مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

إحياء الأوقات بالخير والطاعات في شهر شعبان

بسم الله الرحمن الرحيم

   شهر شعبان من الأشهر المباركة التي يغفل عنها كثير من الناس، فلا يلتفتون إلى فعل الخيرات والطاعات، والقربات فيه؛ بسبب مجيئه بين شهرين مباركين وهما: شهر رجب المحرم، وشهر رمضان الأبرك، فانصرف الناس إلى العبادة فيهما دون شهر شعبان الذي صار معرضا عنه إلا من رحم الله؛ فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قلت: يارسول ، لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ” ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”([1]).

فإذا كان رجب شهر زرع للخيرات؛ فإن شهر شعبان موسم الغيث الذي يسقي ويروي هذا الزرع المبارك ليستوي على سوقه شامخا، ثم بعد ذلك يتم حصاده في شهر رمضان المبارك، وشعبان أيضا بمثابة جسر وقنطرة إلى رمضان، وشهر لتدريب النفس على الخير وتعويذها على حب الطاعات من صيام، وذكر لله تعالى، وتوبة واستغفار ، وقراءة للقرآن الكريم.

ولأهمية الموضوع ارتأيت أن أتحدث عنه من خلال بيان ما ينبغي أن يقوم به المسلم في هذا الشهر الفضيل، وكيف يحي فيه أوقاته بالخير، والقربات والطاعات، وغير ذلك من صنوف العبادات. فأقول وبالله التوفيق:

لا شك أن المؤمن يسعى دوما للتقرب إلى ربه وإرضائه، والتذلل إليه سبحانه وتعالى في كل وقت وحين، وفي كل الأيام والشهور والأزمان، مصداقا لقوله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) ([2])؛ إلا أنه في بعض الشهور يضاعف المؤمن رصيده الإيماني والتعبدي، لخصوصية فيها، فيجتهد فيها غاية، ومن ذلك شهر شعبان الأغر؛ ولهذا فمما ينذب للمؤمن القيام به في هذا الشهر الكريم من أعمال الخير والطاعات:

الإكثار من الصيام النافلة:  فمن أعمال الخير والطاعات في شهر شعبان الإكثار من الصيام النافلة فيه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من صيام شهر شعبان، وهو بذلك يحث بفعله أمته على التأسي به في ذلك، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول : لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان”([3]).

وفي رواية أخرى: “ولم أره صائما من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا”([4]).

المبادرة إلى التوبة من الذنوب والآثام: فشهر شعبان شهر لتجديد التوبة والأوبة إلى الله تعالى، قال جل جلاله: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) ([5])، حيث يتوب المؤمن من ذنوب مضت، ومحاسبة النفس فيما فرط، ولذلك قال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله (561هـ) –في شعبان-: “هو شهر تفتح فيه الخيرات، وتنزل فيه البركات، وتترك فيه الخطيئات، وتكفر فيه السيئات، وتكثر فيه الصلوات على محمد صلى الله عليه وسلم خير البريات… فينبغي لكل مؤمن لبيب ألا يغفل في هذا الشهر؛ بل يتأهب فيه لاستقبال شهر رمضان بالتطهر من الذنوب، والتوبة عما فات وسلف فيما مضى من الأيام، فيتضرع إلى الله تعالى في شهر شعبان”([6]).

الإكثار من ذكر الله تعالى: كذلك من أعمال الخير في شهر شعبان المواظبة على الأذكار المسنونة، والإكثار منها، من تهليل، وتكبير، وتسبيح، وتحميد، واستغفار، قال تعالى:                (يا أيها الذين آمنوا اذكرو الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) ([7])، فعلى المؤمن أن يغتنم وقته في هذا الشهر الفضيل، ويملأه بذكر الله تعالى بكرة وعشيا، حتى ينال رضا الله، وقربه؛ لأنه شهر ترفع فيه أعمال العباد إلى الله تعالى وتعرض عليه، فيا فوز من عمر صحيفته بالذكر والاستغفار فيه.

الحرص على قراءة القرآن الكريم: فشهر شعبان فرصة لقراءة القرآن الكريم، ومدارسته، وحفظه، ومعرفة أحكامه وتفسيره، قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) ([8])، وقال أيضا: (فاقرؤا ما تيسر من القرآن) ([9])، قال ابن رجب الحنبلي            (795هـ): “و لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان، شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام، و قراءة القرآن؛ ليحصل التأهب لتلقي رمضان، و ترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن”([10])، فأهل الإيمان كانوا ينكبون على كتاب الله ويتدارسونه بينهم في شهر شعبان، فكان حبيب بن أبي ثابت (119هـ) إذا دخل شعبان قال : “هذا شهر القراء”([11])، وقال سلمة بن كهيل الحضرمي الكوفي التابعي (123هـ) رحمه الله تعالى حين رأى قومه يجتهدون كلما أطل عليهم شهر  شعبان في قراءة القرآن الكريم، والتفرغ له: “شهر شعبان شهر القراء”([12])، وكان عمرو بن قيس الملائي (146هـ) إذا دخل عليه شعبان أغلق حانوته، وتفرغ لقراءة القرآن”([13])، وقال الحسن بن سهل (236هـ): “قال شعبان : يا رب جعلتني بين شهرين عظيمين، فما لي ؟ قال : جعلت فيك قراءة القرآن يا من فرط في الأوقات الشريفة، و ضيعها و أودعها الأعمال السيئة، و بئس ما استودعها “([14])

الخاتمة:

من خلال ما تقدم في موضوع المقال خلصت إلى أن شهر شعبان الأغر:

1-شهر يغفل عنه كثير من الناس؛ لمجيئه بين شهرين مباركين: شهر رجب ورمضان.

2-أنه يعد بمثابة جسر ومعبر إلى شهر رمضان.

3-أنه موسم للمسارعة في الخيرات، وتدريب النفس على الطاعات.

4-أنه شهر يستحب فيه الإكثار من صيام النافلة، كما كان هديه صلى الله عليه وسلم.

5-أنه مناسبة ليجدد فيه المسلم علاقته بربه سبحانه وتعالى، والتوبة إليه من الذنوب والآثام.

6-أنه فرصة وغنيمة لذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن الكريم كما كان يفعل السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.

والحمد لله رب العالمين.

*********************

هوامش المقال:

([1]) أخرجه أحمد في المسند (36 /85) برقم: (21753)، والنسائي في سننه (ص: 367) كتاب: الصيام، باب: صوم النبي صلى الله عليه وسلم برقم: (2357) واللفظ له.

([2]) سورة الحجر: 99.

([3]) أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 473)، كتاب: الصوم، باب: صوم شعبان، (1969).

([4]) أخرجه مسلم بشرح النووي (4 /293)، كتاب: الصيام، باب: صيام النبي،صلى الله عليه وسلم برقم:  (1156).

([5]) سورة النور : 31

([6]) الغنية لطالبين طريق الحق (1/ 342).

([7]) سورة الأحزاب: 41-42.

([8]) سورة محمد : 24.

([9]) سورة المزمل : 20.

([10]) لطائف المعارف (ص: 258).

([11]) لطائف المعارف (ص: 258-259).

([12]) لطائف المعارف (ص: 258).

([13]) لطائف المعارف (ص: 259).

([14]) لطائف المعارف (ص: 259).

***********************

لائحة المصادر والمراجع:

السنن. لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه: محمد ناصر الدين الألباني، اعتنى به: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف الرياض، ط1. (د-ت).

صحيح البخاري. لمحمد بن إسماعيل البخاري. دار ابن كثير، دمشق، ط1 /1423هـ- 2002مـ.

صحيح مسلم بشرح النووي . لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي- حازم محمد- عماد عامر. دار الحديث القاهرة. ط4/ 1415هـ- 1994مـ.

الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل. لعبد القادر بن أبي صالح الجيلاني. وضع حواشيه: أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة. دار الكتب العلمية بيروت. ط1 /1417هـ- 1997مـ

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي. تحقيق: ياسين محمد السواس. دار ابن كثير  دمشق – بيروت. ط5/ 1420هـ – 1999مـ

المسند. لأحمد بن حنبل الشيباني، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، عادل مرشد، وجمال عبد اللطيف، وعبد اللطيف حرز الله، مؤسسة الرسالة ط1/ 1421هـ- 2001مـ.

*راجع المقاللا الباحث: يوسف أزهار

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق