أثر السياق في فهم النص القرآني [الحلقة2]
أثرُ السّياقِ في بيانِ مقاصدِ التّنزيل ودفع شُبهة التّأويل
يقع كثير من النّاس في الوهم و الخطأ عندما يعمدون إلى تفسير بعض الآيات بالظّاهر تفسيرا يتعارضُ وحقيقةَ ما أنزِلت بسببه، فمن ذلك تفسيرهم للفظ "التّهلُكة" في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقوا بِأيْديكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة: 194) باقتِحامِ ميادينِ القتالِ ومنازلةِ العدوّ، ومن ذلك ما رُوِيَ عن المغيرة[25]؛ قال: بعث عُمرُ بن الخطّابِ جيشا فحاصروا أهلَ حصن وتقدّم رجل من بجيلةَ فقاتل فقُتِل فأكثر النّاس فيه يقولون: ألقى بيده إلى التّهلكة، فبلغ ذلك عُمرَ، رضي الله عنه، فقال: كذَبوا، أليس الله، عزّ وجلّ، يقول: ﴿ومِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَه ابْتِغاءَ مَرْضاةِ الله، والله رَءوفٌ بِالعِبادِ﴾ (البقرة: 205)، فأنت ترى كيف أنّ عُمرَ، رضي الله عنه، صحّح ما علِق بأذهان النّاس من معنى هذه الآية، وذلك بوضعها في سياقها، وأعطاهم أنموذجا قويا ونهجا سليما في فهم معاني الآيات.
لقد وردت هذه الآية في سياق معين لا ينبغي عزلها عنه والاستدلال بها على ظاهر اللفظ؛ فإن الاستدلال بها مُقتبَسَةً من القرآن الكريم إخراجٌ لها من سياقها الذي وردت فيه وإكراه لها على إفادة معنى لا تعنيه؛ فقد وردت مسبوقةً بآيات في القتال وعدمِ إمساك اليد عن الإنفاق؛ لأن الإمساك هو منتهى التّهلُكة؛ قال الله تعالى: ﴿وقاتِلوهُم حَتّى لا تَكونَ فِتْنَةٌ ويَكونَ الدّينُ لله، فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إلاّ عَلى الظّالِمينَ، الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ، فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ، واتَّقوا الله واعْلَموا أنَّ الله مَعَ المُتَّقينَ، وأنْفِقوا في سَبيلِ الله ولا تُلْقوا بِأيْديكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ وأحْسِنوا، إنَّ الله يُحِبُّ المُحْسِنينَ﴾ (البقرة: 192-194). ففيه الأمر بالإنفاق في سبيل الله أي في طريقه الذي أمَرَ أنْ يُسْلَك فيه على عدوّه من المشركين لجِهادهِم؛ فإن الله يُعوِّضُ المُنْفِقين أجرا ويرزقهم عاجلا، فإن تركوا النفقةَ عرَّضوا الجهاد للخطر؛ لأنه يحتاج إلى تجهيز بالمال والعتاد، ولذلك سُمّي البخلُ هلاكا وتهلُكةً، وهو في الأصل انتهاءُ الشيء إلى الفساد، ثمّ يأمر الله الأمّةَ بالمزيد من البذل والعطاء: "وأحْسِنوا إنّ الله يُحِبُّ المُحْسِنينَ".
المُناسبة بين آيات القرآن الكريم
معرفةُ المناسبات بين الآيات مظهر من مظاهر مراعاة السّياق في الفهم و التفسير، وهو موضوع ألّف فيه العلماء، وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها مرتبطا ببعض حتّى يصير التّأليفُ كحالِ البناء المُحكَم المتلائم الأجزاء وقد قلّ اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقّتِه، وممّن أكثر منه الإمام فخر الدّين الرازي، وقال في تفسيره: أكثرُ لطائف القرآن مُودَعَةٌ في التّرتيبات والرّوابط.
هذا ويُشترَط في حسن ارتباط الكلام أن يقعَ في أمر متّحد مُرتبط أوّله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يُشترَط فيه ارتباط أحدهما بالآخَر، ومَن ربط ذلك فهو متكلِّف بما لا يقدر عليه إلا برباط ركيك يُصان عنه حُسن الحديث فضلا عن أحسنه[26]. وأما القول بأنه لا يُطلَب للآيات الكريمة مناسبة لأنها حسب الوقائع المتفرقة، فالجواب عنه أن نزول الآيات على حسب الوقائع تنزيلا وعلى حسب الحِكمة ترتيبا، وسوره مرتّبة بالتوقيف. والذي ينبغي في كل آية أن يُبحَث عن كونِها مكمِّلةً لما قبلها أو مستقلّة، ثُم المستقلّة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك عِلم جَمٌّ، وهكذا في السور يُطلب وجه اتِّصالها بما قبلها وما سيقت له[27].
ومن أنواع ارتباط الآيات بعضِها ببعض تعلُّق الكلام بعضه ببعض وعدم تمامِه بذاته، وهذا النّوع واضح، ونوع تكون فيه الآية الثانية للأولى على جهة التّأكيد والتفسير أو الاعتراض والتشديد، وهذا القسم واضح أيضا، ونوع آخر لا يظهر فيه ارتباط الآية بالأخرى بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى وأنها خِلاف النوع المبدوء به، ومثال ذلك:
ـ أن تكون الجملة معطوفةً على ما قبلها بحرف من حروف العطف المُشرِك في الحُكم، كقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الاَرْضِ وما يَخْرُج مِنها وما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فيها﴾ (الحديد: 4) وقولِه: ﴿واللهُ يَقْبِضُ ويَبْصطُ وإليْه تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة: 243)، وفائدة العطف جعلُها كالنّظيرَيْن والشّريكينِ.
وكقولِه تعالى: ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيْكُم ألاّ تُشْرِكوا به شَيْئاً، وبالوالِدَيْنِ إحْساناً، ولا تَقْتُلوا أوْلادَكُمْ مِّنْ إمْلاقٍ، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإيّاهُمْ﴾ (الأنعام: 152)؛ عَقَّب، سُبحانَه وتَعالى، التّكليف المتعلِّق بالوالدين بالتّكليف المتعلقِ بالأولاد لكمال المناسبة[28].
ـ وقد تكون العلاقة بينهما علاقةَ تضادٍّ، وهذا كمناسبة ذِكر الرّحمة بعد ذِكر العذاب، والرغبة بعد الرهبة، وعادةُ القرآن العظيم إذا ذكر أحكاما ذكر بعدها عدا ووعيدا ليكون ذلك باعثا على العمل بما سَبَق، ثم يذكر آيات التوحيد والتّنزيه ليُعلَم عظمُ الآمر والنّاهي، والقرآن الكريم مليء بهذا المقابل.
ـ وقد تأتي الجملة معطوفةً على ما قبلَها ويُشكِل وجه الارتباط، فتحتاج إلى شرح وتأويل، لاستكشاف سياق الجمع بين الجملتين، ومن صور ذلك قولُه تعالى: ﴿يسْئلونَكَ عَنِ الاَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَواقيتُ للنّاسِ والحَجِّ، وليسَ البِرُّ بأنْ تاتوا البُيوتَ مِنْ ظُهورِها ولَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقى، واتوا البُيوتَ مِنْ اَبْوابِها، واتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحونَ﴾ (البقرة: 188) فقد يُقال: أيُّ رابطٍ بين أحكام الأهلّة وبين حُكم إتيان البيوت؟ وجه اتّصالِه بِما قبله أنهم سألوا عن الأمْرين، وأنهم لَمّا سألوا عمّا لا يعنيهم ولا يتعلّق بعلم النّبوّة، وتركوا السّؤال عمّا يعنيهم ويختص بعلم النّبوّة، فإنه، عليه الصلاة والسلام، مبعوث لبيان الشرائع لا لبيان حقائق الأشياء، عَقّبَ بإجابتِهم عمّا سألوا تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا مثلَ ذلك ويهتمّوا بالعلم به، وإما على سبيل الاستعارة التمثيليّة بأن يكون قد شبّه حالَهم في سؤالِهم عمّا لا يهمّ وتركِ المهمّ بحال مَن ترك الباب وأتى مِن غير الطّريق، للتّنبيه على تعكيسهم الأمر في هذا السؤال، والمعنى: وليس البر بأن تعكِسوا مسائلَكم ولكنّ البر مَن اتّقى ذلك ولم يجترئ على مثلِه، وآتوا البيوت من أبوابها؛ إذ ليس في العدول بِرّ فباشِروا الأمور من وجوهها واتّقوا الله في تغيير أحكامِه والاعتراض على أفعاله لعلكم تفلحون، ويجوز أن يكون الجامع بينهما أن الأول قولٌ لا ينبغي والثّاني فعلٌ لا ينبغي[29].
وهناك مظهر آخر من مظاهر المناسبة بين الآيات: وهو مناسبة صدر السورة أو أوائل الجمل لِما يعقبها من كلام، أو ما يمكن أن يُدعى بالاستهلال أو الافتتاح، حيث يكون الكلام المُستهَلّ به ذا أهمّيّة وعناية وتركيز، مما يؤثّر في أجزاء الكلام اللاحق، ويستحق بذلك التقديمَ والاستهلال؛ وقد ذكر العلماءُ الحكمةَ في افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح وافتتاح سورة الكهف بالتحميد؛ أن التسبيح حيث جاء مُقدَّم على التحميد؛ يُقالُ: سبحان الله والحمد لله، وأن سورة الإسراء افتُتِحت بحديث الإسراء وهو من الخوارق الدّالّة على صدق النبوّة والرسالة، والتّسبيحُ تنزيهٌ لله تعالى عمّا صدر عن الكفّار من تكذيبٍ بشأن الإسراء تكذيبَ عنادٍ، فنزَّه نفسَه قبل الإخبار بهذا الذي كذّبوه. وأما سورة الكهف فإنه لمّا احتَبَس الوحي وأرجف الكفّار بسبب ذلك أنزلَها الله ردّاً عليهم وأنه لم يقطع نِعمَه عن نبيّه، صلى الله عليه وسلم، بل أتمّ عليه بإنزالِ الكتاب، فناسب افتتاحَها بالحمد على هذه النّعمة[30].
وأما سورة سبأ فلمّا تضمنت ما منح الله سبحانَه داودَ عليه السلام من تسخيرِ الجبال والطّير والرّيح وإلانَةِ الحديد ناسب ذلك ما به افتتحت السورة من أن الكُلَّ مُلكُه وخَلقُه، فهو المسخِّر لها والمتصرِّف في الكلِّ بما شاء، فقال تعالى في أول السورة: ﴿الحَمْدُ لله الذي لَه ما في السّماواتِ وما في الاَرضِ وله الحَمْدُ في الاَخِرَةِ﴾ (سبإ: 1)، فالارتباط واضح بين افتتاح كلٍّ من هذه السور وبما يليها من موضوع السورة والقضايا التي تعالجها.
المناسبة الصوتية لسياق الكلام، وأثرها في بيان المعنى
لا شكّ أن اللغة العربية من أدق اللغات احتفاظا بالمعاني الفِطريّة للحروف، أي بحركة الإنسان الأول في الإشارة إلى المعاني؛ ذلك أن كثيرا من الحروف لها دلالة في ذاتها قبل أن تقترن بغيرها من الحروف؛ فمن ذلك دلالات النداء والتعجب والتأوّه والأنين والإشارة والتنبيه وغير ذلك من المعاني التي تدعو إليها معاناة الحياة الفطرية الأولى[31]؛ فالنداء يعتمد على أصوات الحلق المقذوفة من الجوف مُطلَقَةً في الهواء لتبلُغَ بالصوت أقصى ما يُطيقه تدافُع النّفَس، وكذلك الإشارةُ والتّنبيه يتطلَّبان من صاحِبَيهِما إرسال الصوت خارجا من الحلق إلى المُشار إليه أو المُنبَّه، وهكذا في أكثر الحروف المجرَّدة: فالهمزة الممدودة هي الصدى الصوتي الذي يراد به التنبيه والإشارة والنداء، وحروف النداء تعتمد على الهمزة، أما الياء الممدودة فهي تسهيل لمجرى الهمزة وتليين لها، وتأتي الهمزة للدلالة على الاستفهام والتعجُّبِ من طريق الاستفهام، وتثبُتُ الهمزة في أول التعجب كقولِك: "ما أكرمه" و"هو أكرم من فلان"، ويشترك مع الهمزةِ حرفُ الهاء، واحتفظت العربيّةُ بالهمزة في أكثر حروف الاستفهام نحو أين وأنّى. وأما الهاء فأكثر مَوْرِدها على التنبيه والدلالة والإشارة، مثلما وقعت في أسماء الإشارة "هذا وهذه وهؤلاء" وما كان نحوَهنّ، وفي ضمائر الرفع المنفصلة التي تدلّ على الغيبة نحو "هو وهي وهما وهم وهنّ"، التي فيها معنى الإشارة إلى الغائبين.
هذا، وقد ذكر العلماء والباحثون لكل جمهور من حروف العربية مجرىً ودرباً تتفرع منه شُعَبُه ويسهل معه الإبانة عن الأصوات وحكايتها وأسمائها، التي جعلتها اللغةُ لها في أعمال الإنسان والحيوان والجماد[32].
وإذا توالت الأصوات، مع ما في كلّ صوت من معنى فِطريّ غُفْلٍ ساذَج نشأ معه بغير صنعة، أعطت سِياقاً صوتيا مركَّبا ذا دلالة مركَّبة، ويعدّ السياق الصوتي في الآيات القرآنية مظهرا من مظاهر السياق اللغوي؛ فقد اعتنى القرآن الكريم باختيار الأصوات الدقيقة المناسبة للأحوال الدلالية المختلفة؛ لأن للأصوات والحروفِ حرارةً وتوهّجا يضيء المعنى المراد؛ فكانت كل كلمة بما تتألف به من أصوات، مُناسِبةً لصورتها الذّهنيّة؛ فما كان يستلذّه السّمعُ ويستميلُ النّفْسَ فحظّه من الأصوات الرّقّة والعذوبة، وما كان يُخيفها ويُزعجها فحظّه من الأصوات الشّدّة، وهذا التّناسب الصّوتي بين اللّفظ والمعنى وسيلة سياقية من وسائل تنبيه مشاعر الإنسان الباطنة واستثارة المعاني النفسية المناسِبة للموقف الخارجي.
أ. الصَّوتُ والمَعْنى: دراسة تطبيقية
وإنّ للصوت القرآني[33]، إذا ما نُطق به فصيحا بصفاته ومن مخرجه المناسب[34]، صدى دلاليا يُشيع جوّاً خاصّاً من المعاني وحقلا دلاليا مخصوصا:
ـ دلالة الفزع والأصوات المناسبة لها: "صَرَخَ" و"اصْطَرَخَ": استعمل القرآن الكريم للدلالةِ على الفزع ألفاظا معيّنة ذات أصوات مخصوصة، منها مادّة "صرخ" التي اشتقت منها كلمات مثل الصرخة، وهي الصّيحة الشّديدة عند الفزع أو المصيبة، والصراخ الصوت الشديد[35]، وما يُرافق الصراخَ من الاستغاثة اليائسة التي لا تجد أذُنا صاغية، كما في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخونَ فيها رَبَّنا أخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً﴾ (فاطر: 37)؛ أي يستغيثون بشدّة وعويل وصوت مرتفع.
ولأصواتِ هذه المادّة إيقاعٌ شديد؛ فالصاد من حروف الاستعلاء والإطباق، والطّاء كذلك، وتواليهما في الآية يُقوّي معنى المصيبة الواقعة بهم، والخاء حرف حلقي جافٌّ غليظ يكون معه الاستعلاء والتّرفّع ويُفيد التّكرُّه والاستبشاعَ والتّأوّه[36]. وقد وردت موادُّ لغوية توالى فيها الصاد والخاء مثل الصّخِّ وهو الضّرب بالحديد على الحديد، والعصا الصلبة على شيء مُصمَت، وصخُّ الصّخرة وصخيخها صوتها إذا ضربتَها بحجر أو غيرِه، والصّاخّة القيامة.
أما الصّرخة فهي الصيحة الشديدة عند الفزع أو المصيبة، والاستصراخُ الاستغاثة، واصطرخ القوم وتصارخوا واستصرخوا استغاثوا، والإصراخ هو الإغاثة وتلبية الصّارخ، وقوله تعالى: "ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ وما أنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ" تعني التبرُّؤَ المتناهي والإحباط التّامّ والصوت المُجلجل في الدّفع، فلا يُغني بعضهم عن بعض شيئا، ولا يُنجي أحدُهم الآخر من عذاب الله، فلا الشيطان بمغيثهم ولا هم بمُغيثيه، والصريخ في اللغة يعني المغيث والمستغيث معا، فهو من الأضداد؛ قال تعالى: "فَلا صَريخَ لَهُم ولا هُمْ يُنْقذونَ"، فيا له من موقف خاسر وجهد بائر، فلا سماع حتى لصوت الاستغاثة، ولا إجارة ممّا وقعوا فيه.
ـ دلالة المُخاصمة والعناد والأخذ والرّدّ، والأصوات المناسبة لها
مادّة "شكس" في قولِه تعالى: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسونَ﴾ (الزمر: 28) والشُّركاء المتشاكسون هم العَسِرون المختلفون الذين لا يتّفقون والتّشاكُس معنى يُفيد النّزاعَ المستمرّ بين المتشاكسين وعدمَ استقرارِهم على وضع مُعيّن ولا تَقوى لفظةُ "المتخاصمين" أن تدلّ عليه؛ لأن أصوات التّشاكس وهي الشّين والسّين تُفيد مُجتمِعةً متعاقبةً، معنى التضايُق والتّضادّ[37]، ثمّ أضيف إليها الميم والتاء والألف، فارتفعت حدّة الجدال بين المتجادلين.
ب. التّنغيم والمعنى: دراسة تطبيقيّة
التّنغيمُ تنوّع صوتيّ يتراوح بين الارتفاع والانخفاض في أثناء النطق، ينظّم علاقة الأصوات المتتالية فتؤلِّف هذه المنظومة الصوتية إطارا صوتيا لأداء الجملة[38]، ويُعدّ التنغيم ظاهرة موقعيةً سياقيّة وقرينةً من قرائن التّعليق اللّفظيّة في السياق[39]، والجمل العربية تقع في صيغٍ وموازينَ تنغيميّةٍ هي هيئات من الأنساق النغمية، كالهيئة التنغيمية لجملة الإثبات أو جملة النفي أو الاستفهام أو التعجب أو الإنكار أو الندبة أو التفجع، فلكل جملةٍ هيئةٌ تنغيميةٌ خاصة بها، ويدخل في الجملة كلُّ حروفها وعناصرها الصوتية، وتؤلِّف هذه العناصر كلّها منحى تنغيميا للجملة يُعينُ على الكشف عن معناها ويستطيع السامع أن يَفهم مراد المتكلّم استنادا إلى التّنغيم.
هذا، وإنّ للقرآن الكريم أغراضا في السياق الصوتي للآيات أو التنغيم المصاحب لأدائها، منها التنبيه والوعد والوعيد والنهي، ووصف الجنة والنار والرّدُّ على الكفار والمشركين ومحاورةُ أهل الكتاب... وليس من المناسب أن تُقرأ هذه الأغراض كلُّها بتنغيم واحد، بل يكون لها بحسب كلٍّ فهمٍ حالٌ. وقد تحدّث الزركشي (توفي 794ﻫ) في كتابه "البرهان" عن وجوه المخاطبات في القرآن، قال: "فمَن أراد أن يقرأ القرآن بكمال التّرتيل فلْيَقْرَأه على منازِلِه؛ فإن كان يقرأ تهديدا لفَظَ به لفظَ المتهدّد، وإن كان يقرأ لفظ تعظيمٍ لَفَظَ به على التعظيم"[40].
وينبغي للقارئ إذا أراد أن يُحسن تلاوة القرآن الكريم أن يستعين على ذلك «بأن تكون تلاوتُه على معاني الكلام وشهادةِ وصف المتكلّم من الوعد بالتشويق والوعيد بالتخويف والإنذار بالتشديد، فهذا القارئ أحسن الناس صوتا بالقرآن، وفي مثل هذا قال تعالى: ﴿الذينَ ءَاتَيْناهُمْ الكِتابَ يَتْلونَه حَقَّ تِلاوَتِهِ أولئِكَ يُومِنونَ بِه﴾[41]. فمن منازل القراءة أنّ التنغيم الباكي مناسب لآيات الاستغفار والتوبة، والتنغيم الحاضَّ المُحرِّضَ مناسب لآيات القتال، وكلّ ضرب من التنغيم يجب أن يُرافق المعنى الذي يناسبُه ويُظهِره، ليَجعَل المقروء مستقرا في ذهن السامع وقلبه.
ج. الوقف والمعنى: دراسة تطبيقية
يتصل الوقف في القرآن الكريم بالمعنى والسياق اتصالا وثيقا، وممن أفرد له تأليفا خاصا أبو بكر الأنباري (توفي 328) صاحبُ كتاب: "إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل"؛ فقد ربط الوقفَ بالمعنى وبالفهم للقرآن، قال في ذلك: "ومِن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبِه معرفةُ الوقف والابتداء فيه؛ فينبغي للقارئ أن يعرف الوقفَ التّامّ والوقفَ الكافي الذي ليس بتامّ والوقفَ القبيحَ الذي ليس بتامّ ولا كافٍ"[42].
ومن الأمثلة التي ذكَرها: "أنه لا يتمّ الوقف على المضاف دون ما أضيف إليه، ولا على المنعوت دون النعت، ولا على المرفوع دون الرافع"[43]، وبالجملة فإنه لا يجوز الفصل بين المتلازمين بالوقف على أولهما.
وممّن أدرك أهمية الوقف واتّصاله بالمعنى الحافظُ ابنُ الجزري الدّمشقي (توفي 833ﻫ)، فقد فصّل القولَ في أنواع الوقف، وردّ على مَن تكلَّف الوقف في بعض المواضع تعسُّفاً، وبيَّن أنه ينبغي تَحَرّي المعنى الأتمّ والوقفِ الأوجَه، كالوقف على قوله تعالى: ﴿ولا يحْزنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ (يونس: 65) والابتداء بعدَه بقولِه: ﴿إنّ العزّةَ لله جميعا﴾ (يونس: 65)، فالوقف الذي يُراعى فيه المعنى يكون على الكلمة التي يتمّ بها معنى ما قبلها ولا تتعلق بما بعدها لفظا ولا معنى، وغالبا ما يكون في أواخر الآيات ونهاية القصص وأواخر السور، مثلما أنّ الابتداء بما له تعلق بما قبلَه يفسد المعنى، وذلك لشدّة تعلّقه بالسابق؛ والمثال على ذلك أنه لا يُبتَدأ بقوله تعالى: ﴿فَما نَحْنُ لَكَ بِمُومِنين﴾ (الأعراف: 132) وقوله: ﴿اتّخذ الله ولدا﴾ (البقرة: 115)، وقوله: ﴿نحن أبناء الله وأحباؤه﴾ (المائدة: 20).
يتبين في آخر المطاف أن فهم القرآن الكريم وتفسيره لا يتمّ إلا في ظل السياق العام بنوعيه الداخلي والخارجي، ولا يحصل هذا الفهم ولا ذلك التفسير إلا بمعاينة تطبيقية للآيات بمنهج كشّاف يكشف تفاصيل المعاني المحيطة بالآية، ويسهم في بناء الصورة العامة للمعنى.
هذا، وقد استُعرِضَ في هذا البحث طرُقٌ وأمثلةٌ وإجراءات تطبيقية لكيفية تحكيم منهج السياق في فهم القرآن وتفسيره، وهو منهج لساني لغوي يُسهم في استخراج كوامن الآيات وبيان مقاصد الخطاب، سواء تعلقت هذه الإجراءات التطبيقية بالأصوات أو الكلمات المعجمية والصرفية أو العبارات التركيبية أو النصوص الطويلة.
فالمنهج اللّساني الحديث يُقدّم في فهم نصوص القرآن الكريم فهما متكاملاً يؤدّي إلى وضع النّصّ القرآني في إطاره العامّ الذي نتج به أوّل مرّة، ويمكن أن تقدم اللسانيات منهجا في الفهم المتكامل هو المنهج السياقي في مستوياته اللغوية المتعددة النحوية والصرفية والمعجمية والبلاغية، التي تُرشد في فهم مراد المتكلّم ومقاصده العليا بقرائن نصّية لفظية ومعنوية، ويضاف إلى السياق اللغوي الدّاخلي سياق آخَر هو سياق الحال أو المقام أو ما يتّصل به من عناصر الحال والزمان والمكان والمتكلم والمخاطب.
ــــــــــــ
الهوامش:
[25] . تفسير الطّبري، 2/321.
[26] . انظر التفصيل في: "البرهان في علوم القرآن"، م، س، 1/40-43.
[27] . المرجع نفسه، 1/40-43.
[28] . أبو الفضل محمد الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 8/54.
[29] . تفسير البيضاوي، بيروت: دار الفكر، (1416-1996م)، 1/475. محمد أبو السعود، إرشاد العقل السّليم إلى مزايا القرآن الكريم، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1/203. روح المعاني، م، س، 2/74.
[30] . البرهان في علوم القرآن، م، س، 1/39.
[31] . انظر الرأي الوجيه الذي ذكره الأستاذ محمود محمد شاكر عن دلالة الحروف على المعاني دلالة فطرية تُفهَم من مجرد التصويت بها: جمهرة مقالات الأستاذ محمود شاكر: جمع وتقديم: عادل سليمان جمال، القاهرة: نشر مكتبة الخانجي، الشركة الدولية للطباعة، ط1، 2003م، 2/717-724.
[32] . يُنظَرُ في هذا البابِ ما ذكره سيبويه عن المصدر الذي على بناء الفَعَلان (مثل النَّزَوان والقَفَزان والنَّقَزان)، فهو بناء يحكي زَعْزَعةً في البدن واهتزازا متصاعدا، ومثلُه الغَلَيان والخَطَران واللّمَعان لأنّه اضطراب وتحرّك، واللَّهَبان والوَهَجانُ؛ لأنّه تحرُّك الحَرّ وتَثَوُّرُه (الكتاب: بولاق، القاهرة، 2/218،) وعَقَدَ أبو الفتح بن جنّي بابا عن حكاية الأصوات لِمعانيها، هو بابُ إمْساس الألفاظ أشباهَ المعاني، أورد فيه أمثلةً عن تلك المصادر الرباعية التي قوبِل فيها توالي حركات الأفعال بتوالي حركات المثال (الخصائص: تح. محمّد عليّ النّجّار، بيروت: دار الهدى للطباعة والنشر، ط2، 2/152-168)، بل سجّل لنا ابنُ جنّي رأيَ فريق من العلماء يقول: إنّ أصل اللّغات كلّها إنّما هو من المسموعات كدويّ الرّيح وحنين الرّعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس، ثُمّ وُلِدت اللّغات عن ذلك فيما بعدُ (الخصائص، م، س، 1/46-47).
[33] . انظر في تعريف الصّوت ومخارج الأصوات وصفاتها، كتابَ إبراهيم أنيس: الأصوات اللّغوية، نشر القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1979م، ص111.
[34] . فائدة هذا الشرط هو التنبيه على أن الأصوات الفصيحة التي نزل بها القرآن الكريم وتجلَّت في القراءات المتواترة، ينبغي أن يُحتفَظَ بها عند قراءة القرآن شرطا في صحة الأداء، وإلا فإن النطق الحديث الشّائع بيننا لا يصلح أن يُتّخَذَ وسيلة صوتية لقراءة القرآن الكريم؛ وذلك لأن مخارج الأصوات اليوم قد انتقلت من حال إلى حال أخرى مخالفة، فقد انتقلت الضّاد دالاً، ولم يعد المتكلّم يميز بين الظّاء والزّاي، أو بين الثّاء والسّين، في بعض أقطار البلاد العربية، ولا بين الصاد والسين، ولم يعد كثير من الناطقين يميزون بين الأصوات المتقاربة مَخارِجَ وصِفاتٍ، وقد عُرِفَ هذا الانتقال الصوتي منذ عهد سيبويه الذي قسّم الحروف إلى حروف مستحسنة وأخرى مستهجنة رديئة (الكتاب: تح. محمد عبد السلام هارون، 4/431،).
[35] . لسان العرب: مادة "صرخ"، 3/33.
[36] . انظر ما نقله ابنُ منظور عن اللّغويين بخصوص الخاء (لسان العرب، م، س، 3/3).
[37] . لسان العرب، م، س، 6/113.
[38] . انظر بتصرف: أحمد نوزاد، المنهج الوصفي في كتاب سيبويه، بنغازي، منشورات جامعة قاريونس، ط1، 1996م، ص206-261.
[39] . تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها، الدار البيضاء: دار الثقافة، (1421ﻫ/2001م)، 226 و308.
[40] . البرهان في علوم القرآن، م، س، 1/450.
[41] . المرجع نفسه، 2/181، ثُمّ ما قاله د. يوسف القرضاوي في الموضوع، في كتاب: كَيف نتعامل مع القرآن العظيم، م، س، 178.
[42] . إيضاح الوقف والابتداء، تح. محيي الدّين عبد الرحمن رمضان، دمشق: مطبوعات مجمع اللغة العربية، (1391ﻫ/1971م)، 1/108.
[43] . المرجع نفسه، 1/116.