أَسرَارُ البَيَان في القُرآن(20) البَيانُ في الفِعْل المضارعِ (يَسْتَمِعُونَ) في قَولهِ تعَالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرآنَ ﴾.
و ذَلكَ قولُهُ تعالَى في سُورةِ (الأحْقَاف): ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُنْذِرِينَ﴾. حيثُ يَستَوقفُك الفعْلُ المضارعُ(يَسْتَمِعُونَ)،لِـمَا فيهِ منَ اللَّمَساتِ البَيَانيّة البَديعَة. ولعلّ أول ما يَستلفِتُ فيهِ النَّظرَ، هوَ الضَّميرُ (واوُ الجَمَاعة)، إذْ لهُ عائِدانِ مُحتَمَلان؛ أحَدُهمَا(نَفَراً)، أيْ(نَفَراً يَسْتَمِعُونَ)، والثَّاني(الجِنّ)، أيْ(الجِنّ يَسْتَمِعُونَ).
أمَّا الثَّاني، فقدْ جاءَ علَى طبيعَتهِ النّحويّة؛ إحالةٌ بضَمير جَمعٍ علَى جَمعٍ. لكنَّ (الأوّلَ) فيهِ بَيانٌ زَائدٌ. لأنَّ كلمَةَ(نَفراً)،اسمُ جَمعٍ، فمِن حيثُ لفظُهُ، فهوَ مُفردٌ، وأمَّا منْ حيثُ مَعناهُ، فهوَ دالٌّ علَى الجَمْعِ؛ مثلهُ مثلُ ( قَوْم و رَهْط و جَيْش). فمَنْ ذهبَ إلى لَفظهِ، أَفردَ الضّميرَ في الفِعْل، فَيقولُ:(النّفَرُ يَسْتَمِعُ)، ومَنْ ذهَبَ إلى مَعناهُ، جَعلَ الضَّمير في الفعْلِ جَمعاً فقالَ: (النَّفَرُ يَسْتَمِعُونَ).
ومِثلُها في القُرآن كلمةُ(فِئَة)،قالَ تعالَى: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللهِ﴾، فأَفردَ لهَا الضَّمير: (تُقَاتِل). وقالَ عزَّ وجلَّ:﴿ ولَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ﴾. فأعادَ الضَّميرَ عَليها جمعاً: (يَنْصُرُونَهُ).وقدِ اجتمعَ هذَا التَّنويعُ البَديعُ في الخرُوج من المفرَدِ إلى الجَمع، في قولهِ تعالَى في آيَةٍ واحدةٍ: ﴿ هذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ﴾. حيثُ تجدُ كلمةَ(فَوْج) وقدْ تَلاها وصفٌ مُفردٌ (مُقْتَحِم)، فذهبَ بالمطابَقةِ في الإفْرَادِ، إلى اللَّفْظِ، لأنَّ كلمةَ(فَوْج) اسمُ جَمعٍ، لفظُهُ للمُفرَد ومَعناهُ للجَمْع. فلمَّا أعادَ الضَّميرَ بعدُ، أعادهُ جمْعاً، فقالَ: (بهِمْ)، وقالَ: (إنّهُمْ صَالُوا).
وقدْ أعربُوا(يَستَمعُونَ) بحَسَب ما تَرتَبطُ بهِ، فهيَ جُملةٌ فعليّة في مَحلّ نَصبٍ (نَعتٌ)، إذا رَبطَتَها بــــ(نَفراً)،باعْتِبارهِ نَكرَة، وهيَ جملةٌ فعليَّةٌ في مَحلّ نصبٍ (حَالٌ)، إذَا رَبطتَها بـــ(الجِنّ)،باعْتِبَارهِ مَعرفَة. لكنْ يَستَغلقُ عليكَ شيْءٌ منْ بيَانٍ، يَستَلزمهُ السِّيَاق. فقولهُ تعَالى بَعدَهَا : ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا﴾،يُستفَادُ منهُ أنّ الاسْتِمَاعَ كانَ بعدَ الحُضُور. فكيْفَ انْعقَدَت الحَال في(يَستَمعُونَ) بقولهِ : ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ﴾. والصَّرفُ كانَ قبلَ الحُضُور؟
فَلعلَّكَ أنْ تَستَدركَ في هذَا فتقُولَ: إنَّ (الحَال) قدْ يُخالفُ زَمنُ حُصُولهَا زمنَ عامِلهَا، فقدْ تَتأخّرُ عنهُ، فتكونُ مُنتَظرَةً، ويكونُ حُدُوثُها مُقدَّراً في المسْتَقْبَل. وهيَ الَّتي سمّوهَا(الحَال الْـمُقَدَّرَة)، في مُقابِلِ(الحَال الْـمُقَارِنَة). قالَ (جَمالُ الدّين الفَاكِهَانيّ) في (شَرْح الحُدُود في النَّحْو): «حَدّ الْـمُقَدَّرَة: هيَ الَّتي يَكونُ حُصُولُ مَضْمونِـها مُتَأخِّراً عنْ حُصُول مَضمُون عامِلِهَا». ومنْ أمْثِلتهَا مَا ساقهُ (ابنُ الشَّجَريّ) في (الأَمَالي) حيثُ قالَ:«ومنَ الحَالِ المقَدَّرَة في التَّنزيلِ قولُه ﴿طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ أَرَادَ: مُقَدِّرينَ الخُلُودَ، ومِثلُه ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾، أيْ: مُقَدّرينَ التّحليقَ والتَّقصيرَ». فكذلكَ الحالُ هُنا؛ يكُونُ زَمنُ (الاسْتِماعِ) مُتأخِّراً عنْ زمَن العَاملِ الّذي هوَ (صَرَفْنَا). وكأنَّ الكلامَ: (صَرَفنا نَفَراً منَ الجِنِّ مُقدِّرينَ الاسْتِماعَ حينَ حُضُورهِمْ).
هذهِ الوَقفةُ التّدبُّريّة، تُفضي بكَ إلى وَجهٍ منَ البَيانِ في الغَايةِ من الدِّقَّة واللَّطافَة، يَنكشفُ لكَ عنْ خَفاءٍ ،بمَزيدِ تَدبُّرٍ وفَضْلِ نَظَر. ذلكَ أنَّ الفعلَ (يَسْتَمِعُونَ)، وهوَ مِن (اسْتَمَعَ) علَى وَزن(افْتَعَلَ)، يُمكِنُ صرفُهُ إلَى مَعنَى (اسْتَفْعَلَ)، أيْ طَلَبَ حُصُولَ الفِعْل. وهوَ مَعنىً تَــتّــسعُ لهُ هذهِ الصِّيغَة ،إلى جانِبِ المشهُور منهَا، كَمَعنَى(الْـمُطاوَعَة) و(الاتِّخَاذ)،و(التَّكلُّف).جاءَ في (لسَانِ العَرَب): «اِرْتَزَقَهُ واسْتَرْزَقَهُ: طَلَبَ منهُ الرِّزْقَ». وكذلكَ هوَ في(الْمُحكَم) (لابْنِ سِيدَهْ)، و(تَاج العَروس)(للمُرتَضَى الزَّبيدِيّ).
وممَّا يُستأنسُ بهِ هُنا قَولُ (أبي حَيَّان) في (البَحْرِ المحِيط) عن (اعْتَصَمَ واسْتَعْصَمَ)،وهوَ قولهُ في مَعرضِ تَفسيرهِ لقولهِ تعَالى:﴿فاقْتُلُوا أَنفُسَكُم﴾، حيثُ قالَ: «ويكُونُ مِمّا جاءتْ فيهِ (افْتَعَلَ) بمَعنَى (اسْتَفْعَلَ) ، وهوَ أَحدُ الْـمَعاني الَّتي جاءَتْ لهَا (افْتَعَلَ) ، وذلكَ نحوُ : (اعْتَصَمَ وَاسْتَعْصَمَ)».
وعليهِ يكونُ وجهُ المعنَى في هذهِ الآيَة: (صَرَفْنَا إليْكَ نَفَراً منَ الجِنِّ منْ صِفتِهمْ أنَّهُم يَطلُبُونَ سمَاعَ القُرآن). قالَ (البِقاعِي) في(نَظمِ الدُّرَر): «ثمَّ وَصفَهُم بقولهِ: ﴿ يسْتَمعُونَ القُرآنَ ﴾،أيْ يَطلُبُونَ سَمَاع الذِّكْر الجَامِع لكُلِّ خَيْرٍ». فهَؤلاءِ النَّفَر منَ الجنّ، وصلَ إلَى عِلمِهمْ نُزُولُ كتابٍ منْ بَعد (مُوسى) عليهِ السَّلام، فخَرجُوا يلتَمسُونَ خبرهُ منْ بَعيدٍ، باحِثينَ طالِبينَ سَماعَهُ. وإن شئتَ قُلتَ: (يَستَمِعُونَ أوْ يَسْتَسْمِعُونَ). فَصَرفهمُ اللهُ تعالَى، ووجّهَهُم إلَى النَّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فَحضروهُ بوَادي (نَخلَةَ) عندَ انْصرافِهِ منَ (الطَّائِف) كما جاءَ في الآثَار. فكانَ (الاسْتِماعُ)منهمْ، فِعْلاً حاصلاً، وتَحقَّق حُضُورا. وهوَ قولهُ تعالَى: ﴿فَلَمَّا حَضرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا﴾.
كمَا يَنكشِفُ لكَ معنىً آخرُ في الآيَة، قَريبٌ من هَذا، فيهِ قصدٌ وطلَب ، لكنْ ليسَ على بنَاء الصِّيغَة، وإِنَّمَا علَى البنيَة التّركيبيّة والوَظيفِيّة للجُملَة. وذلكَ إذَا اعْتبَرنا أنَّ الفعْلَ (يَسْتَمِعُونَ) كانَ في الأصْلِ(لِيَسْتَمِعُوا)،بدُخُول (لامِ التَّعْلِيل) عَليهِ، ونصْبِهِ(بأنْ مُضمَرَة)،فلَمَّا حُذفَتْ منهُ، ارْتَفَعَ الفعْلُ، فَظهرَت(نُونُ الرَّفْع). فيَكُون المعْنَى: (صَرَفنَا إليكَ نَفَراً منَ الجنِّ لِيَسْتَمعُوا القُرْآنَ).
وذلكَ مثلُ ما جاءَ في قولهِ تعالَى في سُورَة (المدَّثّر) : ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾. قالَ(الرَّازيّ) في تَفْسِيرهِ: «أَنْ يَكونَ التَّقْدِيرُ: وَلَا تَمْنُنْ لِتَسْتَكْثِـــرَ، فتُنْزَعُ اللَّامُ فَيَرتَفِعُ». وكأَنَّ الوَجْهَ فيهِ أنَّهُ يُصرَفُ مَصرِفَ المفعُولِ لأَجْلهِ. وذلكَ ما بيّنَه بجَلاءٍ الشّيخُ الأستاذ (الطَّاهِر بنُ عَاشُور) في (التَّحريرِ والتَّنوِير) حيثُ قالَ: « وجُملَةُ ﴿يَستَمعُونَ القُرآنَ﴾،في مَوضعِ (الحَال) منَ (الجنِّ)، وحيثُ كانتِ الحالُ قيداً لِعامِلِها وهوَ ﴿صَرَفْنَا ﴾ كانَ التَّقْدِيرُ: يَسْتَمعونَ منْكَ إذا حَضَرُوا لَديكَ، فصارَ ذلكَ مُؤدِّياً مُؤَدَّى الْـمَفعُولِ لأَجْلِهِ. فالمعْنَى: صَرَفنَاهُم إليْكَ لِيَستَمِعُوا القُرْآنَ».
ونفسُ المعْنَى ذَهبَ إليهِ(الصُّحَاريّ) في(الإبَانَة في اللُّغَة العَربيَّة) حيثُ قالَ: «وقَالَ اللهُ تعَالى ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ ، مَجازُهُ: لِيَسْتَمِعُوا، فَرَفَعَ لِفُقْدَانِ (لَام كَيْ)». وممَّا مَثّلُوا بهِ عنِ ارْتِفاعِ المضَارعِ بسَببِ حَذفِ النّاصبِ، قولُ(طرَفةَ بنِ العَبْد):
أَلَا أَيُّــــهَذَا الزَّاجِـــري أَحْضُر الْوَغَــــــى *** وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
فالبيتُ يُروَى بِنَصبِ(أَحْضُرَ) علَى تَقديرِ حرفِ النَّصْب(أَنْ)،الَّتي حُذفَتْ لَفظاً لكنَّهَا مَنْويَّةٌ، فبَقِيَ عَمَلُهَا، والفِعْلُ مَنصوبٌ بِـها. ويُروَى بِرَفعِها(أَحْضُرُ)، عَلى حَذفِ(أَنْ) لَفظاً ونِيَّةً، فارْتَفَع الفعْلُ، لخُلُوِّهِ منَ النَّاصِبِ والجَازمِ.
ومنَ الآيَات الّتي جاءَتْ علَى نَفسِ النَّظْمِ، قولهُ تعالَى في سُورَة(الإنْسَان): ﴿إنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾. فالفعْلُ المضارعُ (نَبْتَلِيهِ)،يُقدّرُ فيهِ (لامُ التَّعْلِيلِ)، الَّتي حُذِفتْ فَارتَفَعَ الفعلُ. قالَ(ابنُ الجَوزيّ) في(زَاد المسِير): «قولهُ تَعَالى: ﴿نَبْتَلِيهِ ﴾،قالَ (الفَرّاءُ): هَذا مُقدَّمٌ، ومَعناهُ التَّأخيرُ، لأنّ المعْنَى: خَلَقْنَاهُ وجَعلناهُ سَميعاً بَصيراً لِنَبْتَلِيَهُ. قالَ (الزَّجّاج): المعنَى: جعَلناهُ كذَلكَ لِنَخْتَبِرَهُ.». وقالَ (الرّازيّ) في(مَفاتيحِ الغَيبِ):«والمعْنَى فَجَعلنـاهُ سَميعاً بَصيراً لِنَـــبْـــتَـــلِيَهُ ».
وهكَذَا تَأسَركَ رَوعَةُ هذَا البيانِ، في الامْتِدادِ الدَّلاليّ الفَسيحِ منْ كلمَةٍ واحدةٍ (يَستَمعُونَ)، فتقفُ مبْـهُوراً أمامَ هذَا الغَيضِ منْ فَيضِ الأسْرار البيانيّةِ، الَّتي أوْدَعَها اللهُ تعالَى في كتابهِ العزيز، فأعْجَزَ الخلقَ بيانُهُ، فَلا تَنْقضِي عجائبُهُ، ولا يَطالُهُ الخَلَقُ علَى كَثرَة الرَّدّ، ولَا يَشبَعُ منهُ العُلمَاء؛ ﴿تَنزيلٌ منْ حَكيمٍ حَمِيدٍ﴾.