
كان يقول: إن الإيمان خصلة واحدة وهو المعرفة بالله، إلى أن قال: وأن
الجهل بالله هو الكفر به. ثم قال بعد ذلك أبو الحسن الأشعري -رحمه الله
-: والذي أختاره من الإيمان ما ذهب إليه الصالحي من أن الإيمان الشرعي
خصال متعددة عديدة، كما في شرح النبي (ص) ذلك لسيدنا جبريل -عليه الصلاة
والسلام- في حديث جبريل المعروف، وقال في آخره: (ذلك جبريل جاء يعلمكم
دينكم) والله أعلم.

وكما أن المقلد ليس بكافر، فليس بعاص
أيضاً بترك النظر، لأن أدلة وجوب النظر نحو قوله تعالى ﴿أنظروا﴾ الآية
(أولم ينظروا) (أولم يسيروا) (أولم يتفكروا)، أو نحوها، كلها في الكفرة
الذين يعتقدون ضد الحق، فأمروا بالنظر ليرجعوا عن مذهبهم الباطل، لا
فيمن اعتقد من عامة المؤمنين، نص عليه الحافظ ابن حجر والقرطبي والقاضي
عياض وغيرهم، قالوا: لأن الأخبار تواترت تواتراً معنوياً، على أنه (ص)
لم يزد على أن دعا الخلق إلى الشهادتين وعبادة الله عز وجل، فسقط ما دعا
أحداً ممن آمن إلى نظر واستدلال»[5].

هذا هو نصه في المسألة، وقد سبقه غيره
من المؤلفين المغاربة في تحرير هذه المسائل كالشيخ مبارك العنبري والشيخ
أبي سالم العياشي والعلامة أبي الحسن اليوسي وغيرهم، ناقشوا فيها ما فهم
من كلام الإمام السنوسي فيما أثر عنه من القول بالتشديد في هذه المسألة،
وخير من عبر عنها بأسلوب مقنع وهادئ العلامة أبو سالم العياشي في “حكمه
وإنصافه” حيث اعتبر أن تشديد الوعيد الوارد في القرآن الكريم على الكفار
وذمهم إنما كان على إشراكهم بالله وعلى الجحود والعناد وتكذيب الرسل
وإنكار البعث، لا على عدم العلم به والجهل بوجوده، لأن ذلك حاصل لهم.
وقد نبه العياشي من يشكك الناس في عقائدهم ممن وجد في عصره من الطوائف
التي اتخذت من التفتيش عن عقائد الناس وسؤالهم في الطرقات ديدنها،
واتخاذ جهل الناس بصفات الله تعالى أو عدم قدرتهم على التعبير عنها
ذريعة لتكفيرهم وإبطال أنكحتهم وتحريم ذبائحهم والتسلط على أموالهم، أن
ذلك ليس من الدين، معتبرا في ذلك المقولة الشهيرة أن دلالة الأحوال أقوى
من دلالة الأقوال. أما اتكاؤهم على ما ذهب إليه الإمام السنوسي في بعض
عقائده من التشديد على المقلد، فقد أكد العياشي أن السنوسي –
كما ذكر ذلك كثير من علماء عصره- قد رجع في آخر أمره عن كثير من التشديد
الذي ظهر  في كلامه في شرح الكبرى، وخفف على الناس وسهل الأمر
على العوام في الكتب التي ألفها بعد ذلك كما ورد في “شرح الوسطى” وهو من
آخر ما ألف[6].

وبالرجوع إلى نص رسالة “رد التشديد”
لابن المبارك نلحظ طريقته تلك في الحجاج مع خصومه في (مسألة تكفير
العوام) و(إيمان المقلد)، فمتى لم يعتقد المسلم في الحق – سبحانه – إلا
الحق ولا في الرسول(ص) إلا الصدق ولا أتى أمراً اجتمعت الأمة على أنه لا
يصدر إلا من كافر، فهذا يثبت أنه -أي المقلد- ليس بكافر على قواعد
الشريعة المطهرة، معتبرا أن من كفره إنما هم المعتزلة (ولا يصح تكفيره
إلا على مذهب المعتزلة) الذين يرون أن التكفير عقلي، وينسبون سائر
الأحكام إلى العقل، ويعرضون عن الشرع في ذلك، هذا تحرير المسألة
الأولى.

أما المسألة الثانية فهي المتعلقة
بحكم المقلد من حيث كونه مؤمن عاص أو ليس بعاص، وتحريرها جاء كالآتي:
وكما أن المقلد ليس بكافر، فليس بعاص أيضاً بتركه النظر، (لأن أدلة وجوب
النظر نحو قوله تعالى: ﴿انظروا﴾ (أولم ينظروا) (أولم يسيروا) (أولم
يتفكروا) أو نحوها، كلها في الكفرة الذين يعتقدون ضد الحق، فطولبوا
وأمروا بالنظر ليرجعوا عن مذهبهم الباطل، وهذا الأمر إذن كما انتهى إليه
اللمطي ليس فيمن اعتقد من عامة المؤمنين والمسلمين، بل هو متعلق كما سبق
بغيرهم، كما نص عليه غير واحد من المحققين.

وهذا كان غرضه من بسط المسألة وإيراد
الحجج والدلائل عليها بما يكفي المحاجج على معارضته، ولذلك ختم رسالته
بالقول: «وهذا آخر ما قصدته، وقصارى ما اعتمدته، ورحم الله
امرءا سامح بالإغضاء، وسامح بالرضا، وعذر بقصور الباع، وقلة الاطلاع،
وشكر ما فيه من حسن التنبيه ومزيد التعظيم لمولانا والتنزيه، فإنه لو
أعطى القوس باريها، وأسكن الدار بانيها، لما عد أمثالنا في العير ولا في
النفير، ولا ضربوا في سهام السبق بنقير ولا قطمير، ولا عُدُّوا في عداد
الموالي ولا الصميم. ولكن البلاد إذا اقشعرت وضرح نبتها رعي الهشيم،
وصلى الله على سيدنا محمد وآله عدد ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره
الغافلون»[7].

 

إعداد الباحث: منتصر الخطيب

 

الهوامش:

 

[1] مصادر ترجمته: نشر المثاني(4/40)،
التقاط الدرر، كلاهما للقادري(2/393-394)، طبقات الحضيكي(1/120)، سلوة
الأنفاس لمحمد بن جعفر الكتاني(2/203)، شجرة النور الزكية لمحمد
مخلوف(352)، إتحاف أعلام الناس لابن زيدان(1/291)، هدية العارفين
للبغدادي( 1/174)، معجم المؤلفين لكحالة(2/56)، الأعلام
للزركلي(1/202).

[2] الروضة المقصودة والحلل الممدوة
في مآثر بني سودة لأبي الربيع سليمان بن عبد الله
الحوات-ج/1-ص:291

[3] نشر المثاني للقادري- انظر:
موسوعة أعلام المغرب- ج/6- ص: 2133

[4] كتاب رد التشديد في مسألة
التقليد- طبع بتحقيق: عبد المجيد خيالي – دار الكتب
العلمية/بيروت-الطبعة الأولى/1422هـ/2001م-ص:3

[5] نفسه – ص: 47-
50

[6] كتاب الحكم بالعدل والإنصاف
الرافع للخلاف فيما وقع بين بعض فقهاء سجلماسة من الاختلاف في تكفير من
أقر بوحدانية الله وجهل بعض ما له من الأوصاف- لأبي سالم العياشي
(ت1090هـ)- تحقيق- عبد العظيم صغيري- مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون
الإسلامية/2015-ج/1- ص: 175-220-489

[7] كتاب رد التشديد في مسألة
التقليد- ص: 88

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق