مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

إن الله يحب أن تؤتى رخصه في رمضان

 بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

إن الله عز وجل خلق الإنسان، وكلفه حين يبلغ سن التكليف بالعبادات، بحسب ما يطيق، ولم يكلف إلا وسعها، وإذا تخلف المكلفون بأداء عبادة من العبادات بسبب عذر شرعي، فقد جعل الله عز وجل لهم رخصة رحمة بعباده، وتوسعة عليهم، ورفعا للمشقة؛ لئلا ينفروا عن العبادات، والله سبحانه وتعالى يحب تؤتى رخصه، كما يحب أن تترك معاصيه، ويكره إتيانها، كما أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته».

هذا الحديث أخرجه أحمد في المسند[1]، رقم الحديث: 5866، ورقم: 5873، والبزار في المسند[2]، رقم الحديث: 5998، وابن خزيمة في الصحيح[3]؛ كتاب: الصوم، باب: استحباب الفطر في السفر في رمضان لقبول رخصة الله التي رخص لعباده المؤمنين، إذ الله يحب قابل رخصته، رقم الحديث: 2027، وابن حبان في الصحيح[4]؛ كتاب: الصلاة، فصل في صلاة السفر: ذكر استحباب قبول رخصة الله، إذ الله جل وعلا يحب قبولها، رقم الحديث: 2742، والبيهقي في السنن الكبرى[5]؛ باب كراهية ترك التقصير والمسح على الخفين وما يكون رخصة رغبة عن السنة رقم الحديث: 5623، وفي شعب الإيمان[6]؛ الصيام: القصد في العبادة، رقم الحديث: 3607.

قال الهيثمي (المتوفى سنة: 807هـ): “رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، والبزار والطبراني في الأوسط، وإسناده حسن”[7] ، وقال السيوطي (المتوفى سنة: 911هـ) بصحته فرمز له بـ: “صحـ”[8] .

لا ريب أن بعض العبادات فيها مشقة على المكلف، لحكمة بالغة يعلمها الله عز وجل، فمنتهاها وغايتها: مضاعفة الأجر والثواب، وذلك في حدود الاستطاعة، ذلك أن صيام رمضان فيه مشقة الجوع والعطش، وهو واجب على المكلف؛ لكن ينتفي الوجوب إذا أثر على صحة الصائم، الذي يفضي إلى هلاكه، ولهذا رخص الله عز وجل الإفطار لصنفين من الناس: المريض والمسافر، مقابل فدية، وذلك جلبا للتيسير، ودفعا للتعسير، شكرا لله عز وجل على نعمائه، فقد قال الله تعالى: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون﴾[9]، وقد جاءت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم آثار الصحابة رضوان الله عليهم، ثم أقوال العلماء رحمهم الله تعالى، كل ذلك مبينا لتلك الآية، التي تخاطب صنفين من الناس: المريض، والمسافر.

فأما المريض: فهو على قسمين: الأول: من كان مرضه مستمرا، لا يرجى برئه، فعليه فدية إطعام المساكين إن تسنى له ذلك، والثاني: من كان مرضه طارئا، يرجى برئه، فعليه القضاء حين شفائه.

في موطأ مالك، من كتاب الصيام: ما يفعل المريض في صيامه، قال يحيى: “سمعت مالكا يقول: الأمر الذي سمعت من أهل العلم؛ أن المريض إذا أصابه المرض الذي يشق عليه الصيام معه، ويتعبه، ويبلغ منه ذلك، فإن له أن يفطر”[10].

وفي: فدية من أفطر في رمضان من علة، ما نصه: “مالك؛ أنه بلغه، أن أنس بن مالك كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي. قال مالك: ولا أرى ذلك واجبا، وأحب إليه أن يفعله إن كان قويا عليه، فمن فدى، فإنما يطعم، مكان كل يوم، مدا بمد رسول الله صلى الله عليه وسلم”[11].

وما نصه: “مالك؛ أنه بلغه، أن عبد الله بن عمر سئل عن المرأة الحامل، إذا خافت على ولدها، واشتد عليها الصيام؟ فقال: تفطر، وتطعم، مكان كل يوم، مسكينا مدا من حنطة بمد النبي صلى الله عليه وسلم”[12].

وفي صحيح البخاري من كتاب: تفسير القرآن، “باب قوله: ﴿أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون﴾، قال عطاء: يفطر من المرض كله، كما قال الله تعالى، وقال الحسن، وإبراهيم: في المرضع أو الحامل، إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما تفطران ثم تقضيان، وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاما أو عامين، كل يوم مسكينا، خبزا ولحما، وأفطر”[13].

 وفي سنن أبي داود من كتاب: الصيام، باب: من قال: هي مثبتة للشيخ والحبلى ما نصه: “عن ابن عباس ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين﴾، قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى، والمرضع إذا خافتا -قال أبو داود-: يعني: على أولادهما، أفطرتا، وأطعمتا”[14].

وقال الباجي رحمه الله تعالى: “إن المريض إذا شق عليه الصيام وأتعبه، أنه يجوز له الفطر، والأصل في ذلك قوله تعالى: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر﴾ تقديره والله أعلم: فأفطر فعدة من أيام أخر، ومقدار المرض الذي يبيح ذلك، لا يستطاع أن يقدر لنفسه، ولذلك قال مالك – رحمه الله -: والله أعلم بقدر ذلك من العبد، ومن ذلك ما لا يبلغ صفته … والذي يصيبه الضر، بان من الخوى في رمضان أنه مرض من الأمراض، فإذا بلغ به ما يجهده، فليفطر، فهذا تقدير منهما، وليس بالبين، ولكنه تقدير بما تيقن أن يئول إليه، وذلك أن يخاف منه، ويغلب على الظن أن يزيد في مرضه، أو يجدد له مرضا غير مرضه، أو يديم زمن مرضه، فإن هذا المقدار يبيح له الفطر”[15].

وأما المسافر: فللمكلف في السفر أن يفطر، إذا ما حصلت المشقة، وخاف على نفسه الهلاك من الجوع والعطش، لكن المشقة لما كانت تختلف في السفر باختلاف أحوال الناس في الحضر، وتعذر حصر ذلك، علق الحكم على ضابط ظاهر منحصر، وهو: السفر[16].

لقد جاءت الأحاديث الدالة على الأخذ بالرخصة في السفر: فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر وأفطر الناس معه»[17].

وعن حميد رحمه الله تعالى، قال: سئل أنس رضي الله عنه، عن صوم رمضان في السفر؟ فقال: «سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم»[18].

وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه، أنه قال: «يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه»[19].

وأما من أجهده الصوم فخاف على نفسه التلف من الصوم عصى بصومه: فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة»[20].

صفوة القول: العجز عن الصيام على ضربين: أحدهما: موجود سببه في الجسد وهو المرض، والثاني: أن يكون الجسد سالما من سبب العجز إلا أنه بحال من شرع في الصوم طرأ عليه المانع من تمام الصوم، وهو: السفر[21].

ولهذا من الأولى القصد في العبادة، والأخذ بالتوسط، وإتيان الرخص، وأنه ينبغي للإنسان أن لا يحتمل من العبادة إلا ما يطيق الدوام عليه، ثم يحافظ عليه، حتى لا يعجز عن شيء منها، ولا ينقطع دونها، لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث : عن عائشة رضي الله عنها: «يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل» [22].

******************

هوامش المقال:

[1]) المسند 10 /107-112.

[2]) المسند 12/ 250.

[3]) الصحيح 2 /974.

[4]) الصحيح 6/ 451.

[5]) السنن الكبرى 3/ 140.

[6]) شعب الإيمان 5 /398.

[7]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 3 /162.

[8]) الجامع الصغير من حديث البشير النذير 1 /189.

[9]) سورة البقرة، الآية: 185.

[10]) الموطأ رواية يحيى الليثي 3/ 432.

[11]) الموطأ رواية يحيى الليثي 3 /441.

[12]) الموطأ رواية يحيى الليثي 3 /442.

[13]) صحيح البخاري 6/ 25.

[14]) السنن 4 /9_12.

[15]) المنتقى شرح موطأ 2 /62.

[16]) المسالك في شرح موطأ مالك 4 /219.

[17]) رواه بهذا اللفظ: مالك في الموطأ 3/ 419؛ كتاب: الصيام: ما جاء في الصيام في السفر، رقم الحديث: 1031 /309.

[18]) رواه الشيخان: البخاري في الصحيح3/ 34، كتاب: الصوم، باب: لم يعب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضا في الصوم والإفطار، رقم الحديث: 1947، ومسلم في الصحيح 2 /787؛ كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، وأن الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أن يصوم، ولمن يشق عليه أن يفطر، رقم الحديث: 1118، واللفظ لمسلم.

[19]) رواه ابن خزيمة في الصحيح 2 /974؛ كتاب: الصوم، باب ذكر البيان أن الفطر في السفر رخصة، لا أن حتما عليه أن يفطر، رقم الحديث: 2026.

[20]) رواه بهذا اللفظ: مسلم في الصحيح 2 /785؛ كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، وأن الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أن يصوم، ولمن يشق عليه أن يفطر، رقم الحديث: 1114.

[21]) المنتقى شرح موطأ 2 /70.

[22]) رواه بهذا اللفظ: البخاري في الصحيح 7 /155؛ كتاب: اللباس، باب الجلوس على الحصير ونحوه، رقم الحديث: 5861.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق