أسْرارُ البَيَان في القُرْآن(9) :الْبَيَانُ في الفَرْقِ بَينَ(الْــهُــــون) و (الْهَـــــوْن)
و ذلكَ قولُهُ تعَالى في سُورةِ (النَّحْل)﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾. وقولُهُ تعَالى في سُورَةِ(الفُرْقَان):﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً﴾. حيثُ وردَتْ في الآيتيْنِ كلمَتَان لهُمَا نَفسُ الأصْل اللُّغويّ،لكنهُمَا اخْتَلفَتَا في الحَركَات.
وهُمَا(هُونٍ) بضمِّ الهَاءِ، و(هَوْناً) بفتحِهَا. فكلتَاهُما منَ الفعْل(هَانَ يَهُونُ). وقدْ ذَكرُوا لهذَا الفعْلِ أرْبعةَ مصادِر مَشهورَة(هُوناً - هَوَاناً - مَهَانَةً -هَوْناً).لكنَّهم اسْتعمَلُوا ثَلاثَةً منها في مَعنَى (الذُّلّ والخِزْي) وهيَ:( هُوناً – مَهَانةً – هَوَاناً).واسْتَعمَلوا واحداً في مَعنَى( اللِّينِ والرّفقِ والسّكِينةِ والوَقَار)وهوَ: (هَوْناً). جاءَ في(القامُوس المحِيط): «هَانَ هُوناً بالضّمّ وهَوَاناً ومَهَانَةً: ذَلَّ. وهَوْناً: سَهُلَ. والهَوْنُ: السَّكينَة والوَقَار».
وأنتَ تجدُ السّيَاق في الآيَتيْن مُتَبَايناً. فالأُولَى جَاءَت في سِيَاق وصفِ حَالةِ (المشْرِك)،وقدْ بَشّرُوه بولادَة (أنْثَى)، فَاسْوَدّ وجهُهُ، وتوَارَى ذَليلاً بمَا اعْتمَلَ في نَفسِهِ منْ ضِيقٍ وكَرْبٍ، ومَا لحقَهُ في قوْمِهِ منَ الْهُونِ والذُّلّ.
وانْظُرْ إلى تِلكَ الضَّمّة وثِقْلِهَا معَ المدِّ بالوَاو في (هُونٍ)،كيْفَ يُسهِمُ صَوتُهَا الثَّقيلُ المسْتَطَال، في العِبَارَة عنْ ثِقَل الهَمّ، وَالإحْسَاس بِهَوْل الحِمْل يَسْحَقُهُ صَغَار اً وحَقَارةً وضُعْفاً.
وهوَ المعْنَى الّذي نَجدُهُ مُصاحِباً للعَذابِ في آيَاتٍ في القُرآنِ الكَريمِ، مثلُ قوْلهِ تعَالَى في سُورَة(الأنعَام): ﴿ الْيَوْمَ تُجزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقولُونَ عَلَى اللهِ غَيرَ الحَقِّ و كُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾، وقولِهِ عزّ وجلَّ في سُورَة(فُصِّلَت):﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَـاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾،أَيْ عَذابٌ قَاهرٌ جَاثمٌ، فيهِ إذْلَالٌ وخِزيٌ ومَهَانةٌ. قال (الطَّبريّ) في (تَفسيرهِ): «وهوَ عَذابُ جَهنَّمَ الّذي يُـهينُــهُم فَيُذلُّهُم حتَّى يَعرفُوا صَغَار أَنفُسِهِمْ وذِلَّتَـــهَا».
ومنَ العَجِيب أنَّ أدَاةً تُستعمَلُ لِدَقّ الحُبُوب الصّلبَةِ وسَحقِهَا، تُسمّى (الهَاوُون)،علَى وزْنِ (فاعُول) منَ الفعْل(هَانَ).قالَ عَنها وعنِ اشْتِقاها صاحبُ (المصبَاح الْـمُنير): « وَالْــهَاوَنُ الَّذِي يُدَقُّ فِيهِ. قِيلَ بِفَتْحِ الْوَاوِ .وَالْأَصْلُ (هَاوُون) عَلَى (فَاعُول)، لِأَنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى (هَوَاوِينَ). لَكِنَّهُمْ كَرِهُوا اجْتِمَاعَ وَاوَيْنِ، فَحَذَفُوا الثَّانِيَةَ فَبَقِيَ (هَاوُن) بِالضَّمِّ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ (فَاعُل)، بِالضَّمِّ وَلَامُهُ وَاوٌ، فَفُقِدَ النَّظِيرُ مَعَ ثِقَلِ الضَّمَّةِ عَلَى الْوَاوِ، فَفُتِحَتْ طَلَباً لِلتَّخْفِيفِ».
وأمَّا الآيَة الثَّانيَة فجاءَتْ في سيَاق وصفِ حالَةِ (عِبَاد الرَّحْمَن)،وهُمْ يَمشُونَ بينَ النَّاس بِحُسنِ الخُلُق والتَّقْوى، في لِينٍ ورِقَّة ورِفْقٍ، وهمُ المقصُودُونَ بالحَديثِ الّذي روَاهُ(عَبدُالله بنُ مَسعُود): «حَرُمَ على النَّارِ كلُّ هيِّنٍ ليِّنٍ سَهْلٍ قَريبٍ منَ النّاسِ» .
وانْظُر إلى تلكَ الفَتحَةِ الخفيفَةِ اللّطيفَةِ، علَى حرْفِ (الهَاء)، ورِقَّةِ السُّكُون علَى حرْفِ (الوَاو)، في (هَوْناً)،كيفَ يُسهمُ صَوْتهُمَا الخَفِيف اللّيّن، في العبَارَة عنْ رِقّة النَّفْس ولِينِ الجَانِب والإحْسَاس بالسَّكينَة والوَقار ، والسُّمُو باللهِ. فإذَا دَخلتِ الضّمَّةُ علَى (الهَاء)، وصَغَّروا الكلمَةَ، تَحرَّكتِ (الواو) بالفَتْح، فخَفَّت الكَلمَة ولَانَت، فقالُوا (الْهُوَيْـــنَى). ومنهُ الحَديثُ في وصَفِ المصْطفَى صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: «كانَ يَمْشِي الْهُوَيْــــنَى». ومنهُ قولُ (الأَعْشَى) في مُعلَّقَتهِ:
غَرَّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارضُهَا *** تَمْشِي الْهُوَيْـنَى كَمَا يَمْشِي الْوَجِي الوَحِلُ
وفي (لِسانِ العَرَب): «الهُوَيْنَا : التُّؤَدَةُ والرِّفْقُ والسَّكينَةُ والوَقَار» جاءَ بهِ بالأَلفِ القَائمَة، لأنَّهُ قصَدَ إلى المقْصُور منْ مَمْدُودهِ : (الهُوَيْنَاءُ). وقدْ ذَكرَها(ابْنُ سِيدَهْ) في(المحْكَم) مَمْدُودةً فقالَ: «والهَوْنُ والهُوَيْناء: التُّؤَدَة والرّفقُ والسَّكينَةُ ».
وهَؤلاءِ الّذينَ يَمشُونَ علَى الأَرضِ هَوْناً، ليسَ يَفعلُونَ ذلكَ، ذُلّاً بإذْلالِ غيْرهِمْ لَهُمْ، وإنَّمَا تَذلُّلاً وتَزَلُّفاً إلَى خَالقِهِمْ ، يَتوَاضعُونَ فيَرفَعُهُم. وتقرَأ هذهِ الآيَة فإذَا أنْتَ تذْكُرُ قولهُ تعَالى في سُورةِ (الإسْرَاء): ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾.