وحدة الإحياءدراسات عامة

أهمية الأمثال القرآنية كلون من ألوان الإعجاز القرآني

إن القرآن كتاب الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو معجز في ألفاظه، معجز في معانيه، معجز في مقاصده وغاياته، معجز في تأليف أجزائه وتناسق موضوعاته وترتيب سوره.

وهذا الإعجاز نحسه ونحياه ونتذوقه في كل آية آية، وفي كل سورة سورة، وقصة قصة.

وقد تحدى القرآن الإنس والجن بمعارضته والنسج على منواله، فأعجزهم، قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء: 88). وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (هود: 13-14). وقال سبحانه: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 23-24).

وهذا الإعجاز الواضح في المعاني والألفاظ الواضح في الآيات والسور، واضح كذلك في أسلوب العرض والتقديم، واضح في معالجة المشكلات وحل المعضلات، وهو أيضا واضح في سن المناهج القويمة، وفي تحقيق الغايات النبيلة، فالإعجاز يشع من كل حرف نتلفظ به، ومن كل كلمة ننطق بها وآية نتلوها.

وكان هذا الإعجاز خليقا بأن يحفز الباحثين والعلماء إلى التماسه في جميع وجوه البلاغة القرآنية، وفي أسلوب القرآن المتفرد في التصوير والتعبير، إلا أن الأبحاث التي قامت في هذا الشأن كلها كانت تتسم بميزة واحدة تقريبا، ألا وهي دراسة النصوص القرآنية مجزأة ومنفصلة عن بعضها، في حين يشكل القرآن وحدة كبرى متكاملة، بالإضافة إلى أن كل الدراسات والأبحاث التي قدمت لم تكن في مستوى طموحات المتعطشين المتلهفين لمعرفة أسرار القرآن المعجز، وسبر أغواره، لاكتشاف مكنوناته وخزائنه، ومن هنا يمكن القول أن الأمثال القرآنية هي جزء من هذه القضايا التي لم تلق ما تستحقه من البحث، وإماطة اللثام عن الجانب الإعجازي في القرآن من خلال دراستها، رغم أن "حسن حبنكة الميداني" قام بمحاولة موفقة، حيث حاول أن يدرس هذه الأمثال دراسة منهجية، فدرس بعضها وحللها، وبين خصائصها، ولكنه أهمل قصدا أو عن غير قصد، علاقات المثل بغيره من ألوان البيان، كما أغفل أن يبين وجوه الإعجاز في الأمثال القرآنية، وهذا ما سنحاول أن نشير إليه إشارة خفيفة.

- إن الأمثال القرآنية تعتبر صورا فنية رائعة تختلف فيها الظلال والألوان إشراقا وتنوعا، وتتغير فيها الحركات سرعة وبطءا حسب موضع مضرب المثل، وغايته والغرض منه.

- والذي يتتبع هذه الأمثال في تنوعها وطرق عرضها سوف يبهره ما يجده فيها من ألوان الإعجاز وضروب البيان.

- الأمثال تخاطب النفوس: فهي مرآة تنعكس عليها حياتنا الباطنية التي تحجبها عنا مشاغل الحياة. فإذا نظر الإنسان إلى تلك المرآة انكشفت له الحقائق، وتبين له الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، فيأخذ لنفسه مسلكا يخرجه من ضيق ما هو فيه.

- الأمثال خطاب النفوس المفضل: انظر إلى تصوير الله تعالى للحياة في سرعة زوالها وانقضائها حتى لا يغتر الإنسان بما هو زائل وينصرف عما هو دائم باق، قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا. الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (الكهف: 45-46)، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(يونس: 24) إلى غير ذلك من الأمثال المضروبة في هذا الشأن كقوله: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (الحديد: 20).

لقد صور القرآن الكريم مشهد الحياة القصيرة تصويرا متحركا رائعا. وهي تطوي المراحل بسرعة فائقة يعقب بعضها بعضا.

وهي تأخذ من كل مرحلة ما يناسبها من الألوان والظلال، فكل صورة لمرحلة من المراحل لا تشبه الأخرى. عند قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ (يونس: 24) ذكر السيوطي فيه عشر جمل وقع التركيب في مجموعها، بحيث لو سقط منها شيء اختل التشبيه. قال الدكتور صبحي الصالح[1]: [وإنه ليعنينا أن نقف قليلا عند تشبيه الحياة الدنيا، فلقد أصاب السيوطي في استخلاص وجه الشبه وتقسيمه هذا التركيب القرآني إلى عشر جمل، أما موضوع الجمال الحقيقي في هذا المشهد، مشهد الحياة القصيرة التي توشك أن تزول، فلم يتتبع السيوطي في تنسيق الجمل العشر، والصور التي تطويها كل جملة منها في أوقات يتفاوت عرضها الخيالي طولا وقصرا، لأن هذا التفاوت في العرض الخيالي، تبعا لمراحل المشهد المصور، لم يكن جزءا من التشبيه المركب، فما على السيوطي إلا أن يتذكر المعنى العام للآية، وقد وفق فيه وأجاد، وإن علينا نحن أن نشير إلى المراحل التي أبطأ فيها التصوير وتمهل، أو التي اندفع وأسرع، حتى تم لهذا المشهد القرآني من الإعجاز بالألفاظ الجامدة، مالا يتم من الإبداع بالريشة والألوان.

لقد استخدمت في هذا المشهد الوسائل المقصرة لعرض مراحل النبات: فالفاء التعقيبية تطوي المشاهد بسرعة عظيمة: ما كاد الماء ينزل من السماء حتى اختلط به نبات الأرض مباشرة، وأصبح فجأة في متناول الناس يأكلونه، والأنعام تتمتع به...

ولكن أهل هذه الأرض المتمتعين بنباتها يمتد بهم الغرور... فاستخدمت "حتى" الدالة على امتداد الصور امتدادا يعرف أوله ويجهل منتهاه، وتتعاقب أوصاف الغرور الإنساني...

أما الأرض فشخصت مرتين، وقامت بحركتين، إذ أخذت بنفسها زخرفها كما تفعل العروس.. وتطلبت الزينة تطلبا، وسعت إليها سعيا، فلم تزين، ولكن أزينت... وأما أهل الأرض فانتفخت أوداجهم زهوا واختيالا... وهذه الآماد الطوال كلها ليست إلا ومضات خيالية تزول كما تزول الأطياف، ففي لحظة من ليل أو نهار يأتي تلك الأرض أمر الله، فيطوي تلك الأخيلة الكواذب، وفي وقت كلمح البصر بل هو أقرب... ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ (يونس: 24)[2].

وانظر إلى تصوير الله تعالى لمحمد، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بقوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح: 29).

فوصف الله، سبحانه، نبيه ورسوله وأصحابه بأوصاف كثيرة ومتنوعة، وصف شدة بطشهم بالعداء، وتراحمهم فيما بينهم، وسعيهم لابتغاء مرضاة الله بالعبادة والتسبيح والتهجد، تعرفهم بشاراتهم "من اثر السجود"، وشبههم في الإنجيل بالزرع في مراحل نموه، يكون نباتا ضعيفا، ثم يتكاثر بسرعة فائقة، ويعظم نبته ويشتد ساقه، ولم يغفل النظم الكريم وصف نفوس المومنين وابتهاجها بأعمالها، كما يعجب النبات الزراع، وقوله تعالى: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ وصف لنفسية كل كافر ملحد. فهذا التصوير الفني الرائع نجده في كل أمثال القرآن الكريم، وانظر قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ (البقرة: 275) انظر إلى هذا التصوير الدقيق الرائع، وقوله تعالى في تشبيه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفي المقابل تشبيه الكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة، وتصوير الإنفاق في سبيل الله بالجنة التي تنبت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، وفي تصوير الله للمنافق، كالزراع "على صفوان عليه تراب، وأصابه وابل، فتركه صلدا" الخ...

فكل الأمثال القرآنية تتسم بصفة التصوير الدقيق المتحرك، والمبرز لخفايا النفوس.

أما الإعجاز القرآني فواضح في أمثاله أشد ما يكون الوضوح، واضح في مبناها، واضح في الأساليب المتبعة في صوغها، واضح في الأغراض التي ترمي إليها.

وأصحاب النفوس الصافية والعقول المشرقة قد يدركون من الأسرار والأنوار القرآنية ما لا يدرك بتقعيد القواعد وحدها. فلابد لإدراك أسرار القرآن من الصفاء الروحي والاندماج مع النصوص، عند التلاوة، وإمعان النظر، والله تعالى الموفق، وهو اعلم بمن اتقى.

أهمية الأمثال كوسيلة في الدعوة إلى الله:

إن الدعوة إلى الله تحتاج، من الداعي، إلى المعرفة بنفوس المخاطبين، والضرب بنبرات خاصة على الأوتار الحساسة للأرواح الشاردة، وإلى استخدام الأساليب المختلفة، حسب ما يقتضيه المقام، وحالة نفس المخاطب. فما يصلح لهذه قد لا يصلح لتلك، إذ النفوس البشرية أشبه ما تكون بعينات مختلفة من التربة، ولكل عينة منها مميزات وخصائص تختلف فيها عن غيرها، ولكل منها قابليات متميزة. فما يصلح في هذه ويعطي العطاء الجيد قد يضعف في أخرى، ويكون عديم الفائدة في غيرها، وهكذا.

ولما كانت الأمثال القرآنية متنوعة في موضوعاتها وفي أغراضها، وفي أساليبها وطريقة عرضها ومعالجتها للقضايا، كانت الأمثال أفضل ما يعين الداعية على أداء مهمته، فالأمثال القرآنية تشكل لوحات فنية ترصع كتاب الله، عز وجل، وهي مختلفة الظلال، متنوعة الألوان والطيوف، متباينة الأغراض والمقاصد، متعددة الحكام، لكل منها طعمه الخاص، ولونه المتميز وغرضه، وله أسلوبه وتأثيره.

ولما كانت هذه الأمثال تتضمن مقارنة النظير بنظيره، وقياس الشيء على شبيهه وإعطاء حكم المثل لمثيله، ولما كانت الأمثال حججا مقنعة، تساق معززة بشواهد من الماضي، وسرد حوادث الغابرين من الأمم البائدة، وما أصابهم من خير أو شر، بسبب ما قدموا من أعمال، لذلك كانت الأمثال القرآنية أعون شيء للداعية على مهمته، إذ لا شيء يسبر أغوار النفس الإنسانية كالأمثال، فيدغدغ مشاعرها، ويهز إحساسها، ويخاطبها بما يخالجها، فيفك أسرها، ويرشد ضالها.

قال أحمد غلوش: "يشير الحكيم الترمذي إلى أهمية الأمثال القرآنية، فيذكر أن الإنسان مركب من حواسه التي تقدم له الحقائق المدركة بها، والنفس لهذا النوع من الإدراك أكثر إلفا وأقوى اقتناعا...

والإنسان مركب كذلك من العقل، وتأتيه معرفة يدركها ببصيرته لا ببصره، وإيمان النفس بهذه المعرفة أضعف من سابقتها، ولذلك جاءت الأمثال تخاطب النفس بوسيلة كأنها محسوسة، وليست كذلك. فتكون كمن ينظر في المرآة فيبصر وجهه، ويبصر من خلفه، فيدرك الذي غاب عنه، وكذلك تسكن النفس وتنقاد للقلب، وتعيش في كنف الخير والهدى.

واعلم أن التمثيل أقوى وسيلة لتسخير الوهم للعقل، وتفهيم النفس برفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية، وإبرازها في معرض المحسوسات الجلية، وقد اتفق العقلاء على أن مجيء التمثيل في أعقاب المعاني يكسوها أبهة وقدرا، ويحرك القلوب نحوها.

فإن كانت مدحا كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس، وأعظم وأهز للعطف، وأسرع للإلف، وإن كان ذما كان مسه أوجع، وإن كان حججا كان برهانه أنور وبيانه أبهر، وإن كان وعظا كان أدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر أن يجلى الغاية، ويبصر بالمراد. [هذا هو المثل القرآني. أسلوب بياني له تأثيره وقوته][3].

قال الزركشي: "ومن حكمته؛ (أي المثل) تعليم البيان، وهو من خصائص هذه الشريعة، والمثل أعون شيء على البيان، فإن قلت لماذا كان المثل عونا على البيان، وحاصله قياس معنى بشيء، من عرف ذلك المقياس فحقه الاستغناء عن شبيهه، ومن لم يعرفه لم يحدث التشبيه عنده معرفة!

والجواب: إن الحكم والأمثال تصور المعاني تصويرا الأشخاص، فإن الأشخاص والعيان أثبت في الذهان، لاستعانة الذهن فيها بالحواس، بخلاف المعاني المعقولة، فإنها مجردة عن الحس، ولذلك دقت، ولا ينتظم مقصود التشبيه والتمثيل إلا أن يكون المثل المضروب مجربا مسلما عند السامع. وفي ضرب المثال من تقرير المقصود مالا يخفي، إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والشاهد بالغائب"[4].

لهذا كان دور المثال في الوعظ أبلغ وأفيد، واتخاذها وسيلة في الدعوة إلى الله أنجع وأحسن.

(انظر العدد 4 من مجلة الإحياء)

الهوامش:

* قبل سنوات قام الأستاذ هلالي محمد بتقديم بحث لنيل شهادة الدروس المعمقة من شعبة الدراسات الإسلامية – كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، تحت عنوان "المثل في القرآن" تحت إشراف الأستاذ الشاهد البوشيخي، وختم بحثه بالموضوع الذي ننشره اليوم، تشجيعا له على مواصلة الاهتمام بنفس الموضوع.

  1. صبحي صالح، مباحث في علوم القرآن، بيروت: دار العلم للملايين، ط9، 1977 ص: 322 وما بعدها.
  2. المرجع نفسه، ص: 322 وما بعدها ملخصا.
  3. مقالة للدكتور أحمد غلوش بعنوان "من وسائل القرآن الكريم في الدعوة" – المثل – مجلة منبر الإسلام عدد 4 السنة 37 مارس 1979.
  4. الزركشي، البرهان في علوم القرآن، بيروت: دار الكتب العلمية–لبنان، ط1، (1408هـ/1988م) ج1، ص: 572 وما بعدها.
Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق