مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

آية وعبرة إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ   

بسم الله الرحمن الرحيم

       الآية تقرير لمدلول الاستعاذة والأمر بها في قوله تعالى قبل: "وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الأعراف:200]  فذكرت أن الاحتماء بالله فيما يعرض للعبد من سمت المتقين، ومفهومه أن إغفالها والشـرود عنها من طبيعة الغافلين المتنكبين، إذ مرد الأمر كله إلى تعاهد رقابة الله على عبده، واستصحاب ذكره واللجإ إليه في كل حال؛ افتقارا و تضـرعا و استعانة وتحصنا...  قال الألوسي: "الآية استئناف مقرر لما قبله من الأمر ببيان أن الاستعاذة سنة مسلوكة للمتقين، والإخلال بها شنشنة الغاوين، أي: إن الذين اتصفوا بتقوى الله تعالى..."[1] نعتهم كيت وكيت ...

          وفيها تبريز لعلامات المتقين؛ الذين وفقهم الله للأوبة، والرجوع إليه عند الكبوة، ويؤخذ منها أن المتقي قد تطرأ عليه الغفلة، وتنطلي عليه الشبهة، فيحصل منه شرود أو تتعتم أمامه الرؤية،  لكنه لا يتمادى على حاله تلك، فسـرعان ما تتداركه الألطاف، وتحفه العناية بما سبق إليه من حلية التقى في تليد الأقدار، فيعود لرشده، ويصلح ما تسـرب إليه الفساد، برتق الفتق وإرباء الصدع، وقد ألمحت الآية إلى هذه اللطيفة لما صدرت بقوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ" [الأعراف:201]

        وفي التعبير بالمس دليل على سرعة الانتباه، وأنهم لا يتمادون في الاستجابة  لداعي الشيطان، وإنما يغيظونه بالاحتماء بالجناب الذي لا يسلم من احتمى بحماه، فالتذكر علامة الإيمان، والتمادي والشـرود من علامة الغفلة والنسيان، وهو أيضا علامة حياة القلب، الذي يغذى بالإنابة، وموالاة الأوبة و استصحاب الإفاقة، فتحصل له الذكرى التي تعصمه من الوقوع في مغبة المخالفة، ولذلك قال ربنا : "وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ" [غافر:13] ومن معاني الإنابة الرجوع المتكرر، بمعنى أنهم لا يقيمون على الذنب، وإنما يسـرعون للأوبة والإنابة؛ والإنابة إفاقة قبل موت القلب، وباعثها شعور  باختناق القلب بالذنب قبل الاستحكام، قال تعالى: "وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَـرُونَ" بالزمر:54]، فهي سرعة الرجوع، وقال عن سيدنا إبراهيم الخليل: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ" [التوبة:75].

 واختلف القراء في قراءة  (طَائِفٌ) فقرأ ابن كثير وأهل البصـرة والكسائي  " طيف " ، والباقون بالمد والهمز ، قال الشاطبي:

 وقل طائف طيف رضا حقه ..

والرمز في الراء وحق،

وطائف وطيف لغتان كميت ومائت، قال الفَرّاءُ : "الطّائِفُ والطَّيْفُ سواءٌ"[2] ومعناهما : الشـيء يلم بك، "وفرق قوم بينهما، فقال أبو عمرو : الطائف ما يطوف حول الشيء والطيف : اللمة والوسوسة "[3]، ومنه قول البصيري:

نعم سرى طيف من أهوى فأرقني                والحب يعترض اللذات بالألم

وقيل هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه .

"وفي أصل طَيْف ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مصدرٌ مِنْ طاف يَطيف كباع يبيع، وأنشد أبو عبيدة:

أنَّى ألمَّ بك الخيالُ يَطيفُ         ومَطافُه لك ذُكْرَةٌ وشُعُوفُ

والثاني: أنه مخففٌ من فَيْعِل، والأصل: طَيِّف بتشديد الياء فحذف عين الكلمة كقولهم في ميّت مَيْت وفي ليّن ليْن وفي هيّن هيْن. ثم طَيّف الذي هو الأصل يحتمل أن يكون مِنْ طاف يطيف أو من طاف يطوف، والأصل: طَيْوِف فقلب وأدغم وهذا قول أبي بكر بن الأنباري. والثالث: أن أصله طَوْف من طاف يطوف، فقلبت الواو ياءً. قال أبو البقاء: «قلبت الواو ياءً وإن كانت ساكنة كما قلبت في أَيْد وهو بعيد»[4]

وفي التعبير عن الوسوسة بالطائف إشعار بأنها وإن مست هؤلاء المتقين فإنها لا تؤثر فيهم ولا تديم مصاحبتهم؛ لأنها كأنها طافت حولهم دون أن تصل إليهم.

وحذف مفعول التذكر إيذانا بالعموم، ليشمل كل ما تحصل به الذكرى كالوقوف بين يدي الله، وانعدام المعين والنصير وخوف عقاب الله، و رجاء ثوابه، واستدامة مراقبته والحياء منه، و تذكر عداوة الشيطان الأزلية..، قال ابن عجيبة: " "كل على قدر مقامه"[5].

قوله: "فَإِذا هُمْ مُبْصِـرُونَ". قال ابن جزي هو من بصيرة القلب، قال ابن عطية: "من البصيرة، أي: فإذا هم قد تبينوا الحق ومالوا إليه"[6]، وقرأ  ابن الزبير تأملوا فإذا هم مبصـرون، وفي مصحف أبي: "إذا طاف طائف من الشيطان تأملوا.". وينبغي أن يحمل هذا وقراءة ابن الزبير على أن ذلك من باب التفسير لا على أنه قرٱن؛ لمخالفته السواد.

قال الألوسي: "فإذا هم مبصـرون مواقع الخطإ ومناهج الرشد  فيحترزون عما يخالف أمر الله تعالى وينجون عما لا يرضيه سبحانه"[7].

وفي الٱية مجاز، فظاهرها أنها من الإبصار الذي هو ضد العمى، والمقصود نور البصيرة الذي يقذفه الله في قلب أوليائه. لأنه هو الذي ينتفع به في الهداية على الحقيقة. فلا يضر العمي عماهم إذا نور الله بصائرهم. وقد قال قائلهم:

وقد يخبو ضياء العين والرأي صائب.

ومما يروى من شعر ابن عباس في هذا

إن يأخذ الله من عيني نورهما          ففي لساني وقلبي منهما نور

قلبي ذكي وعقلي غير ذي خبل      وفي فمي صارم كالسيف مسلول.

وقال بعضهم:             وترى ألوف المبصرين بلا هدى.       لكأنما فوق العيــــــــــون حجاب

وتصديق هذا قوله تعالى "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" [الحج:46]

 ولذلك كثيرا ما نجد الكتاب ينفي الإبصار عمن لا ينتفع بآي الذكر، من مثل قوله "مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ" [هود:20]، و قد قال سبحانه في نفس مساق ٱية الأعراف" وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِـرُونَ " [الأعراف:198] وقال: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِـرُونَ" [يونس:43]، وأمر الإبصار في أواخر سورة الأعراف ملفت لانتباه المتدبر، فقد نفى الإبصار عن فئة، وأثبته لفئة، ونعى عمن لمن ينفذ من بصائر جوارحه إلى  بصائر ربه، "لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" [الأعراف:179]  ودل على مسالك تحصيله في مستتم السبك فأرشد إلى سبل تحصيله، "هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" [الأعراف:203].

وانطماس البصيرة مع وفرة الجوارح الحسية يسمى عمها، قال تعالى: "وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ" [الأنعام:110]. ففقد البصر عمى، وفقد البصيرة عمه، وقانا الله منهما، ونور قلوبنا وبصائرنا،

[1]روح المعاني، 9/148.

[2] تاج العروس، مادة: "ط ي ف"

[3]  معالم التنزيل للبغوي، 2/340

[4] الدر المصون، 5/546.

[5] 2البحر المديد، /298.

[6]  المحر الوجيز، 3/141.

[7] روح المعاني، 6/491.

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق