مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات محكمة

أحسن الحديث (6): الوقاية الصحية من خلال سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحابته أجمعين.

وبعد،

فإن الشريعة الإسلامة شرعت مجموعة من الوسائل للمحافظة على النفس البشرية، وجودا ودواما واستمرارا.

 فأما من جهة الوجود: فقد شُرع الزواج من أجل التناسل والتكاثر، وإيجاد النفوس لتعمر العالم، وتشكل بذرة الحياة الإنسانية في الجيل الخالف.

 وأما من جهة الاستمرار والدوام : فقد أوجبت على لإنسان أن يمد نفسه بوسائل الإبقاء على حياته من: تناول المباح من الطعام والشراب، وتوفير اللباس والمسكن، ورعاية الجسم رعاية كاملة.

كما دعت الشريعة إلى النظافة والطهارة، واعتبرت الجسم السليم والقوة الجسدية ميزة المؤمن القوي؛ إذ هو أحب إلى الله من غيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”[1]، وطلبت البعد والوقاية عن كل ما فيه هلاك محقق للجسم، أو خطر محدق أو ضرر منتظر، وحرمت كل ما يضر بالجسم، أو يوهنه، أو يضعفه.

وقد جاء في سنة وسيرة المصطفى صلى الله وسلم مجموعة من النصوص تدعو وتوجه المسلم إلى العناية بسلامة جسده، والمحافظة على نظافة البيئة التي يعيش فيها، والوقاية من انتشار الأمراض والأوبئة المُعْدِية، حرصًا منه صلى الله عليه وسلم على سلامة المسلم ومجتمعه، وباقي البشرية كلها، فإن الأمراض المعدية إذا انتشرت في مجتمع، فإنها لا تخصُّ أتباع دين دون دين، ولا تختار إنسانا دون إنسان، ولكنها تؤثر على حياة الناس في المجتمعات كلها، وقد يُهلك الجميع، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً للعالمين)[2].

وتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاداته للمسلمين، إلى  ما فيه خير، وتنبيههم على الابتعاد ما فيه شر وضرر كثيرة ومتعددة.

ومن توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم في مجال الوقاية الصحية ما يلي:

* توجيهاته الوقائية قبل وقوع المرض:

 وتتمثل في حثه صلى الله عليه وسلم على نظافة الجسم المعبر عنها بالطهارة، كالوُضوء المجيز للصلاة من: غسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، إضافة إلى المضمضة، والاستنشاق والاستنتار، وهذه الأعضاء كلها من الجسد تتعرض للغبار والأوساخ، والجراثيم والميكروبات، كما أوجب الاغتسال من الجنابة، وانقطاع دم الحيض، والنفاس.

 ومما يدل  على عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالوقاية، وجَعل ذلك من سنن الفطرة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”خمس من الفطرة: تقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، والاختتان”[3].

وقال صلى الله عليه وسلم: “الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وقص الشارب، وتقليم الأظفار”[4].

كما رغب النبي صلى الله عليه وسلم في المحافظة على نظافة وطهارة الفم، فقال صلى الله عليه وسلم: “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء”[5].
* توجيهاته صلى الله في تناول الأطعمة والأشربة الواقية من الأمرض، ونهيه عن الضارة منها.

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تناول بعض الأطعمة والأشربة، ودعا إلى  أخرى، وبين آداب تناولها،  كنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل بعض الحيوانات وشرب ألبانها مثل ذي الناب والمخلب، وحض على تناول بعض الأنواع من الطعام والشراب، وإرشاده إلى نظافتهما كالتغطية والصيانة من الأوساخ والجراثيم، قال صلى الله عليه وسلم: ” غطوا الإناء وأوكئوا السقاء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء، لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء، إلا نزل فيه من ذلك الوباء”[6]، وإلى آداب الطعام والشراب كالنهي عن الأكل متكئا، وعدم ملء البطن بالطعام والشراب، فعن المقداد بن معد يكرب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما ملأ آدمي وعاء شرا من بَطْن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنَفَسِه”[7].

 هذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها لو استعمله الناس لتعطلت دكاكين الصيادلة؛ لأن أصل كل داء التخمة[8].
*  توجيهاته صلى الله عليه وسلم في المحافظة على نظافة البيئة :

إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهتم بأمر المسلم من حيث: نظافة جسده وثيابه فقط، بل اهتم كذلك بنظافة البيئة التي حوله، والمحافظة عليها، حتى يعيش الناس في بيئة صحية خالية من الأوبئة والأمراض، سواء تعلق الأمر بثلوت  الماء، أو الهواء، أو الطريق، أو العناية بنظافة المرافق الصحية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه”[9]، وما رواه معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل”[10].

* توجيهاته صلى الله عليه وسلم عند انتشار الأوبئة المعدية.

إن مجموعة من الأمراض ثبت الطب قديما وحديثا أنها معدية وخطيرة تنتقل عن طريق المخالطة  والملامسة غالبا، أو عن طريق القطرات المنبعثة من الفم، وغير ذلك، والوقاية منها تحتاج إلى الاحتراز،  وعدم ملامسة المريض، والعزل الجزئي أو الكلي أو ما يسمى بالحجر الصحي، وهو من أهم الوسائل للحَدِّ من انتشار الأمراض الوبائية في العصر الحاضر، وبموجبه يُمنع أي شخص من دخول المناطق التي انتشر فيها نوع من الوباء، والاختلاط بأهلها، وأيضا يمنع أهل تلك المناطق من الخروج منها.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في مجموعة من الأحاديث مبادئ الحجر الصحي، فمنع الناس من الدخول إلى المنطقة المصابة بالوباء كالطاعون وغيره، ومنع كذلك أهل تلك المنطقة من الخروج منها، ومن الأحاديث الدالة على الابتعاد الكلي عن صاحب المرض المعدي،  ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “فر من المجذوم كما تفر من الأسد”[11].

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى» فقام أعرابي فقال: أرأيت الإبل، تكون في الرمال أمثال الظباء، فيأتيها البعير الأجرب فتجرب؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن أعدى الأول»[12].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يوردن ممرض على مصح»[13].

وجعل  للصابر على المكوث أجر الشهيد، فعن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرني: «أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد»[14].

وقال صلى الله عليه وسلم: “إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها”[15].

هذا ما تيسر جمعه في هذا الموضوع والحمد لله رب العالمين.

****************

هوامش المقال:

[1]  أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، رقم: (2664) (1 /462).

[2]  سورة الأنبياء، الآية: 106.

[3]  أخرجه مالك في الموطأ، صفة النبي صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في السنة في الفطرة، رقم: (3407)(5 /1349).

[4]  أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب الختان بعد الكبر ونتف الإبط، رقم: (6297)(8 /66).

[5]  أخرجه البخاري في كتاب الصيام، باب سواك الرطب واليابس للصائم، (3 /31).

[6]  أخرجه مسلم في صحيحه،كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها، وإطفاء السراج والنار عند النوم، وكف الصبيان والمواشي بعد المغرب، رقم: (2014) (3 /1596).

[7]  أخرجه الترمذي في أبواب الجهاد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، رقم: (2380) (4 /590).

[8]  التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثًا النووية(ص: 100).

[9]  أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم،  رقم: (238)، (1 /57).

[10]  أخرجه النسائي في كتاب: الطهارة، باب المواضع التي نهي عن البول فيها، رقم: (26)(1 /21).

[11]  أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الجذام، رقم: (5707)(7 /126).

[12]  أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب لا عدوى، رقم: (5775)(7 /139).

[13]  أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب لا هامة، رقم: (5770)(7 /138).

[14]  أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، رقم: (3474)(4 /175).

[15]  أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، رقم: (5728)(7 /130).

*************

جريدة المصادر والمراجع:

التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثًا النووية ـ ومعها: شرح الأحاديث التي زادها ابن رجب الحنبلي، لإسماعيل بن محمد بن ماحي السعدي الأنصاري، مطبعة دار نشر الثقافة ـ الإسكندرية، ط1، 1380هـ.

الجامع الصحيح  لمحمد بن إسماعيل أبي عبد الله البخاري الجعفي  تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ.

السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث السِّجِسْتاني، تحقيق: شعَيب الأرنؤوط ـ محَمَّد كامِل قره بللي، دار الرسالة العالمية، البلد، ط1، 1430 هـ ـ 2009 م

السنن لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة، الترمذي،  تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر. ومحمد فؤاد عبد الباقي، وإبراهيم عطوة عوض ،  مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ مصر، ط2، 1395 هـ ـ 1975م.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

موطأ الإمام مالمك صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، 1406هـ.

عبد الفتاح مغفور

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق