وحدة الإحياءدراسات عامة

نظرية المعرفة والسياق الكوني المعاصر التكييفات المرجعية، والمستلزمات العملية

كَلِف العلماء المسلمون بشدّة بموضوع المعارف الإنسانية، يشهد لذلك افتتاح العديدين منهم مصنفاتهم بموضوع العلم، وحقيقته، ومعناه، وما يحصل به العلم من النظر والاستدلال وإحكام النظر، مع تَبايُنٍ في التناول بتباين الخلفيات المذهبية، والاختيارات المنهجية المتعلقة بوسائل المعرفة، وطرق فهم النص وتأويله، في مختلف فروع المعرفة.

كما حظيت قضايا المعرفة أيضا، باهتمام أهل التصوف وعلماء الكلام، حيث اعتبر المتصوفة المعرفة حالة ذوقية وجدانية مصدرها القلب، والحدس، والشهود، وأن العلم الذوقي يتحقق عن طريق الإمداد الذي يكون أقرب في حال المجاهدة، كما ترسَّمَ المتكلمون أسلوب الجدل، وتوسّلوا للتدليل على مدعياتهم بالمظنونات، والمشهورات، والمسلّمات، واعتمدوا المنهج العقلي تارة، والمنهج النقلي تارة أخرى.

كما تناول أبو بكر الباقلاني (ت 403ﻫ) في كتابه “تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل” “طرق المعرفة”، وتحدث أبو منصور البغدادي (ت 429ﻫ) في كتابه “أصول الدين” عن الحقائق والعلوم، وخصص فخر الدين الرازي (ت 606ﻫ) الفصل الرابع من بداية كتابه “المحصول في علم أصول الفقه” للبحث في تحديد معنى العلم، والنظر والدليل، وجعل عضد الدين الإيجي (ت 756ﻫ) الموقف الأول من كتابه “المواقف في علم الكلام” خاصا بالعلم والنظر.

وقد أثار الفلاسفة المسلمون إشكالية نظرية المعرفة، وكيف تكتسب؟ وما هي مصادرها؟ وما هي غاياتها؟ ومن هؤلاء أبو يوسف الكندي (ت 256ﻫ) الذي تناول بالدرس طرق المعرفة وأدواتها (الوجود الحسي، والوجود العقلي، والوجود القدسي)، وأبو نصر الفارابي (ت 950ﻫ) الذي تحدث بتفصيل عن المعرفة أثناء معالجاته وتشخيصاته للنفس الإنسانية وقواها، والعلوم العقلية والإلهية، والفيض، والنبوة، والتصوف، كما تناول أبو حامد الغزالي (ت 505ﻫ) بالبحث والتجلية في أعماله النقدية للكسب العلمي لبعض الفلاسفة، طرق المعرفة، فحصرها في خمسة طرق (الحواس الخمس، وقوة التمييز، والعقل، والإلهام والنبوة).

ومنذ بداية ما يسمّى “عصر النهضة” طغت، قبْساً من مشكاة جهود العلماء المسلمين، مسألة المعرفة في التفكير الفلسفي الغربي على غيرها من مشاغل الفلسفة، وأصبحت هي القضية الأساسية، بحيث أصبحت ما سواها من قضايا تتفرع عليها، ذلك أن المقولات والأفكار والمؤلفات المهمة في هذا العصر وما تلاه، اهتمت بالدرجة الأولى بالمعرفة وقواعد التفكير المنطقي السليم، كما نلاحظ في “الأورغانون الجديد” لفرنسيس بيكون (1626م)، الذي يتناول أسس الاستقراء والمنطق التجريبي، و”الكوجيتو” الذي عرضه ديكارت (1650م) في كتابه “مقال في المنهج”.

وخلال ما يطلق عليه، “عصر التنوير” واصل الفلاسفة الغربيون في مؤلفاتهم الاهتمام بمسألة المعرفة واعتبارها المسألة الأهم، نجد ذلك مثلا، في كتاب جون لوك (1704م) “محاولة في الإدراك الإنساني”، وفي كتاب “نقد العقل المحض” للفيلسوف الألماني إمانويل كانت (1804م)، كما نجده عند الاتجاهات الفلسفية في القرن التاسع عشر، وعند المدارس والحلقات الفلسفية في القرن العشرين، وأشهرها “حلقة فينا” التي أرست مرتكزات “الوضعية المنطقية”، وبشّرت بـ”التصور العلمي للعالم”، وسادت مقولاتها عالمياً في النصف الأول من القرن العشرين، ولمَّا تَزل رؤاها مصدر إلهام فلسفة العلم ومناهجها عند عديد من المدارس، حتى في وقتنا الراهن.
ولئن كانت نظرية المعرفة تمثل في المنظور الأكاديمي أحد المحاور الأساسية للدراسات الفلسفية الحديثة، حيث يعتبر المبحث الخاص بها، أحد أهم مباحث الفلسفة، إلى جانب مبحثي الوجود Ontology، والقيم Axiology، فإنها في المنظور المنهجي تسهم في معالجة معظم القضايا التنظيرية سواء من ناحية مستوياتها، أو مصادرها، أو رسائلها.

وقد دار الجدل حول تحليل طبيعة المعرفة وارتباطها بالترميزات، والمصطلحات؛ كالحقيقة والاعتقاد، ودراسة وسائل إنتاج المعرفة، والاهتمام بالشكوك حول ادعاءات المعرفة المختلفة، ثم ما لبثت نظرية المعرفة أن اتخذت وضعا جديدا، يتفق واستقلالها بموضوعها الخاص بها، واهتمت بمسائل جديدة، مثل العلاقة بين الذات العارفة والموضوع المعروف، وبين العقل والشيء الخارجي، وأَثَرِ كُلٍّ منها في عملية الإدراك، وكذلك العلاقة بين الماهية والوجود، والنظر في حدود المعرفة الإنسانية، وقيمة الأدوات التي تحصل بها المعرفة، كالحواس والعقل … الخ.

وقد بحث الفلاسفة في المعرفة من حيث أدواتها ومصادرها، واختلفت مذاهبهم في هذه المسألة على النحو التالي:

1. المذهب العقليRationalism ؛ حيث العقل هو مصدر المعرفة، يمكنه دون لجوء إلى أية مقدمات تجريبية، التوصل إلى معرفة حقيقية بطبيعة العالم.

2. المذهب التجريبيEmpiricism ؛ حيث التجربة أو الخبرة الحسية هي مصدر المعرفة، مع إنكار لوجود معارف، أو مبادئ عقلية مُسْبقة.

3. المذهب الحدسيIntuitionism ؛ حيث مصدر المعرفة هو الحدس بأنواعه المتباينة، (الحدس الحسي، والحدس التجريبي، والحدس العقلي، والحدس التنبئي).

4. المذهب البراجماتي Pragmatism؛ ويرتكز على مبدأ مؤداه، أن صحة الفكر تعتمد على ما يؤدي إليه من نتائج عملية ناجحة.

من جهة أخرى استبطنت الحركة العلمية في تاريخ المسلمين، في أسسها الإبستيمية وتجلياتها النظرية والعملية، منهاجية خاصة؛ حيث حفّز الوحي العقل للقراءة في الكون المنظور، في موازاة مع قراءة الكتاب المسطور، واعتبره أداة لإبصار واكتشاف الحقائق والمعارف، وليس مولِّدا لها، كما حثّه على ترجمة ما يتبرعم في الفؤاد من إدراكات، مما فتح المجال أمام القراءة الآياتية التكاملية للكتابين معا، بمختلف مستوياتها (قراءة، وتلاوة، وترتيلا، وتأويلا).

 وقد حقّق هذا الإدراك عبر تاريخِ تعامل الأمة مع الوحي، وحدة معرفية لملَمت شتات الإنسان المعرفي، ووّحدت بين زوايا إدراكه، وأَكسبت الإنسان جهاز تنسيق معرفي، يمكّن من انتظام الأصول المنهجية، وطرق الاقتراب والتناول وفق نواظم توحيدية، مما أوجد نسقا إسلاميا متميزا في المعرفة، قوامه الوحدة والاتساق، والتعاضد المنهاجي.

 إن القراءة الآياتية التكاملية للكون، تتجاوز بالإنسان حالة الإفراز الذهني للمعرفة، المنفصل عن الكون والتجريب (الأنموذج اليوناني القديم)، وتتجاوز به حالة الغرق في التجريب والإمبريقية، دون النظر إلى الغائية والقصد (الأنموذج المعرفي الغربي المعاصر)، كما تتجاوز به الاقتصار على الوجدان (الأنموذج الشرقي القديم).

 إنها قراءة تمكّن الإنسان من تجاوز المحدودية التي تفرضها عليه الحتمية الكزّة، نحو آفاق الوصل غير المتناهي بين آيات الكتابين، باعتبار ما تتيحه منظومة الوحي، من إمكان النظر إلى الوجود بمختلف مراتبه من زوايا مختلفة، وكذا باعتبار التفصيل للمُجملات الذي يُتيحه إعمالُ قدرة الأسماء، وهو لا شك تفصيل يفتح أمام العقل الإنساني إمكانات في غاية السعة، ويكسبه رؤية حضارية كلّيةً ومنهجيةً لقضايا المعرفة وغيرها.

إن هذه المنهجية تستبطن الرؤية الحضارية الكلية، باعتبارها منظومة معرفية توحيدية ذات خصائص مميزة، ترتكز على الإيمان بالإله الخالق المطلق، كما تتميز بقيامها على إطار مرجعي جامع؛ هو التوحيد الذي ينفتح على عالم الغيب والشهادة انفتاحًا مزدوجًا.

 فهو ينفتح انفتاحًا رأسيًا حين تأخذ مصادره المعرفية بالوحي، ممثلا في القرآن الكريم الذي يعد اللحمة الرابطة بين عالم الغيب وعالم الشهادة، ومصدرا مرجعيا إلى جانب السنة البيان، تلتقي حوله الأبعاد القيمية الغيبية بالأبعاد المادية الحاضرة، وكذا ينفتح أفقيًا على الشعوب والحضارات المتباينة “الآخر”، وبهذا المعنى فهو نسق معرفي يتجاوز الخصوصية والذاتية، ليأخذ بسنة التعارف القرآنية كما تجسدها الآية الكريمة: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات: 13).

ولا شكّ أن سؤال المعرفة، يقع في قلب التحولات العلمية والتاريخية التي يعرفها العالم المعاصر، وتدور عليها مناقشات فلسفية جادة، أضحت ثمراتها تحتلُّ مركزاً رئيسًا في الفكر المعاصر، في سعي كادح إلى إقامة رؤية متماسكة عن الإنسان، والكون، والعالم.

 ومنذ الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين ارتفعت أصوات المختصين في الحضارة الغربية المعاصرة، محذِّرة من الآثار السلبيَّة التي أحدثها الانشِقاق بين أدوات المعرفة الأربع: الوحي، والعقل، والوجدان، والحواس، وظهرت مقولة أنَّ اقتصار المعرفة على العقل والحواس وميدان العلم الطبيعي، أدَّى إلى ظهور “الإنسان ذي البعد الواحد”، وأنَّ الاعتماد على المفاهيم التكنولوجيَّة والعلميَّة وحدها، أوجد “كرة أرضيَّة قاحلة”، وأنَّ الحاجة باتت ماسَّة لإيجاد “منهج معرفة” متوازن وشامل وجديد، كما تكرَّرت الإشارات والكتابات عن أهمية أساليب “المعرفة الرُّوحية والخبرات الذَّاتية”، وأنَّ المعرفة أوسع ممَّا حددته مناهج المعرفة التكنولوجية، وأنَّها يَجب أن تتَّسع لتشتمل الدين، والقيم، والخبرات الذاتية.

لقد سال مداد كثير في موضوع القطيعة والتراكم، والانفصال والاتصال في تاريخ العلوم خاصة، وفي النظر الابستيمولوجي للمعرفة العلمية عامة، وخاصة بعد استعمال طوماس كوهن T.Kuhn مفهوم الثورات أو الانقلابات في الأنساق والتقاليد العلمية أو البراديغمات، وصار حصاد النظر الابستيمولوجي للمعرفة العلمية، غنياً بالأسئلة التي ينبغي على كل علم أن يواجهها في ذاته، سواء على مستوى الموضوعات والمفاهيم، أو على مستوى المناهج والأساليب، أو على مستوى وطبيعة اليقين العلمي، وكذا الأسئلة التي ينبغي على كل علم أن يواجهها في علاقته بغيره، تصنيفا وترتيبا، أو تكاملا وتفاعلا.

إن مناهج المعرفة المعاصرة تعاني بشكل بارز من محدودية نتائجها، وقصور آلياتها التفسيرية ومضاعفات كل ذلك على الإنسان؛ بسبب ظاهرة “Du Savoir Atomization”؛ أي تجزئة المعرفة والتَّخصص في تفاصيل دقيقة، جعلت الإحاطة بموضوع العلم أمرًا صعبًا؛ ممَّا يقود إلى استِنْتاجات خاطئة عند صياغة فلسفة أي علم، أضِفْ إلى ذلك أنَّ وحدة المعرفة ما زالت أمرًا لم ينل الاهتِمام اللائق به، مما يبرز الأهمّيَّة الخاصَّة التي تكتسيها دراسة منهج المعرفة في إطار الرؤية الكلية القرآنية؛ لما تفتحه هذه الرؤية من آفاق، وتتيحه من إمكانات في إطار بنائها النسقي، وكلّيتها التركيبية الجامعة؛ وهي الكلية التي بمقتضاها، يرتبط عالم الشهادة بعالم الغيب، ويتفاعلان ولا ينفكان بحال، مثلما تتصل في كنفها حقائق الكون، والحياة، والإنسان، بحقيقة الألوهية.

وبالرغم من أن مفهوم نظرية المعرفة يمتد ويتشعب في مختلف حقول وأنساق الكسب البشري؛ من فلسفة، وعلوم اجتماعية، وإنسانية، وطبيعية، وتطبيقية، وفنون، وجماليات… فإن الدارس يلحظ المكانة المركزية التي يحتلها الدين في بلورة وبناء نظرية المعرفة؛ ففي ظل التغيرات التي أصابت بُنى المجتمعات، وسيولة المعلومات، التي أضحت تؤثث حياتنا فوق هذا الكوكب، أثبت السند الديني لبناء المعرفة في صيغته التوحيدية، أنه قادر على تجاوز القطيعة بين المرجعيتين الدينية والعقلية، وأنه لا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وذلك من خلال ما يكّنه الوحي الخاتم مثلا، من إمكانات هائلة للتجسير بين النص والواقع، في وعي تام بالتشبيكات التي يعرفها سياقنا الكوني المعاصر.

إن المعرفة الناتجة عن المنهجية الآياتية أشبه ما تكون بصراط متصاعد لا متناه، نظرًا لتجدد القراءة في كل حين، بسبب تَعدُّدِ وتنوع الآيات. أما إذا تم الانطلاق نحو الربط بين الآيات وبين ما ينبثق منها من آيات جديدة بعد تفصيلها، فإن المعرفة في إطار التعاطي مع النص المؤسس، تصبح بدورها مصدّقة ومهيمنة، بفعل تصديقها لما بين يديها، والهيمنة عليه نحو تصديق آخر جديد، ضمن نَبْضٍ فهميّ متجدد..

 وهنا تتحول القدرة على التسمية، إلى مَعبر نحو إبصار الآيات والبصائر في كتابي التكوين والتدوين معا؛ إذ الأشياء والحقائق تُعرف بكيفية أدق وأمثلَ عبر آياتها، وليس عبر الاقتصار على أسمائها. وهو ما من شأنه التمكين من تطوير نسق معرفي متميز، يسهم بفاعلية في الإجابة عن الأسئلة الكلية، كما يسهم بفاعلية في بناء العمران البشري الراشد، وتحقيق النهوض الحضاري المبصر.

مما يستدعي ضرورة إعادة وضع تصور عملي لنظرية المعرفة، ينطلق من القيام بجملة مراجعات وظيفية، تؤطّرها المداخل المنهاجية الآتية:

المدخل الأول: مراجعة تمثلات المعرفة وآليات الاستخلاص والتأثيل.

المدخل الثاني: مراجعة تمثلات المعرفة، وآليات التكوين والبلورة.

المدخل الثالث: مراجعة تمثلات المعرفة، وآليات الرصد والتحصيل.

المدخل الرابع: مراجعة تمثلات المعرفة، في ضوء الفاعلية والوظيفية في معالجة قضايا الإنسانية.

مما يجعل عمليات المراجعة هذه، عمليات معرفية منهجية ضرورية، تقتضي تشميرا تنظيريا، ومنهاجيا، وتربويا، وإجرائيا، واستشرافيا.

Science

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق