مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

أعمال المؤمنين بين إياك نعبد وإياك نستعين

      قال سيدي ابن عطاء الله السكندري: “الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها”

 الأعمال هنا عبارة عن الحركة الجسمانية أو القلبية فهي هنا بمعناها العام، والصور جمع صورة وهو ما يتشخص في الذهن من الكيفيات، والقائمة أي أشباح وأشخاص لا أرواح فيها، فلا نفع بها.

    والروح: اللطيفة الربانية والسر المودع في الحيوانات، وهو هنا عبارة عما يقع به الكمال المعتبر في الأعمال.

    أما الإخلاص فهو إفراد القلب لعبادة الرب، وسره أي لبه وجوهره هو الصدق المعبر عنه بالتبري من الحوال والقوة، إذ لا يتم إلا به وإن صح دونه [1].

    فالأعمال تتفاوت بحسب العاملين، فصورة كل عمل مشاكلة لحالة من صدر عنه ذلك العمل قال تعالى “سيجزيهم وصفهم”

    فمن العاملين من أعوزه وجود الأنوار؛ فعمله صورة بلا روح، ومن العاملين من يقتبس من المشكاة القلبية، وهم الأبرار المستصبحون بمضيئات الأنوار… وكل عمل بلا إخلاص صورة بلا روح، فهؤلاء مقامهم ووصفُ حالهم: “إياك نعبد” [2].

    فالإخلاص رأس مال العبد، والأعمال ربحهُ، فإن عارضت الإخلاصَ عِلَّةٌ تلِفَ الربح، ورأس المال، وصار العبد مفلسا عديما… وأشار بقوله: “قائمة” إلى أن الأعمال في الظاهر مستقيمة، متوفرة الشروط والأركان التي تدرك ويطلع عليها، وأما رُوحُها الذي هو الإخلاص، وهو ركنها الأعظم فسِرٌّ بين العبد وربه، لا يطلع عليه ملك فيكتُبَهُ، ولا شيطان فيفسِدَهُ، فهي كلُّهَا قائِمةٌ /في الظاهر، ولا يلزم من ذلك قبولهُا واعتبارُها، لأنهما دائران مع الروح لا مع قيامِها الظاهر، فلا تعتبِرِ الظاهر في عملك فقط، بل انظر إلى روحِهِ، ويحتمل أن المراد؛ أنها قائمة في الواقع ونفس الأمر، لأنها صور ذات أرواح، وأرواحُها وجود سر الإخلاص فيها، فقيامُها إنما هو به، كما أن قيام الأجساد بأرواحها، فإذا زالت سقطت، وإضافة سر الإخلاص بيانية، فالمراد مطلق الإخلاص الشامل لأنواعه، لا خصوص الأعلى الذي هو الصدق، لأن ما دونه من أنواع الإخلاص معتبَر كاف في تحقق الإخلاص، والعمل المتصف به ذو روح فافهم[3].

    وأما إخلاص المقربين فهو خلاصة الإخلاص، وتحقيق الصدق؛ فإخلاصهم بعدم رؤيتهم نفوسَهم في جميع الأعمال والأحوال، فهم قائمون بالله فانون عنهم، فوصف حالهم وتحقيق مقامهم: “إياك نستعين”[4].

     وفي هذا المعنى قال الشيخ أبي طالب نفعنا الله به في إخلاص المخلصين «هو إخراج الخَلق من معاملة الحق، وأول الخَلق النفس»[5]؛ يعني والله أعلم أن لا يعمل لتكون له مزية عند الخلق، ومن الخَلق نفسُهُ، فلا يعمل لتكون له عند نفسِهِ مزية، وإلا وقع في الرضى عنها. وقوله في إخلاص المحبين: «هو أن لا يعمل عملا لأجل النفس» [6]، لا يريد المعنى الأول حتى يتداخل التقسيم، وإنما المراد والله أعلم أن لا يعمل لنفع نفسه عند الله تعالى بملاحظة الثواب، أو في الدنيا، إذ المحب ليس سعيُهُ لانتفاع نفسِه، بل لإرضاء محبوبه، إنما المحب من يبذل لا من يُبذَل له، وهذا لا يشترَطُ في إخلاص المخلصين، فبانت خصوصية المحبين عنهم. وقوله: «أو تشوف إلى حظ طبع»؛ يعني في الدنيا بالنجاة بعمله، والدفع به عن نفسه، ونيل البركة والحلاوة ونحوهما بسبب [7].

فكم بين العامل بالله مع وجود نفسه، وبين القائم بالله مع غيبته عن نفسه

فالأول: مطالب بالإخلاص يعمل على خروج الخلق عن رؤيته، فهو يترقى في مراقي الإخلاص

والثاني: طالب الخلاص عن شهود نفسه، يتنزه في رياض خلاصه.

فبان لك تنوع أنواع الأعمال بتنوع أجناس الأحوال؛ إلى أبرار يتقربون بأنواع القرب إلى الله، وإلى مقربين يتوصلون بتحقيق الفناء عن أفعالهم وأوصافهم وذواتهم بالله.

    وفي ذلك قال الشيخ باراس الشافعي:

الأعمال أشكال والإخلاص حــــــــــــــالات                   والسابقون لهم فـي القرب حــــــــالات

فــكل حـال لــه فـــي الــعــامـــلـــيــن بــــــه                  تـخليص أعمال أو تحقيق حـــــــــالات

شـــواهــــد ظــهــرت فـي الــعــاملــيــن كما                  ترى فـي العالـم الأعــــــــــــلى دلالات

إخلاص حالات أرباب اليقين لــــــــــهــــــــا                  فـي مشهد العلم تـحقيق الهدايـــــــــــات

وأرواح أجســـاد أعـــمـــال الـــعبـــــاد هـــنا                 كما لأحوال أصـــــحاب المقامـــــــــات [8]

الهوامش :

[1]  ابن عجيبة “إيقاظ الهمم في شرح الحكم” تقديم ومراجعة: محمد أحمد حسب الله، دار المعارف، ص:47 .

[2] علي باراس الكندي الشافعي “شفاء السقم وفتح خزائن الكلم في معاني الحكم” عناية: لجنة إحياء التراث بدار الحاوي، دار الحاوي – بيروت، ط1/2016م، ص:147.

[3] ابن زكري “شرح الحكم العطائية” تحقيق: العلمي طارق (مرقون) ص:136     

[4] “شفاء السقم” لباراس ص: 148 

[5] “إيقاظ الهمم” لابن عجيبة، ص: 51. وهذه القولة ينسب شطرها الأول للحارث المحاسبي، ينظر: “تهذيب الأسرار” للخركوشي، ص:158، و”إحياء علوم الدين” للغزالي، 5/27.

[6] “إيقاظ الهمم” لابن عجيبة، ص:51.

[7] ابن زكري “شرح الحكم العطائية”، ص:137.

[8]  “شفاء السقم” لباراس ص:149.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق