مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أسْرارُ البَيَان في القُرْآن(11) البَيَانُ في التَّعبيرِ بِلَفظِ(العِهْن الْـمَنفُوش) في سُورَة(القَارِعَة).

            و ذَلكَ قولهُ تعَالى في سُورةِ (القَارعَة) : ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْـمَنْفُوشِ﴾. في تَصويرٍ دَقيقٍ لِـمَشْهَدِ الجبَال يَوْم تَقُومُ الساعةُ. وأنتَ تَجدُ ذلكَ خاصَّةً فِي كَلِمَةِ (العِهْنِ)، والّتي تَعْني (الصُّوف).  لكنْ لا عَلى التَّطابُق التّامِّ في الدَّلالَة، وإنَّما بزيَادَة معْنىً، يَجعلُ(العِهْنَ)يُرادُ بهِ، أَنَّهُ الصُّوفُ الْـمَصْبُوغُ أَلْوَاناً ؛ ذَكَرَ هَذَا عَدَدٌ مِنَ اللُّغويّين، وعلَى ذَلكَ وردَ في مَعاجمِ اللُّغَة.

       قالَ (ابنُ مَنظُورٍ) في (لِسانِ العَرَب) «اَلعِهْنُ:الصُّوفُ المَصْبُوغُ أَلْواناً؛ ومنهُ قولُهُ تعَالى: ﴿كَــالْعِهْنِ الْـمَنْفُوشِ﴾». وقالَ (الخَليلُ بنُ أَحمَدَ الفَراهِيديّ) في مُعجَم(العَيْن): «اَلعِهْنُ: الْـمَصْبُوغُ أَلْواناً منَ الصُّوفِ. ويُقالُ: كُلُّ صُوفٍ عِهْنٌ. قال عَرَّام: لا يُقالُ إلاَّ للمَصْبُوغِ». وكذلكَ قالَ(الزَّمَخشَريّ) في(الكشَّاف): «وشَبَّهَ الجِبَالَ بالعِهْن، وهُوَ الصُّوفُ الْـمَصبُوغُ ألْوَاناً، لأَنَّهَا أَلْوَانٌ، وبِالْـمَنْفُوشِ مِنْهُ؛ لتَفَرُّقِ أَجْزَائهَا».

       لكنَّ (القُرْطُــبــيّ) في تَفسيرهِ للآيَةِ الّتي في سُورَة(المعَارِج): ﴿وتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ﴾، قالَ:« كَالصُّوفِ الْـمَصْبُوغِ، وَلا يُقالُ للصُّوفِ عِهْنٌ إلَّا أَنْ يَكونَ مَصبُوغاً. وقالَ (الْحَسَن): ﴿وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ﴾،وهُو الصُّوفُ الأَحمَرُ، وهُوَ أَضعَفُ الصُّوفِ». فزادَ الْـمَعنَى تَخصيصاً بإدْخَال صِفَة (الحُمْرَة) عَليهِ.

         وهَذهِ الزِّيَادَةُ الَّتي نُسبَتْ (لِلْحَسَن)، ذَاتُ أَثرٍ فاعِلٍ في تَوْجِيهِ الْـمَعْنَى؛ ذلكَ أنَّ الجِبَالَ يَومَ القِيَامةِ تُنْسَفَ نَسْفاً، وتُبَسُّ بَسّاً، وقدْ زُلزلَتِ الأَرْضِ زِلْزَالَهَا، فَلا يَبقَى في الْجِبالِ، مع رُسوخِهَا وصَلابَتهَا، صَخرٌ عَلى صَخْرٍ، ولا ذُرىً علَى سَفْحٍ؛ إِذْ تَنْفجرُ، فلا يُرَى مِنْهَا إلا اللَّونُ الأحْمَرُ؛ حِمَماً ونيرَاناً مُلتَهبَةً. وقدْ ذَهبَ إلَى ذلكَ(الْـمَاوَرديّ) في(النُّكتِ والعُيُون)،بقولهِ: «ويُحْتَـــمَل أنْ يُـــــريدَ جبَـــالَ النَّار، تــــــكُونُ كَــالعِـــهْــنِ لِحُمرَتهَا وشدَّةِ لَهَــبِـــــهَا».

           والّذينَ اكْتَفوْا بأنْ قَالُوا: (هُوَ الصُّوفُ الْـمَصبُوغُ أَلوَاناً)،دُونَ ذِكْر اللَّونِ الأَحْمر، فقدْ يَكونُونُ قَصدُوا إلَى دَرجاتِ هذَا اللَّونِ وامْتدادَاتهِ، قُرباً منهُ وبُعداً، ممَّا يَظهرُ منْ أطْيَافِ الأَلوَان المختلفَةِ الّتي تَلوحُ للنَّاظرِ إلى اشْتِعالِ النّيران، والْتِماعِ لَهَــــبِــها.

          ولعلَّ ممَّا يُفيدُنَا اسْتدلالاً عَلَى هَذَا، قَوْلُ الشاعِر الجاهِليّ (زُهير بن أبي سُلْمَى) في مُعلَّقتهِ :

               كَأَنَّ فُتَاتَ العِهْنِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ

                                        نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الفَنَا لَمْ يُحَطَّمِ

 فشبَّهَ العِهْنَ في لَوْنِهِ بِـــ(حَبّ الفَنَا)، وَهُوَ حَبٌّ ذو  لَوْن أَحْمَر. لكنَّهُ كانَ دَقيقاً في وَصفهِ بَليغاً في نَعتهِ، فَأضافَ عِبَارَة(لَمْ يُحَطَّم)،وأَخرجَها عَلى ما يُسمَّى في البَلاغَة بـــ(الإِيغَال). وذلكَ لأنَّ هذَا الحَبّ، يَختلفُ لوْنُ ظَاهرهِ عَنْ بَاطنهِ، فهُوَ أَحمَرُ  منْ ظَاهرٍ، أَبْيضُ مِنْ باطِنٍ. قالَ(أبُو عَبد اللهِ الزَّوْزَنيّ) في (شَرحِ المعَلَّقات السَّبْع) : « كأَنَّ قِطَعَ الصُّوفِ الْـمَصبُوغِ الّذي زُيّنَتْ بهِ الهَوَادجُ، في كُلِّ مَنزِلٍ نَزَلَتْهُ هَؤلاءِ النِّسْوَةُ، حَبُّ عِنَبِ الثَّعلَب في كُلِّ حالٍ، غَيْرُ مُحَطَّمٍ؛ لأنَّهُ إذَا حُطِّمَ، زَايَلَهُ لَوْنُهُ. شَبَّهَ الصُّوفَ الأَحْمَرَ، بِحَبِّ عِنَبِ الثَّعْلَبِ قَبْلَ حَطْمِهِ». وقالَ (ابنُ رَشيقٍ القَيْروَانيّ) في كتابهِ(العُمْدَة في مَحَاسِن الشِّعْر)، عَن بَيتِ(زُهَيرٍ): « فَأَوْغَلَ في التَّشبِـيهِ إِيغالاً ،بِتَـشْبِـيــهِهِ مَا يَتَناثَرُ منْ فُتَات الأُرْجُوَان، بِحَبِّ الفَنَا الَّذي لَمْ يُحَطَّمْ؛ لأنَّهُ أحْمَرُ الظّاهرِ، أَبْيضُ البَاطِن. فإذَا لَمْ يُحطَّمْ، لَمْ يَظهَرْ فيهِ بَياضٌ أَلْبَتَّةَ، وكانَ خَالِصَ الحُمْرَةِ».

        وهَكَذَا تَخْلُصُ إِلَى أَنَّ تَشبيه الجِبالِ بالعِهْنِ المَنْفُوش، في هَذِهِ الآيَةِ، أي بالصّوفِ الأَحْمَر الَّذِي انْتَشَرَ  وَانْبَسَطَتْ أَجْزَاؤُهُ الحَمْرَاءُ، وَانْفَصَلَ بعضُها عَن بَعضٍ، كَانَ تشبيهاً في الغايَة منَ البَيانِ عنِ الصُّورَةِ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الجبَالُ يومَ القِيامَة. فهيَ كالصُّوف الْـمَنفُوش، وهوَ الَّذي يُندَفُ فَيَنفَصلُ بعضُهُ عنْ بعْضٍ، بعد أنْ كانَ مُلبَّداً، مُتمَاسكاً، فيَنتَشرُ جِرْمُهُ، ويَكبُرُ حَجمُهُ، لكنْ يَخفُّ وَزنُهُ ويَصيرُ أوْهَنَ شيْءٍ وأَضعَفَهُ، ثمَّ هُوَ لَيسَ أيَّ صوفٍ ، بلْ هُوَ صُوفٌ مَصْبُوعٌ بالأَحمَر. فكَذلكَ تَصير الجِبالُ، حَجماً و وَزْناً و لَوْناً.

         فتَدبّرْ  هذَا التَّشبيهَ في بيَانهِ الْـمُعجِز، كيفَ بُنيَ علَى انْفِساحِ الدَّلالَة في كلمَةٍ واحدَةٍ، وُضعتْ بحِكْمةٍ إلَهيّةٍ بَالغةٍ وقُدرةٍ بَيانيّةٍ رَبّانيّة مُقتَــــدرَة، فـــي الغَايـــةِ منَ الدّقَّةِ في اللَّطَافةِ و التَّقدِيرِ ، و كَمَالِ الإحَاطةِ في الْعِبَارَة والتَّصْوِيرِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق