أسْرارُ البَيانِ في القُرْآن(15) البَيَانُ في أنَّ لفظَةَ(أَنْفُسكُم) يَتسِعُ معْناهَا ليَشمَلَ الذَّاتَ والغَيْرَ

و ذلكَ قولُهُ تعالَى في سورَة (البَقَرة) : ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُم أَنفُسَكُمْ باتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ فتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ . فأَنتَ تَرى أنَّ كلمَةَ ( أَنْفُسَكُم) قدْ تكرَّرتْ مرّتينِ في هذهِ الآيَة معَ فِعليْنِ مُختَلفَينِ: (ظَلَمْتُم أَنفُسكُم) و (فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُم).والسّياقُ المختَلفُ يُوحي بأنَّ المعْنَى فيهمَا مُختَلفٌ. لا سِيّمَا وأنّ كلمةَ(الَّنفْس)، تَستَغرقُ امْتدَاداتٍ دَلاليّةً تُخرجُها عنْ أَصلهَا إلى مَجازَاتٍ في دَوائرَ مُتداخِلةٍ، تَحفظُ الأصلَ، وتُلقِي بظلالٍ بَديعةٍ عَليهِ لا تَنفكُّ عنهُ، إلّا في ظَاهرٍ منَ المعْنَى.
وهكَذا، فــــ(النَّفس) ، لها مَعنىً أصليٌّ حقِيقيّ، يدلُّ علَى نَفسِ الإنسَان الّتي بَينَ جَنبَيهِ، والّتي بهَا حَياتُهُ وقيامُ وُجُودهِ، إنهَا ذاتُهُ وحَقيقتُهُ وجَوهرُهُ؛ قالَ (ابنُ مَنظُور) في (لسَان العَرَب): «قالَ أَبو إِسْحاق: الــنَّفْسُ في كَلامِ العَرَب يَجري عَلى ضَربَيْن: أَحدُهُما قولُكَ: خَرَجَتْ نَفْس فُلان أَي رُوحُه، وفي نَفس فلانٍ أَنْ يفعَلَ كذَا وكذَا، أَي في رُوعِهِ. والضَّرْبُ الآخرُ مَعْنى الــنَّفْس فيه، مَعْنَى جُمْلَةِ الشَّيءِ وحقِيقتِه، تقولُ: قتَل فُلانٌ نَفْسَــه وأَهْلَك نفسَـُـه أَيْ أَوْقَعَ الإِهْلاكَ بذَاتهِ كُلِّها وحَقِيقتِه».
وأنتَ تُدركُ ذلكَ بَداهةً في قولهِ تعالى عن الظّالمينَ: ﴿وَالْـمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِم أَخْرجُوا أَنفُسَكُمْ﴾. قال (ابنُ عَاشور) في (التّحرير والتّنْوير): «وَالأنْفُسُ بِمَعْنى الأرْواحِ، أيْ أخْرِجُوا أرْواحَكُم مِن أجْسادِكم، أيْ هاتُوا أرْواحَكم». كما تُدركهُ في قَولهِ عزَّ وجَلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهْلِيكُم نَاراً﴾.
لكنْ للكلمَةِ امْتِداداتٌ مجَازيَّةٌ يَتحكّم فيهَا السِّياقُ، تَصلُ حسَب بَعض اللُّغويّينَ، منهُم(الفَيرُوزآبادِيّ) في (القامُوس المحِيط)، و(المرتَضَى الزَّبِيديّ) في(تاج العرَوس)، إلى مَا جَاوزَ العَشْر منَ الدّلالات الْـمُختلفَة منهَا : (الرُّوح، والدَّم، والعَظَمَة ، والعِزَّةُ، والهِمَّةُ، والأنَفَةُ، والغَيْبُ، والإِرادَة، والعُقُوبةُ، والْـماء، والأخ...) . لكنَّ لهَا مَعنىً خفيّاً لَطيفاً ،وَارِدَ الذِّكْر، مَغْفُولَ الذُّكْر، وهوَ الدَّلالةُ علَى (الغَيْر) بمَا هوَ امْتِدَادٌ للذَّات، بعَلاقاتٍ رابِطةٍ لأنَّهمْ يَجمَعهُم جامعٌ منْ دمٍ أو رَحمٍ أو دِينٍ أوْ لغَةٍ أو غيرهَا منَ الجوَامعِ. وهوَ المقصُودُ في تَعبيرهمِ بـمعنى(الأَخ)،علَى اتّساع دَلالَتهِ.
وقدْ بيّن ذلكَ(الْـمُرتَضى الزَّبيدِيّ) بقولهِ: «قَالَ ابنُ خالَوَيْه: الــنَّفْسُ: الأَخُ، قَالَ ابنُ بَرّيّ: وشاهدُه قولُه تَعَالَى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِــكُمْ﴾. قلتُ: ويَقْرُبُ منْ ذلكَ مَا فَسَّر بِهِ (ابنُ عَرَفَةَ) قولَه تعالَى: ﴿ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والمُؤْمنَاتُ بأَنْفُسِــهمْ خَيْراً﴾، أَي بأَهْلِ الإِيمَان وأَهْلِ شَرِيعَتهم».
و بشَيْءٍ منَ التَّدبُّر ،يظهرُ لكَ أنَّ (أَنفُسَكمْ) في قولهِ تعَالَى ﴿ظَلَمْتُم أَنفُسَكُم﴾ ، قدْ جَاءتْ علَى حَقيقتِـها في الدَّلالةِ علَى ذاتِ الإنسَانِ؛ فبنُو إسْرَائيلَ باتّخاذهِمُ العِجْل وعِبادَتهِ قدْ ظَلَمَ كلّ واحدٍ منهُمْ ذَاتهُ، فهوَ الفَاعلُ للظُّلمِ، وهوَ الْـمُستَقبِلُ للظُّلمِ، هوَ الْـمُؤَثّرُ والْـمُتَأثِّر علَى السَّوَاء. لكنَّ (أَنفسَكم ) الثَّانيَة، في قولهِ تَعالى: ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُم﴾ تخْتَلف، فقَدْ أخْرجَ لَها كَثيرٌ منَ الْـمُفسِّرينَ دَلالةً أُخرَى؛ قالَ (الرَّازيّ) في (تَفسِيرهِ) : « فَقولُه ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُم﴾ ، مَعنَاهُ: لِيَقْتُلْ بَعْضُكُم بَعْضاً» .
وهذَا المعنَى أَجمَع عليهِ المفَسّرون، قالَ (القُرطبيّ) في (تَفسيرهِ): «وأَجْمَعُوا علَى أنّهُ لمْ يُؤمَرْ كلُّ واحدٍ منْ عَبَدَة العِجْل، بأَنْ يَقتُلَ نَفسَهُ بيَدهِ. قالَ الزُّهْرِيّ: لَـمّا قيلَ لهُمْ ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ ، قامُوا صَفّيْن وقَتَل بَعضُهُم بَعْضاً». فتكونُ حينئذٍ علَى وجهٍ تَخرجُ بهِ الدَّلالةُ في كلمَة(أنفُسكُم)،منَ المعنَى الأصليّ الّذي هوَ (الذَّات)، إلى دَلالةٍ مُمتدَّة بالمجَاز إلى(الغَير).ليكونَ القَتلُ فعلاً صَادِراً منَ(الذَّات) وَاقعاً علَى(غَيرِهَا).لكنَّ هَذا (الغَيرَ )،ليسَ أيَّ (غَيرٍ)،فمَا هُوَ غَريباً عَنهَا، ولَا هُوَ مُنبَتَّ الصلَةِ مِنهَا، بلْ هوَ امْتِدادٌ لهَا، ولهَا بهِ وُصلَةٌ ولُحْمَة. فهُمْ جميعاً منْ قوْمِ مُوسَى.
وقدْ ورَدَت كلمَةُ ( النّفْس) بهذَا المعْنَى في كَثيرٍ منَ الآياتِ، منْـهَا قولهُ تعالَى: ﴿ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُم﴾، والمرءُ لا يَلْمِزُ ذَاتَهُ، وإنَّما الْـمَقصُود: لَا يَلْمِزْ بَعضُكُم بَعضاً. فتكونُ (النَّفْس) في هذهِ الآيةِ بمعنَى (الغَيْر) ، وليْسَ (الذَّات): أيْ أَنّ الفاعلَ مُختَلفٌ عنِ المفْعُول، فاللَّامزُ شَخصٌ و الْـمَلموزُ شخصٌ آخَر .وتجدُ ذلكَ بيّنا جليّاً، في قوله تعالَى: ﴿وإذْ أخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخرجُونَ أَنْفُسَكُمْ من دِيَاركُمْ﴾، ثمَّ قال تعالَى بَعدهُ: ﴿ثمَّ أَنتُمْ هَؤلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرجُونَ فَريقاً مِنكُمْ مِن دِيَارهِمْ﴾. ألَا ترَى كيْفَ تَقابَلَت العِبَاراتُ،: (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُم = أَنتُمْ هَؤلاءِ تقْتُلُونَ أنفُسكُم)،(لَا تُخرجُونَ أنْفُسَكم = تُخرجُونَ فَريقاً مِنكُم مِن دِيَارهِمْ).فأَبَانَ السِّيَاق في الآيَتَين المتَوَاليَتَين أنَّ مَعنَى(أَنفُسَكم) مَحصورٌ قَطعاً في(غَيركُم) بالقَيدِ الدَّلاليّ السَّابِق:(الغَيْرُ، ذُو الصِّلَة والرَّابطَةِ). فهمْ يَسفكُونَ دماءَ غَيرهمْ، وهمْ يُخرجُونَ غَيرهُم منْ ديَارهِمْ. وَ هَؤُلاءِ مِنهُم.
لكنَّ معنَى (النَّفس) الحَقيقيّ، يَبقَى حاضِراً، مُمتدّاً في جَميعِ تَلاوينِ المجَاز؛ فالشَّخصُ الّذي يَلمزُ غَيرَهُ، هوَ كَمَنْ يَلمِزُ نَفسَهُ، لأنَّ المؤْمِنينَ إخوَةٌ. فهمْ كَنَفْسٍ وَاحدَةٍ وجسَدٍ واحِدٍ. وإلَى ذلكَ ذهبَ بعْضُهُم، كمَا أورَدَه (الزَّمخشَريّ) في (تَفسيرهِ): «وقيلَ: مَعناهُ لا يَعِبْ بَعضُكُمْ بَعضاً، لأنّ المؤمِنِينَ كَنَفسٍ واحدَةٍ. فمَتَى عابَ المؤْمِن المؤمِنَ، فكأنَّمَا عابَ نَفسَهُ». وقدْ فصَّل في ذلكَ (الفَخرُ الرّازيّ) في(مَفاتيحِ الغَيبِ)تَفصيلاً بَارعاً فقالَ: «قولُهُ تعالَى: ﴿ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾،فيهِ وجْهَان؛ أحدُهُما: أنَّ عَيْبَ الأخِ عَائدٌ إلَى الأَخِ، فإذَا عابَ عَائبٌ نَفْساً، فكَأنَّمَا عابَ نَفسَهُ. وثَانِيهمَا: هوَ أنَّهُ إذَا عَابَهُ، وهُوَ لا يَخلُو منْ عَيبٍ، يُحاربُهُ الْـمَعيبُ، فيَعيبُهُ، فَيكونُ هُوَ بعَيْبِهِ حامِلاً للغَيْرِ علَى عَيبهِ، وكأنَّهُ هوَ العائِبُ نَفْسَه. وعلَى هذا يُحمَلُ قولهُ تعالَى ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ﴾،أيْ: إنّكمْ إذَا قتَلتُم نَفساً، قُتِلْتُمْ. فتَكونُوا كأنَّكُم قَتَلتُم أَنفُسَكم. ويَحتَملُ وجهاً آخرَ ثالثاً، وهوَ أَنْ تَقولَ: لا تَعيبُوا أَنفُسكُم، أيْ كلُّ واحدٍ منكُمْ، فإنَّكُم إنْ فَعلتُمْ، فَقدْ عِبْتُم أنفُسَكُم، أيْ: كلُّ واحدٍ عابَ كلَّ واحِدٍ، فَصرتُمْ عائِبينَ منْ وجهٍ، مَعِيبِينَ مِنْ وَجْهٍ».
ولهَذَا كانَ ذلكَ الامْتدادُ الدَّلاليّ من: ( النَّفس :الرُّوح)، إلى: (النَّفْس: الأَخ). ولذلكَ تجدُ أنّ المعنَى يَقتَضي أحياناً هذَا الامتدَادَ، حتَّى فيمَا شاعَ فيهِ أنّهُ مَقصورٌ علَى المعْنى الأصليّ، كالّذي اسْتقرّ عليهِ مَذهبُ النَّاسِ، في قولهِ تعالَى في سورَة(النّساءِ): ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُم إنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحيماً﴾،منْ أنّ المرادَ، قَتلُ المرْءِ نَفسهُ، أوْ ما يُعرفُ بــــ(الانْتِحار)؛ يقولُ(القُرطبيّ) في (تَفسيرهِ): «وأجْمَعَ أهلُ التَّأويلِ علَى أنّ المرَادَ بهذهِ الآيةِ، النّهيُ أنْ يَقتُلَ بَعضُ النّاس بَعْضاً. ثمَّ لَفظُها يَتنَاوَل أنْ يَقتُلَ الرّجلُ نَفسَه، بقَصدٍ منهُ للقَتْل في الحِرْص علَى الدُّنيَا وطلَب المالِ؛ بأنْ يَحمِلَ نفسَهُ على الغَرَر المُؤَدِّي إلى التَّلَف. ويَحتمِلُ أن يُقالَ: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾، في حالِ ضَجَرٍ أو غَضبٍ؛ فهذَا كلُّهُ يَتناولهُ النّـهْـيُ».