مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

أسرار الصلاة 2

السعي إلى الصلاة

يقول جلال الدين الرومي: “الحب كالصلاة فكلاهما دون طهارة باطلان، والعشق كالوضوء إن شككت به انتقض”.

 

قال ابن أبي زيد القيرواني: ” والمصلي يناجي ربه فعليه أن يتأهب لذلك بالوضوء أو بالطهر”. [1]

الحب هو معنى صافي أصل طاهر يصيب القلوب، فلا ترى ولا تسمع ولا تحس إلا مما يأتي من المحبوب، والمصلي المتوجه المحب لا يسعه إلا أن يتأهب بصفاء قلبه وطهارته من الأغيار بأن يغسل روحه وجسمه من التعلقات الحسية والمعنوية ليقبل على الصفاء والنور، فالحضرة طيبة لا تقبل إلا طيبا، وهي في حلل الجمال لا تقبل إلا جميلا، فعلى المصلي أن يأتي طاهرا متزينا أنيقا إلى بساط الأنس، وعليه جلباب الوقار، موقنا بأنه عبد بين يدي الجبار، وفي قلبه ذل وانكسار، يقول الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف/31]، وما أمرنا إذ أمرنا بالتزين إلا له، فما سعينا ولا قيامنا في المسجد إلا له؛ لأن المسجد بيت من بيوت الله، “وقد جرت عادة الناس في ملاقاة الملوك: التهيء لذلك بما يقدرون عليه من حسن الهيئة؛ لأن ذلك زيادة تعظيم للملك، وتزيين البواطن بالمحبة والوداد أحسن من تزيين الظواهر وخراب البواطن؛ (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وملاقاة الملك بالذل والانكسار أحسن من ملاقاته بالتكبر والاستظهار”. [2]

وأعظم حرم يسعى إليه المصلي هو بيت الله الحرام، فهو محط الأنوار ومركز الأسرار، ومكان الوصل بين الأرض والسماء، فالسعي إليه يوجب الأدب العظيم، والقيام فيه يستدعي قمة الصفاء، التي لا تكون إلا بتمام الطهارة قلبا وقالبا، فمدار المعنى على قطع عوائق النفس وعوائدها وتزكيتها لتتخلص من أدرانها، وترقيتها في مدارج السلوك، حتى تكون صالحة للدخول إلى حضرة الصفاء والطهارة، عوض الاهتمام بتزيين الظواهر، والتعب في تحصيل المكاسب المادية، لذلك يتعجب أحد الصالحين ممن دأبهم تزيين المظاهر، بقوله :”العجب ممن يقطع الأودية والمفاوز والقفار ليصل إلى بيته وحرمه، لأن فيه آثار أنبيائه، كيف لا يقطع نفسه وهواه حتى يصل إلى قلبه؛ لأن فيه آثار مولاه؟؟ [3]

فالصلاة حب يصل بين العبد ومولاه، حب يجمع بين الأحبة، يكون فيها المخاطبة بين العبد وربه، لذلك فالسعي إليها فيه لذة عظيمة لا يعرفها إلا أهل المحبة، وأهل الشوق إلى لقاء حبيبهم وبهجة أرواحهم، وراحة قلوبهم، لما فيها من الوصال والاتصال، فأعظم بها من حال، وأكرم بها من مقام.

ذِكْرُهُ ذِكْري وذِكْرِي ذِكْرُهُ      هل يكون الذاكران إلا معا

هذه المعية التي تجمع المحبين، يبذلون فيها الغالي والنفيس للوصول إليها، فتراهم دائمي التأهب إلى لقاء حبيبهم، ولو كلفهم مهجتهم، لأن فيها أعظم راحة، وأعذب رحيق، قد مازج الشوق أرواحهم، واكتوت أكبادهم بنار العشق الذي محق عنهم كل السوى.

وهذا هو دأب الصالحين، وعليه سار الأولياء والمتقين، “وقد ثبت عن جماعة من الزهاد أنهم كانوا إذا أرادوا الصلاة لبسوا أحسن ثيابهم، وتأهبوا لمواجهة الله تعالى ومناجاته بأفضل ما آتاهم من نعمته، وأخلص ما حضر كل واحد منهم من نيته، ويحق ذلك؛ لأنها لمَّا كانت أكرم الأحوال تُؤُهِّب لها بأكرم الهيئات”. [4]

الهوامش :

[1] رسالة ابن أبي زيد القيرواني (مالك الصغير)، لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، ومعها إيضاح المعاني على رسالة القيرواني، كتبها: أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، دار الفضيلة، القاهرة، مصر، د(ط/ت)، 26.

[2] البحر المديد، 2/349.

[3] صفة الصفوة، 2/342.

[4] سراج المريدين في سبيل الدين، لابن العربي المعافري،  1/97.

المصادر والمراجع المعتمدة:

  • القرآن الكريم.
  • البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، لأبي العباس أحمد بن محمد بن المهدي ابن عجيبة الحسني، تحقيق: عمر أحمد الراوي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 2010م.
  • رسالة ابن أبي زيد القيرواني (مالك الصغير)، لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، ومعها إيضاح المعاني على رسالة القيرواني، كتبها: أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، دار الفضيلة، القاهرة، مصر، د(ط/ت)، 26.
  • سراج المريدين في سبيل الدين لاستنارة الأسماء والصفاة في المقامات والحالات الدينية والدنيوية بالأدلة العقلية والشرعية القرآنية والسنية وهو القسم الرابع من علوم القرآن في التذكير، إملاء إمام الأئمة وزين الملة الفقيه الحافظ النظار أبي بكر محمد بن عبد الله بن محمد ابن العربي المعافري الإشبيلي (543هـ)، ضبط نصه وخرج أحاديثه ووثق نقوله: عبد الله التوراتي، دار الحديث الكتانية، طنجة، المغرب، الطبعة الأولى، 1438هـ/2017م.
  • صفة الصفوة، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تحقيق: أحمد بن علي، دار الحديث، القاهرة، مصر، طبعة: 1421هـ/2000م.
Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق