وحدة الإحياءدراسات محكمة

أصول التدبير الوقائي والعلاجي لظاهرة التطرف في الفقه النوازلي المالكي

لا يعدو الحديث عن أصول التدبير الوقائي والعلاجي لظاهرة التطرف في الفقه النوازلي المالكي القواعدَ الشرعية، والمعاني الكلية، والأصول المعنوية العامة، التي عالج استمدادا منها الفقه الإسلامي والمالكي، بالخصوص تلكم الظاهرة التي تحصل بالتتبع والتقري وجود امتدادات تاريخية ورؤى علاجية لها في تاريخ الفقه النوازلي. والذي نستمد من قواعد تنزيله وأشباه ونظائر مسائله ما يسدد الوجهة ويقرب النجعة، فأول مدارك الاجتهاد القياس، قال السيوطي[1]: فكلما بدت للفقيه شاردة ردها إلى جوف الفرا، أو شردت عنه نادرة اقتنصها ولو أنها في جوف السما. ويجمل إجمال خصائص الفكرة البحثية فيما يأتي:

ـ أن فقه النوازل كفيل بالتقريب بين الظواهر الاجتماعية والسياسية والتفاعل الثقافي معها. قال الفقيه المامي في الدلفينية[2]:

وللنوازل أحوال وأزمنة       تنوعت مثل الأحوال الأزامينُ

ـ أن المقرر في قواعد علم الاجتماع أنه لا يمكن تفسير حادث وقع في مكان معين إلا بحادث آخر وقع في جهة أخرى من المكان.

ـ أن خصيصة الذرائعية والواقعية والاجتماعية والغائية طاغية على الفقه النوازلي المالكي. وقد لاحت في الأفق معالم تاريخية لظواهر اجتماعية كثيرة، فكشفت بخصوص قضية الأمن الفكري والاجتماعي رؤى توصيفية وتدابير علاجية من أمثال: ظاهرة السائبة[3]، وظاهرة السلب والنهب، والخروج على الإمام، ودعوات الانحلال الأخلاقي، والتمايز الاجتماعي، وقضية التطرف والتسيب فكرا وسلوكا كما سنراها في دراستنا، وقضايا ليس هنا محل بسطها.

المبحث الأول: ضوابط موضوعية وصُوىً منهجية

المطلب الأول: مدخل إلى مفهومية التدبير الوقائي والعلاجي

أصل مادة التدبير، الدال والباء والراء، قال ابن فارس: “وأصل هذا الباب أن جلّه في قياس واحد، وهو آخر الشيء، وخلفه خلاف قبله”. وعليه، فالتدبير: “أن يدبر الإنسان أمره، وذلك أنه ينظر إلى ما تصير عاقبته وآخره، وهو دبره”[4].

ومن ثم أطلق التدبير على إجراء الأمور على علم العواقب، وقيل النظر في العواقب بمعرفة الخير. والتدبير: التصرف، حتى عرف المعتوه بفاسد التدبير لقلة فهمه واختلاط كلامه[5].

ويؤالف التدبير: النظر والقيام[6]. كما أن من معانيه أيضا العد والحساب والحسبة والحسابة، فيقال: “فلان حسن الحسبة، أي: حسن التدبير”[7]. ويتوافق أيضا ومعنى الرشد في حسن التصرف، وعدم التسرع والجهل بالأمر[8].

فيؤالف المراد هنا الإحاطة بموضوع التطرف وأسبابه ثم مقاربة دفعه و رفعه، والدفع قبل الرفع كما هو مقرر في القواعد.

وقد استقرأت الدراسة ظاهرة التطرف في نوازل متعددة وقاربت سبل تدبير دفعها ورفعها، فخلصت إلى استناد الفقه في المعالجة والتنزيل إلى أصلين شرعيين، وهما: المصلحة وسد الذرائع. وتقريب الاستمداد من الأصلين في المعالجة أفرز نظرات اجتهادية مهمة عليها التعويل بحول الله في مقاربة تدابير إجرائية لدرء هذه المفسدة بناء على استقراء مجموع الفتاوى والنوازل.

المطلب الثاني: تقرير ضابطة موضوعية لقضية التطرف

ومعنى التطرف راجع إلى عدم الثبات، ومادته من الطرف، يقال: رجل طرف، ومتطرف، ومستطرف: لا يثبت على أمر. وامرأة مطروفة: تطرف الرجال، أي: لا تثبت على واحد، وضع المفعول فيه موضع الفاعل[9].

ويقال عمن أحدّ النظر ليستثبت وهو ذو العين الجاحمة الشاخصة: لا تطرف عينه[10]. وعليه فالتطرف راجع إلى التميّل وعدم الثبات في المبنى والمعنى، ومن ثم قالوا: “كلما تطرف الحرف في القافية ازدادوا عناية به ومحافظة على حكمه”[11].

يقال: (تطرف) أتى الطرف. ويقال: تطرفت الشمس دنت للغروب. ومنه تنحى، وفي كذا: جاوز حدّ الاعتدال ولم يتوسط، والشيء أخذ من أطرافه وعده طريفا واستفاده حديثا[12].

ويؤول المراد إلى مجاوزة الحد بإفراط أو تفريط. ومن مآلاته: التشديد والإباحية، ومعنى الأول شدة الالتزام إلى درجة الغلو والإفراط وهو من المنهيات، أو التهاون والتلاعب إلى حد البخس والتفريط. والأصل: الحمل على التوسط[13]، قال الشاطبي: فإذا لم يكن هذا ولا ذاك؛ أي التخفيف والتشديد، رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يلجأ إليه[14].

     وعليه يمكن الخلوص إلى ضابطة موضوعية فنعرف التطرف بأنه: (مجاوزة حدّ التوسط لعارض).

وحد التطرف كما تبينته في معالجة المالكية لا يخرج عن مجاوزة حدّ التوسط و الاعتدال لعارض شبهة أو شهوة. وتبيين هذا الحد أن من قواعد الإسلام الحمل على التوسط، وابتناء الفطرة عليه. ومعنى المجاوزة: الخروج والنأي والبعد. وبيان مدرك الخروج بالفكر والعمل. فالتطرف في الفهم والعمل سواء. ومردّه في الفهم إلى الجمود دون التبصر بالمقاصد و المصالح وفقه الواقع. وفي العمل إلى العنف والتشديد، وما يؤولان إليه من مفاسد الهجر والتبديع والتكفير.

وعارض الشبهة؛ معناه التياث في الفكر والمعتقد مرده إلى الجهل ثم عمى التقليد، وهو أقوى لأن مبتدأ التطرف الرأي، والفكر قبل العمل، وقد قال علماؤنا: آخر الفكرة أول العمل[15]، فلابد أن يتصور الفاعل المراد قبل قصد الفعل الذي هو سبب إليه.

وأما عارض الشهوة؛ فتتوزعه مداخل أهمها: اتباع الهوى وفراغ المحتوى. ويمكن من خلال الضابطة الموضوعية تحديد اصطلاحات المالكية على الظاهرة، وهي لا تخرج عن: الفتنة، والشغب، والخلاف، والهوى، والبغي، والبدعة، والضلال..

ولا يُختزل الاصطلاح في الفقه النوازلي فيما يشمل هدم حفظ النفس وما يتعلق به من السفك والقتل وما إليه، وإنما يتسع ليشمل كل خرق للضروريات من الدين والنفس والعقل…، انتهاكا، وتطاولا، وإزراء. فيشمل ابتداء ما يخرم الأمن الفكري والاعتقادي، ويشيع الفتن بذريعة الرأي والاجتهاد، وهذا قد أولاه الفقهاء عناية بالغة وحسموا مادته في أُهبها، ثم ما يشمل أيضا التصرفات بالغصب والظلم والنهب وما إليه، وهذا مما يتناول حفظ المال، ويشمل أيضا في هدم أصل العقل منابذة الرأي والاجتهاد والتمسك بالتقليد والتزام التبعية وتقديس آراء الرجال…

 وكل هذا ضرب من ضروب الهوى المتبع، فإما كما قرر الشاطبي أن يُترك الناس مع أهوائهم، أو ينظر إليهم بغير اجتهاد شرعي؛ أي تقليدا أو تعصبا، وهو أيضا: “اتباع للهوى، وذلك كله فساد، فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية” وهو معنى تعطيل التكليف لزوما، وهو مؤدٍّ إلى تكليف ما لا يطاق، فإذًا لا بد من الاجتهاد في كل زمان؛ لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان[16].

قلت، فيتشكل من هذا كله تعميم المصطلح على هدم ضروريات الشرع ومقاصده كُليةً.

المطلب الثالث: عرض الأسباب والخصائص: (القواسم المشتركة بين تطرف الماضي والحاضر)

يمكن تحديد أهم أسباب وخصائص الظاهرة بتقري واقعها ووقائعها فيما يأتي، أما مداركها:

الفرع الأول: أسباب معرفية، وجماعُها:

ـ النظر في النصوص والجمود على ظواهرها

ـ تحكيم الهوى فيما لا نص فيه

ـ تحكيم الهوى في رد المنصوص عليه

ـ تحكيم الهوى في تأويل المنصوص عليه

ـ الترجيح في محال الاختلاف والتعارض

ومن تجليات ذلك غياب الفقه العلمي والعملي لبعض القضايا الطارئة وبالخصوص في الجانبين ما يتعلق بـ”فقه الجهاد”: وقد أفتى الفقيه التسولي ردا على الأمير عبد القادر الجزائري أن المسؤول الأول على الجهاد هو الإمام، ومما قرره:”أن خطاب الله تعالى للأئمة بلا واسطة، وخطابه للرعية بواسطة الإمام”[17]. ونفسه صرح به من أئمة المغرب الفقيه أبو عبد الله محمد العربي الفاسي ففي المعيار الجديد: “ومن المعلوم الواضح أن الجهاد مقصد بالنسبة إلى الإمامة التي هي وسيلة له، لكونه في غالب العادة لا يحصل الكمال إلا بها، فإذا أمكن حصوله دونها لم يبق معنى لتوقفه عليها”[18].

قلت، إلا في حالات استثنائية كأن يبعد الإمام عن الرعية، أو لم يكن ابتداء، أو كان غير عدل فمنع الجهاد. ولو لم يكن هنالك إذن، ففي سنة 1188ه حضر مجاهدون ممن تشملهم ولاية الأتراك مع المغاربة في محاصرة مليلية فلما عادوا إلى بلادهم أباح الأتراك دماءهم. وقد أفتى في ذلك الشيخ التاودي والشيخ بناني والحافظ العراقي بطلب من السلطان سيدي محمد بن عبد الله بأن من قتل ونكل بمن انحاز إلى طائفة المجاهدين لا يعد من أهل الدين، ولا من جملة المومنين، لإهانة ما عظم الله[19].

الفرع الثاني: أسباب مادية

ومنها الاتجار والكسب، ومرد مثل هذه الحركات إلى تقصد الاتجار والكسب من الفتنة، بغرض السبي والخداع والخيانة، والاسترزاق بمثل هذا وسيلة عبر التاريخ إلى الغنى وجمع المال سيما عند تطور التنظيمات المنحرفة وتوسع مراميها، ومن ثم تسويغ قطع الطرق ومنع السفر وحظر الأنشطة الاقتصادية كما وقع من طائفة الحياينة وتصدي علماء فاس لها، ومثله ما حصل من بعض الطوائف سنة 1521م، وقد تكلم الناصري في الاستقصا عن ظاهرة بيع المسلم للعدو، فقال: “بل صار الفسقة اليوم وأهل الجراءة على الله يختطفون أولاد الأحرار من قبائل المغرب وقراه وأمصاره، ويبيعونهم في الأسواق جهارا من غير نكير ولا امتعاض للدين، وصار النصارى واليهود يشترونهم ويسترقونهم بمرأى منا ومسمع وذلك عقوبة من الله لنا لو اعتبرنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما دهينا به في ديننا”[20]. والمعنى أن مصيرهم الاسترقاق، وقد أجاب الفقه حينها بدرء مفسدة هذا التصرف، فقال الإمام يحيى السراج: “ووجهه ظاهر لأنه أعظم مفسدة من الجاسوس لأن الجاسوس ينقل الأخبار للعدو، وهذا ملّكه رقاب المسلمين”. وأفتى محمد الأبار الفاسي 1661م كما في نوازل التسولي: “فإن كان هذا فيمن ينقل خبرهم للكفار، فكيف بمن يملكهم رقابهم، فقتلُ هذا من المصالح المرسلة”[21].

الفرع الثالث: أسباب اجتماعية

ومنها الفقر والحاجة وما يؤولان إليه من الانحلال الأخلاقي، فلا يغرّ التذرع بالالتزام في الظاهر مع التخفي بدثار الكبت والزندقة وعبودية الهوى، وقد روي عن طائفة العكاكزة كما ذكر اليوسي في رسائله قال: “فقد ثبت أنهم في رمضان كثيرا ما يوقدون النيران عند الفجر لإيهام أنهم يتسحرون، وهم يأكلون عند طلوع الفجر”[22]. وذكر أيضا أنهم يستحلون الزنا فعدوا المرأة متاعا مشتركا وهي عندهم كما ذكر اليوسي: “كالسجادة: صلّ وأعط أخاك يصلي”[23]، ووصل منتهى الإباحية إلى تبادل الأزواج ومضاجعة المحارم ويطلقون القول: “نحن نأكل من حبة، ونشرب من جعبة، ونرقد في جبّة”[24]. وقال الفقيه المجاصي في فتواه بخصوص الطائفة: “والزندقة صاحبها يستتر بها كثيرا، ولا توجد لهم فئة ولا جماعة ظاهرة، بل أفراد وآحاد منكوسون في الخلق مستترون بظاهر الشرع”[25].

الفرع الرابع: أسباب سياسية

ويعود أيضا سبب ظهور التطرف إلى تدهور الأحوال السياسية وشيوع الفتن والاضطرابات، فيجد هؤلاء الملاذ الآمن للدعوة إلى أفكارهم وتنزيلها واقعا، وهذا ما جسده حقيقة في فقه النوازل ظهور طائفة العكاكزة في حدود خلافة المولى إسماعيل 1690م، وتنسب الطائفة إلى زعيمها أحمد المنزولي تلميذ الملياني تلميذ الشيخ زروق، وقد تبرأ الملياني منه ومن ترهاته.. وقد استحل هؤلاء دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فقاموا في أوقات الفتن بأعمال إرهابية، يقطعون الطرق، ويسفكون الدماء ظلما وعدوانا. ولذا لم تعالج مثل هذه الظواهر إلا في إبان الاستقرار السياسي، فلما انتفى السبب انتفى المسبب، وفي سنة 1082ﻫ استفتى المولى الرشيد بخصوص موقف فقهي من الطائفة فكان موقف العلماء واضحا كما سيأتي.

بعد عرض الأسباب والخصائص يمكن تبين بعض القواسم المشتركة والضوابط الجامعة بين تطرف الأمس واليوم، ومنها:

ـ الاستئثار بالنعوت والأوصاف المفارقة للجماعة تميزا واختصاصا.

ـ الانطلاق من الفكر إلى العمل والسلوك استمدادا ومرجعية.

ـ طلب المشايعة والمساندة المادية والمعنوية إما من الأفراد أو الهيئات.

ـ الخروج على الجماعة إما لطلب الرياسة والسلطان، أو الإمامة والقيادة.

ـ الشذوذ في القول والعمل، والمظهر والمخبر.

ـ الجرأة على التكفير وإهدار الدماء.

ـ النصية الحرفية وتغييب المقاصد.

ـ التعلل بلزوم الفرقة الناجية، والولاء والبراء، وتطبيق أحكام الشريعة…

المبحث الثاني: أصول التدبير الوقائي والعلاجي لظاهرة التطرف في الفقه النوازلي المالكي

المطلب الأول: مراعاة المصلحة

استخلصت من نظرات المالكية الاجتهادية بناء على المصلحة مجموعة من التدابير الإجرائية لدفع ورفع التطرف العارض للفكر والسلوك بدواعيه ودواهيه الآنفة الذكر. واعتمادا على قاعدة: الدفع أسهل من الرفع، أو أقوى من الرفع[26]، والدفع قبل الثبوت والرفع بعده، كان من اللازم تقديم التوقي والاحتياط مع الانضباط بميزان الشرع حفظا لمصالح العاجل والآجل. وضابط ذلك أن “المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية”[27]. والنظر في تدبير ذلك من خلال مقاربات:

الفرع الأول: المقاربة العلمية والتربوية الإصلاحية

وأول ما عمدوا إليه:

1. الحوار والتقريب

قال الرازي: والإرشاد إلى الدين من أعظم أنواع الإحسان، فإذا انضاف إليه رعاية الأدب والرفق كان ذلك نوراً على نور. وثانيها؛ أن الهادي إلى الحق لابد وأن يكون رفيقاً لطيفاً يورد الكلام لا على سبيل العنف لأن إيراده على سبيل العنف يصير كالسبب في إعراض المستمع فيكون ذلك في الحقيقة سعياً في الإغواء[28]. وقد أثر عن الجنيد: “ابدأ المريد بالرفق ولا تبدأ بالعلم، فإن الرفق يؤنس والعلم يوحش”[29].

وهذا من مقدمات الوسائل في الإصلاح ممن يرجى قبول موعظته. فقد سئل ابن أبي زيد عن الرجل يرى من أخيه المسلم معصية مثل الزنى والسرقة وغير ذلك من أول ما فعل ذلك، ولم يتقدم له قبل ذلك شيء هل يفشي ذلك عليه أولا في أول مرة، فإن رآه ثانية فما يأمره وثالثة فما يصنع؟ فأجاب: من علم بالمعاصي فلا ينبغي أن يهتك ستره وإن رجى قبول موعظته فليعظه برفق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: ألا سترته بردائك[30].

لقد دعا علماء المالكية بشأن هذا الفكر إلى الحوار والرفق، وعدم مقابلة العنف بالعنف ابتداء، أخذا بمبدأ: حفظ الدماء في أهُبها، والقاعدة أن التقريب خير من التعطيل فيما اعتبره الشرع[31]. قال المجاصي في فتواه بخصوص طائفة العكازين: “وقد علم أن مدار الحكم في الشريعة على الأعذار، وبذلك بعثت الرسل، والاستتابة منه”[32]. ودعوته إلى التوسط جديرة بالتنبيه قال: “والمقصود والأهم إنما هو إزالة هذه البدعة بما يمكن، فليتوسط فيها، فالشريعة كلها وسط”[33]. وعلل ذلك أن الهجوم عليهم قتلا ونهبا لا يجوز ولا يحل إذ لا يقدم على الدماء إلا بأمر بين، والخطأ في الدماء خطير. ومن معاصريه كاليوسي من رأى أن الحكم بذلك على الجملة قصور لا احتياط لعظم خطرهم وفساد معتقدهم. ويندرج تحت هذا نصح العلماء بالتنبيه إلى خطر الفعل والمضرة بالإسلام والمسلمين أو الإيعاز إلى تدخل المنظور إليه أو صاحب المشورة والكلمة المسموعة، وقد تكرر هذا في مواطن.

وهناك رسالة التعقل والاتزان من الفقيه أبي مهدي عيسى السكتاني إلى الفقيه الحاحي في تطور الأمر إلى خروج بعض الطوائف وقد تضمنت حكما وقواعد جليلة في لزوم الجماعة، وسمى الأمر مصيبة عظمى، وعلل بافتراق الكلمة، وتلاعب شياطين الإنس والجن بالعقول، ونهب الأموال وهتك الحرمات، وفساد الدين…ومن كلامه: “وغائلة الجور وإن تفاحش أقل بكثير من غائلة الخروج الذي يترتب عليه فساد المهج والأموال والأعراض والأديان وهتك الحرم”[34]. ونكاد نجد إجماعا في الباب لابن عاشر واليوسي والسكتاني وابن سودة وغيرهم ممن واجهوا فتنة الخروج.

وقد حاور اليوسي في زمانه رئيس طائفة الهجرة والتكفير قال: وجاءني سائلا ثم تقدمت إليه بالنصيحة وقلت: إن أكثر النحل وجل الطوائف الضالة إنما خرجت في هذا العلم، فإن أردت نفع الناس فقرر لهم العقائد بالقدر الذي يبلغون، وحدث الناس بما يفهمون، ودع عنك هذه الامتحانات والتشنيعات التي لم تجر بها سنة أهل الدين في عصر من الأعصار”[35]. وهنا يبينُ إلى حد ما دور التقريب والرفق في لزوم الجماعة وصد فكر المروق والخروج.

2. الردّ والنقد

لا ينسب إلى ساكت قول عموما، وبالأحرى في مواطن الخلاف، ولذا عمد المالكية إلى تحرير المناقشات والردود، ولعل هذه الوسيلة من أصرح المسالك إلى المراجعات والتصحيحات، احترازا من قول من قال:

لقد كثّر الأقوام قلةُ ناقد       لهم فتساوى مخطيء ومصيب

وقد صُنّف في الباب كتاب منجنيق الصخور لهد بناء شيخ الغرور ورأس الفجور من المبتدعة والزنادقة لابن أبي محلي في الرد على العكازين. والألفية السنية في تنبيه العامة والخاصة على ما أوقعوا من التغيير في الملة الإسلامية لأبي محمد عبد الله الهبطي 963ﻫ.

وألف اليوسي: “مناهج الخلاص من كلمة الإخلاص” بعد ما شابها سوء الفهم في مباحث الصفات والنفي والإثبات في كلمة الإخلاص، وامتحن في ذلك العلماء من قبل طلبة سجلماسة بالسياط في حدود السبعين بعد الألف[36].

وقد استوقفني رد لبعض علماء تونس الإمام القاضي أبي حفص سيدي عمر بن أبي الفضل سيدي قاسم المحبوب الحسني على رسالة سعود الوهبي لأهل تونس بعد أن هدم قباب الحرمين وسفك الدماء واستباح المسجد الحرام وجعلها رسالة في تبرير تصرفاته، وتبينتُ من خلال الرسالة والرد أن مدرك الخلاف في مثل هذه القضايا راجع إلى التباس في سد ذرائع الشرك، والذي لم يعمل فيه فهم القاعدة الشرعية القرآنية قبل تنزيلها، إذ لا يصح تنزيل قاعدة الذرائع إلا بضوابط ومنها: اعتبار القصد في الوجود، ومراعاة العوائد، والأيلولة الفعلية إلى المفاسد وقد بينته[37]، فالرد عليه استوجب البيان، ومنه، مثلا، في قضية التوسل قوله: أن مشارع الحديث الشريف بذلك مفهمه، وأدلته كثيرة محكمة، أما التكفير، فمعاذ الله أن يعبد مسلم تلك المشاهد، أو أن يأتيها معظما لها تعظيم العابد. فالاستدلال عنده أخذ مجمل من غير بيان، وجزاف من غير مكيال ولا ميزان، فهذا المنكر الذي اقتضى نظرك تغييره ليس متفقا عليه عند أهل البصيرة، وأنه من مدارك الاجتهاد، وأنه قد سقط عند القيام فيه والانتقاد[38].

وقد يجلّي الرد العلمي بعض مدارك الشذوذ الفكري مما يؤول معه الحال إلى حوطة المنهجية الثقافية الشرعية، وكلها لا تخرج كما في المثال السابق عن تحقيق مفهومية الفرقة الناجية، وسد ذرائع الشرك مما تحتاج معالجته إلى حكمة ورويّة.

3. التثقيف الحضاري

ومعناه الائتمام في بث قيم المعرفة بمراعاة مقاصد الحق ومصالح الخلق و معارف الواقع، أو بعبارة بعض المعاصرين؛ تعمير العقول، وتنوير القلوب، وتزكية النفوس، واكتساب القدرة على البناء والعلاج لمشكلات المجتمع، وصياغة المناهج الكفيلة بتقديم البدائل العملية للواقع المتأزم[39].

وهذا مرتبط عمليا بتجديد بعض مباحث العلوم، ونشر سير الأعلام العمرانية والحضارية وهو ما يشد عليه بالبنان في احترام وتقدير المرجعيات العلمية، وإحياء فقه المراجعات والتعريف بأعلامه، وتوجيه جل مناهج البحث والتحصيل إلى أفق التفاعل الحضاري، إذ قد يعتري كذلك حامل وناقل العلم دون هذا الشرط الشطط دون التوسط، ويحفظ كلام نفيس مفاده ألا خروج من مأزق الفتن والوقاية من أضرارها إلا بالعلم والتبصر، والدين مبني عليه[40].

 فقد نبه الفقهاء في عهد السعديين والعلويين إلى قمع الشذوذ الفكري والتطرف السلوكي والذي تجسد في أفكار مذاهب وتيارات ثم انعكس على أعمال تخريبية، وإفساد للحرث والنسل؛ كقطع الطريق، واعتراض المسافرين، وقتل الجماعات المسلمة.

ففي نوازل التسولي عن ابن خجو الفاسي 956ﻫ: فيجب أن تجاهد بالعلم والفكرة واليقظة، فيجب على الأمير وفقه الله ونصره، وكل من ولاه الله أمر نفسه وأمر رعيته أن يوقظ نفسه ويوقظ رعيته، ويسقيهم كؤوسا من العلم ليصحوا من سكرة الغفلة. وقال اليوسي: والجهاد في دفع الجهل وتحصيل الدين أصلا وفرعا أهم وأوكد من الجهاد في دفع العدو. ولكن على شرط التثاقف الحضاري ونشر العلم الآمن وإقامة الأسباب والبواعث، وفيه يقرر اليوسي: “وما مثال العلم في صدور الرجال إلا مثلُ الجمر يغطي عليه الرماد، فأدنى نفخ يؤججها، أو النارُ في الحجر، فأدنى اقتداح يخرجها”[41].

ويمكن تبيّن معالم هذا التثقيف في نظري في تجديد مناهج بعض العلوم ومنها علم التوحيد، والدعوة فيه ملحة إلى المزج بين علم الكلام وفقه الكلام ومن فقهه؛ ترجيح مقصد الوحدة[42] في الدعوة إلى التوحيد[43]، وانظر إلى التعليل القرآني الذي أقره موسى في كلام أخيه: قال تعالى: ﴿ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ (طه: 92).

 وقد قرر الرازي أن موسى، عليه السلام، لما فرغ من مخاطبة هارون، عليه السلام، وعرف العذر له في التأخير أقبل على السامري[44]. وفي الآية تعارض رعي مصلحة حفظ العقيدة وحفظ الأمة من الفرقة والانقسام، والمسألة محل اجتهاد إذ أنزلت المظنة هنا منزلة المئنة، والمفسدة الغالبة منزلة المحققة، حفظا للغاية من قول موسى لأخيه ابتداء: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف: 142).

فالوحدة مناط السيادة في مصالح العاجل والآجل، ووسيلتها الفكرة واليقظة، وتلك مظنة الاختصاص في أمة الفضل، وسيأتي تفصيل بعض ذلك في الكلام عن مقصد الوحدة. ومن معالم التجديد في التوحيد[45] إخراج بعض المباحث الفرعية العملية التي تفضي إلى التوتر والتشنج والخلاف، والجلبة معتادة من مباحث تأويل الصفات الخبرية والشفاعة والتوسل والأولياء والكرامات وزيارة المقابر…[46]، ونقل الخلاف من الفروع إلى الأصول وبناء الأحكام عليه، وليس هنالك من مثال أصرح في الدلالة على المراد كالإمام الذي أفتى فيه ابن العربي حين تكلم في أبوي النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: وأما الواجب على هذا القائل فهو الاستتابة، ويؤدب أدبا وجيعا على استطالته وعلى إذايته النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلى تأويل القرآن بغير علم، ويعزل عن الإمامة عصمنا الله من الفتن بحول الله وقوته[47].

ويعقد بهذا الباب أيضا تجديد الفقه وأصوله من جهة الشكل والمنهج، وذلك بالسبر الانتقائي والتقصيد المنهجي بإقران الأحكام بالحكم، والفقه بالمقاصد، درءا للحرفية في التناول والظاهرية في التداول، فلم يؤت الخلاف إلا من هذا الباب.

ومما يحتاج فيه النظر إلى ترتيب وتخريج وتبويب في فقه السنة ما صح من أخبار الفتن والملاحم والدعوة إلى التخريج والترتيب والتبويب لما تستبطنه من: الصحيح غير الصريح، والصريح غير الصحيح. والنظر فيها سديد لحل معضلات الفتن وهي من أبواب العلم السمعي؛ إذ الأمر كله راجع إلى قلة العلم وكثرة الجهل وهي من العلامات والأمارات.

وقد أفتى بعض المالكية كما في فهرسة القاضي العميري في طائفة الهجرة والتكفير والتي أحدثت فتنة ضرورة تعلم علم التوحيد وإلا بطلت المناكحات ومنعت ذبائح الجاهل به ولا يدفن في مقابر المسلمين، ومن لم يشتغل بالتوحيد على النمط الذي يقررون فهو كافر، قال القاضي العميري: ومن الخطأ الفاحش والمنكر العظيم الفواحش تشويش عقائد العوام، وتحريك عقائد إيمانهم الراسخة منذ أزمنة طوال وأعوام. وانتقلت العدوى إلى البلاد المجاورة وشاع في توات امتناع الأكل من الذبائح بذريعة أن الجزار الذي ذبح البهائم لا ندري أيعرف علم التوحيد أم لا؟[48]، فانظر إلى فتن الخروج والشذوذ عن الجماعة وأمثاله في الواقع كثير.

واحترام وتقدير المرجعيات العلمية مما ليس منه بدّ حتى لا يفضي الإهمال إلى التطاول والابتذال، ويشمل هذا الباب في نظري حفظ الأفكار، والأعلام، والآثار[49]، ومنه ما ورد في المعيار الجديد نقلا عن اليوسي في وصف طائفة من هذا الشأن: ثم لم يقفوا في هذا، بل لما انتهكوا حرمة عوام المسلمين ابتلاهم الله بانتهاك حرمة خاصتهم أيضا، فتناولوا فقهاء وقتهم ووقعوا في أهل العلم والدين ومن معهم على سبيل المهتدين وضللوهم[50]. وقال في موضع من رسائله عن العالم الملازم: “فحيث ما جاء متعلم أو سائل وجده، ويصل إليه المسكين والعجوز، ويباحث الطلبة حتى يقف على التحقيق، ولا يرهبونه ولا يستنكرونه ولا يتهمونه[51].

وأحيل الباحثين على نازلة من أهم نوازل المالكية لما استبطنته من موقف صريح في حماية بيضة الأمة العلمية والثقافية، وزجر كل من يهرف بما لا يعرف، فقد سئل القباب الفاسي عن جماعة من الطلبة يطعنون في كتاب الشيخ الإمام أبي حامد الغزالي، رضي الله عنه، المشهور بالإحياء، ويشدّدون في الإنكار على من أراد قراءته، وبالغ بعضهم في ذلك إلى أن قال: ليس ذلك بإحياء علوم الدين، وإنما هو إماتة علوم الدين، وأردنا منكم أعانكم الله على طاعته جوابا شافيا يوضح الحق، وهل لإنكارهم وجه أم هو جهل منهم…؟

فأجاب: إنكار المنكر لقراءة الإحياء وقوله إنه إماتة علوم الدين لا إحياؤه، فهذا قول منكر وكلام مبتدع وغبي جاهل بحق الرجل وبحق كتابه. وأبو حامد إمام من أئمة المسلمين، قال فيه المازري: إنه لا يُشقّ غباره في الفقه وفي أصول الفقه، وإنما انتقد عليه بعض الفقهاء مسائل مما يتعلق بشرح عجائب القلب وما يتعلق بذلك وما أشبه ذلك، أجاب عنه آخرون. ولا شك أن ترك النظر في تلك المسائل لمن لا رسوخ له في العلم واجب، وما عدا ذلك من الفقه والتكلم في خبائث القلب من الكبر والعجب والرياء والحسد فقراءته واجبة..، وإذا كان المنكر لقراءته ممن لا يمارس كلام العلماء فإنه يزجر عن ذلك، ولو أدب لكان لذلك أهلا، والله ولي التوفيق[52].

ويستحسن أيضا في الباب نشر فقه المراجعات والتصحيحات كما أسلفت والتي رجع عنها المتطرفون، والتعريف بها و بدواوينها ففيها إلزام وإفحام، ثم تنبيه ومراجعة وإرشاد.

4. المقاربة التربوية السلوكية

وهذا يبين إلى حد ما دور التربية والتزكية في التسليك العملي إلى مقام التوسط والاعتدال، والوحدة والمحبة، وقد أورد في المعيار: المودة أعطف من الرحم، فالقريب بعيد بعداوته، والبعيد قريب بمودته[53].  قال القرافي: مقصود صاحب الشرع؛ صلاحُ ذات البين، وحسم مادة الفتن حتى بالغ في ذلك بقوله:  “لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا[54]“. ولا يناكد في الباب حفظ الود في العلاقة مع المخالفين وإن جاوزوا الحد تلطيفا وتأنيسا، بل الهجر في أنزل مسالكه مرّ، ولا يوجد هجر مشروع لأجل الدين ولا لغيره، وأنه منابذ لروح التشريع الإسلامي[55].

وقد ألمح بعض فقهائنا إلى هذا الوجه في مراجعة الخارجين، قال المجاصي: والأولى ملازمتهم ذوي الديانة واليقظة من أجلة الفقهاء، يعلمونهم ويتلطفون في دوائهم، فالشريعة المطهرة هي الدواء الأعظم الذي اختاره الله لعباده على ألسنة الأنبياء والرسل[56]. ويبين إلى حد ما وجه التكافؤ بين شيوخ العلم والتربية في تحمل العبء على تقدير التفريق بينهما. وأفتى بعض علمائنا لما سئلوا عن حكم السلام على من تحققت أنه متى سلمت عليه لا يردّ؟ فأجاب أنه يسنّ له السلام عليه لإثبات المودة بين المسلم وأخيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تدخلوا الجنة حتى تومنوا ولا تومنوا حتى تحابوا..الحديث”[57] والذي لا يرد أولى بالسلام عليه من غيره، لأنه إن كان لا يرد لعداوة فالسلام عليه المرة بعد الأخرى سيذهب بعض ما في صدره، ويستحيي من كثرة سلام أخيه وعدم ردّه عليه فيضطر إلى الرد عليه، وهذا مراد الشارع[58].

الفرع الثاني: المقاربة الاجتماعية

ويطرح في الباب ما يتعلق بدور المجتمع في دفع شيوع الظاهرة قبل رفعها، وفي الباب تشريعات استصلاحية تكشف دور الوحدة في صد العدوان بالمخالفة والمقاطعة والمنابذة، والتعليل في كل بحفظ الأمة من الشغب وترويجه وحتى تزكيته، ومدرك ذلك: الاستثناء على المنع بالجواز استحسانا وحفظا لمقاصد الشرع في رعاية الوحدة المجتمعية. والوحدة بمفهومها الشامل أمر معلوم من الدين بالضرورة، وقد تقدم من القواعد أن الود أعطف من الرحم، فإذا “كانت الفضائل مناط الوحدة، فإن الوحدة نفسها مناط السيادة، والنتيجة المنطقية أن الفضائل مناط السيادة، ومن هنا ندرك السر في قوله صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. فطبيعة الوحدة روحية أو إن شئت قل عقدية. وهي قائمة على وحدة الفطرة، ووحدة الدين ووحدة الغاية”[59]. قلت، ولا أدل على حفظ الوحدة عند المالكية من نوازل في الباب شتى وأشهرها قولهم بكراهة التعدد في الجماعات والجمع؛ لأنها ذرائع إلى الفرقة والشتات، فقد رأى فقهاء المالكية أن الاتفاق على جواز تعددها بتعدد البلد مطلقا جهلا أو عنادا يؤدي إلى تشتيت نظام المسلمين وتفريق جماعة المؤمنين، وفيه من مراغمة الشرع ومناقضة أغراضه الشريفة ما لا يخفى على من له أدنى مسكة من الحجا[60].

ومن التشريعات الاستصلاحية:

1. المخالفة وعدم المشايعة: وهي لا تخرج عن مقصد الزجر والتشديد والردع حفظا للوحدة كذلك، ولعل هذا من الخطط الإجرائية الاجتهادية التي حفل بها الفقه النوازلي المالكي في زجر الغوغاء والمفسدين عن إغوائهم وقطع دابر فسادهم، ويمكن إبراز أهم تجلياتها في مخالفتهم وإظهار مقاطعة ظواهر تصرفاتهم، ولعل هذا من الإشكالات التي استصحبتها ردود علمية ومناقشات محتدة أبرزت مدى الفرق أحيانا بين رؤيتين متلازمتين: الأولى؛ فقهية حُكمية، والثانية؛ مقاصدية حِكمية. ويمكن تتبع بعض مظاهره في إشكالية ترك السنن لعدم مشاركة الغوغاء أو أهل الضلال، بالمخالفة المظهرية، وغيرها من وسائل الزجر والتشديد.

وقد قرر فقهاء المالكية أن كل أصل ثابت شرعا قد يصير جاريا مجرى البدع، فقد يكون أصل العمل مشروعا ولكنه يصير جاريا مجرى البدعة من باب الذرائع[61]، وذلك إن بانت المداومة عليه وخشي اعتقاد وجوبه، أو صار شعارا لمن لا ينبغي موافقتهم، فيكون إغراء للناس على عرض فاعله، وسببا لسوء الظن به، وإضلالا للعوام باعتقاد الفضل لكل من يظهر به، وهذه كلها مضرّة بالدين والدنيا، فلا يقدم عليه إلا من ضرورة شرعية، ولا ضرورة شرعية؛ إذ لا خلاف أنه مندوب لا واجب، ووقاية العرض من الدين، وحفظ حرمات الأهل واجب…[62] قال المقري:تجب مخالفة أهل البدع فيما عرف كونه من شعارهم الذي انفردوا به عن جمهور أهل السنة، وإن صح مستندهم فيه خبرا أو نظرا”[63].

فالدليل من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات والأحوال غير قائم، وهنا ينظر إلى مناط التذرع من جهة الملتزم بالأصل وهو مناط الأشخاص كما يسمُه الأصوليون، فإن بان ذلك فبالأحرى مخالفة المبتدع إن تمسك بما هو ثابت وصار شعارا له، ففي نوازل المحقق الزرهوني ما نصه: ومما يسأل عنه كثيرا حلق ما تحت الذقن من اللحية، والسّنّة توفيره، ولا زالوا إلى الآن على حلقه، وبه العمل اليوم، وقد سئل عنه أبو عبد الله بن ناصر، فأجاب بأنه بدعة. ولما امتازت الروافض بتوفيره خالفهم أهل السنة بحلقه[64]، ومثله اجتناب الصلاة على المجاهرين والمبتدعة مبني كذلك على المخالفة لهم، حتى ينزجر العوام عن سلوكهم.

2. المنابذة والمقاطعة: ولا يناكد ما قررته هنا ما قُطع به قبله من حفظ الود في المقاربة الإصلاحية، إلا إن ضاق الخناق وتحققت المحاربة، ويبقى الإجراء اجتهاديا بمراعاة الحال والمآل، والمستثنيات طارئات على الأصول.

وقد نبه المالكية أيضا إلى إشكال صلة رحم الفسّاق والخوارج، وأجاب القباب كما في المعيار: “لا أعرف في صلة ذوي الأرحام الفساق نصا”[65]. واستقر رأي البعض على مقاطعة دعوة أهل السوء والظلمة، وإلا إن تعذر فبانقباض دون انبساط ولا اتساع[66]. وعلى قدر المجاهرة والتبجح يؤمر بالهجران وإظهار المباعدة منهم[67]، وتحقيق النظر في الأمر على حسب رجوعهم وفيئتهم، ثم على تقدير رجاء توبتهم فيحسن استلطافهم واستحلالهم وقد رجحه بعض العلماء[68]. وفي كل فالاجتهاد هنا بتحقيق المناط. وقد يفضي الحال إلى سوء المعاملة درءا لكيدهم كمثل الثائر ابن حفصون بالأندلس ناكث العهد والمفارق للجماعة كما وصفه الفقهاء، وكان له في البأس والشدة والنجدة والرأي والحرابة مكان مكين، أسند أهل الخلاف إليه أمرهم، وقلدوه رياستهم…، وكان يعطى من مُسوّس الأطعمة، فقال: يمكن أن يعاش من هذا الطعام أم تبقى معه صحة؟ فقال له الأمير: ومن أنت يا شيطان فأنت أهل لأشر منه. وفي البرزلي: ولا يُسلم على أهل البدع ولا يناكحوا، ولا يصلى خلفهم جمعة ولا غيرها، ولا تشهد جنائزهم…، وقال سحنون: أدبا لهم، وهذا على تأويله بعدم كفرهم[69].

ومن ذلك أيضا الزجر والردع في ترك الصلاة خلفهم وعليهم:  قال ابن عبد البر: أما قوله لا يصلى خلفهم فإن الإمامة يتخير لها أهل الكمال في الدين من أهل التلاوة والفقه هذا في الإمام الراتب. وأما قوله لا يصلى عليهم فإنه يريد لا يصلى عليهم أئمة الدين وأهل العلم لأن ذلك زجر لهم وخزي لهم لابتداعهم رجاء أن ينتهوا عن مذهبهم، وكذلك ترك ابتداء السلام عليهم[70].

المطلب الثاني: سد الذرائع

وقد تكفل هذا الأصل المتفرع عن المصلحة بحوطة مقاصد الشريعة والمكلفين من كل ما يخرم النفوذ والاحترام والالتزام من جهة الوجود والعدم، ويسمُه المالكية بالحرف الذي يدور عليه المذهب[71]، ومن جملة ما استدل ابن عاشور به عليه قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف: 142)؛ أي على سد ذرائع الفساد، قال: فلما تعلق النهي بسلوك طريق المفسدين كان تحذيرا من كل ما يستروح منه مآل إلى فساد. ومن جملة الإجراءات اللائحة في كتب النوازل على سبيل الحصر لدحض التطرف وأهله ما يأتي:

الفرع الأول: المقاربة الاقتصادية

وتعنى كما عنّ لي بالحظر الاقتصادي بيعا وشراء ومعاملة درءا للفتنة وتقوية الشوكة وسدا لذرائع الفساد. وفي المعيار فتوى عن الرجل يعمل الحراب وأراد التحري من عملها، فلمن يجوز أن يعملها ولا يكون عليه في ذلك شيء؟ وما المكروه من ذلك؟

فأجاب: لا يعملها ولا يبيعها إلا من أهل الخير، وممن لا يخاف أن يصيّرها إلى أهل الخلاف. قال الحافظ في الفتح تعليقا على النهي عن بيع السلاح في زمن الفتنة: “فكأن المراد بالفتنة ما يقع من الحروب بين المسلمين؛ لأن في بيعه إذ ذاك إعانة لمن اشتراه وهذا محله إذا اشتبه الحال، فأما إذا تحقق الباغي فالبيع للطائفة التي في جانبها الحق لا بأس به. قال ابن بطال: إنما كره بيع السلاح في الفتنة لأنه من باب التعاون على الإثم، ومن ثم كره مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بيع العنب ممن يتخذه خمرا، وذهب مالك إلى فسخ البيع[72].

قال في المعيار: لا يجوز بيع آلة الحرب وعدة الفرس وما يستعان به على حرب المسلمين، ولا تجوز التجارة في شيء من ذلك ولا بيعه من أحد المسلمين. ولا تجوز إعانة أهل الخلاف بكل ما يتقوون به على مفسدتهم كالإيواء والإطعام أو الصون ممن يريدهم للانتفاع منهم، ولا يجوز شراء كل ما لهم فيه إعانة. وجميع أموال الظلمة ليست ملكا لهم ولا يحل له التصرف فيه إلا بالخروج عنه والتفصي عن عهدته وإيصاله لمستحقه[73]. وبخصوص المراجعات فإنها تهم، بعد التوبة، استرجاع جميع ما في اليد، وينبغي أن يزاد في تلك القيمة، لأن قيمة السلعة بالثمن المؤجل أكثر منها بالثمن النقد فيزاد على التائب في القيمة بحسب الاجتهاد.

قال الأبار بخصوص فرقة الحياينة في عهد السعديين: “وأما درء المفسدة فيتجلى في دفع الخوف الذي يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفاتهم، ويكفهم عن أسباب المواد التي بها قوام أودهم وانتظام جملتهم”[74]. وهنا يبين إلى حد ما دور المقاطعة الاقتصادية في حظر أسباب المواد وتعليق التصرفات إلى حين الأوبة أو التصدّي والمحاربة، ولعل في حجب المصالح أنجع التدابير في صد أبواب الفتنة، إضافة إلى سلب أموالهم وعدتهم لأنها ليست ملكا لهم، وفي مقابل الحظر من جهة تعزيز حماية اقتصاد الأمة ورفع الحواجز المهددة للمصالح العامة، وصد أسلوب الترويع والتهويل من جهة أخرى، وهو ما يناسب المقاربة الآتية.

الفرع الثاني: المقاربة الأمنية

ويعنى هذا الفرع بالتشاريع الإجرائية التي ما فتيء الفقه يُعملها في نوازل التطرف والتسيب ولكن بمزيد احتياط وترصد، تنزيلا لأصل سد الذرائع بخصوصيته الردعية والوقائية وحتى العلاجية، وقد تقريت مدى عناية فقه النوازل بإبراز مقصد حفظ الأمن ورعايته من جهة الوجود والعدم ولو على حساب ترك الواجب والمستحب، تحقيقا لمعاني حفظ النفس الإنسانية سيما إن كان القصد لائحا إلى إهدارها ووأدها، وبالمقابل رعي المصالح المسندة لقيم العدالة والعزة والرخاء، قال ابن عاشور: فإن أمن البلاد والسبُلِ يستتبع جميع خصال سعادة الحياة ويقتضي: العدل، والعزة، والرخاء إذ لا أمن بدونها، وهو يستتبع التعمير والإقبالَ على ما ينفع والثروةَ، فلا يختل الأمن إلا إذا اختلت الثلاثة الأول، وإذا اختل اختلت الثلاثة الأخيرة[75].

1. حماية الأمن العام

ونقف هنا عند إشكال كبير فيما يتعلق بحفظ أمن الفرد والجماعة واستقرارهما المعنوي والمادي، وإعمال أصل سد الذرائع هنا من جهة تغليب ظن الوقوع في المفسدة وإن لم يكن غالبا ولا نادرا، وهذا اختيار المالكية في الخلاف مع غيرهم، قال المازري في سياق مناقشة الشافعية: وهذا ليس من جهة تلك الظنون المنهي عنها، وإنما هو احتياط في الدين، وتحفظ على المسلمين، من أن يقعوا في حرام، وذب عن قواعد الشرع، ومثل هذا لا يستنكر ورود الشرع به، والعلماء والفقهاء يقيمون مظنة الشيء مقام التحقيق[76]. فربّ وسيلة ظاهرة الجواز قد تمنع إن أفضت إلى فساد باطن.

ويحفظ من نوازل المالكية في الباب تعارض أداء الواجب وحفظ الأمن العام بفتاويهم المشهورة في سقوط الحج كلما تعذر للطواريء كاعتراض السبيل وقطع الطريق من قبل المحاربين. ومثل ذلك فتوى ابن رشد والمازري وأبي عمران واللخمي وغيرهم بسقوط الحج في أوقات مخصوصة بالفتن للأندلسيين والمغاربة، ومثاله الذي وقع في دولة السلطان أبي عنان رحمه الله[77]، ولو كان ظاهر الأمر مشروعا، مع تعليق الجواز حسب الحال والمآل، وقد ورد في بعض فتاويهم: ومع ما قررناه وقلناه من سقوط الوجوب فالجواز لم يرتفع، ولمن وجد نيّة لحمله على ارتكاب الأخطار، والتقلّب في الأطوار بقضاء الأوطار، فسمحت له بالوصول إلى تلك الديار الأقدار، فإنه إذا بلغ موضعا ترفع فيه الموانع والأعذار، صار من أهل الوجوب فأمر به، وقضى ما قُسم له من أربه.[78]

ومثاله أيضا للذريعة منع الجهاد خارج السلطة، وهنا أتوقف عند خلاف فقهي تحفظ بسببه الفقهاء في العصر السعدي سدا لباب الفتنة. وقد استفتي العلماء في هذا العصر: هل يتوقف الجهاد في حالة وجوبه على وجود الإمام وإذنه أم لا؟ وقد توقف جمع من الفقهاء بسبب الخوف على هلاك الناس فنقل الزياتي في فتاويه: “الجواهر المختارة مما وقفت عليه من النوازل بجبال غمارة” عن بعض الفقهاء أن هذا من باب الغلط، فقد وقعت مواقع وأسر خلق كثير على غير السداد كما سمعنا. ونفس التعليل أورده الشيخ زروق في عدة المريد إذ التعرض للجهاد ورد الظلامات وتغيير المناكر بغير يد سلطانية مفض إلى الفتنة وإهلاك المسلمين ومثل له فقال: “فقد كان ببلدنا رجل من الصالحين، ووقع له ما حركه، فمشى بجماعة من المسلمين، فخرج عليهم النصارى فلم يجدوا فئة ولا ملجأ فهلك منهم ما شاء الله في ذمته وذمتهم. مع ظنه أنه عمل خيرا أو برا. نفعه الله بنيته ولا وأخذه بعمله آمين”[79].

 ومثل هذا التوقف الذي تعددت صوره في نوازل مماثلة كفيل ببيان وجه الخلاف في مسائل من هذا الباب والتي يكمن حلها في تحديد التمايز بين جهات التصرفات الشرعية، واستنباط حكمها بناء على فهم مقاصد الشريعة على كمالها، ثم ضرورة التنبيه إلى آفة التسرع في الفتوى وإصدار الأحكام التي يتلقفها العوام فيفضي الأمر إلى ما لا تُحمد عقباه.

2. تشريع العقوبات

والأصل جهادهم وقول مالك في الباب أن: جهاد المحاربين جهاد[80]، بل جهادهم أفضل من جهاد الروم. ويليه الأدب والتعزير حسب اجتهاد الحاكم. ويشمل في الفقه المالكي كل ما يؤوب معه المتهم إلى الانزجار والتراجع عن الفعل الشنيع. ويفرق بين المشهور بالفساد والحرابة في تضعيف العقوبة وتغليظها[81]. ومن قواعد المذهب أن المعروف بالتعدي والظلم يغلب الحكم في حقه[82]، والشهرة بالفساد تنزل منزلة التحقيق[83]، والظالم أحق بالحمل عليه[84]، والظالم أحق أن يحمل عليه[85].

وقد قرر علماء المذهب أن كل من حمل السلاح على الناس بغير عداوة ولا نائرة فهو محارب. وذكر ابن العربي في تفسير آية الحرابة أن الحرابة تكون بالاعتقاد الفاسد وتكون بالعصبية. والمحارب عند مالك في رواية ابن وهب هو الذي يقطع السبيل ويظهر الفساد وإن لم يقتل أحدا[86]. وليت شعري كما قال بعض العلماء أي حسنة أعظم للمسلمين من قتال المحاربين، إذ بقتالهم وكف إذايتهم ينتظم شمل العالم، ويحصل الأمن العام، الذي تطمئن إليه النفوس وتنتشر فيه النعم وتسكن به العدى، ويتأن به القوي والضعيف، ويشمل النفع الشريف والمشروف.

وفي حدود القرن الثامن الهجري وبالتحديد 796 أجاب ابن عرفة في قتال الديلم من المحاربين والمغيرين فقال: جميع ما ذكر من قتال هؤلاء وجهادهم، والإشارة لثواب مجاهدتهم ورجحانه على جهاد الكفار غير مبتدئين قتال المسلمين صحيح، لا ينبغي لمسلم مخالفته، وكذلك ما ذكر من استباحة أموالهم واتباعهم في هروبهم والإجهاز عليهم.

 واستفتي القاضي أبو مهدي الغبريني بعده فقال: جميع ما أفتيتم به في القضية حق وصواب لا يحل لمسلم مخالفته[87]. وفي أمثال هؤلاء ممن سموا وهبية كما في البرزلي سئل عنهم اللخمي لاتخاذهم مسجدا ومنبرا وجماعة فأجاب: هذا باب عظيم يخشى منه أن تشتد شوكتهم ويفسدوا على الناس دينهم، وتميل الجهلة إليهم ومن لا يميز. فواجب على من بسط الله يده في الأرض أن يشتتهم، فإن لم يتوبوا ضربوا وسجنوا ويبالغ في ذلك. فإن لم ينتهوا فقد اختلف في قتلهم، ويهدم المسجد الذي بنوه لأنه لا يقال فيه حق وما يتألفون فيه ضلال، ولأنه قصد به الضرار[88].

ولعله من أهم التنبيهات التي راكمتها كتب النوازل احتماء الظاهرة بأهل السطوة والمال تنظيمات أو أفرادا، وقد أثار الفقيه محمد بن سودة هذا الأمر في تعلق جماعة المحاربين بمن له السطوة والاستطالة من أصحاب السيوف، فلا يتمكن المتضررون من القبض عليهم، ويرجعون عنهم مقهورين مضغوطين[89]، ويستدرك علاج هذا الأمر بإيعاز التدخل إلى المرموقين وذوي السمعة ومتابعة المشايعين والمساندين والتأثير في صدهم عن المدد والإعانة.

تلك بعض الرؤى الاجتهادية التي استبطنتها كتب النوازل في التأصيل والتنظير لعلاج ظاهرة التطرف في الفكر والسلوك، والقول والعمل، سواء أكان تصرفا فرديا أو جماعيا، وهي تنبيء بحق عن قدرة الفقه المالكي بأصوله الثرة والواقعية على رعاية مصالح الفرد والجماعة بحفظ الالتئام والوحدة من جهة الوجود والعدم.

وختاما

فلا تزال الشواهد الواقعية والاجتماعية تثبت مدى نجاعة الفقه في حياطة المجتمعات البشرية من كل ما يخرم جوهر وجودها ويناكد صفوة وحدتها، لما استبطنه من رؤى استصلاحية وتدابير اجتهادية تؤالف مواكبة كل ما يستجد في عالم الكون والإنسان بكل ما يضمن قوام المادة وسموّ الروح.

وإن تنكب واستنكاف الناس عن جوهر الشريعة وملاك أمرها، وأقصد التوسط والاعتدال، لحائل دون بلوغ المرام، بما يتسبب فيه من انتكاس على مستويات عدة بدءا بالفطرة التي فُطر الناس عليها مما يعود بالهدم على مصالح المعاش والمعاد، بل مما يستدعي تجاوز مراتب الوازع من الجبلي فالديني فالسلطاني، فيبدأ بالحوار والتقريب ثم بنور العلم والدعوة ثم بالإصلاح العام، ثم لا محيد إذا استشرى الفساد أن يزع بالقهر والسلطان.

ويمكن من خلال ما انتهجته الدراسة مقاربة تدبير وقائي وعلاجي لظاهرة التطرف، بتكاثف نظرات شتى استمدادا من أصول المالكية الاجتماعية والواقعية والغائية في أفق تجاوز عقبات الفتن التي تحياها الأمة، وتفعيلا بتلاقح الرؤى في مساق الاجتهاد الجماعي الذي تلح الحاجة إليه مع تطور العلوم والفهوم.

إن النظر إلى التطرف بوصفه ظاهرة العصر لا يثني من العزم عن دفعه ورفعه باستصحاب سراج الاجتهاد المستمد من الربانية مصدرا والمقاصدية شرعة والواقعية منهجا، وعليه وإجمالا لما فصلته الدراسة فليس القصد، بالمرة، حصر جانب التطرف والتسيب في هدم مقصد حفظ النفس فحسب، وإنما هو عائد على كليات المقاصد بالهدم والإبطال، لمضادته لجوهر الشريعة الخاتمة وروحها، والذي لا يبارح جل مقاصدها بدءا بالدين فالنفس فالعقل فالنسل والمال…، وليس كذلك القصد مراعاة جانب الإفراط في مجاوزة الحد فحسب، وإنما أيضا يساويه التفريط دون الوصول إلى الحد، فكما أن مآل الأول التشديد فإن مآل الثاني التفسخ والإباحية، وكلا طرفي القصد ذميم.

    ويمكن مما سلف إجمال توصيات هذه المباحثة فيما يأتي:

ـ مواجهة التطرف بتعمير العقول، وتنوير القلوب، وتزكية النفوس؛ أي بحقيقة الإحسان ولازمه الارتقاء بالإنسان.

ـ التقريب في علاج التطرف بين طرفي الحد في الاعتدال بتجاوز التفريط واحتراز الإفراط.

ـ إعادة النظر في تجديد المناهج المحتملة للشطط والغلو في تحمل المعارف وأدائها.

ـ نشر ثقافة المراجعات على مسار التاريخ بما يضمن تداول نتائجها والاستفادة من ثمراتها.

ـ حماية المرجعيات أعلاما، وأفكارا، وتراثا، لضمان ثبات الهوية في مواجهة التحدي الخارق.

  الهوامش

[1]. جلال الدين السيوطي، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، تحقيق: يحيى مراد، مؤسسة المختار، ط1، (1428ﻫ/2008م)، ص4.

[2]. نقلا عن قصيدة الدلفينية للشيخ المامي: 37.

[3]. وتعددت صورها في كتب النوازل وألف فيها الكيكي: “مواهب الجلال في نوازل البلاد السائبة والجبال” وهناك نوازل يطول استقصاؤها في الباب.

[4]. ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، (1399ﻫ/1979م)، 2/324.

[5]. انظر: الجرجاني، التعريفات،  تحقيق : إبراهيم الأبياري، بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1405ﻫ.1/76، 1/108، 1/182.

[6]. انظر: ابن سيدة، المحكم والمحيط الأعظم، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، 2000م، 3/208، وانظر كذلك: ابن سيدة، المخصص، 1/253.

[7]. انظر، القاموس المحيط، 1/95.

[8]. انظر، التعريفات، م، س، 1/365.

[9]. انظر، المحكم، م، س، 9/148.

[10]. المخصص: 1/110، وانظر، الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الهداية، 5/479.

[11]. ابن منظور، لسان العرب، بيروت: دار صادر، 8/11.

[12]. إبراهيم مصطفى، أحمد الزيات، حامد عبد القادر، محمد النجار، المعجم الوسيط، دار الدعوة، 2/555.

[13]. فتاوى الشاطبي، تحقيق: محمد أبو الأجفان، مكتبة العبيكان، ط4، 1421ﻫ، ص129، وانظر: عبد الله عبد المومن،  القواعد المستنبطة من دواوين المالكية في السلوك والآداب، د 71. (قيد الطبع).

[14]. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، شرح: فضيلة الشيخ عبد الله درّاز، دار الكتب العلمية: د. ت، 2/286.

[15]. جامع الرسائل لابن تيمية: 2/396.

[16]. الموافقات، م، س، 5/39.

[17]. أجوبة التسولي عن مسائل الأمير عبد القادر في الجهاد، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1996م، ص275.

[18]. المهدي الوزاني، النوازل الجديدة الكبرى، طبعة وزارة الأوقاف المغربية، (1421ﻫ/2000م)، 3/7.

[19]. انظر: الفتاوى الفقهية في أهم القضايا من عهد السعديين إلى ما قبل الحماية، دراسة وتحليل: لحسن اليوبي، طبعة وزارة الأوقاف المغربية، (1419ﻫ/1998م)، ص196.

[20]. الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى للناصري، تحقيق: جعفر ومحمد الناصري، دار الكتاب، 1997م، 5/133.

[21]. انظر، الفتاوى الفقهية من عهد السعديين إلى ما قبل الحماية، م، س، ص223.

[22]. رسائل أبي علي اليوسي، تحقيق: فاطمة خليل، ط1، (1401ﻫ/1981م)، 1/287.

[23]. المصدر نفسه.

[24]. المصدر نفسه.

[25]. الفتاوى من عهد السعديين، م، س، ص421-422.

[26]. انظر: الزركشي، المنثور في القواعد، تحقيق: تيسير فائق أحمد محمود، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط2، 1405ﻫ، 2/155، وانظر: الإمام تاج الدين السبكي، الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية، ط1، 1411ﻫ، 1/145.

[27]. الموافقات، م، س، 2/63.

[28]. الإمام العالم فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي، مفاتيح الغيب، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1421ﻫ/2000م)، 21/194.

[29]. سنن المهتدين في مقامات الدين للمواق الغرناطي. تحقيق: محمدن سيدي محمد ولد حمينا، سلا: مطبعة بني يزناسن، 2002م، ص119.

[30]. أبو العباس الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، تحقيق: مجموعة من العلماء بإشراف الدكتور محمد حجي. طبعة وزارة الأوقاف المغربية. 1401ﻫ،1991م، 11/302، 303، وانظر: فتاوى البرزلي، تحقيق: محمد الحبيب الهيلة، دار الغرب الإسلامي، ط1، 2002م، 6/160. والحديث رواه مالك مرسلا 1499 وأحمد 21895 بإسناد صحيح.

[31]. الفروق للقرافي وبهامشه القواعد السنية لابن الشاط، تحقيق: عبد الحميد الهنداوي، المكتبة العصرية، ط1، (1423ﻫ/2002م)، 1/218.

[32]. الفتاوى الفقهية من عهد السعديين، م، س، ص423.

[33]. المصدر نفسه.

[34]. انظر: الاستقصا، م، س،  6/62.

[35]. النوازل الكبرى، م، س، 12/105.

[36]. المصدر نفسه، 12/104. وكلام اليوسي في توصيف النازلة لم يتسع إلى حد ما أملاه مبارك العنبري في كتابه الكشف والتبيين في أن عبارات محمد بن عمر في تكفير أكثر طلبة عصره وغيرهم خارقة لإجماع المسلمين، وهو كتاب قيد الطبع بتحقيق: جمال زركي، تحت إشراف مركز أبي الحسن الأشعري التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

[37]. انظر: عبد الله عبد المومن، أثر الذرائعية والواقعية في المسالك الاجتهادية عند المالكية وتفعيله في القضايا المعاصرة، 1/309 فما بعدها.

[38]. المعيار الجديد، م، س، 12/52، 63.

[39]. برغوث عبد العزيز بن مبارك، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، كتاب الأمة، ط1، (1415ﻫ/1995م)، ص133.

[40]. الشيخ زروق، عدة المريد الصادق من أسباب المقت في بيان الطريق القصد وذكر حوادث الوقت، إعداد: إدريس عزوزي، طبعة وزارة الأوقاف المغربية، (1419ﻫ/1989م)، ص240.

[41]. انظر، فتاوى من عصر السعديين، م، س، بتصرف، ص466-467.

[42]. والقصد وحدة الجماعة بوصفها الأصل في الخطاب التشريعي عقيدة وعبادة ومعاملة، وباقي المخاطبين فيه إنما هو شأن من شؤونها لا غير.

[43]. وقد سبق التنبيه إلى كلام اليوسي: “إن أكثر النحل وجلّ الطوائف الضالة إنما خرجت في هذا العلم”. ونص على مثله كثير من علمائنا.

[44]. مفاتيح الغيب، م، س، 22/94.

[45]. ينظر تجديد مباحث أصول الدين بين المدارسة والممارسة. بحث تقدم به عبد الله عبد المومن إلى ندوة التجديد والاستجابة لروح العصر بجامعة الإمام الأعظم ببغداد، دجنبر 2015م.

[46]. ويروق في الباب بادرة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه: فصول في العقيدة بين السلف والخلف، مكتبة وهبة، ط1، (1426ﻫ/2005م).. والأمر لا يزال يحتاج إلى توسع وتفصيل…

[47]. المعيار، م، س، 12/257.

[48]. النوازل الكبرى، م، س، 12/103.

[49]. وأقصد بحفظ الفكرة ما أنتجه العقل المسلم في مراحل مختلفة من تاريخ الإبداع والتلاقح الفكري فلا ينبذ مثله نبذ النواة. والأعلام تحفظ بالتراجم والسير وقد قيل: من ترجم عالما فقد أحياه. والآثار ما خلفوه من بديع المصنفات في حقب شتى. وقصدت هذا الثلاثي بالذات بوصفه أول ما يهدمه دعاة التطرف وأنصار التعسف.

[50]. النوازل الكبرى، م، س، 12/106.

[51]. رسائل اليوسي، م، س، 1/221.

[52].. المعيار، م، س، 12/184، وانظر نوازل في سد ذرائع الاجتراء على العلماء أجاب عنها العبدوسي وغيره، المعيار، م، س، 2/387، 2/405، 407، 419. وانظر: 2/515. وانظر فتوى ابن أبي زيد بالأدب في من قال: لعن الله معلمك وما علمك، وقال: أردت لسوء الأدب. فتاوى البرزلي، م، س، 6/335.

[53]. المعيار، م، س، 3/108.

[54]. الإمام القرافي، الذخيرة في فروع المالكية، تحقيق: أبي إسحاق أحمد عبد الرحمان، دار الكتب العلمية، ط2، 2008م، 4/425.

[55]. انظر: النفحة الذكية في أن الهجر بدعة شركية للمحدث عبد الله بن الصديق الغماري، الناشر: علي رحمي. د. ت، 5 ونسخ بكتابه هذا ورجع عن كل ما قرره في كتابه القول المسموع في بيان الهجر المشروع بتقسيمه الهجر إلى إيجابي زاجر ووقائي مانع وسلبي لا هجر فيه ولا وقاية: 10. وانظر: ابن الوزير اليماني، إيثار الحق على الخلق في ردّ الخلافات إلى المذهب الحق، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1407ﻫ/1987م)، ص401.

[56].  الفتاوى الفقهية من عهد السعديين إلى ما قبل الحماية، م، س، ص423.

[57]. والحديث بتمامه أخرجه أحمد: 3/29 (1412)  ومسلم: 1/74 وهو من أفراده.

[58]. انظر: الشيخ محمد الزمزمي، الفتاوى الزمزمية: 32 مخطوط خاص.

[59]. فتحي الدريني، دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر، بيروت: دار قتيبة، ط1، (1418ﻫ/1998م)، ص123.

[60]. المعيار، م، س، 1/268.

[61]. الإمام الشاطبي، الاعتصام، تحقيق: محمود طعمه حلبي، دار المعرفة، ط2، (1420ﻫ/2000م)، 1/288.

[62]. عدة المريد الصادق، م، س، ص389-390.

[63]. أبو عبد الله المقّري، القواعد، تحقيق: أحمد بن عبد الله بن حميد، منشورات جامعة أم القرى، 2/548 ق 319.

[64]. النوازل الكبرى، م، س، 1/65.

[65]. المعيار، م، س، 6/137، 138.

[66]. المصدر نفسه، 6/178

[67]. المصدر نفسه، 12/52

[68]. المصدر نفسه، 12/57. وقد تقدم التنبيه عليه.

[69]. فتاوى البرزلي، م، س، 6/189.

[70]. الاستذكار، 1/5459.

[71]. أبو بكر الطرطوشي، الحوادث والبدع، تحقيق: عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1410ﻫ، ص66.

[72]. الفتح، 4/378.

[73]. المعيار، م، س، 6/140.

[74]. الفتاوى من عهد السعديين، م، س، ص464.

[75]. الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، تونس: دار سحنون للنشر والتوزيع، د. ت، 1/715.

[76]. أبو عبد الله محمد المازري، شرح التلقين، تحقيق: سماحة الشيخ محمد المختار السلامي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 2008م، 4/320-321.

[77]. وقد تشكلت في المغرب في هذا العصر جماعات تحرص على سلامة الحجاج، وسميت بهذا الاسم، ولا يقبل بين أفرادها إلا من سبق لهم الحج، وكانت تجهز رباطات وأماكن إيواء للحجاج قبل وبعد الوصول. انظر: محمد المنوني، ورقات عن حضارة المرينيين، منشورات كلية الآداب بالرباط، ط2، 1996م، ص412.

[78]. المعيار، م، س، 1/441-442، وانظر فتوى ابن رشد والمازري وأبي عمران واللخمي بسقوط الحج ما لم يأمن سبيله على النفس والمال. فتاوى البرزلي، م، س، 1/584، 585، 586، 587، وانظر، 1/593.

[79]. عدة المريد، م، س، ص232.

[80]. الإمام ابن رشد، البيان والتحصيل، تحقيق: مجموعة من العلماء بإشراف الدكتور محمد حجي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 16/417.

[81]. محمد بن سحنون، الأجوبة، تحقيق: الأستاذ حامد العلويني، تونس: دار سحنون، ط1، 2000، ص235.

[82]. أبو الحسن التسولي، البهجة في شرح التحفة، تحقيق: محمد عبد القادر شاهين، دار الكتب العلمية، (1418ﻫ/1998م)، 1/141.

[83]. المرجع نفسه، 2/579، وانظر: الإمام جلال الدين بن شاس، عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، دراسة وتحقيق: حميد لحمر، دار الغرب الإسلامي، ط1، (1423ﻫ/2003م)،، ص368، 394.

[84]. عقد الجواهر الثمينة، م، س، 3/1119.

[85]. النوازل الكبرى للوزاني، م، س، 10/262.

[86]. الإمام ابن العربي، أحكام القرآن، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1408ﻫ/1988م)، 3/131 فما بعدها

[87]. النوازل الكبرى، م، س، 12/415-416.

[88]. فتاوى البرزلي، م، س، 6/195.

[89]. الفتاوى الفقهية من عهد السعديين، م، س، ص465-466.

Science
الوسوم

د. عبدالله عبدالمومن

باحث في أصول الفقه والاجتهاد المقاصدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق