مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الصوم من المنظور الصوفي

   يعتبر فرض الصيام من الأحكام العظيمة التي شرعها الله تعالى، قصد تزكية الأنفس ورياضتها لما فيه صلاح الأفراد والجماعات، وذلك بقطع أسباب الشهوات التي هي محل تحريك الرغبة والدفع بها للانغماس في الملذات، فكان تشريع الصيام مسلكا تربويا للانعتاق من جاذبية الحس، عن طريق فتح المجال للباطن نحو الاستشراف لمعاني الوصل والقرب من حضرة المولى عز وجل، فليس القصد من الصيام الجوع والعطش، وإنما مجانبة الآثام والكف عن الفحشاء والمنكرات، كما قال المصطفى الأمين علية أفضل الصلاة والتسليم: “من لم يترك قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يترك طعامه وشرابه”[1]

   عمل الصوفية على الارتقاء بمفهوم الصيام في أبعاده الكمالية، بقصد الاستشراف إلى معانيه السامية، وذلك بصوم الجوارح عن المعاصي والزلات، والجوانح عن الأغيار والغفلات، حتى يصفو المحل لأن تشرق فيه أنوار اليقين، وبوارق التوحيد، قال صاحب الحكم: “كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته”. فالقلب أدنى شيء يؤثر فيه، فلهذا ينبغي للمريد أن … يقف على باب قلبه، وليفعل كما قال بعضهم: وقفت على باب قلبي أربعين سنة، مهما خطر عليه ما سوى الله رددته”[2].

   قرن الله تبارك وتعالى الصوم بالتقوى، فقال:﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾.[3] [البقرة الآية182]، “قيل في معنى قوله تعالى:”تتقون” تضعفون، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي..وقيل لتتقوا المعاصي، وقيل:هو على العموم، لأن الصيام كما قال عليه الصلاة والسلام:”الصيام جنة ووجاء”، وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات”[4].

   لذلك خص الله تبارك وتعالى الصائمين بالشرف الأسمى والجزاء الأوفى، أن جعل ثواب صيامهم مضافا لنفسه، إضافة كرم وتشريف لقربة الصيام عن غيرها من العبادات، فقد تبث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”[5].

   قال الطوسي: “لهذا الحديث معنيان، أحدهما أن للصوم تخصيصا من بين سائر العبادات المفترضات، لأن جميع المفترضات حركات الجوارح، يتهيأ للخلق أن ينظروا إليه إلا الصوم، فإنه عبادة بغير حركة الجوارح، فمن أجل ذلك قال تعالى: الصوم لي، والمعنى الآخر في قوله: “لي” بمعنى أن الصمدية لي، لأن الصمد هو الذي لا جوف له ولا يحتاج إلى الطعام والشراب، فمن تخلق بأخلاقي أجزيه ما لا يخطر على قلب بشر. وأما معنى قوله: “وأنا أجزي به” فإن الله تعالى وعد على فعل الحسنات الثواب المعدود من الواحد إلى العشر أمثالها..والصائمون هم الصابرون، وقد قال الله عزوجل ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾.[الزمرالآية11].”[6]

فخرج الصوم من الحسنات المعدودة وثوابها لأن الصوم هو: صبر النفس عن مألوفاتها، وإمساك الجوارح عن جميع شهواتها، والصائمون هم الصابرون، وقد روي في معنى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك ويدك”، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن شتمه إنسان فليقل: إني صائم”.

   وقد عدَّ الصوفية الصيام مبدأ سلوكيا ملازما، يتسامى على حسب أحوال السالك وتنزله في مقامات القرب، حيث عرف مدلول الصوم عند رجالات القوم مراتب ودرجات، تصطبغ كل مرتبة بمعان ذوقية خاصة، تعكس البعد المعرفي الذي تحقق منه المتقرب، فجعلوا الصوم درجات ثلاث، صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص.

   “أما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفِّه عما سوى الله عز وجل بالكلية. وهذه رتبة الأنبياء والصديقين والمقربين”[7].

   وصوم الصالحين هو صوم الخصوص، ويكون بكفِّ جميع الجوارح عن الآثام، وذلك بغض البصر عن المحرمات وكل ما يشغل القلب ويلهيه عن ذكر الله تعالى، وبحفظ اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش، وشغله بذكر الله تعالى، وكف السمع عن الإصغاء إلى كل محرم ومكروه، مع مراعاة المطعم الحلال، في تعلق كبير للقلب بالله عزوجل، واضطراب بين الخوف و الرجاء، فإن “صحة الصوم وحسن أدب الصائم في صومه، صحة مقاصده، ومباينة شهواته، وحفظ جوارحه، وصفاء مطعمه، ورعاية قلبه، ودوام ذكره، وقلة اهتمامه بالمضمون من رزقه، وقلة ملاحظته لصومه، ووجله من تقصيره، والاستعانة بالله تعالى على تأديته، فذلك أدب الصائم في صومه”[8].

   فالصيام عند الصوفية ليس مجرد الإمساك عن المفطرات، وإنما هو هجر جميع المعاصي والسيئات، والاهتمام أكثر بالطاعات، واستشعار القرب من رب العباد جل علاه، ليتم تحصيل الغاية التي من أجلها فرض الصيام وهي التقوى وتزكية النفس وتطهيرها من كل الرذائل والخطايا والذنوب. 


[1] صحيح البخاري، رقم 1903.

[2] المنح القدوسية: المستغانمي، ص 217.

[3] البقرة الآية، 182.

[4] الجامع لأحكام القرآن: القرطبي،1/658.

[5] صحيح البخاري: رقم 1904.

[6] اللمع: الطوسي، ص 216.

[7] إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي، 1/307.

[8] – اللمع: الطوسي، ص 217.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق