أسْرَار البَيَان في القُرْآن(13) البَيانُ في أَنّ مِنْ مَعاني(الأَزْواج)،النَّظائِرُ والأَشْبَاه.

و ذلكَ في قَولهِ تعَالى في سُورةِ (الصَّافّات): ﴿اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُم وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُم إلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ﴾. فالّذِي يَسْتَوْقِفُك في الآية هوَ كَلمةُ ( أزْوَاجَهم ) ؛ لِـمَا يَتبَادَرُ إِلى الذِّهْنِ مِنْ بَادِي النَّظَر، أَنَّ معْنَاهَا: نِسَاؤُهم وحَلائِلُهُم .
فتَتَسَاءَلُ: فَلَرُبَّمَا يَكُونُ (الْأَزْوَاجُ) غيرَ ظَالِـماتٍ، فَكَيْفَ يُحْشَرْنَ معَ الَّذينَ ظَلَمُوا ؟.فَليْسَ ظُلمُ زَوجٍ يَستَلزمُ ظُلمَ زَوجِهِ.ومنْ ثَمّ إشْرَاكُهُما في العَذَاب.وقدْ قالَ تعَالَى: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفسٍ إلّا عَلَيْـهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾.وفِرعوْنُ الظَّالمُ، لا تُحْشرُ معهُ امْرأتُهُ المؤْمِنةُ، الَّتي قَالتْ ﴿رَبِّ ابْنِ لِـي عِنْدَكَ بَيْتاً في الْجَنَّةِ﴾،وتَبرّأت منَ القَوم الظَّالمينَ.
لذلكَ تجدُ أنَّ المفَسّرينَ قالُوا: إِنَّ المقْصُودَ بذَلكَ هُنَّ الأزوَاجُ الكافرَاتُ الموَافِقَاتُ لهُم في ظُلمِهم وكُفرهِم. قالَ (ابنُ عَاشُور) في (التَّحرير والتّنْوير): «وَالأزوَاج، ظاهرُهُ أنّ المرَاد بهِ حَلائِلُهُم... أَنّهنّ الأزواجُ الموَافقاتُ لهمْ في الإِشْرَاك، أمّا منْ آمنَ، فهُنّ نَاجياتٌ منْ تَبعاتِ أزْوَاجهنّ ».
لكِنّكَ تجدُ أنّ منَ المعَاني العَجيبَة لكلمَةِ (الأَزواج) ، أنْ تَأْتِيَ بِمَعْنى: (الْأَصْنَاف والأنْوَاع). وهوَ أصلُ المعْنَى .جَاءَ في (لسَانِ العَرَب): «والأصْلُ في الزَّوْجِ: الصِنْفُ والنَّوعُ من كُلِّ شَيْءٍ». والصنفُ أو النّوعُ، لفظٌ يدلُّ علَى أشيَاءٍ يَجمعُ بَينهَا تَشابهٌ وتمَاثلٌ في الذَّواتِ والصِّفَات.
غيرَ أنّهُ لا يُقالُ للشّيْء (زَوْجٌ)، إلّا إذَا كانَ لهُ مِثْلٌ منهُ معَهُ قد ضُمَّ إليهِ. فَيدلّ حينَئذٍ علَى الواحدِ منهُما.فيُقالُ مثلاً (اشْتريتُ زَوْجَيْ حِذاءٍ)، فالوَاحدُ منهمَا زَوجٌ، والآخَرُ زَوجٌ.قالَ (القرطبي) في تَفسيرهِ: «وَيُقالُ للاثْنَيْنِ: هُمَا زَوْجَان، في كلِّ ٱثنَينِ لا يَسْتَغْني أحدُهُما عنْ صَاحبهِ؛ فإنّ العربَ تُسمّي كلَّ واحدٍ منهُما زَوْجاً».
وعلَى هذَا عُلماءُ اللُّغةِ،قالَ صاحِبُ (تَاج العَرُوس): «وَقَالَ أَبو بَكْر: العَامَّة تُخطِيءُ، فَتَظنُّ أَن الــزَّوجَ اثنانِ، وَلَيْسَ ذلكَ منْ مَذَاهبِ العرَبِ، إِذ كَانُوا لَا يَتَكلَّمون بالــزَّوْجِ، مُوَحَّداً فِي مثل قَوْلهم: زَوْجُ حَمامٍ، ولكنّهُم يُثَنُّونَه فَيَقُولُونَ: عِنْدِي زَوْجَــانِ من الحَمام، يَعْنُونَ ذَكراً وأُنْثَى؛ وَعِنْدِي زَوْجَــانِ من الخِفَافِ، يَعنونَ اليَمِينَ والشِّمَالَ».
فهَذَا المعْنَى فيهِ منَ اللَّطَافَة والخَفاءِ، مَا يَسْتلزِمُ فَضلَ تدَبُّرٍ ونَظَرٍ؛ إذْ لا تَقُولُ:( أَمْسَكتُ زَوْجَ حَمَامٍ)، إلَّا وَأنتَ تَقصدُ أنّكَ تُمسكُ(حَمامَةً)،لكَ معَهَا حمَامةٌ أُخرَى مَقرونَةً إلَيْـها، ففيهِ دلالةٌ علَى الصِّنفِ، وفيهِ دلالةٌ علَى قِرانِهِ بمَا يُماثِلُه، ومَا هُوَ منْ ضَرْبِهِ.فإذا أَمْسَكتَ حمامَةً واحدةً فقَطْ، فَلا تَقُول ذلكَ.
وأنتَ تُدركُ الفرقَ في ذلكَ إذا قلتَ مثلاً: (ضَاعَتْ حمامَةٌ)، (ضَاعَتْ حَمَامَتانِ)، (ضاعَ زَوْجُ حَمَامٍ).فَفي المثالِ الأوّل،أنتَ تَقصدُ،حمامةً واحدَةً مُفردَةً منَ الحمَام،يُقابلُهُ في العَددِ المثالُ الثَّاني،فَهُما اثْنَتَان ضَاعتَا.
لكنَّ المثالَ الثَّالثَ مُختلِفٌ،فَلا يَصدُقُ إلّا إذَا كنتَ تمْلكُ زَوْجَينِ منَ الحمَام،أَي حمَامَة قدْ ضُمّت إلَى حَمامَةٍ أُخرَى، فكلاهُمَا زوْجٌ،وقدْ ضاعَ أَحَدُهُما،وبَقيَ الآخَر.
وعَلى هذَا الوجهِ، يكُونُ المعنَى: اُحْشُرُوا الّذينَ ظلَمُوا وَمَعَهمْ أصْنَافَهُم وضُرَباءَهمْ،مِمَّنْ هُم عَلى شَاكِـلَتِهِمْ وأَمْثَالِهمْ. فَيَكُون بذلكَ أوسَعَ دَلالَةً؛ فَلا يَقْتصرُ علَى نِسائِهِم وحَلائِلهِم منَ اللَّواتي وَافَقْنَـهُم وَأشْرَكْنَ بِشِرْكِهِم، وإِنَّما يَشمَل كُلَّ مَنِ اتَّبَعَهُم في غَيّـهمْ وسَارَ عَلى بَاطلِهِم ، أمْثَالاً وأشْبَاهاً. فيَدخُل في ذلكَ كلُّ أتبَاعِهم الّذينَ اسْتنّوا بهمْ، ورَضُوا عَنهُم فعْلَهُم. سواءٌ كانُوا منْ حَلائلِهمْ ونسَائِهم، أوْ كانُوا منْ غَيرهِمْ، قُرباً وبُعداً.
قالَ (الزَّجَّاج) في هَذهِ الآية: « وأَزْوَاجَهم: مَعْنَاهُ، نُظَرَاءَهُم وضُرَبَاءَهُم ، تقولُ عنْدِي مِنْ هَذا أَزْوَاجٌ ، أَي أَمْثَال » . فنُظرَاءُ جَمْعُ نَظيرٍ وهوَ الْـمَثيلُ، والضُّرَبَاء جمْعُ ضَريبٍ، ولهُ نفْسُ المعْنَى. وقد أوْرَدَ هذَا المعنَى كثيرٌ منَ المفسّرينَ. قالَ(ابنُ عَطيَّةَ) في (المحرَّر الوَجيزِ) : « وقولُهُ تعَالى : ﴿وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ مَعناهُ وَأنوَاعُهُمْ وضُربَاؤُهُم، قالهُ عُمرُ بنُ الخطّاب رَضيَ اللهُ عنهُ، وابنُ عبّاسٍ، وقتادَة. ومنهُ قولهُ تعالَى:﴿ وكُنْتُم أَزْواجاً ثَلاثَةً﴾...ورُوِيَ أنّهُ يُضمُّ عندَ هَذا الأمْرِ، كلُّ شَكلٍ وصاحبُهُ منَ الكَفَرةِ، إلَى شَكلهِ وصاحِبِه، ومَعهُمْ ﴿ مَا كانُوا يَعبُدُونَ منْ دُونِ اللهِ ﴾، منْ آدَميّ رَضيَ بذَلكَ، ومنْ صَنَمٍ و وَثَنٍ». وقالَ (الألُوسيّ) في تَفْسيرهِ (رُوح المعَاني)،مُسنِداً قولَ (عُمَر بنِ الخَطّاب) رَضيَ اللهُ عنهُ: «أَخرجَ عبدُ الرزّاق، وابنُ أبـي شَيبَةَ، وابنُ مَنِيعٍ في (مُسنَدهِ)، والحاكمُ وصحَّحهُ، وجَماعَةٌ، منْ طريقِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ، عَنْ (عُمرَ بنِ الخطّاب) قالَ : أَزْوَاجَهم ، أمْثَالَهُم الَّذِينَ هُمْ مِثْلُهُم ، يُحْشرُ أصحابُ الرِّبَا معَ أصحَابِ الرّبا ، وأصحَابُ الزِّنَا معَ أَصْحَاب الزِّنا...» .
وهكَذا فلفْظُ (الأزواجِ) بمُفردِهِ: (الزَّوْج)، تنفَسحُ فيهِ الدَّلالةُ لتَشمَل كلَّ مَقرونٍ إلَى مِثلهِ، ومنْ هوَ علَى شَاكلتِهِ. ففيهِ دلالةٌ على التَّصنيفِ بمَا يَجمعُ أشْياءً ذاتَ خَواصٍّ وممَيّزاتِ مُتمَاثلةٍ، و فيهِ دَلالةٌ علَى التَّزْويجِ، بكَونهَا مَقرونةٌ بَعضُها إلَى بَعضٍ .وممَّا يدُلكَ علَى ذلكَ إذَا تدبَّرتهُ قولهُ تعالَى: ﴿سُبْحَانَ الّذي خَلَقَ الأَزوَاجَ كُلَّهَا ممَّا تُنبِتُ الأَرضُ ومِن أَنفُسِهمْ وَممَّا لا يَعلَمُونَ﴾،و معَهُ قولُهُ عزَّ وجلَّ:﴿ وَمِنْ كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾.
وهكَذا تَنفسحُ المعَاني، وتَـتّسعُ الدَّلالات في الآيَاتِ، تَبَعاً لِـمَا تَحملُهُ الكلمَات منَ الْـمَعاني الجَلِيَّة والخَفيَّة، الشاهِدَة عَلى غِنَى وثرَاءِ هَذِهِ اللغَةِ الشَّرِيفَة اللَّطيفَة.