مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات محكمة

أحسن الحديث (12): من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: الصدق

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

وبعد؛

فقد أكرم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالنصيب الأوفر، من الصفات الحميدة، والأخلاق العلية، فكان أحسن الناس خلقا، وأجملهم أدبا؛ فهو عليه الصلاة والسلام مرسل؛ لإتمام مكارم الأخلاق ومحاسنها، وإعطاء القدوة والنموذج الأمثل. قال عليه الصلاة والسلام: ” بعثت لأتمم حسن الأخلاق”[1].

وقد أثنى عليه ربه في كتابه العزيز بعظيم الخُلق قال تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)[2]، وكان مصدر هذه الأخلاق محل بيان من أمنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ إذ تقول عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه ويسخط بسخطه”[3]، فأخلاقه عليه الصلاة والسلام كثيرة ومتعددة، ولا يمكن حصرها، وقد تم الاقتصار في هذا المقال على خلق: الصدق، وذلك لأنه من أعظم الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان في حياته ؛ قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) [4].

والصدق معناه: مطابقة الأقوال والأفعال لباطن الحال[5] .

 وقال القشيري: “الصدق نهاية الأحوال، وهو استواء السّرّ والعلانية “[6].

وعرفه العلماء بما يأتي: التوافق بين العمل والعلم صدق، والتطابق بين القلب واللسان صدق، والتساوي بين السر والعلانية صدق[7].

ومن صور صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ما يلي:

* اشتهارصدق الرسول صلى الله عليه بين قومه، وشهادة أعدائه  بذلك:

اشتهر النبي صلى الله عليه وسلم بصدقه وأمانته بين قومه، “وكان ألد أعدائه صلى الله عليه وسلم  يعترفون بأنه صادق وأمين، وكانوا يلقبونه منذ طفولته بالصادق الأمين، ولهذا كانوا يتحاكمون إليه  صلى الله عليه وسلم  في قضاياهم قبل الإسلام”[8].

“قال علي رضى الله عنه: قال أبو جهل للنبى صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب مما جئت به، فأنزل الله تعالى (فإنهم لا يكذبونك) [9]”[10].

وقال الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيرى وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك والله إن محمد ا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة، والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش[11].

*حث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته على الصدق وتربيتها على ذلك:

فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على الصدق في أقوالهم وأفعالهم، بل في كل شيء، فقال صلى الله عليه وسلم: “إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا”[12].

وعن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا أؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم”[13].

 ورَبَّى أحفاده والمسلمين صلى الله عليه وسلم  على الصدق وركزه في نفوسهم فعن أبي الحوراء السعدي، قال: قلت للحسن بن علي: ما حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة “[14].

* صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في المزاح:

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَّصِفا بصفة الصدق في كل أفعاله وأقواله؛ حتى في وقت المرح المزاح ، فعن ابن عمر قال: قال رسول الله: “إني لأمزح ولا أقول إلا حقا”[15]. وعن أنس: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم،  فقال: يا رسول الله، احملني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنا حاملوك على ولد ناقة”، قال: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:”وهل تلد الإبل إلا النوق[16].

*صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في الغضب والرضا:

عن عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الغضب والرضا؟ فأمسكت، حتى ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ” اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما خرج منه إلا حق “[17].

ولدى ينبغي الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم  في التحلي بالصدق والديمومة عليه، لأنه طمأنينة وأمان، والابتعاد عن الكذب؛ لأنه  ريبة  وخيانه، قال الله عز وجل: (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة) [18].

وأختم بقول الإمام القرطبي رحمه الله: “حق على كل من فهم عن الله أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضا الغفار”[19]

************

هوامش المقال:

[1]  أخرجه مالك في الموطأ  بلاغا، في كتاب حسن الخلق،باب ما جاء في حسن الخلق،  رقم : ( ٍ8)

[2]  القلم الآية: 4.

[3]  أخرجه البيهيقي في دلائل النبوة، ومعرفة أحوال صاحب الشريعة(1 /309ـ 310).

[4]  التوبة، الآية: 120

 [5]  التيسير بشرح الجامع الصغير(1 /589).

[6]  تفسير القشيري(2/71).

[7]  رحمة للعالمين للمنصورفوري (ص: 972)

[8]  رحمة للعالمين(ص: 246)

[9]  الأنعام  الآية: 34

[10]  الشفا(1 /30)

[11]  الشفا(1 /135)، هداية الحيارى لابن قيم (ص: 193).

[12]  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الآداب، باب قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) وما ينهى عن الكذب، رقم: (6094)(8 /25).

[13]  مسند الإمام أحمد رقم: (22757)(37 /417).

[14]  أخرجه  الترمذي،  في أبواب  أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم: (2518)(4 /249).

[15]  أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، رقم: (995) (1 /298).

[16]  أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب  باب في المزاح، رقم: (4998) (7 /348).

[17]  مسند الإمام أحمد، مسند عبد الله بن عمر بن العاص، رقم: (6802)(11 /406).

[18]  الأحزاب، الآية: 21.

[19]  تفسير القرطبي (8 /289).

**************

جريدة المصادر والمراجع:

التيسير بشرح الجامع الصغير، لزين الدين عبد الرؤوف المناوي، دار النشر مكتبة الإمام الشافعي ـ الرياض ـ 1408هـ ـ 1988م.

الجامع لأحكام القرآن،  لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح شمس الدين القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية ـ القاهرة، ط2، 1384هـ ـ 1964م.

دلائل النبوة، للبيهقي ، دار الكتب العلمية ـ بيروت،ط 1ـ 1405 هـ.

رحمة للعالمين، لمحمد سليمان المنصورفوري، ترجمه من الأردية إلى العربية: د. سمير عبد الحميد إبراهيم، دار السلام للنشر والتوزيع ـ الرياض.

السنن  لأبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو السِّجِسْتاني، تحقيق: شعَيب الأرنؤوط ـ محَمَّد كامِل قره بللي، دار الرسالة العالمية، 1430 هـ ـ 2009 م.

سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبي عيسى، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر. ومحمد فؤاد عبد الباقي، وإبراهيم عطوة عوض،  مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ مصر، ط2، 1395 هـ ـ 1975 م

الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي أبي الفضل عياض اليحصبي معه مزيل الخفاء عن ألفاظ الشفاء لأحمد بن محمد بن محمد الشمنى، دار الفكر بيروت لبنان، 1409 هـ ـ 1988م.

لطائف الإشارات  (تفسير القشيري)، لعبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري تحقيق: إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ مصر.

لطائف الإشارات ( تفسير القشيري)، لعبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري، تحقيق: إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ مصر، ط2.

مسند الإمام أحمد بن حنبل تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرين، مؤسسة الرسالة، البلد، ط1، 1421 هـ ـ2001 م.

المعجم الأوسط،  لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني،  تحقيق : طارق بن عوض الله بن محمد عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين ـ القاهرة ، 1415 هـ.

موطأ الإمام مالمك بن أنس اعتناء: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان،:1406 هـ .

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لمحمد بن أبي بكر أبي عبد الله ابن قيم الجوزية، منشورات  الجامعة الإسلامية ـ المدينة المنورة.

عبد الفتاح مغفور

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق