وحدة الإحياءدراسات عامة

أساسيات منهجية للاستمداد من الوحي

يستوقف الناظر في حال الأمة وواقع طوائفها ومختلف فرقها، أنها كلها تنطلق من الوحي قرآنا وسنة في بلورة فهمها للدين وممارستها له في الحياة، وبناء قناعاتها ومناهجها ومواقفها تجاه مختلف قضايا المعاش والمعاد، لكن ما يوجد بينها من اختلاف وتمايز ليس دائما اختلاف تنوع وتكامل وثراء، وإنما هو أحيانا اختلاف افتراق وتضاد وتنازع، ينضاف إليه تعثر واضح في بلوغ التي هي أقوم في شتى مناحي الحياة.

وبناءً على هذا الواقع يمكن صياغة إشكالية الموضوع على النحو التالي:

“كل المسلمين يستمدون من الوحي كتابا وسنة، فلماذا اختلفوا إلى مذاهب وفرق متعارضة؟ ولماذا تخلفوا عن الاهتداء إلى التي هي أقوم في هذا العصر؟”.   

فالوحي واحد ومن شأن الاحتكام إليه، أن يوحد الأفكار والتصورات والمواقف، لكن التنزيل العملي له على مستوى الفهم والتصور ومناهج العمل به في رحاب الحياة؛ اختلف من فرقة إلى أخرى، تبعا لاختلاف مناهج الاستمداد والتي هي اجتهاد بشري قابل للصواب والخطأ والزيادة والنقصان. وانطلاقا من هذه الحقائق يمكن صياغة الفرضية الآتية:

“اختلال مناهج الاستمداد من الوحي يؤدي إلى اختلال الفهوم والأفكار المستمدة، واختلافها إلى حد التعارض بدل التكامل، وإلى الذهول عن التي هي أقوم في مجالات الحياة؛ وهذا ما يفرض العمل على ضبط أساسيات منهجية للاستمداد من الوحي”.

أصول المعارف المستمدة من الوحي

يفيد التحقيق في طبيعة المعارف التي يمكن استمدادها من الوحي قديما وحديثا، أنها لا تخرج عن أساسيات الدين؛ والتي لا يهتدي إليها العقل لوحده بمعزل عن إرشاد الوحي وتوجيهه. فهي من جهة إخبار عن غيوب محجوبة عن الأنظار، قابلة للاستدلال عليها بآيات الله في الأنفس والآفاق، وعلى رأسها أركان الإيمان وعلاقة الخالق بمخلوقاته وبالبشر منهم على الخصوص، ومن جهة أخرى تعريف الإنسان بحقيقته الذاتية، ومكانته في هذا الكون، ولماذا خلقه الله؟ وما هي المهمة التي كلفه بها في الحياة الدنيا؟ وما مسار حياته الذي ينطلق على هذه الأرض؟ ثم بعد ذلك ما هو نهج الله المرتضى لعباده في كل زمان ومكان، وفي هذا الزمان خاصة، لينعموا بسعادتي الدنيا والآخرة؟

أما غير هذه الأمور؛ مما يستطيع الناس أن يتوصلوا إليه بحسن استخدام طاقة عقولهم ونتائج تجاربهم العلمية، ومراكمة خبراتهم في أضرب المعرفة على امتداد الوجود البشري، فإن ذلك كله لا يستمد من القرآن، ويترك لاجتهاد الآدميين بحسب المعطيات المتجددة في الزمان والمكان.

وهكذا يمكن حصر استمدادات الوحي، في مضامينه المركزية التي أبدأها القرآن وأعادها مرارا في متنه، بعبارات صريحة وأساليب بليغة، وبينها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقوله وعمله وتقريراته، وتجسدت في فهم وسلوك صحابته رضوان الله عليهم، وفصلتها كتب العقيدة والفقه والسلوك والأخلاق، وتصانيف العلماء الأعلام على مدى تاريخ الإسلام. وفيما يلي أصول المستمدات من الوحي:

  1. معرفة الله تعالى بصفاته العلى وأسمائه الحسنى، وأنه سبحانه لا حد لكمالاته، ومعرفة ملائكته المقربين ورسله المصطفين لتبليغ رسالاته للناس.
  2. معرفة علاقة المخلوقات بالخالق، وأنها إما عبودية مفروضة أو عبودية مختارة.
  3. معرفة خصوصيات الآدميين باعتبارهم مستخلفين في الأرض، ومسخر لهم ما فيها وما في الكون، ومسئولين عن أعمالهم بين يدي الله يوم القيامة.
  4. معرفة حقيقة الحياة الدنيا باعتبارها مجال استخلاف الإنسان وممارسته للتكليف.
  5. معرفة شرع الله “موضوع المسؤولية الإنسانية”، ونهجه المرتضى اعتقادا وعبادة وسلوكا لنيل السعادة في الدنيا والآخرة.
  6. معرفة جانب الغيب المرتبط بمهمة الاستخلاف وتبعاتها: مثل البعث والحساب والثواب في الجنة والعقاب في جهنم.
  7. معرفة أحكام الشريعة الأصلية، واستنباط حكم الله للقضايا المستجدة في واقع الإنسان المتغير على امتداد الزمان والمكان.

والمسلم اليوم وهو يعيد استمداد هذه الأمور من الوحي من جديد، بما يناسب ظروفه الراهنة وتطور المعارف البشرية، يحتاج وبصورة ملحة إلى استمداد رؤى جديدة وحلول ملائمة، لما يطرح على الأمة الإسلامية من تحديات ومهمات جسام، ولما أفرزته الحضارة المعاصرة، من أزمات ومشاكل تعاني منها الإنسانية برمتها.

أساسيات لبناء منهج سديد للاستمداد من الوحي

وهذه الأساسيات يمكن حصرها فيما يلي:

1. إخلاص القصد لله والتزام النزاهة العلمية

أودع الله في كتابه خاصية التفاعل مع المتلقي، بحسب حرصه على هديه وسعيه بصدق وإخلاص لسلوك نهجه، الموصل لرضى الله وتوفيقه لخيري الدارين. قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 281).

فعلم الوحي لا يكفي لتحصيله إتقان طرق الاستنتاج والقياس وكل الأدوات المنهجية، وإنما يتوقف النفاذ إلى لب حقائقه على عون الله وتوفيقه، وهذا ما أكده القاضي أبو بكر بن العربي حيث قال: “وإنما ينبغي أن يعتني ببسط الأدلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد، فإذا عرضت النازلة أُتيت من بابها، ونشدت في مظانها، والله يفتح في صوابها”[1].

فعندما يتلقى جمع من الناس آية من القرآن أو حديثا نبويا، تختلف استفادة كل واحد منهم، تبعا لما ينتظر سماعه، وتتوق إليه نفسه من يقين ورشاد، أومن تشكيك وتكذيب. قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ (التوبة: 125-126).

كما يحكم عملية الاستمداد من الوحي، ما تعتقد النفس أنه هو الغاية من نزول القرآن، أو هو الاتجاه السائد في مضمونه، والذي يتعين اعتباره في فهم ما غمض من معانيه أو خفي من أحكامه، وهذا يقتضي تحري أقصى درجات النزاهة العلمية الممكنة، وأعلى مراتب التجرد عن المؤثرات الذاتية والبيئية.

ويتدخل مزاج الدارس وعلمه والمعارف المتداولة في بيئته، والمذهب المهيمن في العقيدة والفقه، فهذه العوامل تغدو موجهات حاسمة لتأويل النصوص الشرعية، وكل هذه العناصر تتعاضد لتدفع بعملية الاستمداد في اتجاه معين، إنها ملابسات ومناخ ثقافي يقتضي تحديد الأطر المرجعية “براديغم”، بالاطلاع على مناهج الاستمداد المتوفرة، بهدف تبين ما فيها من صواب للاسترشاد به، وتجنب ما فيها من قصور واختلال والاحتياط من الوقوع فيه.

فما من شك أن كل عملية استمداد من الوحي، تؤطرها خلفية فكرية وعقدية ومذهبية معينة، توجهها في اتجاه يخدم قناعاتها ويدافع عنها، وينسجم مع توجهات تلك الخلفية ولا يتعارض معها.

ولقد أورد السيوطي مجموعة من التفاسير الغريبة لبعض آيات القرآن منها على سبيل المثال: تفسير (حم عسق) حمعسق؛ إن الحاء حرب عليّ ومعاوية، والميم ولاية المروانية، والعين ولاية العباسية، والسين ولاية السفيائية، والقاف قدوم المهدي.. ومن ذلك قول من قال في ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أنه قصص القرآن، واستدل بقراءة أبي الجوزاء: ولكم في القصص، وهو بعيد.. ومن ذلك قول من قال في ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ أنه الحب والعشق، وقد حكاه الكواشي في تفسيره[2].

يقول الدكتور أحمد أبو زيد: “ولما ظهر الخلاف بين الفرق الإسلامية، وشرعت كل فرقة في تأويل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وجمعها لتأييد رأيها، ووجدت كل فرقة في ألفاظ هذه النصوص، في كثير من الأحيان، مرونة كبيرة، تعينها على حملها على ما يوافق آراءها، فعل ذلك الخوارج والمرجئة والقدرية، والمعتزلة أنفسهم”[3] وساق أمثلة عن إخضاع كل فرقة النص الشرعي للانتصار به لمذهبها، فجعلته تابعا لا متبوعا.

2. العلم بالعربية وعلوم الوحيين والعلوم العصرية

لا غرو أن من يروم الاستمداد من الوحي إذا استطاع أن يلم بأكبر قدر من مناهج علوم الوحي وعلوم العصر كان ذلك أعون له على حسن الفهم عن الله وإصابة الصواب، ونجملها فيما يلي:

  • العلم باللغة العربية والذي كلما اتسع نطاقه تيسر به فهم المراد دون تعثر أو وهم أو التباس؛
  • علوم القرآن من أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات وغير ذلك مما ينضبط به الفهم ويستقيم؛
  • الحديث وعلومه لكونه مبينا للقرآن؛
  • الفقه وأصوله للاقتدار على استنباط المعاني والحكم والأحكام؛
  • الإلمام بمناهج علوم العصر التجريبية إذا أمكن، والإنسانية على الخصوص من سياسية واقتصادية واجتماعية وفلسفات، والتي لا تخفى أهميتها في تقديم البلاغ المبين، وحسن تنزيل مبادئ الوحي على الواقع؛
  • الوعي بالتوجهات الفكرية العالمية، وأزمة الحضارة المعاصرة، وما لها من إيجابيات وما عليها من سلبيات وعيوب، حتى يلتمس لها المخرج في هدي الوحي وبيناته.

3. استخلاص مقاصد الوحي الأساسية باستقراء توجيهاته وأحكامه ومضامينه

أ. حاجة الاستمداد إلى ضبط المقاصد

تعتبر المقاصد بكل مراتبها من أهم ما يتعين استحضاره في عملية الاستمداد من القرآن والسنة، ويكون للمقاصد المعتمدة دور حاسم في توجيه نتائج الاستمداد وتقويم المناهج المتبعة فيه.

فقد تفطن مفسرو القرآن منذ عهد الصحابة، إلى وجود موضوع محدد في كل سورة من سور القرآن، تدور حوله جميع آياتها أو معظمها، مُشَكِّلَةً مقصدا خاصا بهذه السورة أو تلك، يتعين الاحتكام إليه أثناء تأويل مضامينها، مما ييسر فهمها وفهم ما ورد فيها من كلام الأولين والآخرين من أهل التحقيق، أكثر من تناول الآيات مجردة عن موضوع السورة[4].

ونجد بعض المفسرين قديما وحديثا يولون تحديد موضوع السورة أهمية كبرى قبل التصدي لتفسيرها نذكر منهم سيد قطب في تفسيره: “في ظلال القرآن”.

وأما العلامة الطاهر بن عاشور فعرف عنه اعتباره المقاصد منظورا كليا وجه تفسيره التحرير والتنوير ومجمل إنتاجه العلمي.

ويعد التفسير الموضوعي من تطبيقات النهج المقاصدي في الاستمداد من القرآن، حيث يرصد موضوعا معينا حول قضية إنسانية أو اجتماعية، مما يتصل بواقع الناس وتشتد حاجتهم لمعرفة منظور الشرع إليه حكما ورؤية.

كما أن النهج المقاصدي هو مفتاح باب الاجتهاد الفردي والجماعي، وقد حصر الإمام الشاطبي شروط الاجتهاد ومؤهلاته في صفتين هما: فهم المقاصد على كمالها، والقدرة على الاستنباط من خلالها. ولو نظرنا إلى بعض الاجتهادات الفقهية، لوجدنا أنّ قسما منها خضع لمنهج في التفسير يأخذ بالاعتبار المقاصد الشرعية، كالاجتهادات التي صدرت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في كثير من المواقف التي واجهته، كاجتهاده في إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم من أموال الزكاة، لما قدر بأن دواعي تشريعه زالت مع تكاثر الداخلين في الإسلام.

ومثل هذا إيقاف عمر حدّ السرقة في عام المجاعة، لوجود حالة العوز الشديدة الملجئة إلى مد اليد لما يسد به الرمق، ويحافظ به على نبض الحياة ودفع خطر الموت.

ب. صياغة المقاصد الأساسية

عندما يتصدى الباحث لاستخلاص المقاصد الأساسية للوحي، ينتهي به استقراء توجيهاته وأحكامه وجميع مضامينه إلى تحديد ثلة من المقاصد، التي يمكن وصفها بالأساسية أو العامة، وفي هذا الصدد “يفرق الغزالي في كتابه “شفاء الغليل” بين الأصول المقاصدية المستقرأة من عموم النصوص الشرعية، وبين المقاصد الخاصة أو الجزئية المتعلقة بأفراد الأحكام المنصوصة، التي تضمنت أيضا النص على مقاصدها التشريعية الخاصة”[5]. والتي تؤطر عملية الاستمداد وترسم لها آفاقا واضحة وحدودا معلومة، تتحكم في استيعاب الهدي الرباني، وفهم دلالات الخطاب الإلهي وأبعاده.

ومعلوم أن عملية الاستمداد من الوحي تواصلت منذ بعثة الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا، متجاوبة مع حاجات الأمة والتحديات المواجهة لها، فكانت محصلة الجهود المبذولة، المكتبة الإسلامية بجميع مكوناتها في صنوف المعرفة، تفسيرا وفقها وثقافة عامة وعلوما مختلفة، وإبداعا فنيا وحضاريا في السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع.. لكن تجدد حاجات الأمة وتحدياتها المعاصرة، يفرض اليوم كما في كل زمان ومكان تجدد عملية الاستمداد، حتى تكون قادرة على صياغة مناهج جديدة وحلولا مناسبة لهذا العصر، تمكن من تقوية صلة المسلمين بدينهم وترشيد انفتاحهم على إيجابيات العصر، وتحصينهم ضد مفاسده البينة والخفية.

فلابد أن يكون لكل جيل استمداداته من الوحي؛ التي يجب في حقه القيام بها بكفاية واقتدار، حتى يحيا بهدي الله داخل ظروفه الخاصة؛ والمغايرة لما كان عليه الأسلاف في عدة جوانب منها.

على أنّ من مقاصد القرآن أمران[6]:

أحدَهما؛ كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لِمختلِف استنباط المستنبطين، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين.

 وثانيهما؛ تعويد حَمَلة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة، بالتنقيب، والبحث، واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة في كلّ زمان لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية.

وما من شك أن حاجة الأجيال الحالية، غدت أشد إلحاحا إلى الالتحام بدينها وقيمه الخالدة، وجمع شملها والارتقاء بأخلاقها، والرفع من قدراتها لمسايرة الركب العلمي والتطور التكنولوجي، مما يعد من مقاصد الدين العامة البارزة في كثير من نصوص الوحي، المؤكدة على شرطي الأمانة والقوة للاستخلاف في الأرض والقيام بمهام إعمارها الجسيمة؛ ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور: 53).

فالاستمدادات من الوحي تظل موجهة بما يوضع من مقاصد أساسية للإسلام ولا تخرج عنها، وإذا وجد من الاستمدادات ما لا يندرج تحت أي مقصد أساسي؛ فإنه يستدعي إعادة النظر في صياغة تلك المقاصد، حتى تستغرق جميع الاستمدادات الجديدة.

4. إدماج المقاصد الأساسية في مقصد واحد عام

تعتبر عملية تحديد المقاصد الأساسية خطوة هامة في اتجاه التوصل إلى صياغة المقصد العام المفرد للإسلام، والذي بدونه تظل عملية الاستمداد عسيرة، ومؤدية إلى قدر من اختلال الفهم وتشتت الفكر وعرقلة الاستنباط، مما يحول دون تحقيق استمداد سليم وتام.

ويشهد لضرورة اعتماد مقصد عام واحد لضمان بلوغ الاستمداد المطلوب، كونه ينسجم مع وحدانية الله تعالى، ويناسب طبيعة دين التوحيد، ويوافق وحدة الذات المتلقية للوحي. فالله الواحد له في الخلق مقصد عام واحد، هو عبادته طوعا أو كرها كما هو مبين في القرآن: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56) و﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا﴾ (آل عمران: 82)، وهذا المقصد العام قد يتفرع إلى عدة مقاصد جزئية وتفصيلية، توضح ما أجمل فيه من المعاني والتكاليف العملية. والدين باعتباره منهج السلوك إلى الله، وتحقيق العبودية له وحده، لا يتصور فيه أن يقود الناس إلى الله في طريقين أو أكثر، غير طريق واحد، هو الصراط المستقيم، الذي يسأل العبد الله الهداية إليه في صلاته سبع عشرة مرة في اليوم.

 ثم إن المكلف وإن تعددت عليه أوامر الشرع ومنهياته، ووجد نفسه أمام مقاصد للدين عديدة؛ فإنها تؤول به إلى مقصد واحد جامع وشامل. وكلما فقه ما بينها من التكامل والانسجام، كان أقدر على فهم مراد الله من كلامه، وأفلح في حمله على أحسن محمل ووافق فهمه المقصود، وإذا عشي نظره عن إبصار تجليات الوحدة، من خلال تعدد مكوناتها وتلاحم عناصرها، فإنه واقع لا محالة في التشويش والبلبلة، اللذين سينتهيان به إلى الارتباك واضطراب الفهم عن الله، وفتور العزيمة ووهن النفس، كما هو بارز في المثل الذي ضربه القرآن: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 28).

ويشترط في المقصد العام تحقيق ما يلي:

  • إيلاء المكلف المكانة اللائقة في صياغة المقصد العام باعتباره هو المعني بنزول الوحي والمخاطب بمضمونه؛
  • تجسيد نسقية الوحي وتماسك أدلته وتكامل أحكامه؛
  • كشف الخفي من أسرار الشريعة وزيادة توضيح لحكم أحكامها؛
  • التمكين من التقريب بين الأفهام والاستمدادات من الوحي ودرء التضاد بينها.

ومن نماذج المقاصد العامة ما نجده عند الشاطبي في قوله: “المقصد الشرعي من وضع الأحكام إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد الله اضطرارا”[7] وكذا ما بين به الأستاذ علال الفاسي، المقصد العام للشريعة حيث قال: “المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض، واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع”[8]؛ فواضح من الصياغتين تركيزهما على دور المكلف المتفاعل مع الوحي والمنفعل به والفاعل في الحياة على هديه.

5. اختبار مدى شمولية المقصد العام المعتمد وتسديده لعملية الاستمداد

 لتأكيد شمولية المقصد العام المتوصل إليه لجميع مقاصد الدين، وأنه بعيد عن تأثير الأوهام والظنون، وقصور النظر وضعف الإحاطة بأحكام الدين ومجمل حقائقه، يمكن اختبار مدى صحة اعتماده بالاحتكام للمعايير المنهجية التالية:

أ. استيعابه لكليات الدين وغاياته الكبرى

أول معيار يمكن من اختبار المقصد العام، هو استيعابه لكليات الدين وغاياته الكبرى، بحيث تتأكد هيمنته عليها جماعة ووحدانا، وتمتد بينه وبين كل واحد منها علاقة واضحة، تربط بينهما في غير تمحل ولا اعتساف، وإذا كانت العلاقة دون الإحكام المطلوب، أجريت على المقصد العام التعديلات الضرورية، حتى يتحقق الانسجام اللازم بينه وبين كليات الدين وغاياته.

ب. امتداد حضوره في جميع توجيهات الشرع وأحكامه التفصيلية

كما يشترط في المقصد العام استجابته للمعيار الأول، فإنه أيضا يشترط فيه أن تكون له ظلال ممتدة، في جميع توجيهات الشرع وأحكامه التفصيلية، أو في معظمها على الأقل، باعتبار أن الحكم للغالب في الشريعة الإسلامية، فعلى هذا المستوى يمكن السماح باستثناءات محدودة، عملا بالقول المأثور عند العلماء “لكل قاعدة استثناء”، وقولهم: “الاستثناء يؤكد القاعدة ولا يبطلها”، وكلما قلت حالات عدم ارتباط جزئيات الدين مع مقصده العام، كان ذلك دليلا قويا على ملاءمته للتعبير عن روح الدين السارية في جميع جزئياته بعد كلياته.

جـ. إثبات قدرته على تيسير فهم نصوص الوحي وطبيعة الحياة وتفسير معضلاتها وحل مشكلاتها الراهنة

لا تنحصر وظيفة المقصد العام في إبراز تماسك الشريعة، وسعيها لتحقيق غاية كبرى واحدة، وإنما يتعدى ذلك للاضطلاع بمهام أخرى، مثل تيسير فهم نصوص الوحي والاستمداد منها، ذلك أن تفسير الفقهاء للنصوص، واستنباطهم منها، تستحضر فيه وتستصحب المعاني والحكم والمصالح، التي يعمل الشرع على تحقيقها ورعايتها. وهو ما يكون له أثره في فهم النص وتوجيهه والاستنباط منه. فقد يصرف النص عن ظاهره، وقد يقيد أو يخصص، وقد يعمم وظاهره الخصوصية”[9].

وكذا فهم طبيعة الحياة التي جعلها الله مجال ابتلاء الإنسان والاستخلاف فيها، وجاءت معلومات الشرع بالعلم اللازم، وكيفيات العمل القمينة بإدراك حقيقتها، وفك رموزها والتغلب على صعوباتها، وتفسير مظاهرها ومواجهة معضلاتها، ورفع إشكالاتها وبسط هيمنة الشرع على متغيرات الواقع ومستجداته، واستمداد أحكام ذلك وحلوله من نصوص الوحي الثابتة.

د. بروز فعاليته في مجال بناء الإنسان الصالح المصلح والأمة الرائدة

وكما يتيح المقصد العام ضرورة إعداد التعامل الأقوم مع مشاكل الوجود البشري، يجب أن يمكن من تجديد فعالية المسلم، وتنمية قدراته ومواصلة خيريته، ومضاعفة عطاءاته في مختلف ميادين الفعل الحضاري والعمل الصالح اللازم للارتقاء بالحياة، وتأكيد ريادة الدين ونموذجية منهجه، وصلاحيته لكل زمان ومكان.

فلابد أن تشع من ألفاظ المقصد العام روح دفاقة، تملأ النفس حيوية وتوثبا للعمل والإنجاز، وتغمرها بمعاني المسؤولية والكرامة والثقة بربها ودينها.

ومعلوم أن الإسلام لا يمد النفس بمنافعه وفضائله وذخائره، إلا إذا أحسنت فهم مقصوده وتفاعلت معه تفاعلا صحيحا، ومن خلال رؤية سديدة ليس فيها غبش أو عوج. وتأثير مفاهيم الإسلام وهدي الوحي، يكون دائما على قدر وضوحها، وانكشاف مراميها ومعانيها في القلب، الذي تكون استنارته بنورها على حسب ما يستقر منها في سويدائه.

وهذا المطلب لا يكفي لبلوغه، المداومة على استعراض مضامين الوحي، ومحاولة الإلمام بها، وإنما لابد مع ذلك من منهج يوصل إلى بلورة رؤية مركزة، تلم شتات المفاهيم والأفكار، وتصوغها في عبارة جامعة، تعكس مقصدا عاما واحدا.

6. انسجام المقصد العام المتوصل إليه مع منهج استمداد رسول الله وصحابته والتابعين

يعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خير من استمد المعرفة والهداية وأحكام الشريعة، من الوحي قرآنا وحديثا، فكان أعظم الناس فهما لما اشتملا عليه من تعليم وإرشاد، وأكثرهم استمدادا منهما، ويتلوه في المرتبة الثانية صحابته الكرام، الذين تنزل عليهم القرآن نجوما وهو غض طري، وسمعوا الحديث من فم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصغت له آذانهم وحدث به بعضهم بعضا، فوعوا خطاب الوحي أتم وعي، واستوعبوا بيناته أكمل استيعاب، ورأوا آثارها جلية في نفوسهم وأهلهم، وكيف قلبت أحوالهم رأسا على عقب، من شرك وخرافة إلى وحدانية وإيمان متبصر، ومن فرقة وضعف إلى وحدة وعزة، ومن خنوع وتبعية إلى سيادة وريادة.

فيقتضي الأمر تبين مدى انسجام المقصد العام المتوصل إليه، مع منهج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصحابته والتابعين في الاستمداد من الوحي، وهل يفضي الانطلاق منه لتحقيق ذات المكاسب والنتائج التي تحققت في عهد رسول الله وصحابته، مع مراعاة تغير ظروف الأمة اليوم والتحديات المواجهة لها، عما كان عليه الأمر في القرون الأولى.

فالأمة الإسلامية اليوم في أشد الحاجة لاستمدادات كثيرة وكثيفة من الوحي المنزل عليها، والذي ضمنه رب العزة كل ما يحقق لها أسباب الهداية والعزة واستئناف الإنجاز الحضاري، بعد كبوة وتوقف، بل وتراجع عن مواقع الصدارة والريادة. “عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه،ِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ”[10].

فالمقصد العام المعتمد في وظيفة الاستمداد، يشترط فيه التوجيه إلى مواصلة ما انقطع من عطاء الإسلام، لنشر الإيمان والهداية والسلام، والرقي الروحي والمادي، الذي باتت أمة محمد بشقيها أمة الاستجابة وأمة الدعوة في تطلع متزايد إليه، ليعم الأمن والوئام والتعاون والتفاهم أرجاء العالم.

وإذا بدا إغفال المقصد العام لاستحضار هذا البعد، وجب إدخال ما يلزم من التعديلات المناسبة عليه، قبل الاطمئنان لاعتماده النهائي.

الهوامش

  1. “أحكام القرآن” لابن العربي، لبنان: دار الكتب العلمية، 2/215.
  2. انظر “الإتقان في علوم القرآن” للسيوطي، بيروت: المكتبة الثقافية، 1973، 1/451.
  3. “المنحى الاعتزالي في البيان وإعجاز القرآن”، لأحمد أبو زيد، الرباط: مكتبة المعارف، ص141.
  4. انظر محاضرة تحت عنوان “مقاصد السور وأثر ذلك في فهم التفسير”، للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، مسجلة بموقع www.tafsir.org وذكر فيها أن القاضي أبا بكر بن العربي، كتب كتابا في مقاصد السور وتناسب الآيات والسور ولما لم يلق قبولا لدى الناس أحرقه.
  5. “ضوابط اعتبار المقاصد”، عبد القادر بن حرز الله، مكتبة الرشد، ط1، (1428هـ/2007م)، ص180.
  6. “التحرير والتنوير”، للطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، 1984، 3/33.
  7. “الموافقات”، للشاطبي، دار الفكر، 1/114.
  8. “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”، لعلال الفاسي، الدار البيضاء: مكتبة الوحدة العربية، ص41-42.
  9. “نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي”، لأحمد الريسوني، الدار البيضاء: المكتبة السلفية، ص258.
  10. الموطأ.
Science
الوسوم

ذ. عبد السلام الأحمر

• عضو المكتب التنفيذي للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق