مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

إحياء المولد النبوي الشريف في زمن الوباء

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على نبينا محمد

وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد؛

فإن هذا العام ابتليت الإنسانية بجائحة اجتاحت العالم أجمع، فلم تفرق بين الأمم، فأغلقت دور العبادة بقرارات سيادية أو فتاوى دينية، بسبب انتشار الوباء عند التجمعات، فألغيت التجمعات الدينية، والعالم على هذا الحال منذ أشهر عديدة،  في انتظار تخفيف شراسة هذه الجائحة.

هذه الجائحة التي عانى منها المغاربة على حد سواء، فأثرت على جميع مناحي الحياة، بما فيها: إقامة الشعائر الدينية في مساجد الله، إلى أن جاء الفرج بعد أشهر، ففتحت أبواب المساجد، وأقيمت الصلوات الخمس عدا الجمعة، وصلاة العيدين، وإحياء المناسبات الدينية كليلة القدر والمولد النبوي الشريف.

ومعلوم أن ربيع الأول من كل عام يحي المغاربة وعلى رأسهم أمير المؤمنين نصره الله وأيده ليلة المولد النبوي الشريف في المسجد، إلا أن عام 1442 من الهجرة النبوية الشريفة سيكون استثناء، بسبب سرعة انتشار جائحة كورونا، التي أخذت أرواح الناس في كل المعمور، وبناء على قاعدة: حفظ الأبدان مقدم على حفظ الأديان، فإن الفتوى الصادرة عن المجلس الأعلى التي بموجبها أغلقت المساجد والزوايا لإقامة الجمعات والمناسبات الدينية.

وهذه الخطوة الاحترازية ليست بدعة، فقد سبقت نظيراتها في الأمم السابقة بعد أن حلت بها الأوبئة، فأغلقت المساجد والزوايا؛ لئلا ينتشر الوباء، ويسري في المجتمع، وتهلك الأمة، فعملوا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يوردن ممرض على مصح) [1].

فهذا الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه قد شهد طاعون عمواس الذي عم سنة 18 للهجرة، فأخذ قرار العزل والتباعد الاجتماعي، وإن كان إسناده ضعيف، لجهالة الشيخ الذي روى عنه شهر بن حوشب، وهو: رابه زوج أمه كما قرره العلامة أحمد محمد شاكر.  إلا أن الإجراء الذي اتخذه الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه من جملة القرارات الصائبة التي اتخذها تجنبا لتفشي الوباء، والحدث رواه الإمام أحمد في مسند: “لما اشتعل الوجعُ قام أبو عبيدةَ بن الجراح في الناس خطيبًا، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمةُ ربكم، ودعوة نبيكم، ليموت الصالحين قبلَكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يَقسم له منه حظه، قال: فطعِنَ، فمات رحمه الله، واستُخلف على الناس معاذُ بن جبل، فقام خطيبًا بعده، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمةُ ربكم، ودعوة نبيكم، وموتُ الصالحين قبلَكم، وإن معاذاً يسأل الله أن يقسمِ لآل معاذ منه حظه، قال: فطُعن ابنه عبد الرحمن بن معاذ، فمات، ثم قام فدعا ربه لنفسه، فطُعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهرَ كفّه، ثم يقول: ما أُحبُّ أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا، فلما مات استُخلف على الناس عمرُو بنَ العاص، فقام فينا خَطيباً، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجعَ إذا وقع فإنما يشتعلُ اشتعالَ النار، فَتَجبَّلُوا منه في الجبال”[2].

وفي سنة 395 من الهجرة النبوية الشريفة وقع في مدينة القيروان من مدن تونس شدة عظيمة، فهذا ابن عذارى المراكشي (المتوفى نحو: 695هـ) نقل عن أبي إسحاق إبراهيم بن القاسم الرقيق القيرواني (المتوفى عام: 420هـ) وهو يصف الحدث: “كانت بأفريقية شدة عظيمة؛ أنكشف فيها الستور، وهلك فيها الفقير، وذهب مال الغنى، وغلت الأسعار، وعدم القوات. وجلى أهلها البادية عن أوطانهم وخلت أكثر المنازل فلم يبق لها وارث، ومع هذه الشدة وباء طاعون هلك فيه أكثر الناس من غني ومحتاج فلا ترى متصرفا إلا في علاج أو عيادة مريض أو آخذا في جهاز ميت أو تشيع جنازة أو انصرف من دفن. وكان الضعفاء يجمعون إلى باب سالم فتحفر لهم أخاديد ويدفن المائة والأكثر في الأخدود الواحد فمات من طبقات الناس وأهل العلم والتجار والنساء والصبيان ما لا يحصى عددهم إلا خالقهم تعالى وخلت المساجد بمدينة القيروان وتعطلت الأفران والحمامات”[3].

وليس بعيدا من المغرب الكبير، ففي الأندلس وبقرطبة بالخصوص وقع قحط ووباء سنة 448 من الهجرة، قال عنه شمس الدين الذهبي (المتوفى عام: 748هـ): “ما عهد قحط ولا وباء مثله بقرطبة، حتى بقيت المساجد مغلقة بلا مصل”[4].

وفي السنة التي بعدها –أي: سنة 449- حكى جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي (المتوفى عام: 597هـ) أنه: “مات رجل كان مقيما بمسجد، فخلف خمسين ألف درهم، فلم يقبلها أحد، ووضعت في المسجد تسعة أيام بحالها، فدخل أربعة أنفس ليلا إلى المسجد وأخذوها فماتوا عليها. ويوصي الرجل الرجل، فيموت الذي أوصى إليه قبل الموصى، وخلت أكثر المساجد من الجماعات”[5].

وفي سنة 749 للهجرة يصف تقي الدين المقريزي (المتوفى عام: 845هـ) ما حصل في القاهرة جاء انتشار الطاعون: “بطلت الأفراح والأعراس من بين الناس، فلم يعرف أن أحدا عمل فرحا في مدة الوباء، ولا سمع صوت غناء، وتعطل الأذان من عدة مواضع، وبقي في الموضع المشهور بأذان واحد. وبطلت أكثر طبلخاناه الأمراء، وصار في طبلخاناه المقدم ثلاثة نفر بعدما كانوا خمسة عشر، وغلقت أكثر المساجد والزوايا”[6].

وفي سنة 1073 للهجرة في المغرب وقعت مجاعة تعطلت بسببها المساجد؛ لكي لا ينتشر الوباء بسبب التعفنات، وقد وصف ذلك أبو العباس أحمد بن خالد الناصري (المتوفى عام: 1250هـ) فقال: “في أواخر سنة ثلاث وسبعين وألف مع السنة التي بعدها، حدثت مجاعة عظيمة بالمغرب، لا سيما فاس وأعمالها، أكل الناس فيها الجيف والدواب والآدمي، وخلت الدور، وعطلت المساجد، ثم تدارك الله عباده بلطفه”[7].

وفي سنة 1337 للهجرة وقع وباء في الجزيرة العربية، فهلك بسببه ألوف من الأنفس البشرية، فنجد إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن (المتوفى عام: 1425هـ) يقول: “هذه السنة يؤرخ بها أهل نجد ويعرفونها بسنة الرحمة، لأنه وقع فيها طاعون والعياذ بالله، وهلك بسببه في قلب الجزيرة العربية ألوف من الأنفس البشرية، وكان عظيمًا، وفشا المرض في الناس وقلَّ من يسلم منه”. وفي الهامش ما نصه: “كان وقوع الوباء في أوائل هذه السنة، وكان عامًا في نجد والإحساء والعراق وجميع المدن على الخليج العربي، واستمر ثلاثة أشهر والعياذ بالله، وبسببه هجرت مساجد وخلت بيوت من السكان وهملت المواشي في البراري، فلا تجد لها راعيًا ولا ساقيًا”[8].

فعلى مر العصور وقعت أوبئة عطلت جميع مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية، لهول المصاب وكثرة الموتى، فكان لزوما إغلاق المساجد وإخلاءها من المصلين، ومنع كل التجمعات بما فيها الدينية، حفاظا على البدن النفس، عملا بالقاعدة المذكورة آنفا: حفظ الأبدان مقدم على حفظ الأديان، والأولى إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف في البيوت، حتى يرفع عنا الله عز وجل هذا الوباء.

هوامش المقال:

[1] – أخرجه من حديث أبي هريرة: البخاري في صحيحه (7 /138) كتاب: الطب، باب: لا هامة، رقم الحديث: 5771، ومسلم في صحيحه (4 /1743) كتاب السلام، باب: لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول، ولا يورد ممرض على مصح، رقم الحديث: 2221.

[2] – مسند أحمد (2 /328)، رقم الحديث: 1697.

[3] – البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب (1 /256).

[4] – سير أعلام النبلاء (18 /311).

[5] – المنتظم في تاريخ الأمم والملوك (16 /18).

[6] – السلوك لمعرفة دول الملوك (ج2-ق3 /783).

[7] – السلوك لمعرفة دول الملوك (ج2-ق3 /783).

[8] – تذكرة أولي النهى والعرفان بأيام الله الواحد الديان وذكر حوادث الزمان (2 /256).

*******************

جريدة المراجع

الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى لأبي العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري، (الجزء 7) تحقيق: جعفر الناصري، محمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء- المغرب، 1418 /1997.

البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لأبي عبد الله محمد بن محمد ابن عذاري المراكشي، تحقيق: ج. س. كولان، إِ. ليفي بروفنسال، دار الثقافة، بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة: 1983.

تذكرة أولي النهى والعرفان بأيام الله الواحد الديان وذكر حوادث الزمان لإبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن، مكتبة الرشد، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1428 /2007

الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، بيروت-لبنان، دار المنهاج، جدة-السعودية، الطبعة: الأولى: 1422 (طبعة مصورة).

السلوك لمعرفة دول الملوك لأبي العباس أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي، (الجزء 2)  تحقيق: محمد مصطفى زياده، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة- مصر، 1942.

سير أعلام النبلاء لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي تحقيق: مجموعة من المحققين، مؤسسة الرسالة، الطبعة الحادي عشر: 1417 /1996.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان.

المسند لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، (الجزء 2) تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة- مصر، الطبعة الأولى: 1416 /1995 (طبعة مصورة).

المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1412 /1992.

*راجع المقال الباحث: عبد الفتاح مغفور

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق