وحدة الإحياءأعلام

أبو الحسن القابسي.. رائد رواة الحديث الصحيح في إفريقيا

الدور الرائد للقيروان في الفكر الإسلامي:

مما لا شك فيه أن مدينة القيروان كانت المنطلق لرسل الحضارة الإسلامية إلى إفريقيا والغرب الإسلامي، وأول ثغور الإسلام الإفريقية، اختطها عقبة بن نافع سنة خمسين هجرية على عهد معاوية بن أبي سفيان، كما كانت من أجل الحواضر الإسلامية الأولى إن لم تكن أجلها وأقدمها، انطلق إشعاعها مع قدوم الفاتحين الأولين إليها، وفي مقدمتهم صفوة من صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذين كان وفودهم على القيروان فتحا وخيرا، وإيمانا وعلما، كما جاء في الدعاء الكريم: “اللهم املأها علما وفقها، وأعزها بالمطيعين والعابدين، واجعلها عـزا لدينك ولا على من كفر، وأعـز بها الإسلام وآمنها من جبابرة الأرض”[1].

ومن هنا كان للقيروان – وسبق دخول الإسلام إليها، وفتحها، الدور الكبير في الإشعاع الفكري والعلمي عليها وعلى إفريقيا والغرب الإسلامي خاصة، بفضل توالي طلائع الفتح الإسلامي عن طريق الصحابة والتابعين منذ القرن الهجري الأول فما بعده، وذلك لأمرين:

الأول؛ الإقبال المنقطع النظير من أبناء إفريقيا على الدخول في الإسلام، والإيمان به، والدفاع عنه.

والثاني؛ وجود صفوة من الصحابة وأعلام الإسلام الذين أطروا هذا الفتح وغَدَّوهُ، وكانوا إلى جانب قيادتهم للفتح أساتذة ومربين للبلاد المفتوحة، وخاصة إفريقيا وفي مقدمتهم القيروان العاصمة الإسلامية الإفريقية الرائدة، ومعبر الفاتحين إلى أوربا، ونذكر من بين هؤلاء الفاتحين والرواد:

عقبة بن نافع، وموسى بن نصير، وسفيان بن وهب، والوالي إسماعيل بن المهاجر رفقة العشرة التابعين في صدارتهم أبو البقاء عبد الرحمان بن نافع، وسعيد التجيبي، وغيرهم من أولئك الذين كان لهم الدور العظيم في نشر الإسلام، وإشاعة التعليم، وتربية المسلمين الأولين في إفريقيا انطلاقا من القيروان، عن طريق الكتاتيب التي أسسوها، والمساجد التي أقاموها في البلاد المفتوحة، التي كانت اللبنات الأولى، والقواعد الأساسية للنهضة العليمة والفكرية التي عرفتها القيروان وفاس وغيرها[2]، والتي أدت إلى قيام منارات الإسلام الأولى، ومعالمه الفكرية وفي مقدمتها:

  1. جامع عقبة؛ وقد قامت فيه حلقات علمية زاهرة، وعرف إقبالا من طلاب العلم والمعرفة من جميع أطراف البلاد، وكان المنطلق الذي مهد لقيام جامعة الزيتونة.
  2. جامع الزيتونة؛ وهو المنارة الإسلامية الأولى في إفريقيا التي انطلق منها الإشعاع الفكري في تونس وغيرها من الحواضر الإسلامية في إفريقيا، والذي عرف نهضة علمية متميزة، تمثلت في مختلف الدراسات حول المذاهب الإسلامية المتعددة ومختلف العلوم، ونبغ في رحابه رواد وأعلام كبار مثل سحنون، وعبد الرحمان بن زياد، وعبد بن غانم، الذين نشروا وبثوا في الصدور ما أخذوا وتعلموا على أئمة الحديث والمذاهب الإسلامية الكبرى.
  3. بيت الحكمة؛ نجد بعد جامع عقبة، وجامع الزيتونة، المعلم الثالث للثقافة الإسلامية، بيت الحكمة الذي أسسه إبراهيم الثاني في القرن الثالث الهجري، وكان مجالا واسعا لألوان جديدة من المعرفة كالفلسفة، والمنطق، والطب، والفلك، وغيرها من العلوم التي وجدت في البيئة الصالحة والغنية بتفاعلها وتلاقحها مع العلوم الإسلامية، بفضل رعاية مؤسسها، وبما استقدم إل>يه من كبار العلماء والحكماء، وما استنسخ لمكتبتها من علوم التراث الإسلامي واليوناني، حتى بلغ عدد كتبها بما يربوا على خمسمائة ألف كتاب[3]، وكذا ما رسم فيها من خرائط الأقاليم، والأسطر، ووحدات الموازين وسواها، مما كان له الفضل الأكبر في إشعاع بيت الحكمة على المغرب العربي وإفريقيا، وعلى إيطاليا وفرنسا، وألمانيا وسواها عبر صقلية والأندلس، حتى غدت ندوات بيت الحكمة وحلقاتها العلمية معلما من معالمها، بفضل كثرة روادها، وشهرة علمائها، نذكر على سبيل المثال بعض أعلامه الذين كان لهم الدور الطلائعي في بث العلوم ونقلها، وتلقينها والتأليف فيها، كابن الصائغ، وإسحاق بن عمران الفيلسوف الطبيب، الذي مازالت خزانات “ميونيخ” تحتفظ ببعض كتبه ومؤلفاته، والأديب المناظر ابن ظفر، وأبو اليسر الشيباني العالم الكاتب المؤلف مدير بيت الحكمة وعثمان بن الصيقل، والعالم المحدث حماد بن سهل، وأبو عثمان سعيد بن الحداد صاحب المناظرات، وأحمد الجزار الطبيب الصيدلي العالم الموسوعي، الذي تهافتت الجامعات الأوربية على نسخ وترجمة مؤلفاته والإفادة منها[4].

التعريف بأبي الحسن القابسي:

هو أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القروي القابسي الضرير(324-403 هـ) الحافظ، المقرئ، الفقيه، الأصولي، إمام أهل الحديث، ورائد رواته في بلاد إفريقيا والمغرب العربي[5].

ولد بالقيروان سنة (324هـ) وفيها نشأ وتعلم، وحفظ القرآن وأخذ مبادئ العلوم، وشمع الموطأ على شيوخه الجلة منهم: عبد الله بن أبي هشام، وأبو الحسن علي محمد بن مسرور، كما سمع من إسحاق السبائي، وأبي قاسم اليحصبي، وأبي الحسن الكانشي[6]، وكان عمدة شيوخه في الحديث والفقه، دارس بن إسماعيل الفاسي كما أكد ذلك ابن خير والحجوي[7]. ورحل إلى تونس وسمع من شيوخها، وروى عن علمائها وفي مقدمتهم أبو العباس الأبياني، أخذ عنه الموطأ برواية يحيى بن بكير وغريب الموطأ للأخفش.

ثم سافر إلى المشرق عبر طرابلس التي سمع من شيخها ابن ذكوان وأخذ عنه، ثم قصد مصر فسمع بالفسطاط أولا، ثم بالإسكندرية من شيوخهما وأعلامهما، وروى عن الحافظ حمزة الكناني مسند حديث مالك، وسنن النسائي، وتفسير القرآن له[8]، كما أخذ عن أبي بكر بن أبي شريف، وأبي الحسن الثابياني وأضرابهم، واتجه بعد ذلك إلى مكة والمدينة فسمع من أبي زيد المروزي صحبة أبي محمد الأصيلي “صحيح الإمام البخاري”[9]، كما سمعه أيضا من أبي محمد الجرجاني وغيرهما[10].

وقد استمرت رحلته في طلب العلم والرواية عن الشيوخ زهاء ست سنوات، سمع فيها علما كثيرا، واتسعت روايته، ونمت مداركه وعلا إسناده، كما أكد ذلك الحفاظ أمثال: عياض والذهبي والسيوطي وغيرهم[11]، ثم عاد إلى بلده القيروان سنة 357هـ.

جلوسه للحديث:

بمجرد عودة القابسي من رحلته المشرقية اجتمع الناس إليه، وطالبوه التحديث لهم والرواية عنه، غير أنه أبى لوجود شيوخه، لكنه بعد فترة نزل عند رغبتهم، وجلس إلى طلبته يعلمهم ويحدثهم بمروياته وأسانيده العالية في الحديث.

وقد اشتهر بره بطلبته وعنايته بهم، حتى أنه كان يسكن الغريب منهم والمحتاج في “علية” له، وقد بلغوا ثمانين خاصة من أفريقيا والأندلس[12].

وكان مما أخذ عنه تلاميذه: صحيح البخاري، والموطأ بجميع رواياته، وكتب النسائي، كتفسير القرآن، والسنن، ومسند حديث مالك، ومسند الأوزاعي، والمستقصية في الموطأ، والمنتقى في السنن المسندة[13].

كما أخذ تلاميذه عنه أيضا مصنفاته الحديثية وبقية كتبه الكثيرة، وقد اشتهر من بين الملازمين له والنابغين من تلاميذه أبو عمران الفاسي، وأبو القاسم اللبيدي، وأبو شاكر بن وهب، وعمر الذهلي، وأبو بكر عتيق السوسي، وعبد الرحمان بن رشيق، وأبو القاسم بن محرز، وابن الفرضي، والتجيبي، والداني، وسواهم ممن أصبحوا محدثين وحفاظا وأئمة في الحديث[14].

ريادته في رواية الحديث الصحيح:

إذا كان كتاب الموطأ أول كتاب حديثي دون في الإسلام، وكان المادة الأساسية العظمى لسائر كتب الحديث التي ألفت ودونت بعده وخاصة الكتب الستة، فإن الكتاب الذي نال من اهتمام العلماء منذ ألف إلى الآن ما لم ينله كتاب أخر غيره، حتى كتاب الموطأ نفسه، هو الجامع الصحيح للإمام البخاري رضي الله عنه (194- 256هـ) والذي صار منذ تأليفه وإخراجه للناس المصدر الأساسي والمرجع الأول لجميع كتب الحديث، وأصبح مدار حلقات الدرس، واستقطب اهتمام العلماء والدارسين إلى اليوم ومازال، ونعت بما لم ينعت به كتاب قبله ولا بعده حتى أصبح الكتاب الثاني في الإسلام[15]، لأنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى[16] وسمي صاحبه “أمير المؤمنين في الحديث” وأستاذ الأستاذين كما سماه الإمام مسلم رحمه الله[17]. وإذا كان المولى إدريس الأزهر قد تبنى كتاب الموطأ بعد أن حمله إلى المغرب قاضيه عامر بن محمد القيسي[18]، وحمل المغاربة على اتخاذه كتاب عقيدة ومذهب، فقد استجاب أهل المغرب لدعوته وأقبلوا على المذهب المالكي واعتنقوه، حتى طغى على ما سواه من المذاهب التي كانت معروفة في المغرب آنذاك، وظل الأمر كذلك إلى أن أخذت ترد على الأندلس وإفريقيا رواية صحيح البخاري ومنها إلى المغرب.

وإذا كان الأمر كذلك فيمكننا أن نتساءل عن كيفية وصول الجامع الصحيح إلى المغرب؟ وعمن رواه بالمغرب أولا؟ وعن رواته الأولين؟ لقد كان أبو الحسن القابسي (ت 403هـ) أول من أدخل رواية البخاري إلى القيروان كما أكد صاحب “شجرة النور الزكية”[19]، كما أن أبا حفص عمر بن الحسن الهوزني، وصعصعة بن سلام الشامي، كانا أول من أدخل الصحيح إلى الأندلس عموما[20].

ولا جدال في أن أبا محمد الأصيلي من أوائل رواة الصحيح، وعنه أخذ المهلب بن أبي صفوة شارحه، وبه حيى كتاب البخاري في الأندلس كما قال أبو الأصبغ بن سهل[21].

فإذا كان حيي بتلميذه فيكون الأصيلي رائد رواته، وقد ذكر ابن الفرضي في ” تاريخ علماء الأندلس”[22] أن حباشة بن حسن اليحصبي (374هـ) “سمع كتاب البخاري من المروزي فانصرف إلى الأندلس ولزم العبادة ودراسة العلم والجهاد”[23].

وإذاً يكون حباشة والأصيلي من الرواة الأولين الذين أدخلوا الجامع الصحيح إلى الغرب الإسلامي، وقد نزعم أن حباشة كان من السباقين في هذا الميدان، وإذا كان أبو محمد الأصيلي أول من روي عنه الصحيح من طرف بعض المغاربة وبسببه دخل إلى المغرب، فهو أول من روي عنه الصحيح بالمغرب[24]، وخاصة وأنه أول من سمع الصحيح رواية عن أهل الأندلس، عن المروزي[25].

لقد كان وصول الجامع الصحيح إلى الغرب الإسلامي عن طريقين:

  1. طريق النفسي: (295/908).
  2. طريق الفربري: (320/932).

وقد أكد ذلك القاضي عياض في “المشارق” بقوله: “لم يصل إلينا من غير هذين الطريقين عنه، ولا دخل المغرب والأندلس إلا عنهما على كثرة رواة البخاري عنه لكتابه”[26]، غير أن الطريق التي اشتهرت في المغرب وفي العالم الإسلامي كانت طريق الفربري، لأنها الرواية التي اتصلت بالسماع أكثر من غيرها، وعن ذلك يقول الحافظ ابن حجر: “والرواية التي اتصلت بالسماع في هذه الأعصار وما قبلها هي رواية محمد بن يوسف بن مطر الفربري (320هـ)[27]، لأن صاحبها آخر من روى صحيح البخاري، فهو أتقن الرواة عنه، وآخرهم سماعا عنه وحياة بعده”.

وقد دخلت الرواية إلى المغرب في وقت مبكر، وانتقلت بواسطة روايات اشتهرت منها ست، يتصل أصحابها جميعا بالفربري، وهذه الروايات هي: رواية ابن السكن، والمروزي، والجرجاني، والمستملي، والسرخسي، والكشميهني.

وعن المروزي والجرجاني روى الصحيح أبو محمد الأصيلي، فهما عمدته في سنده إلى الجامع الصحيح، قال القاضي عياض في “المدارك” وحج؛ (أي الأصيلي) سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، فلقي بمكة أبا زيد المروزي وسمع منه البخاري.. وسمع ببغداد عرضته الثانية من أبي زيد، وسمعه أيضا من أبي أحمد الجرجاني وهما شيخاه في البخاري وعليهما يعتمد…”[28].

وقد كان رفيق الأصيلي في رحلته إلى الحج والسماع وتلقي الصحيح صديقه أبو الحسن القابسي (ت403) الذي روى عن خصوص المروزي، وكان الإمام الأصيلي هو الذي ضبط له سماعه عن هذا الأخير (المروزي) للجامع الصحيح[29].

وعن أبي محمد الأصيلي وأبي الحسن القابسي روى الجامع الصحيح أبو عمران القاضي (ت 403)، وعن طريق هذا الأخير يتصل عياض بالقابسي وابن عطية بالأصيلي[30].

إذ يكون الإمام الأصيلي أول من روى عنه في الصحيح بالمغرب، وقد رواه عنه مباشرة ونقله أبو عمران الفاسي، وعنه رواه جمع من المحدثين بالأندلس كما يؤكد ذلك ابن الفرضي بقوله: “ثم وصل إلى الأندلس في أخر أيام المستنصر قشور، وقرأ عليه الناس كتاب البخاري رواية أبي زيد المروزي وغير ذلك[31]، وكان من أصحاب الأصيلي بالأندلس تلميذه المشهور المهلب بن أبي صفرة أبو القاسم بن أحمد التميمي المري (ت 435 هـ)[32].

كما لا ننسى أن نذكر في هذا المجال بعد الأصيلي والقابسي رواية أندلسيا عن المروزي نفسه برواية الصحيح، هو عبدوس بن محمد الطيطلي (ت 390 هـ)[33]، وأما ما ذهب إليه المقري في “نفخ الطيب” من أن أبا حفص الهوزني هو الذي أدخل صحيح البخاري إلى المغرب وعنه أخذه الناس…”[34]، فليس بصحيح، إذ أن رحلة أبي حفص إلى المشرق كانت سنة 460 هـ، وذلك يترتب عليه أن دخول الجامع الصحيح إلى المغرب كان في منتصف القرن الخامس الهجري، وهذا يتعارض مع النصوص الثابتة والصحيحة المؤكدة أن الصحيح دخل إلى المغرب منتصف القرن الرابع الهجري أي قبل هذا الوقت بقرن كامل، يؤكد هذا ويشهد له ما رواه أبو سعيد في “المغرب من حلى المغرب” أن الهوزني روى كتاب الترمذي في الحديث وعنه أخذ أهل المغرب[35].

وإذا يكون القابسي أول من أدخل رواية البخاري إلى إفريقيا (القيروان)[36]، وأول من سمع الصحيح وروى عنه بالمغرب، عن الأندلسيين، عن المروزي هو أبو محمد الأصيلي.

وصفه والثناء عليه:

إن الإشعاع الذي بثه أبو الحسن القابسي من حوله، بفضل نبوغه وشفوفه، وتفوقه في علم الحديث خاصة، وتبريزه في أغلب العلوم الإسلامية، كل ذلك أطلق ألسنة ثناء الأئمة والعلماء والثقات لتقدير علمه وفضله، والإشادة ببراعته ونبوغه العلمي، حتى نعتوه:” بالثقة، الثبت، الحافظ، الضابط، المتقن” وسنذكر هنا بعض ما قيل فيه من قبل أقرانه وعلماء عصره، فقد وصفه ابن ناجي بقوله: “كان عالما عاملا، جمع العلم والعبادة، الورع والزهد، والإشفاق والخشية، ورِقة القلب، ونزاهة النفس، ومحبة الفقراء، حافظا لكتاب الله ومعانيه، حافظا للسنة، عالما بعلوم الحديث والفقه، واختلاف الناس، سلم له أهل عصره ونظراؤه غي العلم والدين والفضل، كثير الصيام والتهجد بالليل”[37].

وأثنى عليه القاضي عياض قائلا: “قد كان واسع الرواية، عالما بالحديث وعلله ورجاله…”[38]. وقال في حقه الحافظ الذهبي: “كان حافظا للحديث والعلل، بصيرا بالرجال، عارفا بالأصلين، وكتبه في نهاية الصحة”[39]. وقال في حقه ابن خلكان: “كان إماما في علم الحديث ومتونه وأسانيده وجميع ما يتعلق به”[40]. وأثنى عليه الدباغ بقوله: “كان حافظا للسنة، عالما بعلوم الحديث والفقه واختلاف الناس”[41]، إلى غير ذلك من ألوان الثناء العاطر والتقدير الكبير الذي أضفاه العلماء والنقاد على أبي الحسن القابسي، تنويها بقدره، وعلمه وفضله، وطول باعه.

آثاره:

كان القابسي من العلماء الذين أفادوا وأجادوا، وأسهموا في إثراء الخزانة الإسلامية بالتصنيف والتأليف، وكان له فيه باع طويل، فقد ترك أثارا جليلا، وكتبا نافعة مفيدة، كان يمليها على تلميذه أبي عبد مكي بن عبد الرحمان الأنصاري، شملت أغلب العلوم الإسلامية، وفي صدارتها الحديث النبوي الشريف الذي كان إماما فيه، كما كان عالما بتفسير القرآن ووجوه القراءات، أصوليا متكلما فقيها بارعا.

كتبه حول الحديث النبوي:

  • كتاب الملخص لما في الموطأ من الحديث المسند؛ وهو كتاب يلخص المتصل من حديث مالك كما ذهب إلى ذلك أبو عمرو الداني، الذي أكد أن مؤلفه كان يقرأ الملخِص بكسر الخاء[42]، وقد ذهب عيره إلى ترجيح الفتح، ومنهم من رجح الوجهين في ضبط الخاء ولكل وجهته[43]، وقد جمع فيه ما اتصل سنده من حديث الإمام مالك من الموطأ برواية سحنون عن ابن القاسم، وجرده من بلاغات مالك، ومن فتاوى الصحابة والتابعين، وكل ما لم يتبين له اتصاله من هذه الرواية التي بلغت أحاديثه خمسمائة وعشرين[44] كان غرضه من كتابه أن حصر المتصل من حديث مالك، يعين طلابه والباحثين على التوسع في علم الحديث، والنظر في الفقه كما صرح في فاتحة كتابه.

وقد اقتصر فيه على الحديث المتصل المسند معتمدا رواية واحدة وهي رواية سحنون عن ابن القاسم عن مالك، لكونها آخر الروايات عنه لاختصاصه بمالك، ولورعه في الدين، وفهمه للعلم[45].

وقد سرد فيه الأحاديث مرتبة على شيوخ مالك، حيث جمع أحاديث كل شيخ في مكان واحد، كما رتب هؤلاء الشيوخ على حروف المعجم، وسمى كل حرف بابا، وابتدأ بالمحمدين تبركا، وكان يشير إلى اضطراب الرواة في المتن وهم شيوخه وتلاميذهم، وشرح بعض الألفاظ الغريبة الغامضة، وبين أحيانا ما يوهم ظاهره الانقطاع، أو ما في اتصاله إشكال، ولهذا جاء الكتاب العظيم جيدا في بابه، كما ذهب إلى ذلك المتقدمون[46] الذين اهتموا به وتداولوه وحفظوه[47] وشرحوه كابن أبي صفرة التميمي وابن الصفار[48] ولا يزال الكتاب مخطوطا، وتتوزع نسخه بين الخزانات الشهيرة كالقرويين بفاس تحدت عدد: 805، والقيروان 7-24-87، والخزانة العامة بالرباط 562/1، ومكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة تحت عدد: 532-154/132[49].

  • الممهد: وهو كتاب جمع فيه بين الحديث والأثر والفقه، وقد ذكره الدباغ في “معالم الإيمان”[50].
  • شرح الموطأ: ذكره الناصري في “الاستقصاء” وهو جملة من التعليقات، ولعله ضمن الأجزاء التي توجد في مكتبة القيروان[51].
  • تزكية الشهود وتجريحهم: وهو كتاب في الجرح والتعديل، كذلك ترك أبو الحسن القابسي كتبا أخرى في مختلف العلوم والفنون نذكر منها:
  • الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين، وأحكام المعلمين والمتعلمين، وقد نشرت ضمن كتاب التربية في الإسلام للأهواني[52].
  • كتاب الاعتقادت.
  • مناسك الحجم.
  • المنبه الفطن من غوائل الفتن.
  • المنقذ من شبه التأويل.
  • أحكام الديانة.
  • الذكر والدعاء.
  • كشف المقالة في التوبة وهو كتاب في التوحيد.
  • رتب العلم وأحوال أهله.
  • الرسالة الناصرية في الرد على البكرية.
  • كتاب حسن الظن بالله.
  • أحمية الحصون.
  • رسالة في الورع.
  • الرسالة المعظمة لأحوال المتقين.
  • النافعة والناصرة في الاعتقادات[53].
  • سندنا إلى صحيح البخاري من طريق القابسي.

لقد آثرت في ختام هذا البحث حول إمام من أئمة الحديث ونحن في مدينة القيروان حاضرة الإسلام، ومنبع الإيمان في إفريقيا والمغرب العربي، أن أسجل هنا سندنا إلى الإمام البخاري عن طريق القابسي، وهو سند نفيس عال، نعتز بالافتخار به، وذكره هنا في هذه المناسبة الكريمة فأقول:

أروي صحيح الإمام البخاري، عن الشيخ الوالد إبراهيم الكتاني رحمه الله، عن عمه الشيخ عبد الحي الكتاني، عن أبي عبد الله محمد بن إبراهيم السباعي المراكشي، عن أبي العباس أحمد بن محمد المرنيسي الفاسي، عن أبي العباس أحمد بن التاودي بن سودة، عن أبي العباس أحمد عبد الله الغربي الرباطي، عن أبي الحسن العكاري، عن أبي السعود الفاسي، عن عم والده العارف عبد الرحمان بن محمد الفاسي، عن الإمام القصار، عن أبي العباس التسولي، عن الدقون، عن المنتوري، عن أبي عمر بن أبي سليمان، عن ابن أبي الربيع، عن أبي العباس أحمد بن محمد العزفي، عن القاضي عياض، عن أبي عبد الله التميمي، عن أبي علي الجياني، عن حاتم بن محمد، عن أبي الحسن القابسي، عن المروزي، عن محمد بن يوسف الفربري، وهو إسناد نقي لا يوجد في أسانيد المغاربة أنقى ولا أثبت منه، لاقتران السماع بالإجازة الجابرة ما لعله لم يسمع[54].

وما أحسن أن أختم هذا البحث عن هذا المحدث الكبير والإمام الجليل، بهذه القصيدة الرائعة، عن حاضرة القيروان ودورها الإسلامي الرائد، وعن أعلامها ومحاسنها ومعالمها، وهي لأبي القاسم الفزاري، والتي أجدها خير تعبير عما يخالج قلبي من مشاعر الامتنان والمحبة والإكبار نحو القيروان وأهلها الكرام:

فهل للقيروان وساكنيها   ***  عديل حين يفتخر الفخور

بلاد حشوها علم وحلم   ***  وإسلام ومعروف وخير

بلاد خطها أصحاب بدر  ***  وتلك اختط ساحتها أمير

بناها المستجاب وقد دعا في  ***  جوانبها دعاء لا يبور

بناها كل بدري كــريــــم   ***  كأن صفاح وجوههم بدور

هـــــــم صلوا بمسجدها براحا  ***  وليس له جدار مستدير

هم وضعوا له أسسا وساسا   ***  فقدست المواضع والصخور

وقادهم الأذان إليه حتى   ***   أضاء لهم من المحراب نور

وأصحاب النبي له بناة   ***   ولا عصيان ثم لا فجور

إن عراصه لمقدسات   ***  مباركة تربتها طهور[55]

انظر العدد 16 من مجلة الإحياء

الهوامش

[1] انظر في ذلك: معجم ما استعجم، لأبي عبيد البكري.

[2] عبد الله المالكي، رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقيا، مدرسة الإمام البخاري في المغرب للكاتب.

[3] أنظر المخطط، للمقريزي.

[4] محمود الباجي، دور القيروان في إثراء الحضارة الإنسانية، نماذج من مداخلات الندوات الإسلامية السابقة.

[5] أنظر ترجمته في: مشارق الأنوار 1/36-68، المدارك 3/616، الوفيات 3/320، البداية والنهاية 11/351، سير أعلام النبلاء 1/567، طبقات الحفاظ، ص: 419. تذكرة الحفاظ: 3/1079، التكملة: 1/156، الإكمال: 6/380، الديباج، ص: 199، النجوم: 4/233، شذرات الذهب: 3/168، الإعلام: 5/145، تاريخ التراث العربي: 1/3/176، فهرس ابن خير: 90- 97-260. الفكر السامي: 2/122، شجرة النور: 1/97، كشف الظنون: 2/1818، الرسالة المستطرفة، ص:12- 15.

[6] راجع عن شيوخه: تذكرة الحفاظ، 3/1079. وفهرس ابن خير، ص: 92.

[7] أنظر تاريخ ابن الفرضي، 1/173. والفكر السامي، 2/112.

[8] فهرس ابن خير، ص: 59 وما بعدها. وحسن المحاضرة، 1/351.

[9] المدارك، 4/617. فهرس ابن خير، ص: 98. مدرسة الإمام البخاري في المغرب، 1/32.

[10] المدارك، 4/643.

[11] المدارك، 2/616. تذكرة الحفاظ، 3/1079. طبقات الحفاظ، ص: 419.

[12] أنظر الصلة: 1/156.

[13] فهرس ابن خير: ص: 59،84،92،112،149 وغيرها. مدرسة الحديث في القيروان: 2/270- 271.

[14] المدارك: 3/71. الصلة، ص: 214. تذكرة الحفاظ: 3/320.

[15] التنويه والإشادة: ص: 1.

[16] طبقات الشافعية: 2/4.

[17] المصدر السابق، 2/9.

[18] الأزهار العاطرة، ص: 130.

[19] شجرة النور الزكية، رقم 230، ص: 97.

[20] النفح، 3/385.

[21] جذوة المقتبس، ط 1952، ص: 227.

[22] تاريخ علماء الأندلس، 1/128.

[23] المصدر السابق، 1/128.

[24] صحيح البخاري في الدراسات المغربية، ص: 3.

[25] مدرسة الإمام البخاري في المغرب، 1/30-31.

[26] المشارق، 1/9. التنويه والإشادة، ص: 2-3.

[27] مقدمة الفتح، ص: 493. التنويه والإشادة، ص: 3.

[28] المدارك، 4/643.

[29] المدراك، 4/617. فهرس ابن خير، ص: 28.

[30] فهرس ابن خير، ص: 5.

[31] تاريخ علماء الأندلس، ص: 760. معجم البلدان، 1/278.

[32] المدراك، 4/752.

[33] المشارق، 1/7. بغية الملتمس، عدد: 1266.

[34] النفح، 2/93.

[35] المغرب في حلى المغرب، ص: 289. سعيد أعراب، دعوة الحق، عدد 1، سنة 1395/1975، ص: 17.

[36] شجرة النور الزكية، ص: 97.

[37] أنظر معالم الإيمان.

[38] المدارك، 3/616.

[39] أنظر تذكرة الحفاظ، 3/1097.

[40] المعلم، 3/136.

[41] وفيات الأعيان، 3/320.

[42] وفيات الأعيان، 3/321.

[43] الغنية، ص: 113. الرسالة المستطرفة، ص: 14-15. وقد اقتصر الكتاني في الرسالة في عنوان الكتاب على “الملخص”.

[44] كشف الظنون، 2/1818.

[45] الملخص لوحة، 3.

[46] الرسالة المستطرفة، ص: 14.

[47] التكملة، 2/485-510. فهرس ابن خير، ص: 109.

[48] المدارك، 3/752، 1/211.

[49] وأنظر الموضوع مفصلا في مدرسة الحديث في القيروان 2/830- 846.

[50] أنظر معالم الإيمان، 3/136. شجرة النور الزكية، 1/97.

[51] المكتبة الأثرية في القيروان، ص: 38-39، نقلا عن مدرسة الحديث في القيروان، 2/668.

[52] الطبعة الثالثة، دار المعارف بمصر، سنة 1986.

[53] أنظر عن آثار وكتب القابسي: معالة الإيمان، الرسالة المستطرفة، تاريخ التراث العربي، الاستقصا، شجرة النور الزكية، كتاب التربية الإسلامية، مدرسة الحديث في القيروان.

[54] أنظر تفصيل ذلك في فهرس الفهارس: 2/161-187-188-206. وبحثنا عن عياض المحدث، كتاب الإمام مالك، دورة القاضي عياض، 1/203- 228.

[55] معالم الإيمان، 1/22.

Science
الوسوم

د. يوسف الكتاني

أستاذ علم الحديث، كلية الشريعة

جامعة القرويين-فاس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق