أَسْرارُ البَيَانِ في القُرآنِ(26) البَيَانُ في فِعلِ الأمْرِ (ذُوقُوا) في قولهِ تعالَى ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾
و ذَلكَ قولُه تعَالى في سُورَة (الحَجّ): ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾. فَأنتَ تجدُ في الآيَة ثَلاثةَ أَفعالٍ أَساسيّة؛ فعلٌ مضارعُ: (يَخْرُجُوا)، وفعلٌ ماضٍ (أُعيدُوا)، وفعلُ أَمرٍ (ذُوقُوا).أمَّا الفِعْلانِ الأوَّلانِ، فمُترَابِطانِ دَلالِيًّا ونَحويّاً، لأنَّ الثّاني: (أُعيدُوا)، واقعٌ في جوابِ(كُلَّمَا) الّتي جَمعتِ الفِعلَينِ في نَسقٍ واحدٍ. لكنّ الفعلَ الثّالثَ:(ذُوقُوا)،بَدَا غَريباً في مَوقعهِ بعدَ (واو العَطفِ).فبدَا الأمْرُ و كأنّهُ عَطفُ إنشَاءٍ علَى خَبرٍ.
فَإذا تأمّلتَ ذلكَ، أدركْتَ أنَّ الكلامَ انْتقلَ منْ بنيَةٍ صَرفيَّة، لفِعلٍ أُسندَ إلَى ضميرِ الغَائبِ، في الفِعْلينِ الأوّلينِ، إلَى بِنيةٍ صَرفيّةٍ لفعلٍ ذي خِطابٍ مُباشرٍ، بضميرِ المخَاطَب، في الفِعل: (ذُوقُوا). وهَذا الانتِقَال يَسري في خَفاءٍ، يَكادُ لا يُنتبَهُ لهُ ، وذلكَ لقُربِ هذَا التَّصريفِ في الأمْرِ :(ذُوقُوا)، منَ الفعْلِ الماضي:(ذَاقُوا) ،فيَبدُو وكأنَّ العَطفَ علَى طبيعَتهِ: فعلٌ ماضٍ: (ذَاقُوا)، علَى فعلٍ ماضٍ: (أُعيدُوا). ويَسنُدُ ذلكَ دَفْقٌ صَوتيٌّ، يَمضي علَى وقْعٍ واحدٍ، يَصدُرُ عنْ حرفِ مدٍّ واحِدٍ، يتَعاقبُ في الأفعَالِ الثَّلاثَة، فَلا تَسمعُ الأُذنُ إلّا اسْتِطالَةً بالضّمِّ، إذْ تَنتَهي كلّها وقدْ لحقَتْـها (وَاو الجَمَاعَة)، فتبدُو جَميعاً وكَأَنَّها علَى تَصريفٍ واحدٍ.
لكنَّ التّدبُّر وفاحِصَ النّظَر، يكشِفُ عنْ لَفتةٍ بَيانيَّة بَديعةٍ. تكمُنُ في الانْصِرافِ عنْ إِخبارٍ عنِ الغائبِ، إلى خطابٍ مُباشرٍ لِـمَنْ هُو حاضرٌ مُواجَهٌ، بفِعلِ أمرٍ:(ذُوقُوا).وكانَ هذَا الانْصرافُ مُفاجئاً بلا وَاسطةٍ تُمهِّدُ لهُ، وتُنبهُ السَّامعَ إليهِ. فخَلقَ ذلكَ عندَ الْـمُتدبّر تَوتُّراً نَسقيّاً، انكشفَ عنِ انْزِياحٍ بديعٍ ،هوَ انزيَاحٌ نَظميٌّ، وقفَ عندهُ علمَاء البلاغَة طويلاً، وأنزلُوهُ منزلةً ذاتَ ثِقلٍ في الدَّرسِ البَلاغيّ، وعُرفَ بــــ(الِالْتِفَات).وأدخَلهُ(ابنُ الأثِير) في(الْـمَثَل السَّائر) فيمَا سمّاهُ بِــــ(شَجاعَةِ العَربيّة)،وقدْ أخذَ العِبَارة عنِ(ابْنِ جِنّي).فقالَ: «يُسمَّى أَيضاً (شَجاعَةَ العَربيّة)، وإنَّما سُمّيَ بذلكَ؛ لأنّ الشّجاعَةَ هيَ الإقدَامُ، وذلكَ أنَّ الرجلَ الشّجاعَ يَركبُ ما لا يَستطيعُهُ غيرُهُ، ويَتَوَرَّدُ ما لَا يَتَوَرَّدُهُ سِواهُ. وكذلكَ هذَا الالْتِفَاتُ في الكَلامِ». وكانَ قالَ قبلَ ذلكَ عنهُ: «وهذَا النّوعُ ومَا يَليهِ، هوَ خُلاصَةُ عِلمِ البَيَان الَّتي حَوْلَهَا يُدَنْدَنُ، وإلَيهَا تَستَنِدُ البَلاغَةُ، وعَنـها يُعَنْعَنُ.وحَقيقتُهُ مَأخُوذةٌ من الْتِفَاتِ الإِنسَان عنْ يَمِينهِ وشِمَالهِ، فهُوَ يُقبلُ بوَجههِ تارَةً كَذا، وتارَةً كذَا. وكذَلكَ يكونُ هذَا النّوعُ منَ الكلامِ خاصّةً؛ لأنهُ يُنتَقَلُ فيهِ عَن صيغةٍ إلَى صيغَةٍ، كالانْتِقالِ منْ خطابٍ حاضرٍ إلى غائبٍ، أوْ منْ خطابٍ غائبٍ إلى حاضرٍ، أو مِن فعلٍ ماضٍ إلى مُستقبَلٍ، أو منْ مُستقبَل إلى ماضٍ...».
هذَا التَّلوينُ في الأُسلُوب، بالخُرُوج منْ صيغةٍ قدِ استَقرَّ علَيها الذَّوقُ التَّعبيريّ لدَى القَارئ، صَرفاً ونَظماً وصَوتاً، إلى صيغَةٍ تُخالفُ انْتِظارَهُ، وتَنحَرفُ عمَّا يَتوقَّعهُ، يرفَعُ البَيان أشواطاً مَديدةً في الأداءِ البَلاغيّ، ويَرقَى بهِ مُستَوياتٍ في الإبْداعِ والإعْجَاز. ومنْ ثَمّ يكونُ أَبلغَ في التّأثيرِ، و أبعَدَ في الذَّهابِ بالْـمَعنَى إلى أقاصِي الغَاياتِ، وانْفسَاح الدّلالاتِ. ذلكَ أنّه يَستوقفُ القَارئَ الْـمُتدبِّر، فإذَا اسْتوقفَهُ تَدبَّرهُ، وإذا تَدبّرهُ أتْعَبهُ، نَظراً واسْتقْصاءً، فإذَا أتعبَهُ وكشَفَ سرّهُ، نالَتهُ من ذلكَ لذّةٌ ومُتعةٌ، أَعقبَها إشباعٌ فكرِيّ، و سَلامٌ رُوحيّ.
وتَتّضحُ لكَ قوَّةُ الأسلُوب، وبَالغُ أثَرهِ في النَّفسِ، إذا أنتَ قارنتَ هذهِ الآيةَ بمَثيلَتها الّتي جاءَت في سورَة(السَّجدَة)، في قولهِ تعَالى: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنهَا أُعيدُوا فِيهَا وقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾. ذلكَ أنّ الانْتِقالَ هنا منْ ضميرِ الغائِب إلَى المخَاطَب، كانَ جَليّاً سَلِساً، فقدْ كانَ على طَبيعتهِ لا يَستَوقفُ القَارئَ، ولا يَستلزمُ فَضْلَ تأمُّل ولا تدبُّرٍ، لأنّ الفعلَ (قِيلَ) يُمهّد للخِطابِ المبَاشِر ،و وُقُوعهُ بعدَ حرفِ العَطف أَنسَقَ الأُسلُوب علَى وجْهِه، فعطفَ فعلاً ماضياً(قِيلَ)، علَى فعلٍ ماضٍ(أُعِيدُوا).
لذلكَ تجدُ أن المفسِّرينَ الَّذينَ وقفُوا علَى هذهِ الآيةِ من سُورة (الحَجّ)،جَعلوا فيهَا مَحذُوفاً، قَدّروهُ بِــ(يُقالُ لَهُم - تَقُول لهُمُ الملائِكةُ - قِيلَ لهُم ).قالَ (ابنُ عَطِيّةَ) في(المحرَّر الوَجيز): «قَولهُ ﴿وَذُوقُوا﴾، هُنَا مَحذُوفٌ، تَقديرُه: وَيُقالُ لهُمْ ذُوقُوا». وقالَ(السَّمينُ الحلبيُّ) في (الدُّرّ المصُون):«﴿وَذُوقُوا﴾،مَنصوبٌ بقَولٍ مُقدَّر مَعطوفٍ علَى ﴿أُعِيدُوا﴾، أيْ: قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا». وبهذَا التَّقديرِ، نُدركُ أنّ العَطفَ هنَا إنّما هوَ منْ عَطفِ الجُمَل، جاءَ علَى نَسَقهِ: حيثُ يَكونُ الأصلُ: ( أُعيدُوا فيهَا وقِيلَ لهُمْ ذُوقُوا).فيَجتمعُ لنَا منْ هذَا التَّقديرِ نُكتَتان بَلاغيّتَان، تَتجلّيَان في بَلاغَة (الالْتِفات)، مُضافاً إليهَا بَلاغةُ(الحَذْف).
وهَذا التَّقديرُ وردَ صَريحاً في آياتٍ أخْرى،أُظهِرَ فيهَا (القَولُ) باشْتِقاقَاتهِ المختَلفَة؛ كقولهِ تعالَى في سُورَة(يُونُس): ﴿ ثُمَّ قِیلَ للَّذينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ ٱلْخُلْدِ ﴾، وقولهِ عزَّ وجلَّ في سُورَة (سَبَأ) :﴿وَنَقُولُ لِلَّذینَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾. وقولهِ تعالَى في سُورَة (الزُّمَر): ﴿وَ قِیلَ للظَّالِـمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾.
ومنَ الآياتِ الّتي جاءَتْ علَى نسقِ آيَة(الحَجّ)،بهذَا الأسلُوب البَديع في (الالتِفاتِ)،قولُهُ تعالَى في سُورَة(الأنفَال): ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ یَتَوَفّـى ٱلَّذِینَ كَفَرُوا الْـمَلائِكَةُ یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ ٱلْحَرِیقِ﴾،وقولهُ تعَالى في سُورة (الذَّاريَات): ﴿یَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ یُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَـذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾.وقولهُ تعَالى في سُورة(القَمَر)، في ثَلاث آياتٍ مُتَوالياتٍ: ﴿وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَن ضَیْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْیُنَـهُمْ فَذُوقُوا۟ عَذَابِی وَنُذُرِ﴾، ثمّ ﴿وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابࣱ مُّسْتَقِرࣱّ فَذُوقُوا۟ عَذَابِی وَنُذُرِ﴾،ثمّ: ﴿یَوْمَ یُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾. وأخيراً قولهُ تعالَى في سُورَة(النَّبَأ):﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَیْنَـاهُ كِتَاباً فَذُوقُوا فَلَن نَّزِیدَكُم إِلَّا عَذَاباً ﴾.