مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

إتحاف اللبيب بجواز إحياء ذكرى مولد الحبيب

إسماعيل راضي                                                                                                                                  مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة 

يكتسي المولد النبوي أهميةً كبرى في حياة المسلمين، ويُعتبر الاحتفال بيوم مولده صلى الله عليه وسلم احتفاء بمكارمه، ودليلا من دلائل محبته، وتعظيما لجنابه، واستبشارا بمولده، وشكرا لله على بزوغه، وتعبيرا عن الفرح برحمته،… فهو النعمة العُظمى والرحمة المهداة، وهو سيد الخلق وحبيب الحق عليه أفضل الصلاة والتسليم… وقد استحسن العلماء وعامة المسلمين في جميع البلاد عمل المولد النبوي الشريف، وجرى به العمل في كل الأصقاع والبقاع.

إلا أنه كلما حلت الذكرى إلا ونجد أصحاب التعصب الأعمى للتصورات السقيمة العارية عن الاستدلال الشرعي يبدِّعون وينكرون، ويرون في الاحتفال والاحتفاء بمولده صلى الله عليه وسلم خروجا عن السنة وإيثارا للبدعة؛ فلا هُم أدركوا مفهوم البدعة ومدلولها الصحيح، ولا وقفوا على غايات الاحتفال ومقاصده الشرعية.

فالحكم على عملٍ مَّا، يُنظر فيه إلى وسائله ومقاصده، فإن كانت الوسائل مشروعة ومندرجة تحت أصول عامة في التشريع، والمقاصد مشروعة تحقق أمراً مطلوباً شرعاً، كان العمل مشروعاً؛ فلا يُشترط لكل عمل دليل خاص به، بل يكفي أن يندرج تحت أدلة عامة وقواعد كلية من الشرع، لأن نصوص التشريع محدودة وحوادث الدهر ممدودة، فلا يمكن أن تستوعب نصوص الشرع أفعال الناس الجزئية إلا بأدلة وقواعد كلية إلا فيما نصّ الشارع على خصوصه وتخصيصه، والقاعدة الفقهية تقول: الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل النهي أو التحريم.

ومن ثَمّ، فليس كل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من القرون الثلاث الأولى، وفعله الخلف من بعدهم يعتبر بدعة ضلالة، بل أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أحدث السنن الحسنة، فقال: “من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة” (صحيح مسلم). قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: “«سنة حسنة» أي طريقة مرضية يُقتَدى بها، والتمييز بين الحسنة والسيئة بموافقة أصول الشرع وعدمها”.

قال الإمام الشَّافِعي رضي الله عنه: “المُحدَثاتُ من الأمُور ضَربانِ، أحدُهُما ما أُحدِث ممّا يُخالِف كِتابًا أو سُنَّة أو إجْماعا أَو أثَرا، فهذه البدعة الضلالة، والثانية ما أحدِث من الخَيرِ ولا يُخالِف كتَابا أو سُنَّة أو إجماعا، وهذه مُحْدثة غيرُ مَذْمُومَة”. (رواه البَيْهقي بالإسناد الصّحيح في كتابِه “مَنَاقِبُ الشَّافِعي”).

قال العلامة أبو شامة المقدسي رحمه الله: “فالبدع الحسنة متفق على جواز فعلها والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسُنت نيته فيها، وهي كل مُبتدَعٍ موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها ولا يلزم من فعله محذور شرعي، وذلك نحو صناعة المنابر والربط والمدارس وخانات السبيل وغير ذلك من أنواع البر التي لم تُعهد في الصدر الأول، فإنه موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى”. (الباعث على إنكار البدع 1/23).

وقال الإمام الشافعي كذلك: “البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة، فهو محمود، وما خالف السنة، فهو مذموم” واحتج بقول عمر في قيام رمضان: “نعمت البدعة هذه”. (رواه أبو نعيم في”حلية الأولياء”، 9/113).

قال الإمام النووي في «ﺗﻬذيب الأسماء واللغات»: “البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة”.

وقال سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام في «القواعد»: “البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة”، قال: “والطريق في ذلك أن تُعرض البدعة على قواعد الشريعة فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة”.

ومن المحدثات والبدع الحسنة لأهل العلمِ: إحداث المَحاريبِ المجوفةِ، والمآذنِ، والصوامع للمساجد، وشَكْلُ القرآن ونَقْطه، وجمْع الحديث النبوي، وإحداث مدارس عتيقة، وعقد الندوات والمؤتمرات الدينية، وغيرها… بل ومن البدع الحسنة والواجبة كذلك: إحداث “علوم شرعية” لم تكن معلومة في زمن النبوة كعلوم الحديث وعلوم القرآن والنحو وغيرها… لذلك قال ابن عابدين في «رَدّ المحتارِ على الدُّرّ المُختَارِ» ما نصُّهُ: “فقد تكونُ البدعَةُ واجبةً كنصبِ الأدلَّةِ للرَّدّ على أهلِ الفِرَقِ الضالَّةِ، وتعلُّمِ النَّحو المُفهِمِ للكتابِ والسُّنَّةِ، ومندوبةً كإحداثِ نحو رباطٍ ومدرسةٍ، وكلّ إحسانٍ لم يكن في الصَّدرِ الأوَّلِ، ومكروهةً كزخرفَةِ المساجِدِ، ومباحةً كالتَّوسُّعِ بلذيذِ المآكلِ والمشاربِ والثّيابِ”.

ولا شك في أن الاحتفال بالمولد باعث من بواعث المحبة ومقتضياتها، وأنّ ما يقع فيه من أعمال البر والتقوى، من الذكر وتلاوة القرآن والوعظ، وما فيه من الذكريات النافعة، لهو من مناسبات الخير والنفع العام التي لا تضيق بها أصول الأحكام الشرعية، ولا فروعها ، بل إنها تدعو إليه، وتحض  عليه.

وقد استدل العلماء رحمهم الله على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بأدلة كثيرة، وتدخل كلها تحت عموم قوله تعالى: “وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”. (الحج 77).

         التمس علماؤنا الدليل، فوجدوا أن الله كرّم يوم ولادة أنبيائه، وجعله قرآنا يُتلى ويُتعبّد به، قال تعالى عن سيدنا يحيى عليه السلام: “وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيا” (مريم 15) – وقال على لسان سيدنا عيسى عليه السلام “وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً” (مريم 33)؛ فلِيوم ولادة أنبيائه إذاً منزلة عند الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يواظب صوم يوم الاثنين من كل أسبوع ! ولمّا سُئل في ذلك، قال: “هو يوم ولدت فيه، وأنزل علي فيه”. (صحيح مسلم).

فيوم الولادة إذاً هو من أيام الله؛ وقد اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيام الله لقوله تعالى: “وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ”، فكان عليه الصلاة والسلام يربط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت، فإذا جاء الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة لتذكرها، وتعظيم يومها لأجلها؛ من ذلك ما ثبت في الصحيحين مِن أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قدِم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم، فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجّى موسى، فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم: “نحنُ أولى بموسى منكم”، فصامه وأمر بصيامه.

بِناءً على هذا الأصل، حسّن الحافظ ابن حجر العسقلاني، رحمه الله، سنة الاحتفال فقال: “فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منّ به في يوم مُعَيّن من إسداء نعمةٍ أو دفعِ نقمة، ويُعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادات كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأيُّ نعمةٍ أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء. (حسن المقصد في عمل المولد).

فإحياء الذكريات أمر مشروع في الإسلام، إذ أكثر أعمال الحج إنما هي إحياءٌ لذكريات مشهودة ومواقف محمودة؛ فالسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والذبح بمنى، كلها حوادث ماضية سابقة، يُحيي المسلمون ذكراها بتجديد صورتها في الواقع. وميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ميلادُ نورٍ ملأ الوجود هداية ورحمة ودعوة إلى كلّ خير، بل هو ميلادٌ حوّل الإنسانية من الظلمات إلى النور، ومن البغض إلى المحبة، ومن الجاهلية إلى الإيمان، ومن الضيق والشقاوة إلى سعادة ويسر… وذكرى ميلاده أحق وأولى أن تُحيا ويُحتفى بها.

والاحتفال بيوم ولادته صلى الله عليه وسلم هو أيضا تعبيرٌ عن الفرح والسرور بالرحمة المهداة عليه أفضل الصلاة والتسليم، لقوله تعالى: “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا” (يونس 58). وقد انتفع بالفرح بولادته حتى الكافر (أبو لهب) كما جاء في صحيح البخاري، واستدل على ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (9/145).

وقال الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي في كتابه “مورد الصادي في مولد الهادي”: قد صح (في البخاري) أن أبا لهب يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين لإعتاقه ثُويْبة سرورا بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أنشد :

                 إذا كـــان هــذا كـافـرا جـاء ذمــه  ***  وتبّت يداه في الجحيم مخـــــلدا
                 أتـى أنه في يـوم الإثـــنـيـن دائمـا  ***  يخفف عنه للسرور بأحمــــــدا
                 فما الظن بالعبد الذي طول عمره  ***  بأحمد مسرورا ومات موحــــدا

قال الإمام السيوطي: “عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.” (الحاوي للفتاوي، 1/181-182).

وقال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: “دعاني إليه الاتساء بأفاضل الأمة الذين ألهمهم الله صرف الهمة إلى العناية بتعظيم اليوم الذي يوافق من كل عام يوم ميلاد محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ كانوا قد عدوه عيدا، ورموا برشيق نبل عقولهم بذلك مرمى بعيدا، علمناه من قوله تعالى في التنويه بشهر رمضان (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة185 )، فأي يوم أسعدُ من يوم أظهر الله فيه للعالم مولودا كان المنقذ من الضلالة، أخرج به الناس من ظلمات الشرك ومناقص الجهالة، وإذا كانت الأعياد الثابتة في الدين قد جاءت على مناسبة الفراغ من عبادات مشروعة، فذكرى الواسطة العظمى في تبليغ ذلك يحق أن تكون مشيدة مرفوعة”. (قصة المولد).

وقال ابن عباد الرندي في ما أورده الإمام الرصاع في «فهرسته»: “إن هذا اليوم عيد من أعياد المسلمين، لظهور نور خير الخلق فيه وسيد المرسلين، فالتزين فيه بأحسن الثياب من اللباس، واستعمال الطعام، وإظهار المحبة بالركوب على أحسن الدواب، وكثرة الصلاة عليه، وإنشاد القصائد في صفته، وتزيين الأولاد والمكاتب بما يجوز شرعا: لاشك في جواز ذلك كله إذا سلم من البدع المحرمة التي لا يجوز تعظيم شعائر الله تعالى بها” . (ص 24)

وقد صنّف ما يزيد عن المائة من العلماء والفقهاء والمُحَدِّثين في مشروعية الاحتفال بالمولد وأصّلوا له، منهم:

– الشيخ أبو الخطاب ابن دحية (ت 633هـ): “التنوير في مولد البشير النذير”.

– الإمام السيوطي: “حسن المقصد في عمل المولد”.

– شيخ القراء الحافظ شمس الدين الجزري (ت 660هـ): “عرف التعريف بالمولد الشريف”.

– الإمام الحافظ ابن ناصر الدمشقى (ت 842هـ): “مورد الصادي في مولد الهادي” و”جامع الآثار في مولد النبي المختار” و”اللفظ الرائق في مولد خير الخلائق”.

– العلامة المحدث الفقيه مُلاّ علي القاري (ت 1014هـ): “المولد الروي في المولد النبوي”.

– الإمام الحافظ ابن الجوزي (ت 597هـ): “العروس”.

– الإمام الحافظ العراقي (ت 808هـ): “المورد الهني في المولد السني”.

– الإمام الحافظ السخاوي (ت 902هـ): “الفخر العلوي في المولد النبوي”.

– الإمام الحافظ الديبعي الشيباني (ت 944هـ): “النور السافر”.

– الإمام الحافظ المناوي: “مولد المناوي”.

– العلامة الطاهر بن عاشور: “قصة المولد”.

– الشيخ عثمان حِدك الصومالي: “اللآلي السنية في مشروعية مولد خير البرية”.

– الشيخ محمد بن علوي المالكي: “حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف”.

– الشيخ العلامة محمد بن جعفر الكتاني: “إسعاف الراغب الشائق بخبر ولادة خير الأنبياء وسيد الخلائق” و”اليُمْنُ والإسعاد بمولد خير العباد”.

– الشيخ العلامة محمد الحجوجي: ” بلوغ القصد والمرام بقراءة مولد خير الأنام”.

وممن أفتوا بجواز وشرعية الاحتفال بالمولد وأرّخوا له:

– الإمام الحافظ القسطلانى (شارح البخاري)، فى: “المواهب اللدنية” (1/148).

– الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، في: “الفتاوى الكبرى” (1/196).

– الإمام ابن حجر الهيثمى، في: “الفتاوى الحديثية” (ص 202).

– الحافظ ابن كثير، في: “البداية والنهاية”، (13136).

– الحافظ  الذهبي، في: “سير أعلام النبلاء”، (22336).

– الإمام أبو شامة (شيخ النووي)، في: “الباعث على إنكار البدع والحوادث” (ص 21).

– ابن الحاج الفاسي المالكي، في: “المدخل” (2/3).

– الحافظ عبد الله بن الصديق، في: “إتقان الصنعة” (ص 43).

– العلامة ابن عباد الرندي، في: “الرسائل الكبرى”.

– الونشريسي، في: “المعيار المعرب” (11/278-289).

– أبو المحاسن، في “مرآة المحاسن” (ص 280).

– وغيرهم كثير…

وحاصل حُكمهم بالمشروعية والجواز يرجع إلى اعتبار الاحتفال سُنّة حسنة عند البعض، وبدعة حسنة عند البعض الآخر، وقد يتعدى الحُكم عند أئمة آخرين درجة الاستحباب إلى الوجوب وذلك بالنظر إلى مقاصد الشرع منه، فالأمر إذا فيه توسعة. أما ما قد يطرأ في بعض الموالد من مخالفات فيخضع لضوابط الشرع، وإنكار المظاهر لا يعني نفي الأصل.

فليتق الله الذين يضيقون واسعا، ويمنعون الناس من فعل المباحات التي تدلُّهم على الواجبات والمستحبات في الدين، ويُبدعون الاحتفاء بالذكريات التي تُحيي التأسي والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحرمون المناسبات التي تدعوا إلى مكارم الأخلاق وتدفع إلى إحياء السنن…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق