مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمعالم

إسهام علماء القرويين في ازدهار الفقه النوازلي وأثره في الحركة الاجـتهـادية

           “اللهم اجعلها دار علم وفقه يتلى بها كتابك، وتقام بها سنتك وحدودك، واجعل أهلها متمسكين بالسنة والجماعة ما أبقيتها…”[1]، بهذا الدعاء دعا المولى إدريس لمدينة فاس وأهلها عند بداية أشغال بنائها، ولعل من بركات هذا الدعاء أن أصبحت فاس قـِبلة للعلماء و الفقهاء، إذ “في رحاب جامع القرويين، نبغت أعلام، وظهرت جهابذة أهل النظر و الأحكام، فكان للفتوى أعيانها و شيوخها، ولخطة القضاء أقطابها، وللعلم حملته من كل فن، فكثرت المصنفات و المجاميع، و الدواوين، و الرسائل، و المتون، و الشروح، و الحواشي، و التعاليق، ما جعل ذلك الجامع الزاهر الذي أخذ من كل فن طرفا، كعبة الزوار، ومحط الأنظار، تشد إليه الرحال من أنحاء المغرب وغيره من البلدان، يشرب الكل من معينه، ويستضاء بنبراسه، التقى فيه الدكالي، و السوسي، و التطواني، و الطنجي، و التازي، و المكناسي، و الرباطي،…. فكان هذا الجامع المبارك بحق جامعا للشمل، منارا للنبل و الفضل، سببا للتعارف، ووسيلة للتآلف، أواصر العلم بينهم قائمة، ووشائج العرفان متشابكة، وأنوار المودة على محياهم لائحة”[2]، بل إنه كان قبلة لعلماء المشرق والأندلس يفدون عليه ليس فقط للدراسة أو التدريس، بل كذلك لعرض النوازل الفقهية التي استعصت عليهم فلا يجدون غير الفقهاء المغاربة لحلها، يقول سيدي أحمد بن شقرون:

 في تونسَ الخضراءِ قولٌ سارٍ         بـيـنَ ذَوِي العِـلم مـنَ الـكبــارِ

إن نـزلت نـازلــة عَـويـصَــة          لم يروا نُورَها، ولا بَصِيصَة

جاؤُوا بقـولٍ شائعٍ فِي الـنَّـاسِ         لـيـسَ يَحُـلُّهَا إلا قُـضَـاةُ فَـاسِ

          وَجَـامِعٍ يُـقْــصَدُ مَــنْ أنـحــاء         فِـيـهِ يُـقِـيم مَنْ دَنَـا، وَالـنَـائِـي

          مِـنْ عُــلَمَـاءِ مُـعْـظَـمِ الـبِـلادِ         وَ قَـادَةٍ، فَــطَاحِـلٍ، أَسْـــيَـــادِ[3]

         لقد درس في أروقة هذه الجامعة، وتخرج منها الكثير من العلماء الأجلاء الذين برزوا وتفننوا في فقه النوازل والفتاوى، وبرعوا في الإجابة على كل الوقائع المستجدة سواء أكانت فقهية أم غير فقهية مبرهنين على قدرتهم الفائقة على الاجتهاد، وإيجاد الأجوبة والحلول لكل القضايا المطروحة في زمانهم. ذلك أن الفقيه لم يكن بعيدا عن واقعه ولا منعزلا عن مجتمعه مكتفيا بإصدار فتاوى نظرية، وإيجاد حلول لوقائع فَرَضية، بل إن الفقيه كان ابن بيئته يعيش مع الناس وبين الناس، يشهد من الحوادث ما يشهدونه، ويقف أمام ما يحمله العصر من مستجدات وتطورات، فكان من السهل عليه التعامل مع النوازل المعروضة عليه لمعايشته “للنوازل اليومية والحوادث الطارئة، والقضايا الصادرة من صميم الواقع الفردي والجماعي، والمتفرعة عن شبكة العلاقات والمعاملات الإنسانية في شتى نواحي حياتهم… بكثير من الملابسات والقرائن التي لا تفهم حقيقتها ولا يتوصل إلى أحكامها إلا من قبل من خبر هموم الناس، وأحوال الواقع وأسرار الشرع.”[4].

          فكانت أجوبة الفقهاء على أسئلة المستفتين المتعلقة بالأحداث النازلة والأمور الطارئة “تبتعد في الغالب عن الجانب النظري المحض من الفقه، وتصور ألوانا من حياة المستفتين ومعاملاتهم وعاداتهم وظروف عيشهم….”[5].

          إن معايشة الفقيه لواقعه وتفاعله معه وتعامله مع النوازل على كثرتها وتنوعها تكسبه ملكة تمكنه من إعطاء فتوى مواتية وهو ما يعبر عنه “بالدربة”، “فالفتوى صنعة لا يحسنها كل فقيه فلابد من الدربة و التمرس، ومعرفة نفسيات المستفتين ومراعاة الواقع وأعراف البلد الذي يفتى فيه”[6]، ومعرفة أحوال الناس، ودراسة ما يحصل في مجتمعهم، وما ترمي إليه مقاصدهم، وأعرافهم مطلعا على مكايدهم، وصور حيلهم في التصرفات، والمعاملات.

          فيتبين تبعا لما مر أنه لا يكفي توافر شروط الإفتاء في الفقيه، لأنه قد “يعسر عليه أن يفتي الناس، ويعرفهم بأحكام ما ينزل بهم في حياتهم، ذلك أن الفقيه يحيط بالأحكام الشرعية، ثم تعرض عليه جزئيات الواقع، فلا يحسن تطبيق ما يناسب من تلك الأحكام على الجزئية المعروضة أحيانا … لهذا تقرر أن الفتيا تقتضي تدربا وحذقا بدونهما يعجز الفقيه عن النهوض بإفتاء العامة، وهذا يوجب ألا يكون خوض مجال الإفتاء إلا بعد استعداد، وبعد اجتياز مرحلة تدرب وتكسب ملكة الإفتاء والتصرف في الزاد الفقهي”[7]. لذلك هناك فقيه، وفقيه نوازلي، إذ كل نوازلي فقيه، وليس كل فقيه نوازليا.

