مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

نفحات روحية من السيرة النبوية 13: حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم: معالم روحية، وآفاق أخلاقية

د.مصطفى بوزغيبة.

اختلف العلماء في عدد مرّات شقّ صدره صلّى الله عليه وسلّم: فأكثر ما قيل: إنّ ذلك خمس مرّات، وأقلّ ما قيل: مرّة واحدة.

ومن خلال اعتماد على ما صح، فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شُقّ عن صدره مرّتين اثنتين، فالأولى: كانت في صغره، والثّانية :كانت ليلة الإسراء كما في الصّحيحين عن أنس رضي الله عنه، وسيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله.

تقول السيدة حليمة رضي الله عنها كما ورد في:” السّيرة النبويّة ” لابن هشام:[1]

” فرجعنا به، فوالله إنّه بعد مقدمنا به بأشهر مع أخيه لفي بَهْمٍ[2] لنا خلف بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتدّ، فقال لي ولأبيه: ذَاكَ أَخِي القُرَشِيّ قَدْ أَخَذَهُ رَجُلاَنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، فَأَضْجَعَاهُ، فَشَقَّا بَطْنَهُ، فَهُمَا يَسُوطَانِهِ.[3] قالت: فخرجت أنا وأبواه نحوَه، فوجدناه قائماً منتقعا وجهُه، قالت: فالتزمتُه والتزمه أبوه، فقلنا لهما لك يا بُنَيَّ ؟ قال: جَاءَنِي رَجُلاَنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، فَأَضْجَعَانِي وَشَقَّا بَطْنِي، فَالْتَمَسا فيه شَيْئًا لاَ أَدْرِي مَا هُوَ ؟ قالت: فرجعنا به إلى خبائنا.

قالت: وقال لي أبوه: يا حليمة ! لقد خشِيتُ أن يكون هذا الغلام قد أصِيب، فألحِقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، قالت: فاحتملناه، فقدمنا به على أمّه، فقالت: ما أقدمك به يا ظئرُ ؟[4] وقد كنت حريصة عليه، وعلى مكثه عندك ؟! قالت: فقلت: فقد بلغ الله بابنِي، وقضيت الّذي عليّ، وتخوّفت الأحداثَ عليه، فأدّيته إليكِ كما تحبّين. قالت: ما هذا شأنك ! فاصدُقيني خبرَك. فلم تدعْنِي حتّى أخبرتها.

وكان عمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حينها ثلاث سنوات كما في ” سيرة ابن إسحاق “.

يمكن استخلاص مجموعة من الأمور الهامة في هذه الحادثة العظيمة وهي:

1. أهمية القلب ووظيفته في الحياة: 

أنيطت بالقلب مجموعة من المهام والوظائف في هذه الحياة يمكن إجمالها فيما يلي:

  – مهام معرفية: فالقلب محط المعرفة ونبضها الدائم، من مثل: تلقي القرآن العظيم، قال تعالى: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194)) [الشعراء/193-194]. ومثل: التذكر، قال الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) ).[ق/37] ومثل: العقل، قال عز من قائل: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بِهَا ْانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج/46]. ومثل: التدبر، قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد/24]. ومثل: الفهم: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا) [الأعراف/179].

  – مهام مشاعرية: تتنوع المشاعر التي تكون في القلب، فهناك مشاعر التي تحمل قيم الخير والصلاح، مثل: الخوف من الله، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال/2]، ومثل: الرحمة، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً[الحديد/27]. ومثل اللين، قال الله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر/23]. وهناك مشاعر تدل على الشر، مثل: القسوة، قال عز وجل: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) [البقرة/74]. ومثل العمى، قال تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج/46].

  – مهام روحية: للقلب مهام روحية تعطي للإنسان الإحساس بالحياة الحقيقية والشعور بالنعيم المقيم في الدنيا قبل الآخرة، مثل التقوى، قال تعالى: ( ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحج/32]. ومثل: الهداية، قال عز من قائل: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن/11]. ومثل: الاطمئنان، قال تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)[الرعد/28].

فحادثة شق الصدر تنبيه لأهمية القلب ومكانته، خصوصا وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه هو الحاكم على سائر الجوارح، بقوله : (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).[5]  من هنا يتبين لنا أهمية هذه الجوهرة النفيسة، وقيمتها الغالية، فإذا بدل الناس وصرفوا أموالا طائلة في تحسين مظهرهم الخارجي، والظهور بأحسن وصف، والخروج بأرفع جمال وأناقة على مستوى المظاهر، فالأولى بهم صرف جهدهم وطاقتهم في تجميل باطنهم الذي هو محل الجمال الحقيقي، ومحل نظر الله تعالى.

2. ديمومة عملية شق الصدر في الأمة:

يستفاد من حادثة شق الصدر أن كل نفس بشرية إلا وفيها علقة سوداء تمثل الجانب المظلم في الإنسان، تحتاج إلى عملية استئصال من لدن خبير متخصص، وهذه العملية ليست خاصة فقط بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة لأمته وإن اختلفت الصورة، وقد يخطئ البعض فيقرأ هذه الحادثة قراءة مادية فقط، والصحيح أنها تجمع المعنيين؛ البعد المادي، للتنبيه على أهميتها وخطورتها، وبخاصة في هذا العصر الذي طغى فيه الجانب المادي كثيرا، وتم اهمال الجانب الروحي الذي هو الأساس الحقيقي، والمعنى الثاني من هذه الحادثة هو الجانب المعنوي، الذي يدل على ديمومة العمل التطهيري للقلب من كل الأمراض المعنوية الفتاكة، ولابد من التنبيه على أن هذه العملية لا تتم إلا على يد متخصص قد أُعطي الأهلية التامة لهذه العملية المعنوية متسلسلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول طه عبد الرحمن: “فالذي يقدر على أن يقوم بهذه العملية ليس هو صاحب القلب الحامل له نفسه، لأنه لا يرى هذه العلقة بعينه ولا يعلم بوجودها في باطنه، وحتى إذا علم بوجودها، لا يعلم كيف يستخرجها منه على تقدير أنه يرغب في ذلك، وإنما الذي يقوم بها غيره ممن هو عارف بشق الصدور والقلوب وعارف بمكان وجود العلقات فيها وعارف بغسلها وخياطتها مع تحققه بمقتضى الميثاق الأول”.[6]

إذن فعملية شق الصدر التي تعني التطهير والتزكية هو عمل دائم ومستمر لابد من الاهتمام به على يد عارف متخصص مأذون له ومشهود له.

3. النظر إلى المآل الروحي:

إن من المعاني الروحية عند السادة الصوفية النظر إلى المآل ولا يكون ذلك إلا بالتحقق من الأصول، فإذا كان الأصل صحيحا من استقامة وطهارة وحال مرضية فما يبنى عليه يكون صحيحا، وبالتالي كل ما يأتي من المآلات التي هي ثمار التحقق بهذه الأصول يكون صحيحا، وإذا كان الأصل فاسدا أو مبنيا على أصول غير متينة، فما يبنى عليه يكون غير صحيح، وبالتالي كل ما يأتي منه من مآلات روحانية غير صحيح بل هو دجل واستدراج والافتتان بمظاهر الأحوال الظلمانية والخوارق الخداعة.

كل هذه المعاني الروحية الدقيقة نجدها في قصة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه السيدة آمنة رضي الله عنها أم النبي صلى الله عليه وسلم يطمئن قلبها على ابنها النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر عليه أحد ارهاصات النبوة وهو حادثة شق الصدر، لما رأت من سالف أحواله صلى الله عليه وسلم، من خروج نور منها وقد أضاء لها قصور بصرى وكذا ما رأت من حاله أثناء الولادة من السجود لله تعالى وهذه كلها أصول ربانية نورانية.

فلنتأمل هذا الحوار الذي دار بين السيدة آمنة رضي الله عنها والسيدة حليمة مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم: قالت السيدة آمنة: أفتخوفت عليه الشيطان؟ قالت حليمة: قلت: نعم، قالت أمه: كلا، والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لبني لشأنا، أفلا أخبرك خبره؟ قالت: [قلت]: بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف [عليّ] ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة”.[7] 


[1] 1/  124.

[2] البهمة الصغير من أولاد الغنم…

[3] ضرب بعضه ببعض.

[4] الظّئر: هي المرضعة المستأجرة.

[5] رواه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، ورواه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات.

[6] سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 2009م، 161-162.

[7] السيرة النبوية، لابن هشام، 1/  124.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق