مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أسْرارُ البَيَان في القُرآن(18) البَيانُ في العَلاقَة بَينَ (قَسْوَةِ القَلْبِ) و(ذِكْرِ اللهِ) في قَولهِ تعَالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ﴾

          و ذلكَ قولهُ تعَالى في سُورةِ (الزُّمَر) : ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ﴾ ، إذْ يستَوقفُكَ ذلكَ الجَمعُ بينَ (ذِكْرِ اللهِ) و(القَاسِيَةِ قُلُوبُهُم).فالعَلاقةُ بَينهُما تَسْتَثيرُ الفِكْر والنّظَر لخَفاءِ طَبيعَتها وانْبِهَام  وَجهِها.فإذَا بَنَيْنَا النَّظَر عَلى تَرَوٍّ فيهَا،اسْتلزَمَ ذلكَ بَداءَةً، الوُقُوفَ عندَ كلمَةِ(وَيْلٌ).

         ومنْ ثمّ نَجدُ أنّ المعاجِمَ قدْ ذَكرَتْ لهَا مَعانيَ مُتقَاربةً، فهيَ تعْني: (حُلُول الشَّرّ)، وهيَ: (الحُزنُ والعَذَاب والهَلَاك)، وهيَ: (وَادٍ في جَهَنّمَ). فيَتحصَّل لنَا منْ ذلكَ أنَّ مَعنى العَذابِ،معنىً جامعٌ فيهَا، لأنهُ يَصحبُهُ حُزنٌ، وأنّه يُفضي إلَى الهَلَاك.وكَذلكَ هُو إذَا جَعلنَاهُ وادِياً في جهنّمَ.

            لكنَّ انْتظامَ الكَلمَة في السِّياقَات المختَلفَة، يُوسِّعُ منَ الدَّلالَة أوْ يُضيِّقُها حسبَ ذلكَ الانْتِظامِ. وقدْ جاءَ ذلكَ في القُرآنِ علَى انْتِظامَيْنِ.أمّا الأوّلُ فبَــيّنٌ جَليٌّ، ودَلالتُه تُدرَك منْ أوَّل النّظَر، وذلكَ في مِثْل قولهِ تعَالى:﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾،﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُـمَزَةٍ﴾. فالمعْنَى فيَها بَيّنٌ جليٌّ، فيُفهَم منْ ذلكَ : (العَذابُ والهَلاكُ لِلمُطفّفينَ)، و(العَذابُ وَالهلاكُ لكُلِّ هُمزةٍ لُـمَزَةٍ).وهوَ نَظمٌ بجُملةٍ اسميَّةٍ بَسيطةٍ منْ مُبتدَأ وخَبَر.

          لكنَّ الانْتِظامَ الثَّاني أوسَعُ، بزيَادَة شِبْه جُملةٍ منْ جارّ ومَجرورٍ، بحيْثُ يَدخُل فيهِ حرفُ الجرّ(مِنْ)، فَيُخصِّصُ المعْنَى تَخصيصاً ويَقْصُرُه قَصراً علَى المجْرُور بـــ(مِنْ). لكنَّ المعهُودَ منَ الكَلامِ فيهِ أنْ يُساقَ كمَا سِيقَ في آياتٍ كَثيرةٍ علَى نَمَطٍ، سَهْلٍ مَنالهُ، قَريبٍ مَأخَذُهُ، تمرُّ عليهِ في يُسرٍ، فَهْماً وتصوُّراً؛ وذلكَ في مِثْل قولهِ تعَالى ﴿ فَوَيْلٌ للَّذِينَ كَفَرُوا منَ النَّارِ﴾.

           فأنتَ تجدُ أنَّ العَلاقةَ بينَ (الوَيْل ) و ( الكُفّار) و(النَّار)،  تَبدُو جَليّةً طَبيعيَّة. حيثُ يُفيدُ حرفُ الجرّ (مِنْ) مَعنَى (الابْتِدَاء). فتُدركُ أنّ العذابَ والهَلاكَ يُصيبُ الكفَّار، بِتَخصِيص مَصدَرهِ، بأنَّهُ يَأتي ابْتدَاءً منَ النَّار، فمِنْها يَصدُرُ وإلَيْـهمْ يَنتَهي. ومثلهُ قولُهُ عزّ وجلّ، في سُورَة (الزُّخرُف):﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾. وكَذَلكَ يَكونُ الأمرُ في قوْلِ النّبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: « وَيْلٌ للْأَعقَابِ مِنَ النّارِ». وقولهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في حَديثٍ آخَــــر: «وَيْلٌ للْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ».

         لكنَّ العَلاقةَ بينَ مُكوّناتِ الجُملةِ في الآيَة الّتي انْطلَقنَا مِنهَا في سورَة(الزُّمَر)، لَيستْ بِهذهِ البَساطَةِ، وإنْ كانَتْ علَى نَفسِ النَّسَق في انْتِظامِها. فَهيَ مُحوجَة إلى فَضْل تَأمُّلٍ وتَدبُّرٍ. فكيفَ يكونُ (ذِكْرُ اللهِ) فَاعلاً في هَؤلاءِ (القُسَاة) مَا تفْعَلهُ النَّارُ في الكُفّار ؟! .فَلا يَستقيمُ المعْنَى علَى أنْ نقُولَ: العَذابُ والهَلاكُ لِلقاسيَةِ قُلُوبُهم، يَصدُرُ مِنْ ذكرِ اللهِ. لأنَّ الثابتَ شَرعاً وعَقلاً وفِطرةً، أنَّ ذكرَ اللهِ يَبعثُ في النُّفوس أَمْناَ وطُمَأنينَةً، فَقدْ قالَ تعالَى ﴿أَلا بذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ .فَكيفَ يَكُون هُنا سَبباً في قَسوَة القُلُوب؟.

          فَلعَلّ في هَذا الانْتِظامِ لطِيفةً بَيانيّةً، تَستلزمُ فَضْلَ نَظَر. ولَعلّ أوّلَ مَا يُدركُهُ المتَمعِّنُ في تَركيبِ الآيَة، هوَ أنّ (مِنْ) في قولهِ تَعالى ﴿مِنْ ذِكْرِ اللهِ﴾ ، لمْ تأتِ علَى أصلِ مَعْنَاهَا الذي هُوَ (الابْتِداء)،كمَا كانَ الأمرُ في سَابق الآيَات، وإنَّما هيَ عَلى مَعنَى (السَّبَبيّة والتَّعْلِيل) كمَا في قولهِ تعَالى ﴿ عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾. وقولهِ عزّ وجلّ: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ﴾. أي بسَببِ الغَيْظِ، والحُزْنِ.

           وكأنَّ المعنَى هوَ: (العَذابُ والهلاكُ حَالٌّ بالَّذينَ تَقسُو قُلُوبهُم بِسَبَب أَنْ يُذْكَرَ  اللهُ لَهُم) . قالَ (القُرطبيُّ) في (تَفْسِيرهِ): «معنَى ﴿مِنْ ذِكْرِ اللهِ﴾ ، أنَّ قُلُوبَهُم تَزْدَادُ قَسْوَةً مِنْ سَمَاعِ ذِكْرِهِ» .وكذلكَ قالَ(الزَّمخشَريّ): «أيْ: إذَا ذُكرَ اللهُ عِندَهُمْ أوْ آيَاتُهُ اشْمَأزُّوا وازْدَادتْ قُلُوبُهُم قَسَاوَةً». وهذهِ هيَ القُلُوب الّتي بَلغتِ النّهايَة في القَسوةِ؛ ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾؛ فَتكونُ اسْتجابَتُها علَى النّقيضِ ممّا هَيّأَتهُ الفِطرَةُ السَّليمَة، إذْ إنّ ذِكرَ اللهِ لهُ علَى القُلُوب تأثيرُ الطّمَأنينَة والخُشُوع واللُّيُونَة والرِّقَّة . كمَا جاءَ بعدَ هذهِ الآيَة في قولهِ تعالَى: ﴿ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جَلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُم إلَى ذِكْرِ اللهِ﴾.

              حيثُ تَرى الاسْتجابَةَ قدْ جاءَت عَلى طبيعَتها وفِطرتِهَا، وتجدُ الكَلماتِ فيها علَى نَسقِ ذلكَ : (أَحْسَنَ الحديثِ وهو ذكرُ اللهِ) – (تَقْشَعِرّ) – (تَلِينُ جُلُودهُم وقُلوبُهم). لكنَّ الآيَة السابقَة جاءَتْ مُعبّرةً عنِ انْحرافٍ شَديدٍ عَن الفِطرَةِ: (ذِكر اللهِ) – (القَاسيَة قُلُوبُهم). لذلكَ كانَ الوَعيدُ لهمْ بالوَيلِ والعَذَاب.

       وأنتَ واجدٌ  في حكايَة شَكوَى النَّبيّ (نوحٍ) عليهِ السّلامُ، منْ قومهِ، مَشهَداً مُستَنكراً في قَسوَة القَلب وشدّةِ الإعْرَاض، وذلكَ في قولهِ تعَالى: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾.

       وهكَذَا ترَى أنَّ لِانْزِياحِ حرفِ الجرّ (مِنْ)، عنْ مَعناهُ الأصليّ، أَثَـراً جَليّاً في اتّساعِ الدّلالَة وغِنَاهَا. ثمَّ تدبّرْ تلكَ اللَّطيفَة البيَانيّة المتَمثّلةَ في الجَمْع بينَ(الوَيْلِ) وهوَ شرٌّ وَبيلٌ مُغلَق، وبَيْنَ(ذكرِ اللهِ) وهوَ خيرٌ  أَثِيلٌ مُطلَق. فلمْ يكنْ منْ مُوجِّهٍ للدَّلالَة فيهَا علَى وجْهِها سِوى ذلكَ الحرفِ الضَّئيلِ جِرْمُه، البَالغِ أثَرهُ في بناءِ المعْنَى في الجُمْلة.

          وإنْ شِئتَ مَثّلتَ، لَيَبِينَ لكَ الفرقُ في كلامِكَ، إذا قُلتَ مثلاً: (وَيلٌ للقَاسي مِنْ عَذابِ النَّار)، وإذَا قلْتَ: (وَيْلٌ لِلْقاسِي مِنْ ذِكْرِ اللهِ). فالمثَلانِ وإنِ اتَّفَقَا نَظْماً، فإنَّهمَا لا يَستويَان معنىً. فالمثالُ الأوّلُ تُدرِكُ منهُ شَديدَ وعيدٍ وتَهديدٍ، بعذابٍ يُصيبُ القاسِي منَ النّار، حيثُ حرفُ الجرّ(مِنْ) يُفيدُ (الابتِدَاء).

          بينَما المعنَى في المثَال الثَّاني علَى غير هَذا، فالعَذابُ والهلاكُ، لا يُصيبُ القَاسي مِنْ ذكْرِ اللهِ، وإنَّما مِن جِهةِ أنَّ قلبَه قَسَا في حَالٍ يَكادُ يَستَحيلُ فيهَا حُصُولُ القَسْوَة، وهوَ سمَاعُ ذِكرِ اللهِ، الرَّحمَن الرَّحيمِ، الّذي تَطمئِن بهِ القُلوبُ وتَلينُ الأفْئدَة، فالقَسوَةُ هَهنا حَصلَتْ بسَبَـب ذِكرِ اللهِ، حيثُ حرفُ الجرّ(مِنْ) يُفيدُ(السَّبـبِـيّة). وهذَا نَقيضُ الفِطرَة، بإعْراضٍ مُخْزٍ وعِنادٍ كُبَّار. وفي ذَلكَ بَيانٌ بديعٌ عنْ بُلُوغ تلكَ القُلُوب الغَايةَ في القَسْوَة والنهايةَ في الظُّـلْمَة، فتَقسُو عَنْ رَحمَةٍ، وتَسوَدُّ عنْ نُورٍ.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق