وحدة الإحياءدراسات عامة

أثر الفلسفة والمنطق في العلوم الإسلامية.. نقد وتركيب: مدخل إلى بحث ابستيمولوجي في العلوم الإسلامية

 تمهيد: الفلسفة والمنطق أو الفكر الوافد

اعتبر المنطق منذ أرسطو إلى اليوم جزءاً لا يتجزأ من الفلسفة، بل هو جزؤها الأهم. وكانت عندها الفلسفة هي أم العلوم. كما كانت أولى المعارف التي وصلت إلى المجال المعرفي العربي عبر عمليات الترجمة التي أنجزها نصارى السريان. ولما كانت الفلسفة مزودة بآليات المنطق وأشكاله الاستدلالية، اعتبرت عند بعض متلقيها في المجال العربي بمثابة “قوانين الفكر” و”بديهيات البرهان الأساسية[1].” أما العلماء الآخرون فلم يتقبلوا الفلسفة والمنطق بقبول حسن، بدعوى أن طريقها نظري ويختلف تماما عن روح الأبحاث العربية ذات المنحى التجريبي[2]. إضافة إلى أن علماء المسلمين كانوا يرون أن الفلسفة اليونانية في نشأتها، إنما صدرت عن روح ديني مخالف لرؤيتهم الدينية الإسلامية[3]، وأن ميتافيزيقاهم مخالف في جوهره لميتافيزيقا اليونان[4]. ولكن طيف الفلسفة والمنطق امتد على مختلف العلوم خصوصا من حيث منهج المحاججة والجدل والمغالطة، ولم يفلت من تأثيرهما، سلبا أو إيجابا، حتى العلوم الإسلامية الأصيلة، خاصة الفقه والأصول، اللذين يفترض فيهما أن يكونا بعيدين عن المؤثرات الخارجية. بل إن الأفلاطونية المحدثة دخلت في علم من أشد العلوم الإسلامية أصالة، وهو علم الحديث، عبر الأحاديث القدسية الموضوعة مثل حديث: “أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر..” الحديث[5]، وغيره من الأحاديث التي تصدى لها علماء الحديث، وقاوموا كل الأفلاطونيات مقاومة عنيفة[6].

وعليه، اشتهرت مذاهب اليونان وأحكامهم في المجال العربي من خلال الفلسفة والمنطق، واختلط الفكر الهيليني بالفكر العربي، وكثرت كتب البرهان والخطابة والشعر والجدل والسفسطة والمنطق، ولما كانت هذه الكتب تحمل في جوهرها روح حضارة اليونان وعلمهم وفلسفتهم، ثار نقاش حاد في الوسط المعرفي الإسلامي عن هذا الوافد الجديد، وعن صلاحيته وإمكانية إدماجه في المجال العربي من خلال عمليات تداخلية مثمرة. وهذا ما خلف آراء متضاربة حول وجود الفلسفة والمنطق إلى جانب المعارف الإسلامية الأصيلة، إلى درجة اعتبرت الفلسفة والمنطق اليونانيين فتنة حقيقية بين علماء الإسلام. وعرض هذا النقاش يفيدنا في تبيُّن مستوى الوعي النظري بتداخل المعارف وضوابطهما عند علماء المسلمين في المراحل الأولى لتشكل العلوم الإسلامية.

  1. أولا: كيف استقبلت المعرفة الإسلامية الفلسفة؟

اكتسبت عملية نقل التراث الفلسفي اليوناني إلى المجال المعرفي الإسلامي وتيرة سريعة في المرحلة العباسية؛ ذلك أن العملية قد تحولت من إطار العمل الفردي الضيق إلى إطار العمل المتخصص المتبنى من قبل الدولة نفسها. وكانت حركة النقل هذه مفتاح التمازج الثقافي الحضاري العميق بين الفكرين اليوناني والعربي الإسلامي. فقد عرف العرب والمسلمون أعمال أفلاطون وأرسطو من خلال الترجمة، وكذلك من خلال كتب فيلسوف الإسكندرية أفلوطين صاحب “التاسوعات” التي نقلت إلى العربية[7]. وهذا لا ينفي تواصل العرب مع المراكز الفلسفية قبل عصر الترجمة المعلوم في العصر العباسي، وهذا ما شرحه بتفصيل مؤرخ الفلسفة الإسلامية اللامع علي سامي النشار، مع انتقاده للمؤرخين المستشرقين مثل ماكس مايرهوف في ادعائه بداية اتصال المسلمين بالفلسفة اليونانية في القرن الهجري الثاني[8].

وعليه، تكوَّن وضع فكري، جراء هذا النقل، في المجال المعرفي الإسلامي ظاهره التمازج بين فكرين وباطنه ومستقبله اصطدام بين مرجعيتين مختلفتين؛ فالفلسفة اليونانية، وهي محور علم اليونان، قد تشكلت من خلال تطور الفكر الطبيعي اليوناني، بل تحولت الفلسفة إلى إيديولوجيا الفلاسفة الطبيعيين اليونانيين والذين يجسدون مصالح الطبقة الجديدة في مجتمع سادة أثينا[9]. وتطورت الأحداث الاجتماعية وأنماط التفكير المصاحبة لها، لتصبح الفلسفة في منظومة طاليس الفكرية، ليست فقط نظرة عقلية في الوجود والمعرفة والإنسان، بل شكلا مفهوميا، ونسقا معرفيا، ورؤية مرجعية مؤطرة لوعي اليونان ونمط عيشهم وسلوكهم في الحياة. وكانت الفلسفة المنقولة إلى المجال الإسلامي محملة، بالطبع، بهذه الأنماط من الوعي والأفعال الاجتماعية الخاصة بأهلها، لتجد في موازاة ذلك مجتمعا له وعيه الخاص وسلوكه الاجتماعي المميِّز له، وعلومه، وسياساته، وأولوياته. ولا يعني هذا أن المجال المعرفي الإسلامي كان خلوا من التفكير الفلسفي؛ فذلك موضوع ناقشه الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه “التمهيد”، وفنَّد آراء المستشرقين الذين اتهموا العقل العربي بافتقاد النظر إلى الأشياء نظرة عامة شاملة؛ أي افتقاد الحس الفلسفي[10]. ولكن قصدنا الإشارة إلى أن دخول الفكر الفلسفي اليوناني إلى المجال الإسلامي أحدث توترات داخل هذا المجال. وابتدأ النقاش النظري حول كيفية التعامل مع هذا الوافد الجديد خصوصا بالنسبة للعلوم الإسلامية ذات الخلفيات المنهجية والنظرية المشابهة للتفكير الفلسفي كعلم الكلام، وهو بحث فلسفي، وكذلك علم الأصول، وهو بحث معرفي ومنهجي[11].

وقد جسدت كتب أفلاطون وأرسطو قدرة الفلسفة على التداخل مع جلّ العلوم والمعارف؛ فالطب، مثلا، صار منذ أفلاطون وأرسطو أنموذجا Paradigme يحتذى لحل صعوبات القول الفلسفي والعلمي عموما، علاوة على القول الإنساني ومجالاته في النفس والأخلاق والسياسة. وهذا ما استثمره الفيلسوف ابن رشد؛ إذ توسع هو الآخر في استخدام استعارة الطب والصحة لبحث قضايا أنطولوجية وإبستمولوجية ودلالية وسياسية، وقضايا تهم علاقة الحكمة بالشريعة، كمسألة تعدد معاني الموجود وعلاقة النص بالتأويل وبالجمهور، ومسألة قدرة الأحلام على التنبؤ بالمستقبل، ومسألة إثبات العلية ونفي الصدفة وغيرها[12]. ثم إن الفلسفة اليونانية وصلت إلى العرب ممتزجة بمعارف أخرى كالآداب والمنطق والرياضيات والطبيعيات؛ فكان طبيعيا أن يمتد إشعاعها إلى قطاعات معرفية كثيرة. كما أن فتنتها لم تكن في مفاهيمها فقط، بل في رساليتها ومقاصدها؛ فمن خلال الفلسفة انطلقت الروح اليونانية تغشى العالم، ومن ضمنه العالم الإسلامي، وهي مسكونة بقداسة النظر والتأمل، في مجتمع فيه السادة والعبيد، واعتقاده وثنية مطلقة، ومفاهيمه قدم المادة، وإله باهت أو غير موجود، ومادة قديمة، وانعدام نظرة في الخلق؛ فليس هناك إلا الهيولى صورة الإله الباهتة سواء كانت عنصرا أولا أو مثال الخير أو المحرك غير المتحرك، ونظرة تشاؤمية تشيع في التراجيديا اليونانية، وعبادة الجنس والنوع. على هذا الأساس ارتفع البنيان الفلسفي اليوناني، والذي أريد له “التدويل” في العالم، وكان حظ العالم الإسلامي من هذا النموذج منقولا ضخما، وتراثا مختلطا من التصورات والمفاهيم والمعارف؛ فاصطدم المسلمون بنـزعة الشك عند السفسطائيين، ومقولات نسبية المعرفة، كما عرفوا سفسطائية سقراط الإيجابية، وكذا مُثل أفلاطون ورغبته في العودة إلى روح الحضارة اليونانية؛ فقد تردد بين الكم والكيف، وجمع بين الجدل الصاعد والجدل النازل، وفتح الطريق أمام أرسطو. وانتقل مفهوم العقل/الجوهر إلى المجال المعرفي الإسلامي، العقل المنعكس على ذاته وبذاته والمنطلق إلى آفاق لا تنتهي، انطلاقة الماهية الساكنة إلى آفاق الكينونة الأولى تعبيرا عن روح اليونان الحقيقية. وتبرز الروح الهيلينية في أوج صورها ممثلة في الفكر الإستاجيري، والذي يجسد قمة الأوج اليوناني وأسمى تعبيراته عن ذاته[13].

فنحن، إذن، أمام معارف آتية من الخارج اصطدمت بمنهج موجود بالداخل؛ أي في البيئة المعرفية الإسلامية؛ فتفاوت التفاعل والتداخل مع هذا العالم الخارجي، وكان “علم الكلام أكثر القطاعات المعرفية تفاعلا مع التراث الفلسفي اليوناني؛ ففي علم الكلام عادة ما يستفاد من نظام الطبيعة باعتباره مقدمة تجريبية لإثبات وجود الله مثلا. كما نجد في الفلسفة الاستعانة بالحركة الدورية للأفلاك لفك معضلة الربط بين الحادث والقديم، أو نجد الفلاسفة يستدلون بطبيعة بناء الجسم على وجود النفس، أو بالأحداث التاريخية وسرد الوقائع الغريبة، على قياس نسبة الوعي العلمي أو الخرافي عند الشعوب. ففي هذه القضية الاستدلالية الجزئية نجد تقاربا كبيرا بين بعض مناهج المتكلمين وطرق البحث عند الفلاسفة. وبقدر امتزاج المباحث الكلامية بالمباحث الفلسفية بقدر التباس الرؤية في البحوث الكلامية وابتعادها عن مجالها التداولي الأصيل، إلى درجة ادعى فيها الغزالي أن الدين كلما كبر إلا وصغر علم الكلام، ومتى صغر الدين كبر علم الكلام، بل إن ضلوع الإنسان في علم الكلام يؤثر سلبا على اعتقاده وتصوره وكذا التزامه الديني، وكثيرا ما يتم التمثيل بالفخر الرازي الذي يحكى عنه أنه كان متكلما عظيما، لكنه كان رقيق الدين[14]. وعليه كان المتكلمون، عموما، ذوي منحى نظري فلسفي ومنطقي في بحوثهم، يكثرون من الفروض النظرية، ويجردون صور مسائلهم. كما يميلون إلى الاستدلال العقلي والاستشكال الفلسفي على طريقة المتفلسفة، بالرغم من أن علم الكلام بقي في جوهره العام، بنظر البعض، إسلاميا بحتا حتى القرن الهجري الخامس[15].

وإذا كانت طرق التفلسف اليوناني قد استهوت بعض علماء الكلام، وكذا بعض علماء القطاعات الأخرى، فإن هذا المد الفلسفي لم يكن يتحرك داخل حضارة سحرية، بل وجد نفسه في مواجهة حضارة متكاملة تسندها روح علمية جديدة لم يعرفها اليونان من قبل، روح في العلم والمنهج[16]. بل وجدنا من العلماء المسلمين من عمل على التهوين من شأن الفلسفة اليونانية، ولم يعتبرها شيئا جديدا على الفضاء الإسلامي. فهي في الحقيقة، بنظر ابن حزم، من حيث معناها وثمرتها والغرض المقصود نحوه بتعلمها ليس هو شيئا غير إصلاح النفس، بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد وحسن السياسة للمنـزل وللرعية، وهذا نفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة[17]. وبرغم هذا التعريف التقريبي للعلامة ابن حزم، تشكل موقف سلبي من المباحث الفلسفية اليونانية داخل العلوم الإسلامية، لم يسمح بتداخلها أكثر مع المعارف الإسلامية. ذلك أن الفلسفة اليونانية، وبرغم الترجمات الرديئة، بقيت صفتها المذهبية ملازمة لها. ولم ينظر لها علماء الإسلام باعتبارها منهجا؛ أي أسلوبا للبحث وطريقة للنظر وحسب، بل إن المبشرين بها قدموها باعتبارها مصفوفة من الحقائق وبناء كليا من الأفكار المطلقة، وهو نتاج فتح جبَّار لعبقرية اليونان، ليس للعرب فيه إلا الترديد والترتيل والتقليد وليس النقد والزيادة والتجديد.

وهذا ما دفع ابن خلدون إلى رسم صورة سلبية للفلسفة؛ إذ هاجمها وقلل من أهميتها؛ فهو يرى أن ضررها في الدين كثير فوجب أن يُصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها[18]. كما نقص من قيمة أرسطو واستهزأ من مقلديه لما قال: “ويسمونه المعلم الأول على الإطلاق[19].” كما انتقد من تشبعوا بمذهبية الفلسفة اليونانية وبآراء أرسطو ومن قلده فقال: “ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتَّبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل، وذلك أن كتب أولئك المتقدمين؛ [أي فلاسفة اليونان] لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني تصفحها كثير من أهل الملَّة وأخذ من مذاهبهم من أضلَّه الله من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها، واختلفوا في مسائل من تفاريعها، وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابي (…) وأبو علي بن سينا (…) وغيرهما. واعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل[20].” كما انتقد الأبحاث الفلسفية بعامة، ولم ير لها فائدة تذكر؛ ذلك أن الماهر من المتفلسفة يظل عاكفا على كتاب “الشفاء” و”الإشارات” و”النجاء” وتلاخيص ابن رشد للقص من تأليف أرسطو وغيره يبعثر أوراقها ويتوثق من براهينها ويلتمس هذا القسط من السعادة فيها ولا يعلم أنه يستكثر بذلك من الموانع عنها، ومستندهم في ما ينقلونه عن أرسطو والفارابي وابن سينا أن من حصل له إدراك العقل الفعَّال واتَّصل به في حياته فقد حصَّل حظه من هذه السعادة[21]. وعليه انتقد ابن خلدون ابن سينا بحدَّة وقلَّل من رئاسته للمتفلسفة، بل اعتبر الفلسفة مخالفة للشريعة، ولم يقرَّ لها إلاَّ بوظيفة شحذ الذهن في ترتيب الأدلَّة والحجج لتحصيل الجودة والصواب في البراهين. أما الاطلاع عليها فلا يراه ابن خلدون يحقق ذلك النفع الجزئي، إلاَّ بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على العلوم الإسلامية الأصيلة كالتفسير والفقه، ليسلم المطلع من معاطبها[22].

وإذا كان ابن خلدون يمثل مدرسة الذين انتقدوا الفلسفة اليونانية ولم يروا ضرورة تداخلها مع العلوم الإسلامية، للأسباب التي أوردناها، فإن هناك فريقا آخر تحمَّس لهذا الوافد الجديد وسعى إلى ترسيخه داخل الفضاء المعرفي الإسلامي، ويأتي في مقدمتهم ابن رشد. فقد سعى إلى الاستفادة من الآليات الاستدلالية الفلسفية وإخراجها في شكل قوانين ودساتير يرجع إليها الفقهاء المجتهدون فيما لم يجدوا فيه نصا[23]. كما سعى إلى صياغة قواعد أصول الفقه على منوال منطق الفلاسفة، مما يعصم ذهن الأصولي المالكي من الزلل في الاستدلال للوصول إلى الآراء الفقهية الصحيحة.

وقد كرَّس ابن رشد كتابه “فصل المقال” لتحقيق التداخل بين الفلسفة والشريعة، ودفع الشبهات عن الفلسفة من مثل ما ذكره ابن خلدون لاحقا، وهي شبه كانت موجودة منذ اللحظات الأولى لترجمة المنقول اليوناني. فالغرض من الكتاب هو أن يفحص على جهة النظر الشرعي هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح شرعا أو محظور أو مأمور به، إما على جهة الندب، وإمَّا من جهة الوجوب؟ وللإجابة عن هذا السؤال عمل ابن رشد على تحديد معنى التفلسف فوجده لا يعدو النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصَّانع بمعرفة صنعتها، وهذا ما ندب إليه الشارع[24]. ويكون بذلك قد دعا إلى التفلسف؛ لأن الله يأمر بالبحث عن الحقيقة، ولا يكون كذلك إلا من خلال استثمار القياس العقلي، والذي هو أتم أنواع القياس، وهو المسمى البرهان[25]. فابن رشد، إذن، يدعو من خلال التوفيق بين الحكمة والشريعة، إلى الربط بين الفلسفة والدين، وبمعنى آخر إلى التداخل بين العلوم الفلسفية الوافدة والعلوم الإسلامية الأصيلة، خاصة ربط الصلة بين القياس العقلي والقياس الفقهي. بل سعى ابن رشد إلى استعمال التمثيل الطبي لتقريب دلالة علاقة الحكمة بالشريعة، برغم أن الفلسفة توجد على رأس العلوم النظرية، وبالمقابل يوجد الطب على رأس العلوم العملية[26].

ولم يسلم منهج ابن رشد من النقد، بل كان هو ذاته عرضة للتشنيع والتشهير؛ فقد انتقده بحدة الفيلسوف الأندلسي ابن سبعين (669ﻫ)[27] ، وقال فيه: “وهذا الرجل مفتون بأرسطو ومعظم له، ويكاد أن يقلده في الحس والمقولات الأولى؛ ولو سمع الحكيم يقول: إن القائم قاعد في زمان واحد لقال هو به واعتقده. وأكثر تآليفه من كلام أرسطو: إما يلخصها، وإما يمشي معها، وهو في نفسه قصير الباع قليل المعرفة بليد التصور غير مدرك. غير أنه إنسان جيد وقليل الفضول ومنصف وعالم بعجزه ولا يعول عليه في اجتهاده فإنه مقلد لأرسطو”. كما عنَّف ابن سينا وحقَّر مجهوده؛ إذ قال فيه: “مموه مسفسط، كثير الطنطنة، قليل الفائدة، وماله من التآليف لا يصلح لشيء (…) وأكثر كتبه مؤلفة ومستنبطة مما كتب أفلاطون، وما فيها من عنده فلا يصلح، وكلامه لا يعول عليه”. وفي المقابل أثنى على الفارابي واعتبره أفهم فلاسفة الإسلام وأذكرهم للعلوم القديمة، وهو الفيلسوف فيها لا غير، وهو مدرك محقق. ولكنه لم يفته أن ينسب إليه الاضطراب والتخليط والتناقض. ولم ينج المنحى الفلسفي للغزالي من نقد ابن سبعين اللاذع؛ فالغزالي بنظره لسان دون بيان، وصوت دون كلام، وتخليط يجمع الأضداد، وحيرة تقطع الأكباد. مرة صوفي وأخرى فيلسوف وثالثة أشعري ورابعة فقيه وخامسة محير. وإدراكه في العلوم القديمة أضعف من خيط العنكبوت. كما انتقد ابن سبعين المنحى التداخلي في ثقافة الغزالي، خصوصا بين التصوف والفلسفة، ولامه على الجمع بينهما، فلا هو خلص التصوف ولا قيل فيه فيلسوف[28].

لقد ترسخ إذن تيار نقد الفلسفة اليونانية، كما انتُقِدَ حملتها خاصة من الفلاسفة المشائين. ولم يكن هذا الاصطدام بين الوافد والأصيل لانغلاق في الأخير أو عن تزمت مذهبي أو عن ضيق أفق[29]، أو لاختلاف في تصور طريق المعرفة، ولكن في مصدر كل من هذين الطريقين ومناهجه في البحث والنظر؛ فالمنهج الإسلامي كان يقوم على الاستقراء والتجريب، ويخالف منهج البرهان والتأمل والقياس مما تقوم عليه الفلسفة اليونانية الوافدة؛ فكانت مؤلفات شراح أرسطو، بنظر علماء المسلمين، امتدادا للروح الهيلينية في العلوم الإسلامية[30]. وبذلك اعتبروا جسما غريبا في قلب الحضارة الإسلامية، عاشوا حياتهم كمتفلسفة يونان في وسط غريب لا يمتون إليه بصلة[31]. ولم يكونوا يمتلكون الآليات التداولية للعيش المنسجم داخل مجال الأمة. ولهذا السبب فشلت عمليات التداخل بين العلوم الإسلامية والفلسفة اليونانية، إلا من عمليات إسقاط مجحفة، أو توظيف متعسف للمناهج والمفاهيم والنظريات، مما أنتج فكرا هجينا فيه من كثرة التقليد وانعدام الاتساق ما حوله إلى نصوص نشاز لا أصل لها ولا قرار، وهذا ما قوَّى نـزوع علماء الإسلام إلى مقاومة هذا الغلو في إدخال الفلسفة في العلوم الإسلامية، ببروز ابن تيمية (728ﻫ)، وتلميذه ابن قيم الجوزية (751ﻫ)، وامتداد المذهب الحنبلي ونجاحه في محاصرة المذهب الأشعري وإعاقة توسعه. فابن سينا، وبرغم مجهوداته النقدية للمنطق الأرسطي، وبغض النظر عن النقد العنيف لابن سبعين الذي لا يخلو من تعصب مذهبي، فإنه كان ينظر له في المُحَصِّلة الأخيرة على أنه تعبير عن فلسفة اليونان، ونشاز في الفكر الإسلامي في أعماقه، يعيش في ظلال الفلسفة اليونانية سواء كانت أفلاطونية أم أرسطية أم أفلوطينية[32]. وكم كان المفكر اللامع علي سامي النشار، رحمه الله، قاسيا على هؤلاء المتفلسفة من شراح أرسطو ومقلديه؛ فهو يرى أن نموذجهم المصبوغ بصبغات اليونان والفرس وبصبغة الغنوص ليس أبدا فلسفة إسلامية. فمن يجرؤ، بنظره، على القول إن الفارابي كان فيلسوف الإسلام؟ أو إن ابن سينا يمثل الفلسفة الإسلامية في شيء؟! ولعل ابن رشد، برأيه، كان أكثر أصالة من هؤلاء وأكثر نفاقا؛ فقدم مذهبا مسلما في بعض كتبه، ومذهبا يونانيا في البعض الآخر[33].

وإذا كانت عمليات التداخل بين المعارف تتكاثف أكثر في الحقول التي تكون الفلسفة أحد عناصرها، في تاريخ الفكر الغربي، فإنها بالمقابل أثارت فتنة داخل الفضاء الإسلامي، وأحدثت توترات في التقائها ببعض العلوم، مما سبَّب للأخيرة متاعب داخل مجالها التداولي. ولم يبعد الرأي المعرفي العام من الفلسفة اليونانية، ومن حملتها من الشراح والملخصين والمبشرين بها، عما قاله ابن سبعين فيهم: “كلهم خلط وتكلم وطنطن وتبرسم ولم يأت بفائدة ولا دلَّ عليها[34].” ووقف في وجه فلسفة اليونان علماء كلام، وأصوليون، وفقهاء، وحاربوها أشد محاربة، وأعاقوا عملياتها التداخلية مع العلوم الإسلامية. وكان للغزالي دور كبير في الانقضاض الأكبر عليها، برغم أنه من كبار علماء التداخل المعرفي والعلاقة بين العلوم.

ثانيا: كيف كان تلقي المنطق في المجال المعرفي الإسلامي؟

منذ اللحظات الأولى لدخول المنطق إلى الفضاء المعرفي الإسلامي اختلف الشراح الإسلاميون، من مشائين ورواقيين، حول البحث في طبيعة المنطق وعلاقته بالفلسفة؛ هل هو جزء منها أو هو مقدمة لها؟ خصوصا وأن التراث الأرسطي لم يفصل في هذه القضية. وعليه لاحظ بعض مؤرخي الأفكار أنه ليس ثمة مكان للمنطق في تقسيم أرسطو للعلوم النظرية، وهذا ما يساعد على استنتاج أن المنطق عند أرسطو ليس جزءا من الفلسفة، ولكنه مقدمة فقط لها، وكان هذا رأي المشائين، أما الرواقيون فقد اعتبروا المنطق جزءاً من الحكمة التي تنقسم عندهم إلى العلم الطبيعي والجدل والأخلاق، والجدل يعني المنطق. أما الشراح الإسكندريون فقد سعوا إلى التوفيق بين هذين الاتجاهين المختلفين في إطار منهج تنسيقي عرفوا به، واعتبروا المنطق مقدمة للفلسفة وجزءاً منها في الوقت نفسه[35]. أما الفارابي فقد اعتبر المنطق علما مستقلا بذاته، إلى جانب علم اللسان وعلم التعاليم والعلم الإلهي وعلم الفقه والعلم الطبيعي والعلم المدني وعلم الكلام. لكنه أفرد المنطق بمكانة خاصة لما اعتبره مدخلا ضروريا لسائر العلوم[36]. أما ابن سينا فلم يتحدث عن تصنيف المنطق ضمن العلوم، ولكنه اكتفى باعتباره آلة قانونية عاصمة للفكر من أن يضل، ومساعدة للذهن للقيام بعمليات انتقال مستقلة عند التحليل والاستنتاج[37].

وعليه، وبرغم أن الغزالي لم يتصور اختلافا حول المنطق بين اليونانيين والمسلمين؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاحات والألفاظ، واعتبره آلية استدلالية يجمع عليها الناس، أو هكذا ينبغي أن يكون الأمر بنظره! برغم هذا الحماس الغزالي، فإنَّا قد رأينا مدى الاختلاف العميق بين المتفلسفة في تصنيف المنطق أولا بين المعارف، وفي ضبط علاقته ثانيا بالفلسفة. وهذا النقاش ما يزال مستمرا في الدرس العلمي الحديث؛ فبرغم أنه ومنذ أرسطو إلى اليوم تكرس اعتبار المنطق جزءًا من الفلسفة، بل هو جزؤها الأهم، فإن المنطق الحديث أصبح يحتل مكانة خاصة في أقسام الرياضيات وأقسام الفلسفة على السواء بمختلف الجامعات العالمية، ولكن انضمامه للأسرة الرياضية لم يكن سهلا؛ فهذا العالم ألفرد تارسكي A. TARSKI (1901-1983م) صاحب الإنجازات الحاسمة في مباحث ما بعد المنطق، خصوصا في حقل السيمانطيقا، وما بعد اللغة، وما بعد الرياضيات، والمنطق متعدد القيم.. تحدث عن الصعوبات التي واجهته لكي يجعل المنطق تخصصا موقرا في أقسام الرياضيات بجامعة باركلي، وبعد معاناة كبيرة احتل المنطق مكانة معتبرة بين العلوم الرياضية[38].

وفي القديم، كانت علاقة المنطق بالمعارف الأخرى مثار نقاش صاخب، خاصة في المجال المعرفي الإسلامي، بين رافض له، كما سنلحظ عند الأصوليين واللغويين المسلمين، وبين متحمس له مدافع عنه، كما سنرى عند البعض الآخر من الفلاسفة.

وإذا كان أرسطو قد وضع المنطق في مرتبة وسطى بين المعارف، باعتباره آلة نظر يتخذها المتأمل وسيلة في تأمله في أي نوع من أنواع الوجود قصد إدراك حقيقته؛ فهو بذلك، وكما ذهب إلى ذلك كثير من الباحثين، أداة لازمة لكل تفكير نظري، ومقدمة لكل بحث فلسفي من أجل الوصول إلى فكر صحيح[39]. وسار على هذا الرأي كثير من الفلاسفة المسلمين، وبعض الأصوليين، وقلة قليلة من اللغويين. فالغزالي اعتبر المنطق مدخلا لكل العلوم، خاصة العلوم الفقهية في المجال الإسلامي باعتبار أن النظر واحد في كل القطاعات المعرفية من حيث الترتيب والشروط والعبارات إلا من حيث الانطلاق من المقدمات[40]. خصوصا وأن كل خطاب يهدف إلى تحقيق الاتساق والانسجام من خلال الانطلاق من قواعد تفكير عقلية صارمة. وهذا ما أكده الشهرستاني تلميذ الغزالي ومقتفي أثره في إدماج المعارف بعضها في بعض، وخاصة المنطق؛ فهو يشبه المنطق بالنحو والكلام والعروض في علاقتها بالشعر[41]. أما الفخر الرازي، فاتخذ موقفا توفيقيا بين رأي الفارابي ورأي ابن سينا، وشرح مفهوم رئاسة المنطق للعلوم والمعارف. بل تصور حوارا بين أرسطو وعلماء المسلمين، أو بينه هو وبين شراح أرسطو، في قضايا منطقية عدة مثل تعريف اللفظ المفرد واللفظ المركب ليخلص إلى محورية المنطق وأهميته التداخلية بالمعارف الإسلامية الأخرى[42]، وليستنتج أيضا أن المنطق بالنسبة للمعارف هو بمثابة قانون يفيد الترتيب ويحصل الصواب في كل عملية فكرية[43]. أما الآمدي (628ﻫ)، فلم يخرج هو الآخر عن أستاذه الغزالي في اعتبار مكانة المنطق الخاصة داخل المعارف، وأشار في مقدمة كتابه “المرام”، إلى وظيفة المنطقي في تحصيل المواد الصادقة المقترنة بالصور الحقَّة التي لا ينكرها إلا جحود[44]. وهذه الوظيفة لا يقوم بها المنطقي إلا بما أسماه ابن حزم “الآلة النافعة لكل مستدل[45].” هذا المستدل الذي قد يكون مجال اشتغاله الفلسفة أو الطب أو القانون أو علم الكلام، وهذا ما فصل فيه ابن رشد وتحمس له في كتابه “فصل المقال”، ولم يبعد عنه ابن خلدون كثيرا[46].

فهذه الآراء التي عرضنا لها حاولت النظر إلى المنطق باعتباره “آلة” أو “قانونا”، وبالتالي تجريده من حمولته الفلسفية والمذهبية، والاقتصار على طابعه الإجرائي، ليسهل بذلك إدخاله في العلوم الإسلامية. فهو، إذن، بحسب تلك الآراء، ليس علما يوضع بجوار بقية العلوم، بل هو من مستوى مخالف وربما أسبق منها جميعا، مادام “آلة” و”أداة” للفكر معنيا بصورته العامة وليس بمضمونه. وعليه، أصبح المنطق في عرف كثير من المفكرين المسلمين آلة قابلة للتكيف مع ميادين المعرفة المختلفة، بل مع كل بنية نظرية لكل علم على حدة[47].

وعلى هذا الأساس دعا الفارابي إلى تصوير التدليلات الكلامية والفقهية في قوالب الأقيسة المنطقية[48]. وهذا ما دفعه إلى بذل مجهود كبير لنقل هذا المنطق وتحقيق أقصى درجات تداخله مع المعارف الإسلامية، إلى حد نسبة أقاويل وأحاديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تبرر مشروعية المنطق[49]. هذا الأخير الذي أصبح الطريق الأوحد لاكتساب جميع العلوم النظرية، والتي من لم يحققها لم يعد من طائفة العلماء الباحثين والمفتشين عن الحق والمخرجين له من العدم إلى الوجود والمخاطبين بقوله تعالى )يأولي الاَلباب(، بنظر الماجري[50]. وأولو الألباب هي التي يتحقق فيها العقل المقوَّم والإنسان المسدَّد بالمنطق، تسديدا لا يخالطه غلط في المعقولات ولا يصل إلا إلى الصواب والحق كما ذكر الفارابي[51]. إلا أن هذه الآراء المبشرة بالمنطق الأرسطي لم تستطع أن تجد لها مكانا واسعا في فضاء المسلمين المعرفي؛ إذ تعرضت للنقد والنقض، وحوصرت معرفيا ومنهجيا، وحتى بالسلطة والقوة؛ ذلك أن معاداة الفقهاء للمنطق اليوناني بلغت أشدها في الأندلس، مثلا، حتى اضطر أهل المنطق إلى أن يعبروا عنه بالمِفعَل تحرزا من صولة الفقهاء التي امتدت إلى الأمراء أنفسهم، فلم يستطيعوا تعلمه وتعليمه لأبنائهم إلا خفية خوفا من الفقهاء[52]. وذكر المقري في “نفحه” أن المغاربة كانوا يجلون العلوم جميعا إلا الفلسفة والمنطق والتنجيم، وكـثيرا ما تعرضوا لكتب الفلسفة والمنطق بالإحراق واتهام أصحابها بالكفر والزندقة[53]. ورأي المقري هذا فيه مبالغة كبيرة، وتشويه لصورة العلم والعلماء في المغرب، بل وفي العالم الإسلامي أجمع؛ إذ من فقهاء الأندلس وعلمائها من تحمس للمنطق وأعلن فيه رأيه الإيجابي، بل ودرسه في حلقاته، وألف فيه المؤلفات، وأدمجه في علوم كثيرة كابن باجة وابن حزم وابن رشد وغيرهم من فلاسفة الأندلس، ممن لم تكتب لهم الشهرة؛ إذ لم تحقق كتبهم إلى اليوم. فالاعتراض على منطق أرسطو كان اعتراضا على حمولته المذهبية، وتشكيكا في فائدته للعلوم الإسلامية، وكفايته التداخلية والتواصلية مع هذه العلوم. وعليه، فلم يكن نقاد المنطق الأرسطي من الفقهاء فقط، بل تعرض له حتى المتفلسفة من الشراح والملخصين كابن سينا مثلا؛ فبرغم أنه تأثر في المباحث اللفظية بالعلوم العربية والفقه والتفسير، وكذا بالفكر اليوناني خاصة مقدمة المقولات التي عالج فيها أرسطو التفرقة بين المشترك والترادف، وكذا المؤثرات الرواقية في ما يتعلق بدلالة الالتزام التي نقلها عنهم ابن سينا بنصها، بغض النظر عن النتائج التي توصل إليها[54].

برغم هذا التأثر، فإن ابن سينا لم يتردد في نقد التداخل مع المعارف الإسلامية، خصوصا على مستوى المقولات عندما قال: وأنَّى لنا أن ندرس المقولات في المنطق ودرسها يتطلب أن نعرف خواص كل منها، وأنها عشرة لا محالة، وأنها غير متداخلة، وأن الأولى جوهر والتسعة الباقية أعراض له، وكل ذلك لا يعين المنطق على فهمه في شيء، وإن ذُكر فيه فإنما يُذكَر على أنه فروض مسلمة لا دليل عليها، وبيانات مجتلبة من علوم أخرى ما أجدرها أن تبقى فيها، وذكرها لا يخلو من الخلط والتشويش. ولا يغير الموقف في شيء أن يقال أنها تدرس هنا من حيث دلالة الألفاظ المفردة عليها؛ لأن البحث في الألفاظ لذاتها من صناعة اللغويين، على أن الدال والمدلول مقترنان، ولا سبيل إلى فهم اللفظ دون فهم معناه، وإصرار بعض الشراح على أن المقولات، من ناحية دلالة الألفاظ عليها، بحث منطقي وتكلف بحت أدى إلى كثير من التبلُّد والتحيُّر[55]. ولم يقف ابن سينا عند هذا الحد، بل أعلن صريح معارضته لمنطق اليونان في مقدمة “منطقه” فقال بوضوح: “ولا نبالي مفارقة تظهر لنا لما ألفه متعلمو كتب اليونانيين ألفا من غفلة وقلة فهم، ولما سمع منا في كتب ألفناها للعاميين من المتفلسفة المشغوفين بالمشائين الظانين أن الله لم يهد إلا إياهم، ولم ينل رحمته سواهم، مع اعتراف منا بفضل أفضل سلفهم[56]” في تمييز العلوم وترتيبها من مثل ما فعل أرسطو على الخصوص. وشبيه بهذا العمل النقدي الذي أنجزه ابن سينا تجاه المنطق اليوناني، ما قام به السهروردي؛ فقد وضع مبحثا في الحد يرجح أنه لم يتأثر فيه بمؤثرات خارجية، ووضع مبحثا في القضايا رد فيه جميع القضايا إلى ما أسماه بالبتاتة. ولم يعترف بفائدة ما للقضية الجزئية إلا في بعض نواحي العكس والتناقض وبعض ضروب الأقيسة، وبذلك غير كثيرا من أصول المنطق الأرسطي إما حذفا وإما اختصارا على عادة المناطقة الرياضيين اليوم[57].

لقد أحدث المنطق الأرسطي، هو أيضا، في المجال المعرفي الإسلامي فتنة ونقاشا، انقسم بصددهما العلماء والمفكرون إلى مؤيد متحمس، وإلى معارض ناقد، هذا الفريق الأخير تراوح نقده بين الرفض إلى حدود التطرف كما رأينا مع بعض الفقهاء، وبين نقاد منصفين، تناولوا ذلك المنطق بالشرح والتفصيل والإضافة، كما رأينا مع ابن سينا على الخصوص، الذي كان متأثرا بمنهج المسلمين في البحث والنقد والنظر إلى المنطق عموما، ولكن كان واقعا تحت سيطرة أرسطو في مذهبه وتراثه الفلسفيين، مما عرضه للاتهام والنكير. وبين هذين الفريقين برز فريق وسط عمل على تقريب المنطق إلى العلوم الإسلامية بآليات منهجية ومعرفية كانت إبداعا في حد ذاتها كما فعل العلامة ابن حزم الأندلسي الذي يحار الباحث في تصنيفه: أهو منطقي متعمق أم أصولي متمكن أم هما معاً؟

عاش ابن حزم في فترة انقسم فيها الناس، إذن، بين جاهل بالمنطق يعتبر تعاطيه بدعة، وبين مطلع عليه، لكن بواسطة الترجمات الرديئة. لذا كان مشروعه النقدي المنطقي يقتضي في البداية العرض كمرحلة أساسية، والتوسط بين موقفين يكادان يكونا على طرفي نقيض سيأتيان بعده؛ رأي الغزالي ورأي ابن تيمية. وعليه، لم يكن همه إثبات ضرورة المنطق في استنباط أحكام الشرع؛ أي تحقيق تداخل متين بين الفقه والدراسات الإسلامية والمنطق وآلياته الاستدلالية[58]، أو إثبات أن تعاطي المنطق خروج عن الشرع ومقتضياته. لما لم يكن غرضه هذا؛ فقد تراوح مجهوده بين العرض والنقد، وكثيرا ما يغلب الثاني على الأول. كما أن منهجه في العرض والنقد لم يمنعه من الإشادة العاقلة بمجهود أرسطو وأهمية تداخل العلوم الإسلامية معه؛ فهو يرى أن “الكتب التي جمعها أرسطو في حدود الكلام؛ [أي في المنطق] كلها كتب سالمة، مفيدة دالة على توحيد الله، عز وجل وقدرته، عظيمة المنفعة في انتقاد جميع العلوم. وعظم منفعة الكتب التي ذكرنا في الحدود؛ [أي قواعد المنطق] في مسائل الأحكام، بها يتعرف كيف يتوصل إلى الاستنباط [الصحيح]، وكيفية تقديم المقدمات وإنتاج النتائج، وما يصح من ذلك صحة ضرورته أبدا، وما يصح مرة، وما كان خارجا عن أصله، ودليل الاستقراء، وغير ذلك مما لا غناء بالفقيه المجتهد لنفيه لأهل ملته عنه[59].”

وبرغم هذا الثناء، فإن هدف ابن حزم لم يكن أبدا خلق نوع من المواءمة بين أرسطو وطرق الاستنباط الشرعية أو رفض ذلك، بل المشروع هو قراءة لمنطق أرسطو بطريقة تداولية جديدة، ليست شرحا وعرضا وحسب، بل هي تقريب، والتقريب ليس مدخلا، كما ادعى أرنالدز، أو تبسيطا كما زعم أسين بلاسيوس[60]، بل هو شرح للمستغلق كما جاء في مقدمة ابن حزم نفسه. وهذا التقريب يكون بألفاظ غير عامية ولا فاشية الاستعمال ولكن يستوي في فهمها العامي والخاص، ويتجاوز قلق الترجمة المتداولة بألفاظها الغامضة ومسالكها الوعرة[61]. وقد أبدع ابن حزم في تقويمه حين انتبه إلى العلاقة الوطيدة بين المنطق واللغة والعقيدة؛ فقد انطلق من أن للمنطق وظيفة اسمية؛ أي البحث في كيفية وقوع الأسماء على مسمياتها[62]. وعليه، يتحول المنطق في تصوره الجديد من أداة لدراسة الفكر المجرد إلى آلة لدراسة هذا الفكر من خلال اللغة التي يفكر بها. ذلك أن علاقة الأسماء بالمسميات هو معطى فكري ولغوي قبل كل شيء. ولذلك يُتبع ابن حزم المنطق للغة؛ لأنه “لا سبيل إلى معرفة حقائق الأشياء إلا بتوسط اللغة (…) ولا سبيل إلى نقل مقتضى اللفظ عن موضعه الذي رتب للعبارة عنه[63].” وهذا الاتجاه ميز ابن حزم عن الفارابي وغيره من الشراح الذين فصلوا الفكر عن سنده اللغوي، بل ودعوا إلى إسقاط مفاهيم اللسان اليوناني على الحروف العربية. أما ابن حزم، فقد أعطى الأسبقية المنطقية والفكرية للغة التفكير؛ ففيها تكمن معايير الحقيقة والخطأ. ومن ثمة تكون معيارية المنطق محددة باللغة أولا وأخيرا. كما لم يفصل ابن حزم المنطق عن العقيدة؛ إذ للنص الشرعي دور محوري أيضا في تبين “كيفية وقوع الأسماء على مسمياتها”. وانطلق من قاعدة أن البحث في الشريعة يقود إلى البحث في الكيفية؛ أي الانتهاء إلى المنطق، وليس بالضرورة منطق أرسطو! عكس ما سيقول به ابن رشد بعده؛ الذي سيتشبث بالمنطق الأرسطي كثيرا، وسيعتبره المنطق الأوحد في البحث في الشريعة.

إن استدعاء ابن حزم، إذن، لأرسطو لم يكن بغرض إحداث تداخل معرفي قسري بين منطقه والعلوم الإسلامية، ولكن بغرض عرض النسق اللغوي الذي فكر أرسطو من داخله، ثم نقده، وممارسة عملية انتقاء واعية فيه، وكذلك إبراز مفاهيم هذا النسق اللغوي ومعانيه، وما ينطبق منها وما لا ينطبق في الفضاء المعرفي الإسلامي. وكان موقفه، بذلك، وسطا، جسد الوعي العميق بظاهرة تداخل المعارف وحدودها، بعيدا عن الصراعات الفكرانية والمذهبية غير العلمية التي ثارت بين علماء المسلمين، خصوصا عند بعض الفقهاء المتعصبين، أو بعض المتفلسفة المقلدين؛ فابن حزم كان يعتبر عمله العلمي واجبا في الدين، به يصل العاقل إلى مبتغاه في الآخرة. وهو لا يشتغل بالعلوم إلا بمقدار ما يعرف به أعراضها، ويزيل عن نفسه عمى الجهل[64].

وعلى العموم، فقد نظر علماء المسلمين إلى المنطق اليوناني نظرات متفاوتة، أولا لاختلاف درجة إدراكهم لتشَبُّعه بالإلهيات اليونانية، ثم لاختلافهم في التكوين الذهني والتخصص العلمي؛ إذ منهم أهل نظر وتأمل كأغلب الفلاسفة وكذا كثير من المتكلمين، ومنهم أهل عمل وأحكام وسلوك كأغلب الفقهاء[65]. كما أن ابن حزم كان مبدعا في مشروعه النقدي، والذي كشف فيه عن العلاقة الوطيدة بين المنطق واللغة. وهذا ما سيكون له الأثر الكبير على المحاولات المنطقية اللاحقة عليه؛ إذ سيقوم منطق إسلامي يستند على اللغة العربية، يوازي المنطق الرواقي المستند إلى خصائص اللغة اليونانية وينافسه. وانتشرت المباحث اللفظية، وتكلم المناطقة المسلمون عن الحدود اللفظية كلاما طويلا، وابتعدوا فيها عن الفكر الأرسطي ابتعادا تاما[66].

ومن الناحية التاريخية، تعتبر المحاولات النقدية التي أنجزها علماء المسلمين للمنطق الأرسطي، أولى المراجعات الخلاقة التي نـزعت عن منطق أرسطو طابعه الأسطوري والنفسي الرهيب، حتى اعتبر سيكولوجيا الفكر الإنساني عامة[67]! ولم تبعد محاولات الرياضيين المعاصرين عما أثبته ابن حزم في تقريبه، من إمكانية تأسيس أنساق منطقية مختلفة، مما يدل على نسبية المنطق وحدود كفاياته التحليلية والتنسيقية[68]. وهذا ما سيترسخ بتطور المعرفة العلمية مما يجعل المنطق الأرسطي أمرا متجاوزا، برغم إلحاح كانط على إبقائه مجرد تمهيد للعلوم في حدود ضيقة جدا[69].

ثالثا: حدود تداخلات الفلسفة والمنطق اليونانيين مع العلوم الإسلامية

احترز علماء المسلمين، على العموم، من الفلسفة والمنطق اليونانيين، ولم يسمحوا لعملية التداخل بينهما وبين العلوم الإسلامية أن تمر بسهولة وبالبساطة التي تصورها دعاة الفلسفة والمنطق اليونانيين. وتحفظُّ علماء المسلمين على الوافد اليوناني كان لأسباب كثيرة أنجزت حولها أطاريح وبحوث اختلفت في رؤيتها ونتائجها؛ أنجزها مسلمون ومستشرقون.

والسبب الحقيقي الداعي إلى التحفظ في العلاقات التداخلية مع الفلسفة والمنطق الأرسطيين، اتصالهما بإلهيات أرسطو، وكانت هذه الإلهيات مخالفة لعقائد المسلمين. فقد اقتنع علماء المسلمين، إذن، بأن الفلسفة والمنطق اليونانيين مرتبطان بميتافيزيقا أرسطو المخالفة لميتافيزيقا القرآن، كما تيقنوا من تلبُّس مناهج البحث اليوناني وقواعد النظر عندهم بهذه الميتافيزيقا وبيقينيتها. كما رفضوا فيزيقا أرسطو المخالفة لفيزيقا المسلمين. ولم يفت علماء المسلمين ملاحظة أن المنطق اليوناني هو أدق تعبير عن الروح اليونانية في نظرتها إلى الكون وفي محاولة إقامة مذهبها في الوجود، فلفظتها روح الإسلام والتي تستمد مقوماته من بيئة مخالفة وجنس مخالف وتصور حضاري جديد، كما تنأى أشد النأي عن النظر في العوالم الفكرية اليونانية.. فكان منهج المسلمين في البحث يختلف عن منهج اليونان، ويستمد مقوماته المعرفية والمنهجية من مقومات مجاله وخصائص حضارته[70].

وبرغم هذه المعطيات، فقد وجدنا من عمل على إيجاد مواقع ما للفلسفة والمنطق اليونانيين داخل الفضاء المعرفي الإسلامي، وهم من عرفوا بالشراح الإسلاميين لكتب الفلاسفة المشائين؛ خاصة من الفلاسفة الإسكندريين المتأخرين؛ إذ قبلوا المنطق اليوناني كوحدة فكرية كاملة، واعتبروه قانون العقل الذي لا يتزعزع لعلل متعددة ذكروها في أبحاثهم وكتبهم، كما حاولوا التصرف في هذا الوافد من خلال التوفيق بين العناصر غير الأرسطية ومنطق أرسطو مع زيادات وإضافات لغوية استلزمتها طبيعة لغتهم؛ أي اللغة العربية، ويمثلهم الكندي ومدرسته والفارابي ومدرسته ثم ابن سينا وتلامذته ومدرسته الممتدة حتى نصير الدين الطوسي ومدرسة فلاسفة الأندلس منتهية بابن رشد[71]. وسلك نهجهم فريق آخر من الأصوليين والمتكلمين والمناطقة المتأخرين، وهم من عرفوا بالشراح الإسلاميين الرواقيين، وأخذوا بالمنطق اليوناني، لكنهم حاولوا تغيير عناصره والتخلص من نـزعته الميتافيزيقية مع إضافات كثيرة من منطق الرواقيين[72]، كما أضافوا أبحاثا خاصة بهم.

فمن خلال مجهود الشراح المشائين والشراح الرواقيين، وقع تداخل بين بعض المعارف الإسلامية والفلسفة والمنطق اليونانيين لكن في حدود ضيقة، وبحسب الحاجة المعرفية والمنهجية وطبيعة العلم المتداخل معه؛ ففي مباحث الاستدلال مثلا، استمد الشراح الإسلاميون فكرة التمثيل من أرسطو، وبحثوه في إيجاز شديد كما بحثه، غير أن المتأخرين من المناطقة بحثوه تحت تأثير الدراسات والمباحث الأصولية بشكل يختلف تماما مع بحثها تحت تأثير المرجعية الأرسطية[73]. كما أن الاستمداد من المنطق الرواقي البعـيد نسبيا عن إلهيات اليونان، هو تجاوز لمنطق أرسطو وإثبات لمحدودية فعاليته التداخلية داخل الفضاء المعرفي الإسلامي. وهذا أمر نلحظه أيضا في أبحاث علماء المسلمين ومصادر معرفتهم؛ فابن الهيثم مثلا كان يشتغل بمنهج استقرائي تارة وتمثيلي تارة أخرى، مما راكمه المتكلمون والأصوليون قبله[74]، وكذلك أبو الريحان البيروني (440ﻫ) الذي عني بالفلك والرياضيات والمباحث التجريبية، والإنسانيات والحضارة، وكان مؤسس علم الأديان المقارن، نجده يشتغل ويركب ويمزج بين معارف كثيرة في إطار توجهات دينية وفلسفية إسلامية أصيلة[75]. وهذا عكس جابر بن حيان الذي امتزجت عنده الكيمياء التجريبية بالغنوص المشرقي وعناصر من التراث اليوناني[76]، وكانت أبحاثه التجريبية ذات فعالية محدودة، وكان هذا مصير الأبحاث العلمية الأخرى التي استندت على بيولوجيا أرسطو[77]، فكانت في عمومها بحوثا نشازا، إلا من مقدمات منطقية بين بعض المعارف والعلوم، وتطوير بعض المباحث المعرفية من خلال التداخل مع المنطق كمباحث الألفاظ في كتب اللغة والأصول. وهذا التداخل نفسه في هذا المستوى سنجد من يتصدى له وينكره، وذلك ما سنلحظه عند اللغويين.

فالتداخل بين الفلسفة والمنطق اليونانيين وبين العلوم الإسلامية كانت وراءه معوقات كثيرة، يمكن حصرها في الآتي:

1. المعطى الفكري التصوري أو المعوق العقدي

 وقد تحدثنا عنه كثيرا، ونعتبره المحدد الأول لأية عملية تداخل بين العلوم. فالاختلاف العقدي بين المسلمين واليونان هو اختلاف مرجعيات ومفاهيم؛ فما يتأسس على التوحيد هو نقيض ما يستند على الوثنية أو الإلحاد، أو في أحسن الأحوال على فراغ وجودي واضطراب عقدي. ولعل التداخل بين العلوم الإسلامية والمعارف والأفكار الرواقية المخالفة لإلهيات اليونان، يبرز أهمية المعطى العقدي في أي تقارب بين المعارف. فالرواقيون عرفوا بأفكار سرمدية الأجناس والأنواع وخالفوا بذلك ميتافيزيقا أرسطو، كما اقتربوا في مستويات كثيرة من إلهيات المسلمين[78] التي هي في عمقها فلسفة في الوجود يتناسق فيها النظر والعمل، ويلتحم فيها العلم بالسلوك.

2. المعطى اللساني أو المعوق اللغوي

 ذكرنا سلفا أن ابن حزم حاول تقريب المنطق اليوناني من خلال اللغة، اقتناعا بارتباطه باللغة اليونانـية. كما أكَّد الصنعاني أن أساليب العرب مستمدة من أساليب القرآن التي تخالف أساليب اليونان، وأساليب القرآن هي ملهمة طرق البحث والنظر[79]، مما يعني أن المعطى الأسلوبي أو اللغوي محدد لأية علاقة فكرية تداخلية بين المعارف. وهذا ما جعل الشراح الإسلاميين يحاولون إدخال التقاسيم الأرسطية في صميم المسائل اللغوية. ونتج عن هذا أن قام تيار معارض للفلسفة والمنطق اليونانيين بدعوى أنهما يستندان إلى خصائص اللغة اليونانية، فلا حاجة للمسلمين بهما؛ لأن تراكيب العربية تخالف تراكيب اليونان. وهذا الاعتراض الوجيه أوقف أية عملية تداخل دون أخذ المعطى اللغوي بعين الاعتبار. وسيعمل اللغويون على إبرازه أكثر، وسيلمع بينهم أبو سعيد السيرافي من خلال مناظرته المشهورة مع متى بن يونس حول المنطق اليوناني والنحو العربي.

3. معطى طرق البحث والنظر أو المعوق المنهجي

برغم أن الفلسفة والمنطق اليونانيين قد وصلا إلى المجال المعرفي الإسلامي على أنهما يمثلان اليقين المطلق فكرا وصورة، بل اعتبرت مبادئهما قمة اليقين، فإن علماء المسلمين لم يلتزموا هذا اليقين اليوناني، بل سلكوا طرقا خاصة بهم في البحث والنظر، وانطلقوا من تصور واعتقاد خاصين. فوضعوا منهجا جديدا هو منهج الاستقراء المعبر عن روح وحضارة الإسلام، وتجاوز المنهج اليوناني القياسي القائم على النظر المحض والتأمل الفلسفي والفكري المجرد والذي لا يترك مجالا للتجربة.

وعليه، انتبه علماء المسلمين إلى المنهج القياسي أو الاستنباطي المؤطر للفلسفة أو الفكر اليونانيين، واقتنعوا بعدم نفعه في مجالهم، وبالتالي زهدوا في إنشاء علاقات تواصلية بينه وبين العلوم الإسلامية. هذه الأخيرة التي امتلكت منهجها الخاص والمنقدح من باطن الحضارة الإسلامية وضع أسسه علماء أصول الفقه وتناوله المتكلمون بالزيادة والتعديل والإضافة. ويكاد هذا المنهج الاستقرائي يكون المنهج الموحد لكل القطاعات المعرفية الإسلامية، ولجميع الطرق الفكرية والمذهبية التي عرفها تاريخ الفكر الإسلامي بمعزل عن الفكر اليوناني إلى حد بعيد. ولم تبدأ عملية تداخل الفكر اليوناني والمنطق الأرسطي خاصة بعلم الكلام خصوصا والعلوم الإسلامية عموما إلاَّ في أواخر القرن الهجري الخامس على أيدي المتأخرين من المتكلمين والأصوليين، وعلى رأسهم أبو حامد الغزالي[80].

لقد أبدعت، إذن، العقلية الإسلامية منهجها الخاص في البحث وأسست المنهج الاستقرائي التجريبي الذي تصادم مع منهج المشائين التأملي المجرد، فوقعت مواجهة حادة بين منطقين: منطق فلسفي يوناني ومنطق شرعي إسلامي[81]؛ الأول اعتبر بمثابة قواعد وقوانين تعصم من الوقوع في الخطأ، هكذا على الإطلاق. والثاني يعتبر نفسه مجموعة قواعد وقوانين تجنب مراعاتها الخطأ في الاستدلال على الأحكام الشرعية أو استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية، إضافة إلى تزوده بقواعد كلية وفرعية تقوم على قانونين أساسين هما بمثابة مبدأين: قانون العلة؛ أي لكل معلول علة، وقانون الاطراد في وقوع الحوادث؛ أي أن وجود العلة الواحدة في ظل ظروف متشابهة ينتج معلولا متشابها[82].

وعليه، أدى الاختلاف في طرق البحث إلى الاختلاف في المنهج مما عمَّق الهُوَّة بين الفلسفة والمنطق اليونانيين وبين العلوم الإسلامية، ولم يحصل التداخل إلا في حدود ضيقة، وحتى إن حصل فكثيرا ما يكون عملية قلقة غير نافعة، وتكون أقرب إلى السجال أو الصراع منها إلى التداخل والتعاون بين المعارف. ولهذا سنجد الكثير من المتكلمين والأصوليين ينقضون كثيرا من مباحث الفلسفة والمنطق اليونانيين، خاصة ما يقوم عليه المنطق اليوناني، من الوجهة المنهجية، من بدهيات، وهي القوانين الثلاثة المشهورة: قانون الهوية، وعدم التناقض، والوسيط الممتنع[83]. كما يمكن أن نلاحظ هذا النقد والتجاوز عند الحسن بن الهيثم الذي أقام نظريته على أساس التجربة أو ما سماه بالاعتبار؛ وطور علم الضوء في اتجاه جديد متجاوزا التراث اليوناني في هذا المجال منذ فيثاغورس حتى نهاية العهد الهيليني[84]. كما انتقد علماء المسلمين منهج بحث المقولات؛ ولم يقفوا عند مجرد الأفكار الأرسطية، بل عرفوا أفكارا أخرى عن المقولات، كما وضعوا تقسيمات جديدة، وأضافوا عناصر أخرى تكاد تطمس الأصل الأرسطي فيها. وأضافوا أيضا في مباحث الألفاظ، وقاموا بعمل منهجي وتداخلي مبدع لما مزجوا بين أبحاثهم وأبحاث رواقية، وبين عناصر أرسطية مما أخرج منطقا جديدا من هذا التمازج، هو منطق بعض من عرفوا بالشُّرَّاح.

خاتمة

لم يكن إذن تداخل الفلسفة والمنطق اليونانيين مع العلوم الإسلامية أمرا ممكنا في ظل المعوقات العقدية واللغوية والمنهجية التي ذكرنا. كما أن الفلسفة والمنطق اليونانيين لم يكونا مزودين من حيث التصور والمنهج بما يستهوي علماء المسلمين وهم في لحظة التألق العقدي واللغوي والمنهجي. فإذا كان الوافد اليوناني قد أتى بضياع عقدي، وجاء في ترجمة قلقة، فقد واجهه امتلاء إيماني عند المسلمين، وواجهته لغة مشرقة ومعجزة تستمد قوتها ورمزيتها من كونها لغة الوحي. وإذا كان قد جاء بمنهج تأملي مجرد، فقد واجهه منهج استقرائي تجريبي نافع. كل هذه العوامل لم تساعد على تحقيق التداخل بين الوافد والأصيل. كما لم تسمح بإثارة نقاش نظري عميق حول التداخل إلا من سجال هنا وصراع هناك! مع بروز كتابات متميزة في الموضوع في لحظات خاصة كما رأينا عند ابن حزم في “تقريبه”. هذا النقاش النقدي والنظري سيتطور أكثر بمشاركة فئة متمكنة من علماء المسلمين، وهي فئة علماء أصول الفقه ودخول علماء من عيار ثقيل إلى حلبة النقاش كأبي حامد الغزالي وتقي الدين بن تيمية.

الهوامش


1. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي،  دار المعارف، ط4، 1978م، ص114.

2. المصدر نفسه، ص274.

3. ينظر، علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام،  دار المعارف بمصر، ط5، 1971م، 1/122.

4. المصدر نفسه، 1/106.

5. يقول ابن تيمية: “والحديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ولفظه إن الله لما خلق العقل فقال له: أقبل، فأقبل، فقال له: أدبر، فأدبر، فيحرفون لفظه فيقولون: أول ما خلق الله العقل ليوافقوا قول المتفلسفة أتباع أرسطو في أن أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل، وإما بلفظ ثابت عن النبي فيحرفونه عن مواضعه، كما يصنع أصحاب رسائل إخوان الصفا ونحوهم فإنهم من أئمتهم»، كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه، ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن محمد قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، مكتبة ابن تيمية، د. ت، 35/153، 27/242.

6. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، 1/ 232-233.

7. ينظر: طيب تيزيني، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دار دمشق، ط2، د. ت. ص224-233.

8. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، 1/ 108- 115.

9. مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، ص68.

10. ينظر: مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، د. ت، ص31-40.

11. المرجع نفسه، ص27. وانظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، 1/45.

12. ينظر: محمد المصباحي، “دور النموذج الطبي في القولين العلمي والفلسفي عند ابن رشد”، مجلة مدارات فلسفية، العدد السادس، 2001م،   ص75.

13. ينظر: مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص17.

14. مصطفى ملكيان، “عرض ونقد لنظرية القبض والبسط النظري للشريعة”، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد الخامس عشر، (1422ﻫ/2001م)، ص82. وأول من كتب في الكلام على المنحى الفلسفي الغزالي ثم تبعه فخر الدين الرازي. وبعد ذلك توغل المتكلمون في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه واحدا، واختلطت مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين عن الآخر كما فعل البيضاوي (691 ﻫ) في “الطوالع” وعضد الدين الإيجي (750ﻫ) في كتاب “المواقف” (ينظر: مقدمة ابن خلدون، بيروت: دار القلم، لبنان، د. ت. 466. وأيضا: مصطفى عبد الرازق، “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، د. ت. ص294). وهذا التوغل الكلامي في الفلسفة هو الذي جعل ابن سبعين يقسو في نقده على علم الكلام واعتبار أصوله خارج الدين والمذهبية الإسلامية، وعليه نقد الأشاعرة وحذر من علماء الكلام عموما (ينظر: ابن سبعين، بد العارف، تحقيق وتقديم جورج كتورة، بيروت: دار الأندلس ودار الكندي، ط1، 1978، ص123).

15. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، 1/ 39.

16. ينظر: مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص260.

17. الفصل في الملل والأهـواء والنحل، ابن حزم، بيروت: دار المعرفة، ط2، 1975م، 1/ 94. وإلى قريب من هذا التعريف ذهب الفيلسوف ابن سبعين الأندلسي لما اعتبر الفلسفة هي معرفة الأشياء الإلهية والإنسانية ومعرفة الله، عز وجل، ومحبة الحكمة (ينظر: بد العارف، م، س، ص120).

18. مقدمة ابن خلدون، ص514.

19. المصدر نفسه، ص515.

20. المصدر نفسه، 515-516.

21. المصدر نفسه، ص517-518.

22. المصدر نفسه، ص519.

23. ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق محمد محسن و شعبان إسماعيل، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1982، 2/198.

24. أبو الوليد ابن رشد، “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”، دراسة وتحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط3، 1986م، ص22.

25. المرجع نفسه، ص23.

26. “دور النموذج الطبي في القولين العلمي والفلسفي عند ابن رشد”، ص75-76.

27. بد العارف، م، س، ص143-144. وينظر أيضا: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص41-42.

28. بد العارف، م، س، ص144-145.

29. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ص1/44.

30. مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص275.

31. المرجع نفسه، ص30.

32. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، 1/231.

33. المرجع نفسه.

34. ابن السبعين، بد العارف، م، س، ص44.

35. ينظر: مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص32.

36. ينظر: أبو نصر الفارابي، إحصاء العلوم، تحقيق عثمان أمين، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط3، 1968م، ص53.

37. ابن سينا، الإشارات والتنبيهات: القسم المنطقي، تحقيق  سليمان دنيا، القاهرة: دار المعارف، د. ت، 1/127-128.

38. فلسفة العلم في القرن العشرين، ص270.

39. سالم يفوت، “ابن حزم ومنطق أرسطو”، ضمن: ندوة الفكر العربي والثقافة اليونانية، ندوة انعقدت بمناسبة مرور ألف سنة على ميلاد ابن سينا وثلاثة وعشرين قرنا على وفاة أرسطو، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، سلسلة ندوات ومحاضرات، رقم 5، ط1، (1405ﻫ/1985م)، ص306.

40. أبو حامد الغزالي، معيار العلم في فن المنطق، أشرف على ضبطه وتحقيقه حسين شراره، دار الأندلس، 1964م، ص32.

41. الشهرستاني، الملل والنحل، على هامش كتاب: الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، مكتبة السلام العالمية، القاهرة، د. ت. 3/18-19. وقد حاول الشهرستاني أن يؤسس لتصوره ذاك من خلال بحثه في الكتب السماوية عما يشابه أقوال أرسطو في قضايا تصورية خاصة مثل الألوهية (ينظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام: 1/ 126-128). ومثل هذا العمل قام به أيضا الفارابي لما جمع أقوالا ونسبها إلى رسول الله تدعو إلى دراسة المنطق، مقتفيا في ذلك أثر المبشر بن فاتك في كتابه “مختار الحكم ومحاسن الكلم” (ينظر: نفسه، 1/122، 123).

42. ينظر: الفخر الرازي،  شرح عيون الحكمة، قسم المنطق، تحقيق  أحمد حجازي السقا، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط1، 1986م، 1/48.

43. ينظر مجهود الرازي بتفصيل في إدماج المنطق داخل المنظومة المعرفية الإسلامية في: لباب الإشارات والتنبيهات، فخر الدين الرازي، تحقيق  أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط1، 1986م، ص23 وما بعدها.

44. أبو الحسن سيف الدين الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، تحقيق محسن محمود الشافعي، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1971م، ص18.

45. ابن حزم، التقريب لحد المنطق والمدخل بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، تحقيق  إحسان عباس، مكتبة الحياة، بيروت،  د. ت، ص7.

46. مقدمة ابن خلدون: 490.

47. ينظر: “دور المنطق في بناء النظرية الفيزيائية”، ص77.

48. ينظر: حمو النقاري، “الاستدلال في علم الكلام، الاستدلال بالشاهد على الغائب نموذجا”، ضمن: آليات الاستدلال في العلم، تنسيق عبد السلام بن ميس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم 84، ط1، (1421ﻫ/2000م)، ص144.

49. مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص30.

50. الماجري، “أسهل الطرق إلى تحقيق المنطق”، تحقيق محمد بنشريفة، مجلة المناظرة، السنة الأولى، العدد الثاني، جمادى الأولى (1410ﻫ/ 1989م).

51. إحصاء العلوم، ص67.

52. أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1978م، 5/193.

53. أحمد بن محمد المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق  إحسان عباس، بيروت: دار الصياد،  د. ت، 1/205.

54. ينظر: أبو علي بن سينا، المقولات، الجزء الثاني من منطق الشفاء، تحقيق الأب جورج قنواتي وآخرون، طبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، ص32-33-34-35.

55. المصدر نفسه، ص6-8.

56. ابن سينا، منطق المشرقيين، بيروت: دار الحداثة، 1982م، المقدمة. وينظر أيضا: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص43-44.

57. ينظر: مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص253.

58. ينظر: “ابن حزم ومنطق أرسطو”، ص305. وينظر أيضا: عبد المجيد التركي، “موقف ابن حزم الأصولي من منطق أرسطو”، ضمن: ندوة الفكر العربي والثقافة اليونانية، ص285.

59. ابن حزم، التقريب لحد المنطق، ص9.

60. ينظر: “ابن حزم ومنطق أرسطو”، ص298.

61. ينظر: التقريب لحد المنطق، ص7-8. كما قد يكون التقريب شرحا من داخل المجال التداولي نفسه؛ إذ لابن العربي المعافري كتاب بعنوان “التقريب والتبيين في شرح التَّلقين”، و”التلقين” كتاب في الفقه المالكي للقاضي عبد الوهاب البغدادي (ينظر: محمد إبراهيم أحمد علي، اصطلاح المذاهب عند المالكية، دبي: دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث العربي، الإمارات العربية المتحدة، ط1، (1421ﻫ/ 2000م)، ص330-331).

62. التقريب لحد المنطق، ص3.

63. التقريب لحد المنطق، ص155.

64. “رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق”، رسائل ابن حزم، تحقيق إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1987م، 3/139.

65. ينظر: عبد المجيد النجار، فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1992م، ص109.

66. ينظر: مناهج البحث عند مفكري الإسلام، 56-276.

67. ينظر: عز العرب الحكيم بناني، “دور علم النفس في تأسيس فلسفة اللغة لدى أنطون مارتي”، مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية, العدد الخامس، خريف-شتاء 1991م، ص94.

68. ينظر: “دور المنطق في بناء النظرية الفيزيائية”، ص77.

69. ينظر: “تصدير نقد العقل المحض”، إيمانويل كانط، تـرجمة: جيزيلا حجار، مجلة الفـكر العـربي، العدد الثامن والأربعون، تشرين الأول 1987م، ص99.

70. مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص9-73-138-274.

71. المرجع نفسه، ص27.

72. مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص27.

73. المرجع نفسه، ص61.

74. المرجع نفسه، ص270.

75. فلسفة العلم في القرن العشرين، ص50.

76. المرجع نفسه.

77. ينظر: مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص29.

78. المرجع نفسه، ص49.

79. المرجع نفسه، ص221.

80. المرجع نفسه، 79-80. وينظر أيضا صفحات، ص12-115-271-275.

81. ينظر: مهدي فضل الله، الاجتهاد والمنطق الفقهي في الإسلام، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، يناير 1987م، ص5.

82. المرجع نفسه، ص6.

83. ينظر: مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص114-123.

84. المرجع نفسه، ص269-270.

د. محمد همام

باحث في الفكر الإسلامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق