مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

وجوه التصرف المعمـول بها في الأحبـاس

من المعلوم في مجاري النظر الفقهي أن التحبيس من التصرفات الناقلة للملكية على سبيل التبرع، شأنه في ذلك شأن سائر التصرفات المنبنية على العوضية كالبيع، إلا أن انتقال الملكية في الحبس ينفرد بأوصاف مخصوصة يفارق بها انتقال الملكية سواء في عقود التبرع أو في عقود المعاوضة، وتتحدد إجمالا في أمور هي:

– أن التفويت في الوقف مقصور على منافع الشيء المملوك، مع بقاء أصله أو رقبته على ملك الواقف، بخلاف غيره من التصرفات حيث لا تنفصل فيها رقبة الملك عن منافعها.

– أن مبناه على تأبيد الانتفاع بالملك وفق شروط الواقف أو وفق ما يقتضيه العرف والمصلحة عند انتفاء ذلك الشرط بخلاف غيره، إذ لا تأبيد فيه، لأن التفويت فيه شامل للملك أصلا ومنفعة، فلا تبقى للمالك صلة بملكه بمجرد وقوع ذلك التفويت، مثلما تنقطع صلته به بالموت فيصبح في ملك غيره من الورثة، أما الشيء الموقوف فيبقى على ملك محبسه أبدا ولو بعد موته.

– أن الأصل في الأحباس عدم التصرف فيها بما ينافي معنى التأبيد، أو يقتضي ذهاب العين المحبسة، أو يخالف وجوه الانتفاع المشروطة نصا أو المقتضاة مصلحة أوعرفا، بخلاف غيره فللمالك فيه سلطان على ملكه يتصرف فيه كما شاء وبما شاء بعوض أو بغير عوض ما دام حيا، فإن مات زال ملكه وحل محله الوارث.

ومن هذه الخصائص الإجمالية للوقف، نحصل أن التصرف في الأملاك الحبسية ينضبط بالقواعد الثلاث الآتية:

أ- قاعدة التقييد: ومقتضاها أن لا تصرف في الحبس إلا على شرط المحبس.

ب- قاعدة أولوية القصد على اللفظ: ومضمنها أن لا تصرف في الحبس إلا بما يحقق مقصد المحبس من شرطه عند انبهام اللفظ أو غياب الشرط.

ج- قاعدة السداد في النظر: وفحواها أن لا تصرف في الحبس إلا وفق ما تقتضيه المصلحة، ويوجبه السداد.

والمتتبع لتقريرات العلماء في بيان وجوه التصرفات الجائزة في الأحباس، يلاحظ حضورا قويا وامتدادات واسعة لمقتضيات تلك القواعد المذكورة مجتمعة في ثنايا وتفصيلات بحوثهم لقضايا تلك التصرفات، كما يلاحظ أيضا تنوع الأحكام الواردة في شأنها، فمنها الجاري وفق المشهور من اقوال المذهب، ومنها ما تقرر وفق أصل ما جرى به العمل، وفيما يلي إيراد إجمالي للضرب الثاني من أحكام هذه التصرفات دون الأول .

الـمعـاوضـة

نص الفقهاء على أن المعاوضة نوع من البيوع، وحاصلها في الاصطلاح: “بيع العرض بالعرض كحيوان بثوب أو حيوان بمثله أو ثوب بمثله أو أرض بمثلها ونحو ذلك، وتسميها العامة اليوم المعاملة فهي من أنواع البيع”[1].

قال صاحب التحفة:

يجوز عقد البيع بالتعويض

في جملة الأصول والعروض

فالمعاوضة بيع مخصوص، ووجه الخصوص فيها كون العوضين فيها مثمونين لا ثمنين.[2]

وقد جرى العمل بجواز المعاوضة في الأصول المحبسة، وهي مسألة وقع الخلاف فيها في المذهب، والمشهور فيها هو المنع إلا أن العمل فيها قد جرى بالجواز وفق قول ربيعة. قال السجلماسي: “أما المعاوضة المذكورة في النظم وكذا البيع فقد اختلف فيهما، فذهب مالك وأصحابه إلى المنع في بيع الأصول المحبسة وإن خربت، واحتجوا ببقائها خرابا بالمدينة، وكذا لمالك في الموازية في المعاوضة بها، إلا أنه وقع في كتاب الحاوي لأبي الفرج المالكي أن قول مالك اختلف في بيع الوقف إذا خرب، ذكر ذلك ابن سهل ونقله في المعيار أواخر نوازل الأحباس، ونقل في أوائلها أن ربيعة هو الذي رخص أن يعاوض الربع الذي خرب بربع غير خراب، أو يجعل الثمن في حبس غيره، فهذا القول الثاني هو مستند العمل الجاري بالمعاوضة، وقد أفتى به جمع من الشيوخ المتأخرين بشروط”[3].

يستخلص من هذا النص أن الجواز في إجراء المعاوضة في الأحباس مبني على صورة جواز البيع في الربع الخرب، حيث يلاحظ من تأصيلات العلماء وتوجيهاتهم للجواز في هذه المسألة إشارات صريحة لهذا المدرك الملحوظ، وأوضَحُ ما ورد في ذلك، فتوى ابن رشد الواردة في المعيار سؤالا وجوابا ونصها:

“وسئل عن قطعة أرض محبسة على رجل وهي متصلة بباب دار ضيعة رجل آخر، وهي لا تنفك في الغالب من أذى أهل الدار ولا تخلو عنه ولا حيلة عنه في كف الأذى عنها من الخدمة، فضلا عن الحيوان، ويذهب المحبس عليه هذه القطعة للضرر الداخل عليه من الضيعة المجاورة إذ لا يستطاع رفع هذا الضرر إلا أن يعوضه صاحب الضيعة بمكان غيره يجاور أرضه هو أغبط للحبس وأكثر نفعا له، بين لنا هل يجوز ذلك مأجورا مشكورا؟

فأجاب: تصفحت سؤالك هذا ووقفت عليه. وإن كانت هذه القطعة المحبسة قد انقطعت المنفعة منها جملة بما غلب عليها مما وصفت فلم يقدر من أجل ذلك على إعمارها وعلى كرائها، وبقيت معطلة لا فائدة فيها لعدم القدرة على رفع هذا الضرر عنها، فلا بأس بالمعاوضة فيها بمكان غيرها يكون حبسا مكانها، على ما قاله جماعة من العلماء في الربع المحبس إذا خرب، ويكون ذلك بحكم من القاضي بعد أن يثبت عنده السبب المبيح للمعاوضة فيها، والغبطة للحبس فيما وقعت به المعاوضة، ويسجل بذلك ويشهد عليه وبالله التوفيق”[4].

أما الشروط المتطلبة في إجراء المعاوضة على الوجه المعمول به فحاصلها ما يلي:

– قلة المنفعة في الأصل المحبس.

– لحوق الخراب به.

– كون عائداته أو مفائيده حسب اصطلاح الفقهاء قاصرة عن الوفاء بإصلاحه.

– كون العوض أغبط منه في القيمة والانتفاع والاستغلال.

– لزوم إجراء هذا التصرف عن طريق المسطرة القضائية.[5]

كما يتوجه العمل في جواز المعاوضة في الأحباس بكون هذا التصرف سببا لاستمرار الانتفاع به على الوجه المقصود للمحبس، فتعين فيه الجواز لكونه محققا لغرض المحبس، وعليه يكون العمل بالمعاوضة في الأحباس صورة أخرى إلى جانب الصور الأخرى المحققة لمناط قاعدة مراعاة المعاني المقصدية في لفظ المحبس، وعدم الجمود على مباني اللفظ ورسومه. قال الوزاني في معرض تعليل الجواز في المعاوضة الحبسية وتعليل إعماله: “لأن قصد المحبس إنما هو انتفاع المحبَّس عليه بحبسه، وذلك يحصل بإبداله بما هو أوفر منه خراجا، وهو من قبيل رعي مقصوده دون لفظه”[6].

أما الشروط التي نص عليها الفقهاء لصحة إجراء المعاوضة والتي أشرت إليها أعلاه، فمبناها هي أيضا على استحضار هذا البعد المقصدي في التصرفات الوقفية، والتقييد المفهوم من مقتضياتها، كما هو لائح من اشتراط تعذر الانتفاع، وتيقن لحوق الخراب، وقصور فائده عن الوفاء بمصاريف إصلاحه مع تيقن وجود ما هو أغبط وأفضل، قلت كل هذه القيود تسير في منحى الحرص على تحقيق هذا المقتضى المقصدي على الوجه الأكمل، كما أن في اشتراط إيكال إمضاء ذلك إلى نظر القاضي، إرشادا إلى الوسيلة التي بمقتضاها يتحقق مناط قاعدة السداد النظري المشار إليها سلفا.

وبتأمل قليل في هذه الشروط مجتمعة، نلاحظ أن منها ما له تعلق بتحقق سبب إجراء المعاوضة، وهذا ما يفهم من اشتراط تعذر الانتفاع بالموقوف جزئيا أو كليا، وما ذكره العلماء من اشتراط الخراب فيه ما هو إلا بيان للصورة الغالبة التي يمكن معها تعطيل الانتفاع بالحبس، وإلا فللمسألة صور أخرى غيرها يمكن أن يتعطل فيها الانتفاع، فتكون سببا للتصرف في الحبس بالمعاوضة على الوجه الذي به تتحصل المنافع، بل يصير أكثر تحصيلا للانتفاع، وهذا ما يستفاد من فتوى الإمام أبي عبد الله الحفار حينما سئل عن حكم المعاوضة في الفدان الحبسي الذي تعذر فيه الانتفاع دون أن يبين السائل صورة مخصوصة لهذا التعذر، فكان جوابه بالجواز مع تأييد ذلك بفتوى ابن رشد المشار إليها قبل، والمتعلقة بنازلة مخصوصة تعذر فيها الانتفاع بالأرض المحبسة بسبب سوء الجوار فقال: “فقد أفتى ابن رشد رحمه الله في أرض محبسة عدمت منفعتُها بسبب ضر جيران أن تباع ويعاوض بثمنها ما فيه منفعة، على ما قاله جماعة من العلماء في الربع المحبس إذا خرب، ويكون ذلك بحكم القاضي بعد أن يثبت فيه أنه لا منفعة فيه”[7].

فالمدار إذن على تحقق مطلق تعذر الانتفاع بالموقوف كيفما كانت صوره أو وجوهه.

وأما اشتراط كون فائده عاجزا عن الوفاء بمصاريف الإصلاح، فله تعلق أيضا بسابقه، إذ يقوم مقام القرينة أو الأمارة الدالة على وجود السبب المذكور أي تعطل الإنتفاع بالحبس كيفما كانت درجة هذا التعطل. ومن هنا يظهر أن المدار على اشتراط تعذرالانتفاع كيفما كانت صوره وأماراته.

وفيما يخص اشتراط الغبطة نلاحظ أن هذا الشرط له تعلق بتحقيق المقصد من المعاوضة وهو تحصيل تنمية الحبس وتكثير الإنتفاع به، قال الإمام ابن لب: “يسوغ بيع الطرازعلى الصحيح من القولين في ذلك، ويعوض بثمنه للحبس ما يكون له أنفع، وإن وجد من يعامل فيه بربع آخر للحبس فهو أحسن”[8].

وجاء في المعيار ما نصه: “وسئل الأستاذ أبو سعيد بن لب رحمه الله عن دار محبسة على مسجد وخربت وصارت رحبة، فجاء رجل فبناها من ماله، وقال أعطي فيها كذا دينارا وأصلين من القسطل، فكيف حكم ذلك؟ فأجاب: إذا أعطى في الرحبة المحبسة الرجل الذي أراد شراءها أصل ما يملك يكون حبسا عوضا عنها، ويكون في ذلك فضل بين ورجحان لجانب الحبس جاز ذلك”[9].

وأما ما اشترطه الفقهاء من لزوم موافقة القاضي وإمضائه، ففيه بيان للوسيلة المسطرية المتبعة في هذا الإجراء، لأنها مظنة تحصيل السداد وتحقيق الصلاح المطلوبين في سائر ولايات النظر، وليس هناك من هو أحرص على ذلك من القاضي، بل نص الفقهاء على أن النظر في الأحباس المعقبة مما يختص به القاضي دون غيره من أصحاب الولايات.[10] فقد جاء في كتاب النظائر عن ابن لبابة ما نصه: “الذي أعرفه وأقول به وأدركت الناس عليه من ترتيب أحكام القضاة، والذي لا ينبغي لغيرهم النظر فيه، الوصايا والأحباس والتحجير والإطلاق والقسم والمواريث والنظر للأيتام”[11].

وإذا كان المقصد من اشتراط هذا الشرط هو ضمان إجراء المعاوضة على ما يقتضيه السداد والمصلحة، فما هو الحكم فيها إذا انعقدت على السداد وجرت وفق ما يقتضيه صلاح الحبس ولكن دون رفع إلى القاضي؟

الذي تقرر لدى القاضي سيدي العربي بردلة فيه هو الجواز والإمضاء، وقد علل ذلك بكون مطالعة القضاة ليس من الأمور التعبدية التي ينبغي فيها الوقوف عند ما حد، والجري وفق ما سطر دون زيادة أو نقصان، وإنما هي مسائل معقولة المعنى، “وإذا كانت معقولة المعنى ووجد ذلك المعنى الذي هو المقصود منها فلا يبقى للفسخ محل”[12].

الـبـيـع

أما البيع فيختلف حكمه في المذهب تبعا لطبيعة الشيء الموقوف حيث ميز العلماء بين الأصول وغير الأصول في الأحباس:

– ففيما يتعلق بالأحباس إذا كانت أصولا، فالمشهور فيها هو المنع بإطلاق، سواء عدمت منفعتها أو لا، قال القاضي ابن سودة: “إن صلب المذهب وصميمه على المنع من بيع الأحباس، وقد صرح غير واحد أنه مذهب الجمهور، وفي الرسالة والمدونة منع ما خرب من ربع حبس”[13].

وفي المذهب قول مقابل للمشهور يقضي بجواز البيع بشرط وجود الخراب وعدم إمكان العمارة وترجيح الإمام ذلك البيع للمصلحة، وهذا القول هو المنقول عن الإمام في إحدى روايتي ابن الفرج عنه، وهو قول ربيعة أيضا.[14]

والقول بالمنع هو مفهوم قول التحفة:

 وغير أصل عادم النفع صرف      ثمنه فـي مثلـه ثـم وقـف

وللمنع المذكور استثناء حيث نص العلماء على جواز البيع في صور ثلاثة هي:

– توسيع المسجد الجامع.[15]

– توسيع المحاج أو الطرق العامة.

– المقبرة إذا ضاقت عن الدفن.

فقد جاء في الوثائق المجموعة ما نصه: “ولا تجوز الزيادة في الأحباس إلا في المحاج العظام التي هي ممر الجيوش وشبهها، وفي مساجد الجماعات التي تضيق عن أهلها أو المقابر، وقد زيد في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم دار محبسة والناس متوافرون في ذلك الوقت، ولم ينكر هذا وقيل إن ذلك لا يجوز إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبالأول القضاء وعليه العمل”[16].

وأشار إلى ذلك ناظم العمل المطلق بقوله:

 وجـاز بيع حبس لتوسعـة      طريـق أو كمسجد للجمعة

– وأما غير الأصول من المنقولات كالحيوان والعروض فيجوز بيعها بشرط تحقق انعدام النفع فيها، وهذا ما نص عليه خليل في مختصره بقوله: “وبيع ما لا ينتفع به من غير عقار في مثله”[17]، وهو منطوق قول التحفة المشار إليه قبل وغير أصل عادم النفع.

قال الشيخ ميارة شارحا: “يعني أن الشيء المحبس إذا كان غير ذي أصل كالعروض والحيوان والثياب والسلاح ونحوها، وعدمت منفعته فيما حبس عليه، فإنه يباع ويشترى بثمنه غيره من جنسه مما ينتفع به فيما حبس عليه ذلك المبيع، ويكون ذلك المشترى حبسا كالمعوض عنه”[18].

كما نص المقري على المسألة في قواعده بقوله: “كل ما سوى العقار إذا ذهبت منفعته التي وقف لها، فإنه يباع في مثله أو يعان به فيه عند ابن القاسم”[19].

وإذا كان الحكم الإجمالي في بيع الأحباس على النحو المشار إليه، فإن ما يتعلق به من جهة العمل يتلخص فيما يلي:

– أن البيع وإن كان المشهور فيه هو المنع، فقد نص غير واحد من العلماء على جوازه. ومتعلق الجواز عندهم صور ثلاثة وهي:

1-   انعدام المنفعة في الحبس.[20]

2-   قلة المنفعة فيه.[21]

3-   كون غلته لا تفي بصائره.[22].

– أن الفتوى بجواز المعاوضة في الأحباس والتي جرى بها العمل تقتضي بالضرورة الحكم بالجواز في البيع لكونهما من باب واحد، “بل لا فرق بين البيع والمعاوضة إذ هي بيع أيضا، وإنما المدار على توفر الشروط، فإن حصلت فيجوز البيع”[23]. كما أن المعاوضة لا تتحقق في بعض الصور إلا بواسطة البيع كما إذا بيع الأصل المحبس ثم يشترى به أصل آخر هو أغبط منه، فيكون المآل في الصورتين معا أي صورة المعاوضة المحضة أو المعاوضة بواسطة البيع، واحدا.[24]

– أن بيع الأوقاف وإن أفتى فيه بعض الفقهاء وخاصة المتأخرين منهم بالجواز، فإنه لم يقع جريان العمل به، حيث قال السجلماسي في معرض شرح قول ناظم العمل الفاسي:

 كذا معاوضـة ربع الحبـس

على شروط أسست للمؤتسي

“فقول الناظم معاوضة مخرج للبيع بالثمن، فإنه لم يجر به عمل أهل فاس في الربع الذي هو موضوع المسألة”[25]. ثم ساق قول سيدي عبد الرحمن الفاسي: “فتبين لك أن الذي جرى به العمل :المعاوضة، والنقل، وصرف الحبس في بعض، (…)، وأما البيع فلم يجر به عمل، ولم نره وقع ببلدنا فيما أدركنا ولا ما أدرك من قبلنا”[26].

– أن ما جرى به العمل في بيع الأحباس واشتهر نقله بين العلماء ينحصر في صور محدودة أهمها ثلاث وهي:

الأولى: جواز بيع حبس المساكين للضرورة كالمسغبة.

الثانية: جواز بيع الأنقاض المقامة على أرض الأحباس.

الثالثة: جواز بيع فيض ماء الأحباس بشرط تحقق استغناء الحبس عنه، والعلم بمقدار الماء المبيع قلة أو كثرة، وقد نص عليها ناظم العمل الفاسي بقوله:

 وفيض مـاء حبس يبـاع

ومـا بـه للحبـس انتفـاع

 والمـاء إن كان يزيد أو يقل

فبيعه لجهلـه ليس يحـل

قال السجلماسي شارحا: “والمعنى أنه جرى العمل بأن فيض ماء الحبس يجوز بيعه حيث لم تبق للحبس فيه منفعة، وذلك أولى من تركه للضياع، ثم إن قوله يباع يفيد أن المشتري يملك رقبة ما اشترى ويستحق الانتفاع به دائما بالثمن الذي أعطى، بحيث لا يطالب بعد بشيء، وإذا جاز البيع كما ذكر جاز الاستئجار من باب أولى، لعدم انقطاع منفعة الحبس بما يؤخذ من المكتري كل سنة أو كل شهر، ولعل الناظم خص البيع بالذكر لوضوح الحكم في الكراء”[27].

وعلة الجواز كون التصرف في الماء على الوجه المذكور والشرط المسطور محققا لتنمية الحبس.

ومما يثير انتباه المتتبع لقضايا البيع المتعلق بالأملاك الحبسية من خلال كتب النوازل، يلاحظ إشارات العلماء الذين ترجح لديهم الجواز إلى هذه المسائل الثلاث المعمول بها وكذا مسألة المعاوضة، إذ كثيرا ما نجدهم يحيلون إليها في تأصيلاتهم وتوجيهاتهم للجواز، مما يعني أن مسائل العمل قابلة للتوظيف وقائمة مقام الأصول التي يبنى عليها غيرها.

الـكـراء

نص العلماء على أن المحبس إذا اشترط أمدا محددا للكراء فإنه يلزم التقيد به وإجراؤه دون زيادة أو نقصان، أما في حال انعدام هذا الشرط، واقتضى النظر والمصلحة كراء الحبس ففي ذلك تفصيل له تعلق بمحل الوقف أهو على معين أو على غير معين، كما له صلة بحالة الوقف من العمارة أو الخراب والحاجة إلى الإصلاح. وحاصل ما جرى به العمل في الكراء الحبسي يكمن في المسائل التالية:

1- بالنسبة للأراضي الحبسية إذا كانت على غير معين، فقد جرى العمل بجواز كرائها من أربعة أعوام إلى عشرين سنة، قال الناظم في العمليات الفاسية عاطفا على جواز كراء الدور الحبسية فوق عام:

 أكر وأرض حبس لأكثـرا

  من أربع لنحو عشرين يرى

وقد استحسن القضاة الكراء على الوجه المذكور من المدة بناء على قول ابن القاسم القاضي بالجواز، بل قال بجواز أزيد من ذلك كل من ابن حبيب ومطرف وابن الماجشون كما نقل ذلك ابن سهل عن العتبية، وقد اعتبر السجلماسي هذا مستندا إجماليا للعمل المذكور، لأن ما نقله ابن سهل مفروض في مطلق الأرض حبسية كانت أو غيرها[28]، فقال: “ففي هذا دليل على مطلق كراء الأرض لهذه المدة، وإن لم يكن مفروضا في أرض الحبس فهو دليل في الجملة”[29]، ثم ساق من نقول أئمة المذهب ما يشهد لهذا العمل بالتأييد، فتحصل لديه “أن كراء الأرض المحبسة لأكثر من أربعة أعوام له مستند أيضا من كلام الأئمة، وكونه لعشرين سنة يدل له ما تقدم في نقل ابن سهل عن العتبية”[30].

2- وفيما يخص غير الأراضي الحبسية كالدور والحوانيت والفنادق مما هو متعين للمساجد والمساكين، فقد جرى العمل فيه بجواز كرائها لأكثر من عام قل ذلك أو كثر[31]، مع أن الأصل هو المنع[32]، لاحتمال إفضاء التزام الكراء على هذا النحو إلى التسلط على ملك الأحباس، وادعاء ملكيتها بطول الحيازة، أو تضييع مصلحة الحبس وما تقتضيه من إنماء والتماس ما هو أغبط.[33]

قال السجلماسي في شرح قول الناظم:

 وأعط أرض حبس مغارسـة

  وفوق العام دورهـا المحبسة

“وقول الناظم: وفوق عام، يصدق بالقليل والكثير، والذي وقفت عليه في كلام الأئمة أن الدار المحبسة على معينين يجوز عقد الكراء فيها لعامين، فإن كان مرجعها للذي اكتراها جاز لأكثر كالمحبسة على غير معينين، ابن سلمون ولا يكون عقد الكراء في الأحباس على المعينين إلا العام والعامين فقط، إلا أن يكون ممن مرجعه إليه فيجوز إلى أكثر هـ. وقال ابن الحاجب ويكري المتولي بنظره السنة والسنتين كالوكيل، فإن أكراها ممن مرجعها إليه جازت الزيادة”[34].

ثم ساق أيضا نقول العلماء المؤيدة لهذا التحديد المعمول به كابن العطار، وخلص إلى القول: “فقد ظهر لك بهذا أن العمل الذي ذكر الناظم في كراء الدور من الزيادة على العام له مستند صحيح في كلام الأئمة، سواء كان التحبيس على معين أو على غيره، كان المكتري ممن مرجعها إليه أولا”[35].

والمستفاد من آراء العلماء في الموضوع، أن الكراء الحبسي جرى العمل بجوازه على المدة المذكورة، لا سيما إذا تعطلت منفعة الوقف، وتعذر إصلاحه من غلته، مع عدم إمكان إجراء المعاوضة فيه، حيث يظل الكراء هو الأنسب لمصلحة الحبس من البيع.[36]

3- ومن المعمول به أيضا في الكراء الحبسي، الدخول على التأبيد في الكراء خلافا لمشهور المذهب القاضي بتحديد مدة الكراء دون تأبيد، ومعلوم أن مسألتي الجزاء والجلسة صورتان مبنيتان على هذا التأبيد المعمول به، وقد سبقت الإشارة إليهما في موطنيهما من هذا البحث، فلا حاجة إلى تكرار ما ذكر هناك.

المغارسـة

المغارسة في الاصطلاح هي: “عقد على تعمير أرض بشجر بقدر معلوم كالإجارة أو كالجعالة أو بجزء من الأصل”[37].

وقد نص أبو زيد الفاسي في عملياته على جريان العمل بجواز المغارسة في الأراضي المحبسة بقوله:

واعط أرض حبس مغارسـة 

 

وفوق العام دورها المحبسة

وقد استشكل السجلماسي هذا العمل من وجهين:

أولهما عدم وجود ما يؤيده من كلام الأئمة، بل فيه ما يدل على امتناع إجراء المغارسة الحبسية، من ذلك فتوى ابن الحاج في مغارسة المعيار، وفيها توجيه المنع بكونها تؤول إلى بيع بعض الحبس، ولذلك فحكمها المنع ابتداء والفسخ بعد الوقوع.[38]

وثانيهما أن تحصيل الجواز فيها لا يتخرج إلا على قول أبي الفرج بجواز المغارسة في الأرض المشعرة إذا كانت غير كريمة، ولزوم إمضائها بناء على إمضاء القاضي لها، بحيث يتعين الأخذ بهذا الإمضاء القضائي ولا يجوز نقض ذلك إذا كان القاضي من ذوي العدالة، وكان نظره موافقا لما تقتضيه مصلحة التحبيس، والقاعدة أن مسائل الخلاف إذا تأيد بعض أقوالها بحكم قضائي، فإن ذلك يعد ترجيحا لبعضها وموجبا لرفع الخلاف.[39]

قال السجلماسي: “وعلى كل حال (…) لا دليل في الجميع على جواز عقد المغارسة في أرض الحبس، إذ لا يلزم من نفوذ الحكم بالشيء بعد الوقوع جوازه ابتداء”[40].

ثم خلص بعد هذا البحث إلى القول: “وبعد هذا كله فمسألة المغارسة في الحبس لم أقف في جوازها على دليل واضح، والمنع فيها أقوى لما تقدم، وهو الذي اقتصر عليه مؤلف المغارسة، إذ قال عطفا على الجائزات ما نصه: ومغارسة أرض العنوة لا الحبس”[41].

أما العلامة المهدي الوزاني فموقفه من هذا العمل يتسم بالتعارض، حيث نجده في نوازله الكبرى ينص على عدم التعويل عليه، معتمدا في ذلك على بحث السجلماسي فقال: “إن قول العمليات: “وأعط أرض حبس مغارسة إلخ” لا عمل عليه ولا معول عليه، وقد انتقده أبو القاسم الفلالي”[42].

بينما نراه في شرحه للعمليات الفاسية يتعقب بحث السجلماسي المذكور، والذي أورده في نوازله الكبرى مورد التسليم والموافقة. فقال: “قلت والجواب أن أرض الحبس جرى العمل فيها بعقد المغارسة كما قال الناظم منذ أدركنا، ولا زال العمل به إلى الآن فيما رأينا، ولا يلزم من عدم الإطلاع على المستند عدم وجوده، نعم في الأرض الخراب أو القليلة النفع لا مطلقا، وعليه فالمسألة هنا من افراد قوله فيما يأتي كذا معاوضة ربع الحبس البيت، فالبحث ساقط، وأفردها بالذكر ليلا يغفل عن إدخالها في المعاوضة، وللرد على من خالف فيها تأمله”[43].

وبتأمل قليل فيما ذكر يمكن استخلاص ما يلي:

– التعارض الواضح في كلام الوزاني بين انتقاد العمل بالمغارسة في الأحباس واعتقاد صحتها.

– أن العمل المذكور مؤيد برواية أبي الفرج المالكي.

– وجود سابقة قضائية في شأنها، والقاعدة المقررة أن القول المقترن بحكم القضاء رافع للخلاف ولازم إمضاؤه.

– أن هذا العمل يتوجه بما توجه به العمل في المعاوضة كما أشار إلى ذلك الوزاني.

الهوامش:


[1] – انظر البهجة في شرح التحفة، للتسولي 2/272.

[2] – شرح ميارة للتحفة 2/116.

[3] – شرح العمل الفاسي 2/23، وانظر كذلك التهذيب للبراذعي 4/321-322.

[4] – المعيار 7/460-461

[5] – انظر تحفة أكياس الناس، للوزاني ص 400-401. وقد أشار السجلماسي إلى بعضها في العمل المطلق حيث قال:

وبالمعاوضة فيه عملـوا

على شروط عرفت لا تهمـل

كون العقار خربا وليس فـي

غلته ما بصلاحـه يفـي

وفقـد من يصلـحه تطوعـا

واليـأس من حالته أن ترجعا

[6] – تحفة أكياس الناس، ص 401.

[7] – المعيار 7/200.

[8] – نفسه 7/199 و7/183.

[9] – نفسه 7/198-199.

[10] – ومحل هذا الاختصاص إذا لم يسند الواقف النظر إلى شخص بعينه، أما إذا نص على هذا الإسناد واشترطه فيلزم الوفاء بشرطه وهذا ما أشار إليه ابن جزي بقوله: “والنظر في الأحباس إلى من قدمه المحبس فإن لم يقدم قدم القاضي”. القوانين الفقهية، ص 319.

[11] – النظائر في الفقه المالكي، للشيخ أبي عمران عبيد بن محمد الفاسي الصنهاجي، ص118، الطبعة الأولى سنة 2000، دار البشائر الاسلامية، بيروت.

[12] – النوازل الكبرى للوزاني 8/364.

[13] – تحفة أكياس الناس ص 403، وانظر التهذيب 4/321.

[14] – انظر شرح ميارة للتحفة 2/251، والكافي لابن عبد البر ص 541، والقوانين الفقهية ص 319.

[15] – انظر المعيار 1/245، ونوازل العلمي 2/310-311، والنوازل الكبرى للوزاني 8/346.

[16] – فتح الجليل الصمد، ص 378.

[17] – مواهب الجليل 7/661.

[18] – شرح ميارة للتحفة 2/251.

[19] – نفسه 2/251، وانظر البهجة 1/448-449، والقوانين الفقهية ص 319، والتهذيب للبراذعي 4/320-321.

[20] – شرح العمل الفاسي، للسجلماسي 2/30.

[21] – نفسه 2/30.

[22] – النوازل الكبرى 8/395-396، وشرح العمل الفاسي للسجلماسي 2/31.

[23] – النوازل الكبرى للوزاني 8/350.

[24] – نفسه 8/351.

[25] – شرح العمل الفاسي للسجلماسي 2/22.

[26] – نفسه 2/23، والنوازل الكبرى للوزاني 8/347.

[27] – شرح العمل الفاسي 2/41، وانظر كذلك تحفة أكياس الناس، ص 411 وما يليها.

[28] – انظر شرح العمل الفاسي، للسجلماسي 2/21.

[29] – شرح العمل الفاسي 2/21.

[30] – انظر شرح العمل الفاسي للسجلماسي 2/21، وانظر تحفة أكياس الناس ص 396، وانظر كذلك تلخيص المسألة في جوابي ابن العطار وابن سهل الواردين في أحباس المعيار 7/437-438.

[31] – تحفة أكياس الناس ص 395.

[32] – شرح العمل الفاسي 2/19.

[33] – المعيار 7/437.

[34] – شرح العمل الفاسي 2/19.

[35] – شرح العمل الفاسي 2/20.

[36] – شرح العمل الفاسي 2/21.

[37] – شرح حدود ابن عرفة ص 549، ومن خلال هذا التعريف يتضح أن المغارسة أقسام ثلاثة إجارة وجعالة وشركة والمراد من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثالث أي إعطاء الأرض لمن يغرسها بجزء معلوم في الأرض والشجر. انظر شرح العمل الفاسي للسجلماسي 2/18.

[38] – انظر النوازل الكبرى للوزاني 8/508، والمعيار 8/171-175.

[39] – انظر المعيار 7/436.

[40] – شرح العمل الفاسي 2/17.

[41] – نفسه 2/18.

[42] – انظر النوازل الكبرى 8/509.

[43] – تحفة أكياس الناس، ص 395.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق