مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أسْرارُ البَيانِ في القُرْآنِ(32) الْبَيانُ في التَّقْديمِ والتَّأخِير في قولِهِ تعَالى: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْـمَدِينَةِ يَسْعَى﴾

            و ذَلكَ قولُهُ تَعالى في سُورَة (القَصَص):﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْـمَدِينَةِ يَسْعَى ﴾،وَقولُهُ تَعالى في سُورَة(يَس):﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْـمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾. فإنَّه يَستَوقفُكَ، ذلكَ الاخْتلافُ في النَّظمِ بينَ الآيَتينِ، علَى تَطابُقٍ في الكَلمَات، لكنْ علَى وجهٍ بَديعٍ منَ التَّقديمِ والتَّأخيرِ ؛ذلكَ الأسْلوبُ الفريدُ الّذي توَسَّط يَتيمَة عِقْد البَلاغَة واسْتجلَبَ النَّظَر  في بَوَاكِيرهِ. ومن أَوائلِ الإشارَاتِ إلَى ذلكَ ما ذَكرهُ  (سِيبَويهِ) في (الكِتاب)، في (باب الفَاعِل الَّذي يَتعَدّاهُ فِعْلُهُ إلَى مَفعُول)،  وهُو  يَتحدَّثُ عنْ تَقديمِ المفعُول علَى الفَاعِل، فقالَ: « كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الَّذِي بَيَانُهُ أَهَمُّ لَهُمْ، وَهُمْ بِبَـيَانِهِ أَعْنَى، وَإنْ كانَا جَمِيعاً يُـهِمّانِـهِمْ ويَعْنِيَانِـهِمْ». فجَعلَ الاهْتِمامَ والعِنايةَ غَرضاً يَخرُج بالكَلامِ عنْ أَصلِ نَظمِهِ، ومألُوف صياغتهِ.

            ثمَّ منْ بَعدهِ، دَقَّ النّظَر، وذَهبتِ البُحُوث أشواطاً بَعيدَةً في التَّقصّي والاسْتِجلاءِ، فَإذَا الإمامُ (عَبدُ القَاهِر الجُرجَانيّ) يَقُول في(دَلائِل الإعْجَاز) عنِ(التَّقدِيم والتَّأخِير):  « هُوَ بابٌ كَثيرُ الفَوائدِ، جَمُّ الْـمحَاسنِ، واسعُ التَّصرُّف، بَعيدُ الغَايةِ . لا يَزالُ يَفتَــرُّ لكَ عنْ بَديعةٍ، ويُفضِي بكَ إلى لَطيفةٍ . ولا تَزالُ تَرى شعْراً يَروقُكَ مَسمَعهُ، ويَلطُفُ لَديكَ مَوقعُهُ، ثمَّ تَنظُر فَتجدُ سَبـبَ أنْ راقَكَ، ولَطُفَ عندَكَ، أنْ قُدِّمَ فيهِ شيءٌ، وحُوِّلَ اللّفظُ عنْ مكانٍ إلى مَكانٍ». 

             وأنتَ إذْ تتدبَّرُ ذلكَ في هذهِ الآيَة الكَريمَة الْـمُتكرّرَة، تجدُ أنّ السّياقَ فيهمَا مُختلِفٌ؛ فَفي(القَصَص)،جاءَ (الرَّجُل) ليُنبِّهَ (مُوسَى)، عَليه السَّلامُ، ويُحذّرهُ منْ بَطشِ(فِرعَوْن)، ويَنصحَهُ بالهَرَب. ففِعْلُهُ هذَا فعلٌ خاصٌّ منْ فَردٍ تُجاهَ فَردٍ: ﴿قالَ يا مُوسَى إنَّ الْـمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّـي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾. بَينمَا (الرَّجُل) الّذي في(يَس)،جاءَ ليَنصحَ قومهُ، ويُحذِّرهُم منْ عَذابِ اللهِ، بعدَ أنْ كذَّبوا الرُّسُل الثّلاثَةَ الّذينَ بَعثهُمُ اللهُ إليهِمْ. ففعلُهُ هذَا فِعلٌ عامٌّ منْ فرْدٍ تُجاهَ جَماعةٍ:﴿قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْـمُرْسَلِينَ﴾.

            لذَلكَ تَبايَنَ البنَاءُ النَّظميّ في الآيَتينِ؛ فنُلاحظُ أنَّ الفاعلَ (رَجُلٌ) قدْ جاءَ في الآيَةِ الأُولَى عَلَى أَصلِهِ بَعْدَ الفعْلِ، وهيَ رُتبَتُهُ الطَّبيعِيّةُ . بينَمَا في الآيَة الثَّانيَة تَأخَّرَ الفاعلُ(رَجُلٌ)، وفُصِلَ بَينهُ و بَينَ الفعْلِ بشبْهِ الجمُلةِ، في قَولهِ تعَالى ﴿ مِنْ أَقْصَى الْـمَدينَةِ﴾. وفي هذَا التَّقديمِ والتَّأخيرِ لَطيفَةٌ بيَانيَّةٌ بَديعةٌ، تُضيفُ مَعانيَ في غَايةٍ منَ البَدَاعَةِ والخَفَاءِ .

             وأوَّلُ ما يَلوحُ لكَ منْ بارقِ كَمالَاتِ هذَا البَيانِ، أنَّ قولَهُ في(القَصَص): ﴿وجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْـمَدينَةِ﴾،بِجَعْلِ(شِبهِ الجُملَةِ) بَعدَ الفَاعِلِ (رَجُلٌ)، يُوسِّعُ الدّلالَة، فيَفتَحُهَا علَى احْتمَاليْنِ اثْنَينِ؛ فإمَّا يحتملُ أنْ يكونَ(الرَّجُل) مُستَقرّاً في مَكانٍ يُوجَد بأقْصَى المدينَة، وكأنَّهُ يُنسبُ إليهِ؛ كمَا تَقولُ(رَجُلٌ منَ الْـمَغربِ)،أيْ يَنتَمي إلَى هذَا البَلَد. فيكونُ(الجارّ والمجرُورُ)صفةً لـــــ(رَجُل) تُخَصّصهُ. وإمّا يَحتملُ أنْ يكونَ (الرّجُل) قدِ ابْتدَأَ مَجيئَهُ منْ(أَقصَى المدينَة)، فتَكونُ(مِنْ) هنَا تُفيدُ (ابْتِداءَ الغايَةِ)، ويكونُ (الجارّ والمجرُورُ )صلةً للفعلِ (جاءَ)، أيْ مُتعلِّقاً بهِ. بَينمَا قولهُ في سورَة (يَس): ﴿وَجاءَ منْ أَقْصى المدِينَةِ رَجُلٌ﴾، فإنَّ تَقديمَ(الجارِّ والمجرُور) علَى (رَجُل)، يُضيّقُ الدّلالَة، فيَحصُرُها في احْتِمالٍ واحِدٍ، وهوَ أنَّ (مِنْ) هيَ لابْتِداءِ الغَايَة. فيكونُ المقصُودُ هنَا أنهُ انْطلقَ منْ مكانٍ بَعيدٍ، هوَ أقْصَى المدينَة. 

          ثمَّ إنّك بفَضلِ تَدبُّرٍ وبَصرٍ، يَنكشفُ لكَ بَديعُ بَيانٍ، يَستجلِبُ الفِكْرَ والنّظَر، ذلكَ أنّ (رجُلٌ) في الآيةِ الأولَى جاءَ نكرةً مَوْصُوفةً بشِبْهِ الجُملةِ(مِنْ أقْصَى المدِينَة)، وفي هَذهِ الحَالَةِ تُصْبِحُ النَّكرَة كالْـمَعرفَة، بَعْدَ أنْ تَخصّصَتْ. ويَكُونُ الفَعْلُ(يَسْعَى) بَعْدَها، مِنْ وَجْهٍ في الإعْرَاب، جُمْلَةً فِعْليَّةً، فِي مَحَلّ نَصبٍ، حَالاً، أيْ:(سَاعِياً)، بمَعنَى في حَال سَعْيٍ وإسْرَاعٍ. وقَد اعْتبَـرَ النُّحاةُ(النَّكرَةَ الموصُوفَة) منَ المعَارفِ، لذَلكَ جازَ الابتِداءُ بهَا في حَالَتهَا هَذهِ، كمَا يُبتَدأُ بالمعَارفِ. وممَّا جاءَ في القُرآنِ الكريمِ علَى مثلِ هذَا، قولهُ تعالَى في سورَة(التَّوبَة): ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ﴾،فالمبتَدَأ فيهَا (رِضوانٌ)، نَكرةٌ جوَّزَ الابتدَاءَ بهَا كَونُهَا مُخَصّصَةٌ بوصفٍ هوَ(الجارُّ والمجرُورُ: منَ اللهِ). وكذلكَ قولهُ تعَالى في سورَة(البَيّـنَة): ﴿رَسولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً﴾.

          بينمَا الآيَةُ الثَّانِيَةُ جَاءَ فيها (رَجُلٌ) نَكرَةً، لكنْ يُبَاشرُهُ الفِعْلُ (يَسْعَى)؛ فَيَكُونُ جُملةً فعليَّةً، في مَحلِّ رَفعٍ، نَعْتاً لــــ(رجلٌ)، إذِ الجُمَل بعدَ النَّكرَاتِ نُعُوت. وهُنا مَكْمَنُ المزيَّةِ البَيانيّة في اخْتِلافِ الحَالِ عَن النَّعْتِ. فالحالُ في الأصْلِ تُعتَبَـرُ مُتَنقِّلَةً أيْ مُتغيِّرةً، أمّا الصّفةُ، فَفيهَا مَعنَى الثّبوتِ والـمُلَازَمَة. وذلكَ كالفَرق بَينَ أنْ تَقولَ: (دَخَلَ الطّفْلُ ضَاحِكاً)،و(دَخلَ الطفْلُ الضَّاحِكُ)،فاللّفظُ الأوّل (ضاحِكاً)، يُعبّرُ عنْ حالٍ طارئَةٍ، وهَيْئَةٍ فيهِ صَحِبَتْ دُخُولهُ، ولا تَلبَثُ أنْ تَتغيّرَ، فَيصيرُ  إلَى حالٍ أُخرَى. بَينمَا اللَّفظُ الثّاني (الضّاحِكُ)،يُعبّرُ عنْ صفةٍ ثَابتَةٍ فيهِ لازمَةٍ لهُ، قبْلَ دُخولهِ وبعدَهُ.

          ومِن هُنَا فَالآيَةُ الأُولَى جَاءَتْ في سيَاقِ تَحذيرِ (مُوسَى) مِنْ مَلَإِ (فِرْعَوْن)، وذلكَ قبلَ بِعثتِهِ رَسُولاً . فكَانَ أَنْ جَاءَ (الرَّجُل) سَاعياً علَى إسرَاعٍ، ليَسْبقَ أعوانَ (فِرعَوْنَ) إِلى (مُوسَى)، لَعلّهُ يَجدُ فُسْحَةً للهَرَب. فالسَّعْي هنَا ليسَ صفَةً ثابتةً فِيهِ، وإِنَّمَا هِيَ حَالٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ مِن إِشفاقِهِ علَى (مُوسَى)، أنْ يلحَقهُ الأذَى منْ (فِرْعوْنَ). أمَّا في الآيةِ الثّانيَة فَالرَّجُلُ مُؤْمِنٌ مِنْ قَبْلُ ، قَدْ صَدَّقَ الرّسُولَيْنِ الاثْنَينِ المُرْسَلَيْنِ، ثُمَّ الثَّالِثَ الْـمُعَزّزَ  لهُمَا: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ﴾. فَسَعْيُهُ صِفَةٌ مُلازمَةٌ لهُ، لا حالَةٌ طارئَةٌ، فهوَ بحَقٍّ: (الرَّجُلُ السَّاعِـي) في كلِّ حالٍ، يَحملُ همَّ الدَّعوَةِ إلى اللهِ، وتسْكنُهُ إرَادَةُ التّبليغِ والنُّصرَة. فَيَكُونُ في سَعْيِهِ مَعنَى الإسْراعِ ، وفيهِ مَعْنَى اسْتدامَة السَّعْي للعَمَل الصّالحِ منْ أجلِ الآخِرَةِ، عَلَى  مَا جَاءَ في قوله تعالى ﴿ ومَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾. قالَ (ابْنُ عَطِيَّة)في(المحَرَّر الوَجِيز) : «هُوَ مُلازمةُ أعْمَالِ الخَير  وَأقْوالهِ » .فالسَّعيُ صفَةٌ مُلازمَةٌ لهُ، ولَيسَتْ حالَةً طارئَةً عليهِ. فالرَّجُلُ فِي الآية جَاءَ يَدْعُو إلَى تَصديقِ الرُّسُل، وهُوَ يُعْلِنُ إِيمَانَهُ ويُنكرُ عَليهمْ كُفرَهُمْ، لذَلكَ قَتَلُوهُ.

           وممَّا جاءَ على هذَا النّظم وبَديعِ البَيان، قولهُ تعالَى في سُورَة(غَافِر): ﴿وقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانهُ﴾. فالرَّجلُ المؤمنُ، كمَا ذهبَ إليهِ المحقِّقونَ منْ أَهلِ التَّفسِير، كانَ منْ (آلِ فِرْعوْنَ)، ويُخفي إيمانَهُ خوفاً علَى نَفسهِ. فمَجيءُ النَّظمِ علَى هذَا التَّرتيبِ: (رجلٌ مُؤمنٌ منْ آل فِرعونَ يَكتُمُ إيمَانهُ) يُبرزُ بجَلاءِ هذَا المعنَى ، إذْ يُعتَبرُ (الجارّ والمجرُورُ) حينَئذٍ، صفَةً ثانيَةً لــــ(رَجُل).ولوْ أُخّرَ  مثلاً، وكانَ الكلامُ: (رَجلٌ مُؤمنٌ يَكتُمُ إيمَانهُ منْ آل فِرعونَ)،لتَعلَّقَ الجارُّ والمجرُورُ بــــ(يَكتُمُ)، ولَذهبَ منَ المعنَى ذلكَ التَّخصيصُ، الّذي يَجعلُ الرَّجلَ منْ آلِ فِرعونَ خاصّةً، وَلَاحْتَمَلَ أن يَكونَ منْ بَني إسْرائيلَ، أوْ منْ غَيرهِم منَ النّاسِ. ولذلكَ تجدُ أنّ أئمَّةَ الوَقفِ والابتدَاءِ،قدْ وَقفُوا عندَ هذهِ الدَّقائِق اللَّطيفَة منْ أمثَال هذَا. فقدْ نَقلُوا منْ ذلكَ ما هوَ جديرٌ بأنْ يَستوقفَ النَّظَر ،ويَذهبَ بالتّدبُّر أَفانينَ يَانعاتٍ، وقُطوفاً دَانياتٍ؛ قالَ(أبُو بَكر بنُ الأنْبَاريّ-تـــ:328هـ)، في كتابهِ  (إيضَاح الوَقفِ والابْتِداء): « ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ﴾، وقفٌ حَسَنٌ. ثُمّ تَبتَدِئُ ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾، فَلا يَكُونُ الرّجُلُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ عَلَى هَذا المذْهَب. ومَنْ قالَ هُوَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقفَ عَلَى ﴿فِرْعَوْنَ﴾. وكذَلكَ قالَ(أبُو عَمْرٍو الدَّانيّ) في(الْـمُكتَفى).  

          وهَكَذَا اخْتَلَفُ السَّيَاقُ في المقَامِ والمقَال، فَاخْتَلَفَ التَّركيبُ وتَبايَن النَّظْمُ، تَقديماً وتَأخيراً، فادَّارَكَتْ لذَلكَ  الوَظَائِفُ النَّحْوِيَةُ تَتْـــرَى بَينَ الحَالِ والنَّعْتِ، بَينَ الوَصفِ والتَّعلُّقِ ؛ فكانَ لِذلكَ تأثيرٌ  عَلَى اتّسَاعِ الدَّلالَةِ وَانْبسَاطِ المعْنَى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق