مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

أهل الباطن وإبطال دعوى الذاتية والغموض

د. طارق العلمي      

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

    إذا كان حقا أن في تسمية «أهل الباطن»[1] ما يدل على طريق الصوفية في معاناة الأشياء معاناة داخلية، وفي صرف العبارات عن معانيها الظاهرة إلى معان أخرى، خفية، فقد أسيء استعمالها من لدن البعض، حتى صاروا يدلون بها على اختيار طريق الذاتية المتسيبة وطريق الغموض المتكلف.

إبطال دعوى الذاتية.

    لا يقف أهل الغرة في مقصودهم ب «الذاتية» عند حدود الدلالة بهذا المفهوم على أهل الباطن يكابدون المعنى الذي يدركونه، بكلية جوانحهم، وإنما تجاوزا هذا إلى ادعاء أن المعنى المدرك لهؤلاء لا يمكن تبليغه للغير على الإطلاق لخلوه التام من كل ضوابط التصور الموضوعي.

لو تذكرنا ما قيل بصدد العقل المؤيد من أنه يطوي في نفسه قيم التسديد ومعايير التجريد بعد تحويلها مرتين وتشكلها مرتين، لا تضح لنا أن ما يقال له «الموضوعية» ليس إلا عملية انتقائية وتجزيئية يجريها العقل المجرد في صلب المعنى الذي يدركه المتحقق، والذي يرد في سياق التأثر بقيم العمل، بل بقيم الاستغراق فيه، فليس معيار الموضوعية مقطوعا بالكلية عن تجربة المتحقق، بقدر ما يظهر فيها متلونا بمعايير عملية وبأخرى فوقها أكثر منها تغلغلا في العمل، لا ينفك عن هذه ولا تلك إلا بعمليات وقرارات اصطناعية. وإذا صح أن «الموضوعية» مشتقة بأساليب الاشتغال التجريدي من المعنى المدرك في التجربة الصوفية، فأي الأمرين أولى بالتقديم والاعتبار، أهو الموضوعية المجردة أم التجربة المؤيدة، لا سيما إذا ثبت أن لهذه التجربة موضوعيتها الخاصة؟  

    نعلم أن المتحقق لا يبتغي بتجربته إدراك صفات الأشياء كالنظر المجرد، وإنما إدراك ذواتها وحقائقها، ولا يتأتى له ذلك إلا بإيجاد وسيلة على قدر هذا القصد، فينبغي أن تكون أقوى من الموضوعية المجردة التي لا تناسب إلا الأوصاف، وإذا نحن تذكرنا ما قيل بصدد الإدراك الذي يطلبه الصوفي، علمنا أنه لا يحصل إدراك أعيان الأشياء إلا بواسطة إدراك «التبعية الأصلية». وواضح أنه ليس شيء أشمل ولا أكمل من إدراك هذه «التبعية الأصلية»، ولا أوفى بشروط المعرفة الصحيحة وبضوابط الموضوعية السليمة، ومن كان له حظ فيه، فكيف يفوته إدراك موضوعية مجردة جزئية ومتعثرة هي، على الأصح، تبعية مصطعنة غايتها المنازعة.

    وعليه، فالتجربة الباطنية عند الصوفي لا يستفاد منها قط الانفعال المتصرف بالتشهي والتبخيث، وإنما التزود بمعايير عملية حية دالة على التبعية الأصلية، يعمد صاحب العقل المجرد إلى محو آثار العمل منها وإخراجها عن دلالتها المباشرة على التبعية الأصلية باصطناع تبعية فرعية يسميها «الموضوعية» تحجبنا في التبعية الأصلية.   

إبطال دعوى الغموض.   

    لا يقف أهل الغرة عند حد اعتبار «الغموض» ناشئا عن الدلالات غير المباشرة للتعبير التي أخذ بها أهل الباطن، وإنما يتعدون ذلك، فينسبونه إلى تحللهم من كل القيود الدلالية، ونفض يدهم من كل الضوابط الخطابية.

ويمكن الاعتراض على هذه الدعوى من جهتي اللغة والتجربة.

    أ-من جهة اللغة، ليست كل دلالة غير مباشرة دلالة غامضة، ولا كل دلالة غامضة دلالة غير مباشرة، حتى يصدق في حق الصوفي أن كلامه مستغلق على الدوام، وليس الانتقال من الدلالة المباشرة إلى الدلالة غير المباشرة عنده انتقالا خارجا من الطرق المعهودة في التخاطب العربي الطبيعي، حتى يعد كلامه ضربا من اللغو والعبث.

    وإنما الذي فات من يدعي غموض العبارة الصوفية هو أن الأساليب العربية التي يتبعها الصوفي في بناء العبارة وتوليد الدلالة، ليس مما ألفوه في ممارستهم العقلية واللغوية. ولا غرابة أن نجد أن أشدهم تحاملا على التعبير الصوفي هم أهل العقل المجرد، لأن بعد هذه الأساليب عن مألوفهم يزيد عما هو عليه عند أهل العقل المسدد، وتشمل هذه الأساليب الاصطلاح والتعبير والتفسير.

    –أما أساليب الاصطلاح، فقد اتبع الصوفية في وضع المصطلح طرق التماثل والتقابل والتدرج، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي: أسلوب تطابق الصيغة مع تباين المضمون والمادة (القبض/البسط)، وأسلوب تطابق الصيغة مع تدرج المضمون وتباين المادة (الشريعة/الطريقة/الحقيقة)، وأسلوب تباين الصيغة وتطابق المادة مع تدرج المضمون (العبادة/العبودية/العبودة).

    –وأما أساليب التعبير، فقد وظف الصوفية بأقصى ما يمكن التوظيف في عباراتهم وإشاراتهم كل الإمكانات التبليغية والوسائل البلاغية من أساليب مراعاة مقتضى الحال، والأخذ بالدلالة الاشتقاقية واللغوية، والتجوز والتشبيه والمقابلة والجناس والطباق والتورية وغيرها.

    –وأساليب التفسير، فقد كانوا يتبعون الأصول اللغوية للألفاظ والدلالات الاشتقاقية للصيغ الواردة فيها، ويتبعون آثار هذه الأصول والدلالات في توجيه الدلالات العرفية والعلمية، كما كانوا يأخذون بأساليب الانتقال والاستدلال المألوفة للناطق العربي.

    وإذا نحن علمنا أن أغلب هذه الأساليب الاصطلاحية والتعبيرية والتفسيرية كالارتباط بالوزن الصرفي والارتباط بالمعنى اللغوي والاشتقاقي والارتباط بالاستدلال الطبيعي يختص بها اللسان العربي بوجه لا يشاركه فيه غيره، أدركنا أن تكون المعاني والإشارات الصوفية واردة في سياق من التقيد والتأثر بالخصوصيات التبليغية للغة العربية، بحيث لا يمكن فهمها حق الفهم من غير استحضار هذا السياق الخاص بتمامه وباستيعاب كامل آلياته. ولما كانت أساليب الاصطلاح والتعبير والتفسير التي يتبعها أهل الممارسة العقلية المجردة، بدعوى أنها تتصف ب «الشمولية» و «البرهانية» و «الموضوعية» تخرج عن هذه الأساليب العربية، فقد صارت حجابا لهم يمنعهم من تبين وجوه الدلالات في العبارات الصوفية، فنسبوا بسبب هذا الحجاب اللغوي الغموض والاستغلاق إليها، بدل أن ينسبوا القصور إلى حسهم اللغوي.

    ب-من جهة التجربة، فإن الحجاب بينها وبين أهل العقل المجرد أعظم، هذا الحجاب الذي يتناول أيضا أهل العقل القرباني، وإن كان بدرجة اقل، لدخولهم في العمل وخروج أولئك عن اعتباره.

   فلو تأملنا في بنية العبارة الصوفية، لوجدناها تقوم على التسليم بمبادئ عامة ثلاثة: أحدها «وجودي»، والآخران «خطابيان».  

    -أما المبدأ الوجودي، فمقتضاه أن التجربة الوجودية لا يمكن نقلها من حيث هي تجربة نقلا لغويا إلا أن تترك أوصاف الوجود –هذا التمايز الذي غاب عن غيره من أهل النظر وأهل السمع- استطاع أن يأخذ بمسالك في التعبير غير مسالك النظر المجرد، مسالك لا تصور الحقيقة ولا تجردها، وإنما تشير إليها وتقربها، وذلك بصرف الألفاظ عن مقتضياتها المألوفة إلى معان أُخر بينها وبين المألوفة قدر من الصلات والمناسبات.

    وباستبدال لغة الإشارات بلغة العبارات، يكون أهل التحقيق وعوا ما لم يعه غيرهم من أهل المقاربة وأهل القربان وهو حقيقة التشبيه الاضطراري والخفي للغة الإنسانية الذي سميناه ب «العورة اللغوية»، وعملوا على مجاوزته والتبصير به. فبدل أن يخفوا هذا التشبيه الملازم للغة على المستمع، حتى يعتقد أن التعبير الملقى إليه، يدل بالحقيقة على معناه، فيسولوا له تجاوز فروق التمايز بين اللغة والوجود، كما هو الشأن عند أهل النظر وأهل السمع، فإنهم يلقون إليه بالتعبير بوصفه لا يدل بالحقيقة وإنما بالمجاز، فيأخذ المستمع حذره ويعتصم بالتنزيه.

– وأما المبدآن الخطابيان اللذان يضبطان العبارة الصوفية فهما التاليان:

    – مقتضى المبدأ الأول أن الكلام المفيد ينبغي أن يوافق مقتضى الحال. فلقد تبنت لنا الحقائق التالية في الممارسة الصوفية وهي: أن الصوفي لا يأتي من الأقوال إلا ما كان موافقا للأعمال، وأن الاجتهاد في الأعمال تنتج عنه تجارب حية تدعى «الأحوال»، وأن الأحوال تقابلها معارف مناسبة لها، يلزم عن هذه الحقائق أن كل عبارة ينطق بها الصوفي تكون موافقة لحال معرفية معينة، وهذا بالذات مقتضى المبدإ الخطابي الأول.

    – مقتضى المبدأ الثاني أن مقامات الكلام متفاوتة. من المعلوم أن التجارب الحية أو الأحوال مراتب متعددة ومتفاوتة فيما بينها، وأن لكل مرتبة من مراتب الحال معرفة خاصة بها، يلزم عن ذلك أن عبارات الصوفية وإشاراتهم تختلف باختلاف أحوالهم المعرفية، وهذا هو مقتضى المبدإ الخطابي الثاني.

    على هذا، تكون شروط الإفادة والوضوح في الكلام الصوفي وفي عموم الخطاب الطبيعي واحدة، بحيث لا يخفى مدلول العبارة فيهما على من يشارك القائل في مقتضى الحال، أو سبق له حصول العلم به، وإنما على من ليس له نصيب من المشاركة في الحال أو من العلم به. فليست إذن عبارة الصوفي بأقل وضوحا ولا أكثر غموضا من عبارة الناطق العادي.

    يترتب على هذا، أن العلة في نسبة الغموض للعبارة الصوفية ليست هي الخرق لمبادئ التخاطب المألوفة فيها، وإنما هي في عدم مشاركة الصوفي في مقتضى حاله، إذ لا يطلع عليه من اكتفى بمقتضيات الحال الخاصة بالنظر المجرد، ولا من اقتصر على مقتضيات الحال الخاصة بمنزلة الدخول في العمل. ومن لم يخرج إلى الاستغراق في العمل ويحصل التجربة، فلابد وأنه واجد الغموض في كل عبارة يلقيها إليه الصوفي، ولو أخرجها هذا له على وجوه متعددة، لأن الغموض ناتج عن تعذر المشاركة في التجربة أو تعذر حصول العلم بها، كما أن من لم يدخل قط في العمل كصاحب العقل المجرد (أو المقارب) لابد وأنه يجد الغموض في العبارة العملية الشرعية لأن مقتضيات حال الاشتغال الشرعي متعذرة عليه.   

هوامــش

[1] طه عبد الرحمن: العمل الديني وتجديد العقل، ص ص: 161-165.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق