الحلقة السادسة عشر: أحمد ابن الفقيه الجريري البرهوني السلاوي
ذة. رشيدة برياط
أبو العباس الفقيه الجريري من بيوتات سلا الماجدة علما وفضلا ومجدا، من أصل أندلسي، تعاقب فيه رجال أفذاذ عرفوا بالعلم والخيارة، والتقوى والنزاهة، فهو ابن المحقق القاضي الحاج إبراهيم ابن القاضي محمد الجريري البرهوني، تسلسل القضاء في بيتهم، أطبق أهل العصر على مدحه وتعظيمه و...فكان أهل العلم والفضل يقصدون زيارته والتيمن بلقائه....
ولد في شهر رجب الفرد سنة 1277 من والدين كريمين هما العلامة القاضي العدل السيد الحاج إبراهيم الجريري والسيدة خديجة كريمة العلامة المدرس السيد الحسن بن العلامة الكبير القاضي النزيه السيد أحمد ابن بناصر معنينو، ونشأ في بيئة إسلامية جامعة نشأة مثالية لائقة بأمجاده.
وجده العلامة الجليل السيد محمد الذي كان من علماء سلا وعدولها وأفاضلها ووجهائها، ووالد جده العلامة الكبير والقاضي الشهير السيد محمد الذي كان أسند إليه قضاء سلا ونواحيها في حدود سنة 1220. وكان يضرب به المثل في العدل والمساواة بين الخصوم وفي الحفظ والإتقان حتى أنه كان يحفظ مقامات الحريري عن ظهر قلب وسجل في شرحه لقافية ابن الونان الشهيرة المشتمل على مائة كراسة تشهد بعلمه الغزير ومشاركته في كثير من العلوم وأهليته للدخول في زمرة رواد الأدب العربي عن جدارة واستحقاق[1].
تتلمذ المترجم ابن الفقيه على شيوخ سلا أولا، فاستظهر القرآن الكريم على الحاج الحارثي حجي، والناسك المكي بن الفقيه الناظر الحاج محمد الصبيحي، لازمه ملازمة طويلة، والمؤرخ أحمد بن خالد الناصري، والمشارك عبد الله ابن خضراء، والحاج محمد بن عبد السلام ابن الحاج، والعدل الحسن بن إسماعيل، ومحمد بن عثمان زنيبر وغيرهم، ثم رحل إلى فاس رغبة في استكمال معلوماته على شيوخ القرويين ابتداء من سنة 1298- 1302 ، فدرس على شيوخها الكبار، كمحمد بن المدني كنون، والشريف عبد المالك العلوي السجلماسي، والشريف أحمد بن الخياط الزكاري، والبركة محمد بن قاسم القادري، ومحمد بن التهامي الوزاني، وعبد السلام الهواري، والحاج صالح التدلاوي وزير الخليفة بفاس، بذلك العهد وغيرهم[2].
كان رحمه الله إماما من أئمة العلم وشيخا من شيوخ المعرفة وجبلا من جبال الدين التي يعز ظهيرها في كل زمان ومكان، وكان يعطي الدليل العملي على صحة ما نقرؤه في كتب السيرة والتاريخ من أوصاف الصحابة والتابعين والعلماء العاملين أئمة الهدى ومصابيح الدين مشاركا في العلوم الأربعة عشر كلها من تفسير وحديث وسيرة وفقه وتوحيد وتصوف وأدب ولغة وصرف ومعان وبيان وبديع وحتى الجغرافية.
غير أن الذي كان يغلب عليه منها الأصول والفقه والتوحيد والسيرة النبوية والتصوف، لم يبلغ أحد في عصره مبلغه في العمل بالعلم والتفاني في التشبت بتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم تفانيا أصبح مضرب الأمثال وبتحديث عنه في هذا الباب بالحوادث المدهشة المطربة التي تذكرك بزهد الصحابي الجليل أبى ذر الغفاري وبالإمام أحمد بن حنبل وأئمة السلف الصالح الذين تحدث عنهم الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصغياء رضي الله على الجميع .
وكان من العلماء القلائل الذين يجدون لذة كبرى في التدريس ونفع الخلق عدة دروس في اليوم ويصدر عدة فتاوي يقصد بها وجه الله تعالى وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سمعه من الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه (العالم إذا أراد بعلمه وجه الله تعالى هابه كل شيء وإذا أراده يكثر به الكنوز هاب من كل شيء. وكان مخلصا لله ومخلصا لعباد الله طوال عمره لم يحد عن هذا المبدأ طرفة عين، فأنتج له هذا الإخلاص ظهور ينابيع الحكمة على لسانه، وقد قال مكحول الإمام الجليل رحمه الله (ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) أقول فكيف بمن أخلص لله عمره كله، والمؤسف جدا أن نصائحه وتوجيهاته لم يعتن بتدوينها فضاعت وضاع معها جزء من الفلسفة الإسلامية الصحيحة[3].
وفي ثاني ربيع الثاني توفي أحمد بن إبراهيم عرف بابن الفقيه الجريري السلاوي، كان علامة مشاركا مفتيا مدرسا مطلعا كاد أن يكون شيخ الجماعة بمدينة سلا، تخرج على يده عدة علماء وتوفي بسلا مسقط رأسه[4].
[1] - مجلة دعوة الحق – حياة الشيخ أحمد الجريري شيخ الجماعة بسلا- العدد196.
[2] - أعلام الفكر المعاصر (2/36)
[3] - مجلة دعوة الحق – حياة الشيخ أحمد الجريري شيخ الجماعة بسلا- العدد:196.
[4] - إتحاف المطالع (2/168) دار الغرب الإسلامي بيروت الطبعة الأولى 1997م.