  لقد تميز المغاربة بفقه النوازل، ولعل ما خلفوه من مؤلفات ومصنفات في هذا الجانب ظل وسيظل شاهدا على ما بذلوه من جهود في إيجاد أحكام لوقائعهم ونوازلهم، ولا غرابة في ذلك “فالمغاربة أهل فقه، وأمة علم نظرا وعملا، وأنهم لم يبدعوا في أمر كما أبدعوا في هذا الشأن، إذ دواوين الفقه، والفتاوى، والنوازل أكثر من دواوين الأدب والشعر وغيرهما من الفنون…”[8]، يقول العلامة علال الفاسي رحمه الله في نفس السياق: “إننا لسنا أمة بدون قانون، ولكننا أمة غنية بشريعة هائلة أعجزت الإنس والجن، عن أن يأتوا بمثلها، وقد نبغ فيها رجال منا بذلوا الكثيرين ولم تظهر عبقريتنا في شيء كما ظهرت في الدراسات الفقهية، والتطبيقات المحكمة على النوازل، والقضايا الطارئة”[9]

         استخدامات الفقهاء لمصطلحات تدل على معنى النوازل وهي:

          النوازل لغة: جمع نازلة، والنازلة: وهي المصيبة الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس. قال ابن فارس:(النون والزاي واللام): كلمة صحيحة، تدل على هبوط شيء ووقوعه[10].

            أما اصطلاحا “فتطلق كلمة النوازل بوجه عام على المسائل والوقائع التي تستدعي حكما شرعيا، والنوازل بهذا المعنى تشمل جميع الحوادث التي تحتاج لفتوى أو اجتهاد ليتبين حكمها الشرعي سواء كانت هذه الحوادث متكررة أو نادرة الحدوث، وسواء أكانت قديمة أم جديدة”[11].

     لقد شاع استخدام هذا المصطلح (النوازل) في الواقعات المتعلقة بالعبادات والمعاملات التي يحتاج الناس إلى معرفة حكمها الشرعي.

       ومن الواضح أن هذه التسمية مشتقة من المعنى اللغوي، حيث إن النازلة عندما تنزل بالناس- سواء أكانت دينية، أم سياسية، أم اقتصادية، أم اجتماعية – تُحدث في نفوسهم شيئًا من الخوف والقلق، فيهرعون إلى الفقهاء لاستجلاء آرائهم، والاستهداء بأقوالهم، فإذا أفتى الفقيه وأصدر الحكم الشرعي، فإن النفوس تهدأ وتلزم تلك الفتاوى.

          وقد يطلق مصطلح النوازل ويراد به: 

         – الوقـائع: ومفردها واقعة، جاء في لسان العرب “الواقعة: الداهية، والواقعة: النازلة من صروف الدهر”[12].

         – الحوادث: ومفردها حادثة، قال الأزهري- رحمه الله-: “الحدث من أحداث الدهر: شبه النازلة”[13].

          – الفتاوى: وهي الأجوبة عما يشكل من المسائل الشرعية.

          – المسائل والقضايا والمستجدات: وهي من المصطلحات العامة التي تتناول النوازل الفقهية وغيرها، وهي أعم من النوازل، ولكن قد تطلق أحيانا عليها لوجود قيد أو قرينة تخصصها بالنوازل[14].

          – الأجوبة أو الجوابات، أو الأسئلة، أو الأسئلة و الأجوبة: ويقصد بها أجوبة المفتي عن الأسئلة التي قدمت إليه ليفتي فيها.

         – الأحكام: وهي غالبًا ما تتعلق بأبواب الأقضية، والمعاملات المستجدة.

          “إلا أن النوازل تختص بالحدوث والوقوع، فهي أضبط في التعبير من الفتوى التي تشمل سؤال الناس عن الأحكام الشرعية، سواء حدثت أم لم تحدث، بمعنى أن المسائل عبارة عن تفريعات وفروض، في حين أن النوازل تقتصر على الوقائع الحادثة، وهكذا نجد هذه الأسماء تتردد في كتب الفقه والنوازل بمختلف الصيغ، والمسمى واحد فتراهم يقولون: مسائل فلان، وأجوبة فلان، وفتاوى فلان، والكل شيء واحد لا يخرج عن سؤال السائل وجواب المفتي سواء كان السؤال واقعا أم غير متوقع.”[15]

 أهـمـيـة فـقـه الـنـوازل بالنظر إلى الإشكالات الواقعية:

        حظي موضوع فقه النوازل الفقهية باهتمام بالغ؛ إذ عليه تتوقف مصالح الناس، وبه “يهتدون في شؤون دينهم و دنياهم، من عبادات، و معاملات، وسلوك، و أخلاق(…) فإلى المفتي يفزع الناس حالما تحل بهم الملمات، وتحز بهم الأمور، وتداهمهم المعضلات، وتكثر بينهم النزاعات وتحدث لهم الخصومات، وتختلط الحقوق، وتتجاذبها المصالح…. ولأهمية الفتوى وجلالة قدرها، تولى الله أمرها بنفسه في محكم كتابه، وتولاها رسوله صلى الله عليه وسلم، والصحابة من بعده، والتابعون من بعدهم، ومن خلف من بعدهم من أهل العلم…” [16].

          إن معايشة الفقيه لكل المستجدات، جعلته يفتي في نوازل دقيقة وآنية تمس جوانب مختلفة من حياة أفراد المجتمع، وهذا دليل على حرص الناس على معرفة الحلال والحرام، والوقوف عند حدود الشرع، وعدم التجرؤ عليها، ولعل عناوين كتب النوازل أو عناوين مخطوطات الأسئلة والأجوبة وغيرها التي لازالت حبيسة رفوف المكتبات، تعطي رؤية واضحة عن الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية التي كان المجتمع يعيشها. 

          خصائص مؤلفات النوازل الفقهية عند فقهاء المالكية المغاربة: 

          تتميز النوازل الفقهية بخصائص عدة لا يشاركها فيها غيرها من الفنون الأخرى، فمن خلالها تتجلى واقعية الفقه، ومسايرته لتطور الحياة، وتغير أنماطها، وقدرته على حل كل ما يعترض المسلمين من صعوبات ومشكلات، بالإضافة إلى مراعاة أحوال المكلفين، وتغير عاداتهم وأعرافهم، وأول هذه الخصائص:

          الـواقعــيــة:

          تتميز النوازل – عموماً – بالواقعية، نظراً لتعلقها بقضايا ومسائل وقعت ونزلت بالفعل، بعيدة عن الافتراضات النظرية التي طالما شعبت الفقه وضخمته وعقدته، إذ يقوم فقه النوازل على الدراسة الشاملة لجميع ما يتعلق بالنازلة من كافة أبعادها، ومعالجة الإشكالات الواقعية الميدانية في حياة الناس اليومية، وأنه لم يقف يوما جامدا عاجزا عن مواجهة تطورات الحياة ومشكلاتها، ومن ثم إعطاء الحكم الشرعي المناسب لها، فكان فقه النوازل المصطبغ بالواقعية، والمتأثر بالمؤثرات الوقتية – مَدعاة إلى مراعاة الفقهاء لهذه الخاصية في اجتهادهم لاستنباط الأحكام الشرعية الملائمة لها، وفي هذا المعنى يقول ابن القيم – رحمه الله- : “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم إلا بنوعين من الفهم:

         “أحدهـما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علماً.

          والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله  في هذا الواقع”[17].

فالفقه “يتأثر بالواقع مثلما يؤثر فيه، ويأخذ منه مثلما يعطيه، ويتكيف معه مثلما يكفيه ويوجهه، فالفقه الحق لابد أن يكون واقعيا يعرف الواقع ولا يجهله، يلتفت إليه ولا يلتفت عنه، يعلمه ولا يهمله، يبني عليه ولا يبني في فراغ … وهذا يقتضي المعرفة الجيدة بالواقع و مكوناته، وبالأشياء و أوصافها، وبالأفعال وأسبابها وآثارها، إذ من دون هذا يمكن أن يقع تنزل الأحكام على غير ما وضعت له، أو على أكثر مما وضعت له، أو على أقل مما وضعت له، ويمكن أن يقع تعطيل الحكم من وجود محله و مناطه”[18].

         وتتميز المؤلفات النوازلية بصعوبة القراءة والمتابعة، ذلك لأن الأجوبة كانت تصاغ على عجل، فلم تكن تخضع لقواعد الكتابة الفقهية، ولا للترتيب الفقهي المعلوم حسب الأبواب، إذ كانت المسائل فيها مختلطة وغير مبوبة.

           فالفقهاء النوازليون “لم يعملوا بذلك بمجرد مقتضيات الثقافة الاجتهادية والعلوم الاستدلالية والأصولية، وإنما فعلوا ذلك انطلاقا من التوجيه العقائدي والرباني الداعي إلى إعمال النظر، والاعتبار بأحوال الناس، واعتماد الخبرة واتباع الخبراء، قال تعالى:(ولا يُنْبِئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)[19][20].

          المحـلـــية:

           تعتبر المحلية من أبرز خصائص كتب النوازل، فهي لا تبقى سابحة في العموم كما هو الشأن في كتب الفقه، وإنما تتحدد مسائلها في المكان والزمان و الموضوع، بحسب ما تأتي به أسئلة المستفتين، وما تطرحه من إشكالات دينية واجتماعية وسياسية و اقتصادية، وبذلك فإن المهم بالدرجة الأولى  ليس هو الجواب الفقهي، وإنما السؤال الذي يأتي بتفاصيل النازلة، من أسماء الأطراف المعنية، وتاريخ النازلة أحياناً.

          ويظهر هذا الأمر في غاية الوضوح في عناوين هذه الكتب التي تشير إلى وقائع بلدة ما، أو أسماء المستفتين، و نسبهم، و قريتهم، وما يتبع ذلك من ظروف معيشية وبيئية، مما يدل على أن السِّمة المحلية هي الغالبة على هذه النوازل، وهذا يعني أن الفتاوى التي صدرت كانت تعايش أحوال الناس، وتلامس ظروفهم؛ مما يعطيها مزيداً من القبول.

          فهناك قرائن وأمارات تحيط بالنازلة يلزم الفقيه معرفتها، فقد يختلف الحكم في النازلة من مكان لآخر، ومن زمان لغيره، ومن أناس لآخرين، حسب ما يقتضيه المقام، ومن أجل ذلك اختلفت فتاوى أتباع المذاهب عن فتاوى أئمتهم بسبب تغير الأزمان، وتبدل الأحوال.

          تبرز هذه الخاصية في علم النوازل الفقهية عظمة التشريع الإسلامي، ومسايرته لمصالح الناس على مختلف أحوالهم وبيئاتهم، واختلاف عاداتهم وتقاليدهم، ما لم يصادم ذلك نصاً صحيحاً صريحاً.

         ومن المؤلفات النوازلية التي تؤكد هذه الخاصية، الجواهر المختارة مما وقفت عليه من النوازل بجبال غمارة، لعبد العزيز الزياتي (ت1055هــ)، نبراس الإيناس بأجوبة سؤالات أهل فاس لبرهان الدين الكوراني (ت1101هــ)، فتاوى تتحدى الإهمال في شفشاون وما حولها من الجبال، جمع محمد الهبطي المواهبي، فتاوى في الأعراف البربرية لابن غازي المكناسي، مختصر الفصول في أجوبة فقهاء القرويين لمسائل أهل البادية، ليَعْلَى بن مصلين الرجراجي.

          خاصـيـة التجــــــدد:

          تتميز النوازل الفقهية بالتجدد المستمر، ذلك أن لكل نازلة زمانها و مكانها، ومصالحها، ومفاسدها، مع اختلاف أحوال المكلفين وبيئاتهم، فهي ليست متناً فقهياً يحفظ ويُدرَّس ويشرح لكل الناس، بل إن السؤال عن المسألة الواحدة يختلف في بعض جوانبه من شخص لآخر…

          وبهذه الخاصية استطاع الفقه الإسلامي أن يواكب حياة الناس، ويساير اختلاف أحوالهم، رغم التطور الذي أفرزته الحياة من تغيرات وتحولات من حقبة زمانية لأخرى.

          والملاحظ أن جميع كتب النوازل تراعي هذه الخاصية، رغم اختلافها في طرح وعرض وإعطاء حكم لها من فقيه لآخر.

تنـــوع التأليــف:

          تختلف كتب النوازل فيما بينها شكلاً ومضمونا:

          فـمـن حـيـث الـشـكـل (من حيث طريقة التدوين) نجد بعضها من تأليف الفقيه الذي كتب الفتاوى، وهو حال غالب كتب النوازل، وبعضها تركه المفتي مفرقا في أوراق أو مجموعة كراريس، جمعها في حياته أو بعد وفاته أحد أبنائه أو تلامذته، كما هو الشأن في فتاوى ابن رشد التي جمعها تلميذاه أبو الحسن ابن الوزان، وأبو مروان ابن مسرة، ومذاهب الحكام للقاضي عياض التي جمعها ولده محمد، والنوازل الصغرى والكبرى لأبي السعود الفاسي، حيث جمعها بعض تلامذته، والأمثلة على ذلك كثيرة.

          وقد يجمعها من يأتي بعده بفترة زمنية، كما هو الحال في فتاوى الشاطبي التي حققها وقدم لها الأستاذ الدكتور محمد أبو الأجفان، وموسوعة (المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب) لأبي العباس أحمد الونشريسي.

          وقد تجمع بعض الفتاوى المختلفة في الموضوع أو المتحدة فيه لجمع من العلماء في القطر الواحد في مؤلف واحد، كما في الأجوبة النفيسة في الفقه لبعض فقهاء غرناطة.

          أما من حيث مضـمـون هذه الكتب فإنه يختلف من مُؤَلَّف لآخر، فبعض هذه الكتب يشمل جميع أبواب الفقه أو أغلبها وهذا هو الغالب كما في المعيار للونشريسي، والنوازل للعلمي، وفتاوى ابن رشد، وفتاوى الشاطبي، وغيرها.

          وهناك بعض آخر يقصره مُؤَلِّفه على باب واحد أو بابين من أبواب الفقه كما في الأجوبة المرضية في البيع بالثنيا والوصية، لعمر بن عبد العزيز الكرسيفي، وغيرها.

          وهناك من يفرد التأليف لنوازل صنف من الناس كأهل البادية، أو لأهل بلدة معينة، كما في الأجوبة الناصرية في بعض مسائل البادية لابن ناصر الكبير، والجواهر المختارة مما وقفت عليه من النوازل بجبال غمارة، لعبد العزيز الزياتي، ونبراس الإيناس بأجوبة سؤالات أهل فاس لبرهان الدين الكوراني، وفتاوى تتحدى الإهمال في شفشاون وما حولها من الجبال، جمع محمد الهبطي المواهبي.

         نماذج لبعض المؤلفات النوازلية لفقهاء القرويين:

          – نوازل أبي عمران الفاسي، موسى بن عيسى بن أبي حاج الغفجومي الفاسي (ت430هــ).

          – نوازل أبي الحسن الصغير علي بن عبد الحق الزرويلي الفاسي (ت719هــ).

         – المعيار المعرب، والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب، لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (ت914هــ). وهو أكبر موسوعة نوازلية في المغرب. جمع فيه مؤلفه فتاوى المتقدمين والمتأخرين من فقهاء المغرب والأندلس، بالإضافة إلى فتاويه الخاصة. وهو مطبوع وله مكانة مرموقة عند الفقهاء والقضاة في العصور الفائتة. ولا يزال – إلى يومنا هذا- مصدراً زاخراً بالمعلومات الشرعية وغيرها حول المسلمين بالغرب الإسلامي.

         – نوازل المجاصي لأبي عبد الله محمد بن الحسن المغراوي الفاسي (ت1103هــ)، قاضي الجماعة بفاس ومكناس.

         – نوازل العلمي علي بن عيسى الحسني الشفشاوني (ت1127هــ)، قاضي شفشاون وابن قاضيها، جمع في نوازله إلى جانب أجوبته أجوبة بعض معاصريه ومن سبقهم من فقهاء شمال المغرب.

          – نوازل ابن سودة، محمد التاودي بن الطالب المري الفاسي (ت1209هــ)، شيخ الجماعة بفاس والمغرب كله. وقد جمعها ولده القاضي أحمد بن سودة. طبعت مرتين. مرة مجردة على الحجر بفاس، ومرة بهامشها النوازل الصغرى لعبد القادر الفاسي، على الحجر بفاس عام (1301هــ).

          – النوازل الصغرى أو المنح السامية في النوازل الفقهية، لأبي عيسى محمد المهدي بن محمد الوزاني العمراني الحسني الفاسي، آخر المفتين الكبار المؤلفين في النوازل (ت1342هــ). جمع فيها فتاويه، وأضاف إليها فتاوى غيره من معاصريه وشيوخه وقليل ممن تقدمهم.

         – النوازل الجديدة الكبرى في أجوبة أهل فاس وغيرهم من البدو والقرى، أو المعيار الجديد الجامع المغرب، عن فتاوى المتأخرين من أهل المغرب، للمهدي الوزاني أيضاً. وقد ألفه بعد مضي عقدين من السنين على تأليف النوازل الصغرى، وقد تجمع لديه خلال هذه المدة عدد أكثر من فتاويه ومن مختارات فتاوى غيره من أهل فاس وغيرهم من المتأخرين- كما ورد في العنوان- لكنه أضاف إلى ذلك فتاوى بعض المتقدمين الأندلسيين و القيروانيين و البجائيين و التلمسانيين وغيرهم، ولا يكرر فيها شيئاً من النوازل الصغرى إلا نادراً؛ حين تكتمل به فائدة، أو يدعو إليه التنظير.

          – فتاوى تتحدى الإهمال في شفشاون وما حولها من الجبال، جمع وتنظيم محمد الهبطي المواهبي. حيث جمع ما ينيف على سبعمائة وستين فتوى مهجورة بشفشاون وناحيتها، لم تجمع في كتاب، ولم يهتم بها أحد. فجمعها المواهبي وطبعت سنة (1419هــ).

          – الأجوبة الرشيدة في حَلِّ النوازل الفقهية والمعاملات المعاصرة للفقيه رشيد بن الفقيه محمد الشريف العلمي ولد سنة (1934م).

           مناهج كتب النوازل عند فقهاء المالكية المغاربة:
          على الرغم من أن كتب النوازل تهدف إلى إبراز الحكم الشرعي في القضايا المختلفة الحادثة، إلا أنها جاءت بمناهج مختلفة في التأليف وهي تعود إلى أحد الأصناف الرئيسية الآتية: 
          الـصنف الأول: هي الكتب التي يؤلفها أحد الفقهاء المفتين، فيجمع فيها أجوبته، وأجوبة غيره- من معاصريه أو السابقين له- من مختلف البلاد، ويرتبها على ترتيب أبواب الفقه، فيأتي ديوانه كبيراً جامعاً للعديد من النوازل، يتضح لنا فيه ثراء الأجوبة، واتساع دائرة اجتهاد الفقهاء، مع وفرة وغزارة المعلومات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومن أشهر المؤلفات في هذا الصنف: كتاب (المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب) لمؤلفه أحمد بن يحيى الونشريسي أصلاً، الفاسي داراً ووفاة (ت914هــ)
ومن محاسنه: أنه جمع الكثير من نصوص كتب فتاوى الأندلسيين والمغاربة، فاحتفظ ببعض ما ضاع منها، ورتبه على أبواب الفقه، ونقل فيه بعض الرسائل التي ألفت إجابة عن أسئلة متنوعة المواضيع.
          الصـنـف الثاني: هي تلك الكتب التي جمعت أجوبة فقهاء ينتسبون إلى منطقة واحدة، أو إلى مدينة واحدة، فمن تلك التي جمعت فتاوى شيوخ منطقة واحدة يمكن أن نذكر على سبيل المثال: كتاب فتاوى تتحدى الإهمال في شفشاون وما حولها من الجبال جمع وتنظيم الأستاذ محمد الهبطي المواهبي، حيث جمع الفتاوى الخاصة بهذه المناطق. إذ كانت هذه الفتاوى متناثرة فجمعها في مجلدين، وبلغ عدد هذه الفتاوى ما ينيف على سبعمائة وستين فتوى، ورتبها على الأبواب والموضوعات، وضم كل فتوى إلى بابها المناسب.
          الصنـف الثالث: وهي على نوعين:

           الأول: تلك الكتب التي جمعت أجوبة فقيه واحد، جمعها أو جمعت له من أحكامه خلال مدة قضائه وتوليه الفتوى، أو أجاب فيها عن مجموعة أسئلة وجهت إليه من جهة معينة، كفتاوى القاضي عياض (ت544هــ) والتي بعنوان: (مذاهب الحكام في نوازل الأحكام) حيث جمعها ابنه محمد (ت575هــ) بعد أن كانت عبارة عن بطائق، أو جذاذات من الفتاوى المتفرقة، وهي من أقدم مؤلفات المغاربة في النوازل.
          وأما النوع الثاني – من هذا الصنف، والذي يمثل أجوبة الفقيه الواحد عن أسئلة محددة.

          الصنـف الرابع: هي تلك التي يؤلفها صاحبها للإجابة عن قضية واحدة.
وقد تعدد التأليف في هذه النوازل المفردة، فكان منها: ما يتناول قضايا في العبادات، والمعاملات، ومنها: ما يتعلق بالسياسة الشرعية.

إسهـام فـقـه الـنـوازل فـي ازدهـار الـحركـة الاجتـهاديـة:

          لقد أسهمت كثرة التأليف في فقه النوازل في خلق نهضة اجتهادية خاصة بعد أن أولاها العلماء والفقهاء قسطا كبيرا، وحظا وافرا من العناية والتمحيص، والدراسة والتحقيق، فعملوا على إمعان النظر فيها، وبذلوا مجهودا في استجلاء حكم ما يرد عليهم ويعرض لهم من الفتاوى والأحكام، ويطرأ لهم من النوازل والقضايا المستجدة مع توالي الأيام، وتطور الحياة في مختلف مناحيها وجوانبها المتعددة، التي تعتبر النوازل والفتاوى صورة لها، ومرآة صافية تعكس واقع الحياة الاجتماعية للناس، وتقتضي التعمق في البحث والنظر، للتعرف على الحكم الشرعي والاهتداء إليه في النازلة المعروضة.

           ومن ثم كتب في فقه النوازل علماء كثيرون، وفقهاء جهابذة عديدون، “ألفوا فيه مؤلفات جليلة، وتركوها تراثا علميا ضخما، وعطاءً فقهيا هاما ممنهجا، يتضمن ذكر النازلة الاجتماعية وعرضها وبسطها في بابها، بعد استقصاء البحث عن الحكم الشرعي فيها، من خلال رجوعهم إلى أصول التشريع الإسلامي ومصادره المتعددة، وإلى كتب الفقه ومدوناته الكثيرة، وما احتوته واشتملت عليه من أقوال الأئمة ونصوص الفقهاء المتمكنين، والعلماء المتضلعين في الفقه الإسلامي وأصوله، وفروعه وجزئياته، حرصا منهم على توخي الحق والحقيقة، والوصول إلى الصواب في النازلة فيما يذكرونه ويحررونه من فقه النازلة والفتوى فيها”[21].

          “لقد التزم المغاربة منذ القرن الثاني والثالث للهجرة بتطبيق مذهب الإمام مالك، فهم إذن مالكيون منطلقا، وبذلك اختصوا أيضا بالتزام وترجيح عمل أهل المدينة منذ البداية، فجعلهم هذا الاتجاه يتفقون مع أهل المدينة مبدئيا، وقد يختلفون معه أحيانا أخرى لتنوع واختلاف أحوال المجتمع في بلاد المغرب والأندلس عما كان موجودا في بلاد الحجاز والجهات التي التزمت بالمذهب المالكي (…)، فاختلاف البيئة والمكان وتنوع المجتمعات يؤدي إلى اختلافات بيئية ومحلية وبالتالي حدوث أقضية متباينة، ولكن القياس على مثيلاتها وشبيهاتها يعطي توافقا في قابلية تطبيق الأحكام والآراء السائدة فيها. والمهم في كل ذلك هو تحقيق المناط الشرعي وتوافقه مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي التزمت كل أصول الفقه المالكي وطرق استدلالاته واستنباطاته ومن بينها العمل بعمل أهل المدينة كجلب المنفعة ودرء المفسدة ولا ضرر ولا ضرار والتزام تطبيق المصالح المرسلة وغير ذلك.

          وهذا الاتجاه أعطى لأهل المغرب خصوصية في تطبيقاتهم للفقه المالكي مما جعل الباحثين أحيانا ينظرون إلى هذه الخصوصية على أنها خصوصية إقليمية. ورغم هذا الفهم، فإن النسق العام جعل كبار فقهاء المغرب ينادون بتوجه اجتهادي خاص لا يتعارض مع أصول المذهب المالكي ويفتح باب المرونة التي توافق طبيعة البيئة المحلية، فطالبوا بأن يكون المفتي والفقيه المغربي، في تحرير جوابه، مراعيا للبيئة مصدر السؤال والنازلة عسى أن تكون مراعية لأحوال السكان وغير متنافضة مع أصول ومقاصد الشريعة الإسلامية. فكان هذا التوجه من الخصوصيات التي حافظت على المحلية المندمجة في عموم الشريعة الإسلامية.[22]

الفقيه النوازلي محمد المهدي الوزاني كنموذج للفقهاء النوازليين:

يعتبر الشريف العلامة الفقيه سيدي محمد المهدي الوزاني(1342هـ/1924م) خير مثال للفقهاء النوازليين الذين اشتهرت تآليفهم في هذا الفن الذي برز فيه المغاربة وأبدعوا فيه وخلفوا لنا تراثا هائلا في الميدان الفقهي، وقد عاصر رحمه الله، مرحلة ما قبل الحماية إلى أواسط عهد السلطان مولاي يوسف رحمه الله، حيث اعتبرت هذه المرحلة حاسمة من تاريخ التدريس في القرويين[23]، وقد برهن مثل هؤلاء الفقهاء على أن “الفقه الإسلامي ثابت وراسخ بأصوله وقواعده، متحرك ومتجدد باستخراجاته واستنباطاته، وقياساته، يلبي حاجيات الناس ويستجيب لتطلعاتهم، ويحقق طموحهم ومتطلباتهم في الحاضر والمستقبل، ورغباتهم في المعاش و المعاد”[24]. درس بمدينة فاس، وبقي بها عالما مدرسا، ونوازليا محررا ومؤلفا كبيرا، فأغنى بذلك المكتبة الفقهية المغربية حتى اشتهرت النوازل باسمه، كان رحمه الله مفتي فاس”وفقيهها الفهامة، أستاذ الأساتذة، وخاتمة العلماء المحققين الجهابذة، صاحب التآليف المفيدة، والرسائل العديدة، العمدة الفاضل العارف بمدارك الأحكام والنوازل ومسائل المذهب، والمنقول والمعقول،…مفتيا مقصودا في المهمات من سائر الجهات”[25]، مشاركًا في كثير من العلوم متضلعًا، في مواد الفقه عارفًا بالنوازل وأحكام المعاملات، له اطلاع واسع ومعرفة دقيقة بالمسائل الفرعية ومصادر الفقه المالكي، على وجه الخصوص، اختص بالفتوى، ترد عليه الأسئلة من سائر أقطار المغرب.

         تعتبر مؤلفاته من كنوز وعيون التراث الفقهي المغربي، جامعة ونافعة، رزقت القبول والعمل بما جاء فيها، وتناقلها الناس فيما بينهم حتى بلغت أقصى السودان فضلا عن الجزائر وتونس، من أشهرها: “النوازل الصغرى المسماة بالمنح السامية”، “وتحفة الحذاق بنشر ما تضمنته لامية الزقاق”، “وبغية الطالب الراغب القاصد إباحة صلاة العيدين في المساجد”، و”أجوبة عن عدة أسئلة فقهية”، و”الثريا في الرد على من منع بإطلاق بيع الثـُّنْيَا”. أما فيما يتعلق بتصنيف المعيار الجديد، النوازل الجديدة الكبرى في أجوبة أهل فاس، وغيرهم من البدو والقرى، أو “المعيار الجديد الجامع المغرب عن فتاوى المتأخرين من أهل المغرب”، الذي ألفه بعد مضي عقدين من السنين على تأليف النوازل الصغرى، وقد تجمع لديه خلال هذه المدة عدد أكثر من فتاويه، ومن مختارات فتاوى غيره من أهل فاس، وغيرهم من المتأخرين، وقد أشار رحمه الله إلى ذلك بقوله: “ثم بعد سنين اجتمعت لدي نوازل أخرى ضمنتها هذا الكتاب المسمى بالمعيار الجديد الجامع المعرب عن فتاوى المتأخرين من علماء المغرب”[26] لكنه أضاف إلى ذلك فتاوى بعض المتقدمين الأندلسيين و القيروانيين و البجائيين و التلمسانيين وغيرهم، ولا يكرر فيها شيئاً من النوازل الصغرى إلا نادراً.

ولعل المقصود بالمتأخرين هنا، هم الفقهاء والعلماء الذين صدرت عنهم أجوبة أو فتاوى في مسائل شرعية ممن عاشوا بعد عصر الونشريسى مؤلف المعيار(ت914هـ) وإلى زمن المؤلف، وإن كان الغالب فيها من عاصر المؤلف أو سبق عصره بقليل، هذا ولم يكن المؤلف جامعًا للغث والسمين الشيء الذي يدل على استقرائه لما وجد من أجوبة وفتاوى، فاقتصر على أقوال الفقهاء المتمكنين، والعلماء البارعين في مجال الإفتاء، وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى أن الفتاوى والأقوال التي ضمنها كتابه الأول النوازل الصغرى لم يدرجها في النوازل الكبرى إلا على سبيل الاستشهاد، وبذلك يقع تصحيح الوهم الذي قد يقع فيه البعض من اعتبار النوازل الصغرى اختصارًا للنوازل الكبرى التي طبعت سنة 1329هـ / 1911م، أي بعد أحد عشر عامًا من طبع النوازل الصغرى.

ويلاحظ أن كتاب المعيار الجديد حمل إسمين:

           الأول: النوازل الجديدة الكبرى فيما لأهل فاس وغيرهم من البدو والقرى.

           الثانى: المعيار الجديد الجامع المعرب عن فتاوى المتأخرين من علماء المغرب، والتسمية الثانية هي التي اختارها المؤلف لكتابه، أما التسمية الأولى، فيبدو أنها من وضع الذي قام بالطبعة الحجرية للكتاب، أو الذي أشرف على تصحيحها والعناية بها، وهذه التسمية صحيحة في جزئها الأول: النوازل الجديدة الكبرى، وذلك تمييزًا لها عن المنح السامية في النوازل الفقهية “النوازل الصغرى “أما في شقها الثاني (فيما لأهل فاس وغيرهم من البدو والقرى) فهي تسمية غير دقيقة، ولعلّ كلمة “البدو” محرفة عن كلمة “المدن” فتكون “وغيرهم من المدن والقرى” إذ يفهم من التسمية الحالية أن المؤلف اقتصر على رجال الإفتاء من فاس وما حولها من البدو والقرى، فلا تشير إلى حواضر المغرب الأقصى الكثيرة، مراكش، مكناس، الرباط، طنجة، وهذا غير صحيح، فالمؤلف جمع فتاوى المتأخرين من مختلف حواضر المغرب الأقصى والغرب الإسلامي بكامله، ولذلك أطلق على كتابه “المعيار الجديد الجامع المغرب عن فتاوى المتأخرين من علماء المغرب”، وهي التي تتفق مع واقع الكتاب ومسائله التي جمعها من فقهاء المغرب والحواضر الإسلامية في شمال أفريقيا، فهو فعلاً معيارٌ جديد، تمييزًا له عن معيار الونشريسى، وجامعٌ للكثير من النوازل، والمسائل التي قال بها المتأخرون من علماء المغرب، وكلمة “المغرب” هنا يجب أن تفهم بمعناها الجغرافي الواسع الذي يشمل المنطقة الممتدة من إقليم برقة شرقًا إلى نهاية إقليم السوس غربًا، وليس أدل على ذلك من قيام المؤلف بذكر فتاوى علماء المغرب بكل حواضره وأقاليمه الصحراوية، وشنقيط وحواضر الجزائر وتونس وطرابلس الغرب (ليبيا حاليًا).

          من الواضح أن مؤلف المعيار الجديد قد سار على درب الونشريسى في المعيار، واقتفى أثره من حيث جمع الفتاوى والآراء الفقهية التي قال بها علماء وفقهاء المذهب المالكي في المسائل والنوازل التي عرضت عليهم، يضاف إلى ذلك ما كتبه المؤلف نفسه من فتاوى ومباحث فقهية، وله بعض التعليقات والتصويبات على المسائل التي نقلها عن غيره، كما ضم إلى ذلك عددًا من مباحث بعض العلماء، وقام بتقسيم النوازل وفقًا للترتيب الذي اتبعه الشيخ خليل في المختصر، وقد أشار المؤلف إلى ذلك في مقدمته بقوله “سالكًا فيه أحسن الترتيب تبعًا لصاحب المختصر في نسقه العجيب”[27]، لذلك بدأ في الجزء الأول بنوازل الطهارة، ثم نوازل المياه، ثم نوازل الوضوء والغسل.. والتيمم، ثم الآذان فالصلاة الخ…، وبذلك يختلف عن معيار الونشريسى الذي بدأ الجزء الأول من معياره بنوازل الطهارة، ثم نوازل الصلاة ثم نوازل الجنائز، فنوازل الزكاة والصيام والاعتكاف و الحج، فكان المعيار الجديد أكثر تفريعًا وتفصيلاً[28].

          لقد أسهم فقهاء المدرسة الفاسية في إظهار النبوغ المغربي في مجال الفقه النوازلي، يعلم ذلك من رغبة الفقهاء في مواكبة المستجدات التي تطرأ على حياة المجتمع في جوانبها المختلفة، وأدق تفاصيلها، حتى إنك تجد أجوبة لفتاوى تعالج حيثيات وتفاصيل نابعة من صميم الواقع، فنظر الفقيه النوازلي في الوقائع يعبر عن ارتباط الفقه بالحياة اليومية التي تقتضي منه الاجتهاد في إيجاد أحكام لما يطرأ من القضايا والنوازل، و جعلِها ملائمة لروح الشريعة، فعرفت تلك الفترة نضجا و إبداعا، فكان الاتجاه النوازلي مبنيا على أصول الاجتهاد والاستنباط، مما أكد أن الاجتهاد ضرورة ملحة، وبابه مفتوح ما دامت الحوادث وجدت النوازل.

الهوامش: 


[1] – أنظر” تاريخ مدينة فاس من التأسيس إلى أواخر القرن العشرين الثوابت و المتغيرات”، للدكتور محمد اللبار، و الدكتور عبد الإلام بلمليح، والدكتور، محمد فتحة، والدكتور حاج موسى عوني، والدكتور محمد مزين، والدكتور عبد الرحيم بنحادة، محمد بوكبوط والدكتور جامع بيضا، والدكتور محمد حاتمي، راجع العمل الدكتور إبراهيم بوطالب، إشراف الدكتور محمد مزين . الطبعة الأولى 2010، سيباما فاس، ص25.

[2] – أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي د: محمد رياض، مطابع النجاح الجديدة، ط/3، 1413هـ، دمشق ص:160.

[3] – أرجوزة من زهر الآس عن جامع القرويين بفاس عبر القرون، لأحمد بن شقرون، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، مطبعة فضالة، 1414هـ/ 1994م، ص45.

[4] – المقاصد في المذهب المالكي خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين، لنور الدين الخادمي، الطبعة الثانية 1424هـ/ 2003م، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع السعودية،ص 197.

[5] – فتاوي الإمام الشاطبي لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، تحقيق محمد أبو الأجفان، طبعة ثانية: 1406/1985،  ص85.

[6]– مباحث في المذهب المالكي لعمر الجيدي، الطبعة الأولى، 1993 ص 130.

[7]– فتاوي الإمام الشاطبي، ص 76.

[8]– أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي، د محمد رياض: ص 159.

[9]– دفاعا عن الشريعة ص 220.

[10]– مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا،1429هـ/2008م. دار الحديث القاهرة، ص: 894.

[11]– منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، د: مسفر بن علي محمد القحطاني ص88، 1421هـ/2004، انظر التعريفات الواردة في هامش نفس الصفحة.

[12]– لسان العرب، لابن منظور، 1423هـ/2003م، دار الحديث القاهرة، ص 374.

[13]– لسان العرب، 2/349.

[14]– أنظر أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي للدكتور محمد رياض ص:181.

[15]– محاضرات في تاريخ المذهب المالكي ص 95.

[16]– مباحث في المذهب المالكي، لعمر الجيدي، ص: 125.

[17]– إعلام الموقعين1/87.

[18]– حوارات لقرن جديد:الاجتهاد، النص، الواقع، المصلحة، د. أحمد الريسوني، ذ. محمد جمال الباروت ط 1420هـ – 2000م  دار الفكر المعاصر لبنان. ص:64.

[19]– فاطر14 .

[20]– أبحاث في مقاصد الشريعة، للدكتور نور الدين الخادمي، الطبعة الأولى 1429هـ/2008م، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر و التوزيع لبنان: ص70.

[21]– أنظر مقدمة “النوازل الصغرى” المسماة بالمنح السامية في النوازل الفقهية، للفقيه أبي عبد الله سيدي محمد المهدي الوزاني 1342هـ ، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص:3.

[22]– تحفة أكياس الناس بشرح عمليات فاس، للعلامة أبي عيسى سيدي المهدي الوزاني، تقديم وإعداد: ذ.هاشم العلوي القاسمي، منشورات وزارة الأوقاف، 1422هـ/2001م، مطبعة فضالة، ص 11 و ما بعدها.

[23]– أنظر تحفة أكياس الناس بشرح عمليات فاس للعلامة سيدي محمد المهدي الوزاني ،المقدمة ص7.

[24]– المرجع السابق ص:5

[25] – شجرة النور الزكية، محمد مخلوف، دار الكتب العلمية لبنان، الطبعة الأولى 1424هـ/2003م، 1/618 رقم 1717.

[4]- المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون، تأليف أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي(ت914هـ)، تحقيق جماعة من الفقهاء بإشراف ذ.محمد حجي، 1/ 14.

[26] – أنظر المعيار الجديد الجزء الأول، مقدمة المؤلف 1/14.

[27] – أنظر المعيار الجديد المقدمة 1/ 14 و ما بعدها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق