أَسْرارُ البَيَان في القُرآنِ(23) البَيانُ في كَلمَة (النَّفَّاثَات) في قولِهِ تعَالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ في العُقَدِ﴾
و ذلكَ قَوْلهُ تعَالى في سُورَة(الفَلَق): ﴿ومنْ شرِّ النَّفَّاثَاتِ في العُقَدِ﴾. حيْثُ جاءَتْ كَلمةُ (النّفّاثَات) جَمْعاً مُؤنّثاً سالـِماً، وإنَّها بذلكَ لَتستوقِفُ الْـمُتدبّر وتَستحثُّ النَّظر، لأنّ الاشْتِغالَ بالسّحْر ، والنَّفْث في العُقَد، ليسَ يَقتصِرُ على النِّسَاء. بلْ إنَّكَ لتَجدُ أنَّ مَا ذُكرَ في القُرآن منهُ كلُّهُ علَى التَّذكِير، بَدءاً منْ سَحَرةِ فِرعونَ، فقالَ تعالَى عنهُم مَثلاً: «يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ». إلَى سِحْر (هَارُوتَ ومَارُوتَ)، فقالَ تعَالَى، علَى التَّذكِير: « فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْـمَرْءِ وَزَوْجِهِ».
لكنَّ هذهِ الآيَةَ تفرّدَت بهذهِ اللَّفظَةِ الّتي اسْتوقَفَت، فأغْنَتْ، وأَرْبَتْ. وأنتَ إذا استَقرأْتَ كُتُب التّفسير ، ومعَاني القُرآن، وجدتَ أنّ مُعظَمَهم قدْ ذهَبَ إلى مَعْنى: (النِّسَاء السَّاحِرَاتِ، أَو السَّوَاحِر). فالإمامُ (الطَّبريّ) يقولُ: « منْ شَرّ السَّوَاحرِ اللّاتي يَنفُثْنَ في عُقَد الخَيْط». وقالَ (القُرطُبيّ) من بَعدِهِ:« يَعني السَّاحرَات اللّائي يَنفُثْن في عُقَد الخَيْط». ومنْ علمَاء اللُّغة نجدُ (الفَرّاءَ) في(مَعاني القُرآن) يَقول: «هُنَّ السّواحِرُ يَنفُثْن سِحْرهُنّ». ومثلهُ قالَ(الزَّجَّاج) و(الكِسَائيّ)، وكذلكَ هيَ في مَعاجم اللُّغة، قال (ابنُ مَنظُور): « النَّفاثَاتُ في العُقَد هُنَّ السَّوَاحرُ». ومثلهُ قالَ(المرتَضَى الزَّبِيديّ)، و(الجَوْهريّ). ومنْ ذهَب إلى هَذا المعنَى، احتَجَّ بأنَّ أَكثَر ما يَكونُ الاشْتِغالُ بالسّحْر في النِّساءِ. قالَ (الطّاهرُ بنُ عاشُور) في تَفسيرهِ (التَّحرير والتّنْوير): «النِّسَاءُ السَّاحِرَاتُ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِصِفَةِ الْـمُؤَنَّثِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنْ يَتَعَاطَى السِّحْرَ النِّسَاءُ».
ومِنَ العُلماءِ منْ وسَّعَ المعْنَى لِيَشْملَ الرِّجال أيْضاً، فقَدّر محذُوفاً هوَ الموصُوفُ. فذَكر أنَّ المقْصُود: (النُّفُوس السَّاحِرَات). إذِ(النُّفُوس) شاملَةٌ للمُذكّر والمؤنَّث. قالَ ذلكَ (الزّمَخْشريّ) و(الرَّازِي) و(الشّوكَانِيّ) وآخرُونَ. وهوَ عندَ(ابنِ القَيّم)،أوضحُ وأبينُ، حيثُ قالَ في (بَدائِعِ الفَوَائدِ):«فإنّ النَّفَّاثات في العُقَد هُنّ: السّواحِرُ اللاتي يعقدْنَ الخيوطَ، وينفثْنَ على كلِّ عقدة...فإن قيل: فالسحرُ يكونُ من الذكور والإناث، فَلِمَ خصَّ الاستعاذةَ منَ الإناثِ دُونَ الذُّكُور؟... والجَوابُ الْـمُحقَّقُ: أنَّ النَّفَّاثات هُنا هنَّ الأرواحُ والأنفس النفَّاثات، لا النساءُ النَّفَّاثَاتُ، لأنَّ تَأثير السِّحر إنَّما هُوَ منْ جِهةِ الأنفُسِ الخَبيـثَة».
فتكونُ(النَّفّاثاتُ) علَى هذَا، صفةٌ لموصوفٍ مَحذوفٍ ، بتَقديرِ: (مِنْ شَرّ النُّفُوس النَّفّاثات). وكانَ (الزَّمخشَريّ) قدْ أضافَ مَعنىً ثالثاً، وهوَ (الجَماعَات)، بما تَضمُّ منْ ذُكُورٍ وإنَاثٍ، تَجتمِعُ علَى هذَا الفِعْل الخَبيثِ، فيَكونُ في اجْتِماعِهمْ مَزيدُ خُبْثٍ وشدَّةُ أذىً. فقالَ في (تَفسِيرهِ) : « النَّفّاثاتُ : النّـساءُ ، أو النُّفُوس، أوِ الجَمَاعَاتُ السَّوَاحر اللَّاتي يَعقِدْنَ عُقَداً في خيُوطٍ ، ويَنفُثْنَ علَيْهَا». و بَـيّــنَ ذلكَ(الرّازيّ) منْ بَعدهِ بَياناً جَليّاً، فقالَ: « وثالِـثُـها : الْـمُرادُ منهَا، (الجَماعَات) . وذلكَ لأنّهُ كلَّمَا كانَ اجْتمَاعُ السَّحَرةِ علَى العَمَل الوَاحدِ أكْثَر، كانَ التَّأثيرُ أشَدَّ». فتكونُ (النّفّاثاتُ) على هَذَا، صفةً لموصُوفٍ مَحذوفٍ بتَقديرِ: (مِنْ شَرّ الجَماعَات النّفّاثَات). وهوَ ما ذهبَ إليهِ، جَمْعاً لهَا، الشّيخُ(مُحمّد الأمين الشَّنقِيطيّ) في (أَضوَاء البَيَان)، بقولهِ عنِ(النّفّاثَات): «الـمُرَادُ بهِ السَّحَرةُ قَطعاً، سواءٌ كانَ النَّفثُ منَ النّساءِ كمَا هوَ ظاهرُ اللَّفظِ ، أو مِنَ الرّجالِ علَى مَعنَى الجَماعَات ، أو النّفُوس الشّرّيرَة، فَتشْمَل النَّوعَيْن».
لكنَّ المتأمِّل في هَذهِ الكَلِمةِ، يجدُ أنَّ مُفْردَهَا الَّذِي هُوَ: (نَفَّاثَةٌ)،على هَذَا الوَزنِ:(فَعَّالَة)، يَحْتَمِلُ عدَّةَ معانٍ، منها ثَلاثَةُ مَعَانٍ كَثِير وُرُودُهَا:
1-فَعَّالَةٌ: باعتبارها صِفَة لِـمُؤَنثٍ عَلى صيغَة المُبَالغَةِ، مُذَكَّرُها (فَعَّالٌ)،فتكون (التاء)للتَّأنيثِ، و دَخلَت للْفَرقِ، كمَا تَقُول (صَوَّام وصَوَّامَة – لَوَّام و لَوَّامَة ).
2- فَعَّالَةٌ: صفةٌ لمذَكَّر علَى المبَالغَةِ المُضَاعَفَة؛ أيْ: المبَالغَة باعتِمَاد الصِّيغَة (فَعَّال)، والمبَالغَة بإضَافَة(التَّاء المربُوطَة)،لتَأكيدِ المبَالغَة لا للتَّأنيثِ . كَمَا تَقُولُ (رجل عَلَّامَة وَفَهَّامَة وَنَسَّابَة).
3- فَعَّالَةٌ: اسْمٌ دَالٌّ عَلَى جمْعِ؛ كمَا تَقُول (خَيَّالةٌ وسَيَّارَة وَحَصَّادَة)،بمَعْنى جمَاعَةٌ يسِيرُونَ أَوْ يَحْصُدُون. ومنها ما جَاءَ فِي سُورةِ (يُوسُف)،في قَوْلهِ تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾، أيْ جَاءَ جَمَاعَةٌ يسِيرُونَ.
وأنتَ إذَا أَوليْتَ الأمْرَ فَضلَ تدَبُّرٍ ونَظَرٍ، انْكشَفَ لكَ مَعنىً بَديعٌ ، يَبدُو أقْربَ إلى الإحَاطَةِ بالمعْنَى المرَجّح في هذهِ الآيَة، دُونَ تَقديرِ مَحذُوفٍ. ذلكَ هوَ اعْتبَار (النَّفّاثات) جمْعاً لـــ(نَفَّاثَة) علَى المبَالَغةِ الجَامعَة للمُذكَّر معَ المؤَنّث. فتكونُ (التّاء المربُوطةُ) قدْ دَخلَت لتَأكيدِ المبالغَةِ، الّتي أُسِّسَ لهَا أَصْلاً في بنَاءِ الصِّيغَة(فَعَّال). وعَلَى هَذا فإنّ كلمةَ (نفّاثَة) الَّتي تُجْمعُ علَى (نَفَّاثَات)، كَلمةٌ يُوصَف بِهَا المذَكّرُ والمؤَنَّث على السَّواء. فتَقُول (رجُلٌ نَفَّاثةٌ وامْرَأَةٌ نَفَّاثَةٌ)، كمَا تَقُولُ (رجُل عَلَّامَة وَامْرأَةٌ عَلَّامَة): قَالَ ابْنُ جِنّي في(الخَصَائِص) في: (بَابٌ في الشَّيْءِ يَرِدُ مَعَ نَظيرهِ مَوْرِدَهُ مَعَ نَقِيضِهِ): «مِنها اجْتِمَاعُ المذَكَّر والمؤَنَّث في الصِّفَةِ المؤَنَّثةِ، نَحْوُ (رَجُل عَلَّامَة وَامْرأَةٌ عَلَّامَة) ... وذَلك لأَنَّ الهَاءَ لَمْ تَلحَقْ لِتَأْنيثِ الموصُوفِ بمَا هيَ فيهِ، وإنَّما لحِقَتْ لإِعْلامِ السَّامِعِ أنَّ الـمَوْصُوفَ بمَا هيَ فيهِ، قَدْ بَلغَ الغايَةَ وَالنَّهايَة. فجَعَلَ تَأنيثَ الصِّفَة،أَمارَةً لما أُريدَ منْ تَأنيثِ الغَايَة والمبَالغَة. وسوَاءٌ كانَ ذلكَ الموصُوفُ بتِلْكَ الصِّفَة مُذكّراً أمْ مُؤنَّثًا».
لذلكَ يُمكنُ أنْ تُدركَ أنّ هَهُنا فرقاً بينَ أنْ تقولَ: (رَجُلٌ عَلَّامٌ، وامْرأَةٌ عَلّامَةٌ)،و بَيْنَ قوْلكَ: (رَجُلٌ عَلَّامَةٌ وامْرَأَةٌ عَلَّامَةٌ)،فالقَولُ الأوّلُ، إنّمَا حصَلَتِ المبَالغَةُ فيهِ من جهَةِ الصِّيغَة، والتَّاءُ فيهِ للتَّأنيثِ، لذلكَ تَميّزَ المذكَّرُ عنِ المؤَنّث. بينَمَا القولُ الثّاني، اسْتَوى فيهِ المذَكّر والمؤَنّث، وحَصلَتْ فيهِ المبالغَةُ منْ جِهتَـــيْـــن؛ همَا الصِّيغَةُ الصرْفيّةُ، وزيَادةُ التَّاء المربُوطَة.
فتِلْك الهَاءُ (أي التَّاء المربُوطَةِ)، تَدُلّ في هذِهِ الكَلِمَات عَلى الْـمُبَالغَةِ. وهي بِذَلِكَ تُجْمعُ جَمْعَ مُؤنثٍ سَالم. فَتقُول: (رجَالٌ نَفَّاثَاتٌ) كمَا تقُولُ: (نِساءٌ نَفَّاثَاتٌ). جَاءَ في (لسَان العَرَب): « وَتَقُولُ عنْدي ثَلاثَةُ نَسَّابَاتٍ وعَلَّامَاتٍ،تُرِيدُ ثَلاثَة رَجَالٍ». فهيَ تُجْمعُ كمَا تُجمعُ(فاطمَة على فَاطمَات)، و(حَمْزة وطلْحَة على حَمْزاتٍ وطلْحَاتٍ) .ولا تَقُول (حَمْزُون ولا طلْحُون)، كمَا تَقُول(مُحمّدُون وزيْدُون)،في جمْعِ (مُحمّد وزيْد).وبذَلكَ جاءَ القِياسُ والنَّقلُ جَميعاً. قالَ(عُبَيْدُ اللهِ بنُ قيْس الرُّقيَّات)، يَرثي (طَلحَةَ بنِ عَبدِ اللهِ الخُزَاعيّ):
رَحِمَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا *** بِسِجْسْتَانَ طَلْحَة الطَّلْحَاتِ
وهَكَذا يَكُونُ لَفْظُ (النَّفَّاثَاتِ) فِي هَذِهِ الآيَةِ، دَالّا بصيغَتِهِ الصَّرْفِيَّةَ علَى المؤنَّث والمذَكَّرِ سَواءً بسواءٍ. إذْ كانَ مُفردُهُ(نَفَّاثَة)، وهوَ وَزنٌ يَشتَركُ فيهِ المذَكّر والمؤَنَّث. وممّا يُستَأنسُ بهِ في هذَا السِّيَاق، مَا ذكرَهُ (الطّبَريّ) في (تَفسيره) بقولِهِ عنِ(الحَسن البَصريّ):«حَدَّثنَا(ابْنُ بَشّار)،قالَ: ثَنَا(ابْنُ أَبي عَدِيّ)،عنْ(عَوْف)،عنِ(الحَسَن):﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ﴾قالَ:السَّوَاحِرُ والسَّحَرَة». فجعَلَ (النَّفّاثات)، دالَّةً علَى المؤَنَّث والمذَكّر.
ولمْ نَجدْ فيمَا اجْتَمَع لدَيْنا منْ مَراجِع في هذهِ القَضيَّة، منْ ذهبَ إلى هذَا الوَجهِ منَ الفَهمِ. إلا إشَارَة جاءَت في (التَّفسِير الوَسِيط) ،للشَّيْخ (مُحمَّد سَيّد طَنطاويّ)،حَيثُ قالَ في مَعرضِ تَعليقهِ على قَولٍ فَريدٍ في البَابِ،: « وَقيلَ المرَادُ بــــ(النَّفّاثاتِ في العُقَد): النَّمَّامُونَ الّذينَ يسْعَونَ بينَ النَّاس بالفَسادِ، فيَقطعُونَ مَا أمرَ اللهُ بهِ أن يُوصلَ» .ثمَّ علّقَ على هذَا، بقولهِ: « وعَلى ذلكَ تَكونُ (التَّاءُ) في (النَّفّاثَة) ،للمُبَالغَة، كَعَلَّامَةٍ وَ فَهَّامَةٍ، ولَيْسَتْ للتَّأْنِيثِ».
وقولُهُ (قِيلَ)، فيهَا إِلْـمَاحٌ إلَى ما وردَ في (تَفسِير الْـمرَاغيّ) للشّيخ(أحْمَد مُصطَفَى الْـمرَاغيّ) حيثُ قالَ: »أَيْ: وَمنْ شَرِّ النّمَّامينَ الّذينَ يَقطعُونَ روَابطَ المحبَّةِ، ويُبَدّدونَ شَملَ المودَّة، وقدْ شَبَّهَ عَمَلهُم بالنَّفْث، وشُبِّهَتْ رَابطةُ الودَادِ بالعُقْدَة، والعَربُ تُسمّي الارْتِبَاط الوَثيقَ بينَ شَيئَيْن عُقدَة، كَما سُمّيَ الارتِباطُ بينَ الزَّوجَيْن: عُقْدَة النِّكَاح». وتَعليقُ الشَّيْخ(الطَّنطَاويّ) بقَولهِ: «وعَلَى ذَلكَ تكونُ (التَّاء) في (النَّفّاثَة) للمُبالغَة، كعَلّامَة وفَهَّامَة، ولَيسَتْ للتَّأنيثِ»،فهمٌ قَريبٌ ممَّا ذَهبْنَا إليْهِ.