مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات وأبحاث

من مظاهر الحلم والأناة في السيرة النبوية

بسم الله الرحمن الرحيم

 تمهيد:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله، محمدا  وآله وصحبه ومن والاه.  أما بعد:

       فإن الحِلم والأناة([1]) من الأخلاق الرفيعة التي لا يقوى عليها إلا أصحاب الهمم العالية والأخلاق الرفيعة، والحلم من صفات الله تعالى؛ القائل: ﴿واعلموا أن الله غفور حليم﴾([2])وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حليما تجلى حِلمه في معاملاته مع أهله، ومع أصحابه ومع أعدائه، وفي كل أحواله، وقد توالت الآثار الشريفة  التي تبين هذا الخلق العظيم في حياته صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: ﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم ﴾ ([3])، كما أن الأناة مظهر من مظاهر خلق الصبر، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، وقد اتصف بها  النبي صلى الله عليه وسلم، ولسُمُوِّها أحبها الله عز وجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة»([4]) .

ولأهمية هذا الموضوع خصصت له هذا المقال للحديث عن بعض الجوانب المشرقة من حلمه وأناته ﷺ ، فأقول وبالله التوفيق:

نماذج من حلم وأناة النبي ﷺ:

1-نماذج من حلمه صلى الله عليه وسلم

   كان النبي صلى الله عليه وسلم يعفو عند المقدرة، ويحلم عند الغضب، ويحسن إلى المسيء، وقد كانت هذه الأخلاق العالية من أعظم أسباب إجابة دعوته والإيمان به واجتماع القلوب عليه ومن نماذج حلمه صلى الله عليه وسلم ما يلي:

*عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لما كان يوم حنين آثر  رسول الله صلى الله عليه وسلم  ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن بدر مثل ذلك، وأعطى ناسا من العرب وآثرهم في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عُدل فيها، وما أريد بها وجه الله ؛ فقلت: والله لأخبرن بها رسول الله ، فأتيته فأخبرته فقال: «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر »([5]).

وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى الله تعالى، وقد اقتضت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم الغنائم بين هؤلاء المؤلفة قلوبهم، ويوكّل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه([6]).

*ومن مواقف حلمه صلى الله عليه وسلم ما فعله مع الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، فقد أسلم الطفيل رضي الله عنه قبل الهجرة في مكة، ثم رجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فبدأ بأهل بيته، فأسلم أبوه وزوجته، ثم دعا قومه إلى الله عز وجل فأبت عليه وعصت، وأبطؤوا عليه، فجاء الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له أن دوسا هلكت وكفرت وعصت وأبت؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم الطفيل بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها، فظن الناس أنه يدعو عليهم فقال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم»([7]).

وهذا من ظواهر حلم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يعجل بالعقوبة، أو الدعاء على من رد الدعوة؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالهداية، فاسجاب الله دعاءه، وحصل على ثمرة صبره؛ فقد رجع الطفيل إلى قومه، ورفق بهم، فأسلم على يديه خلق كثير، ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر، فدخل المدينة بسبعين أو تمانين بيتا من دوس، ثم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين([8]).

*ومن ذلك كذلك ما فعله مع الأعرابي الذي أراد قتله، فعفا عنه. روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: « غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما أدركته القائلة وهو في واد كثير العضاه، فنزل تحت شجرة، واستظل بها وعلق سيفه، فتفرق الناس في الشجر يستظلون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئنا فإذا أعرابي قاعد بين يديه فقال: «إن هذا أتاني وأنا نائم، فاخترط سيفي، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، مخترط صلتا قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله فشامه ثم قعد، فهو هذا قال ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم »([9])

2-نماذج من تأنيه صلى الله عليه وسلم

كان النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الناس أناة وتثبتا في الأمور التي تعرض له، والسيرة النبوية حافلة بمواقفه الكثيرة صلى الله عليه وسلم ومن نماذج ذلك أذكر نموذجين اثنين:

الأول: قبل القتال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل القتال يعلم أصحابه ويدربهم على الأناة والتثبت في دعوتهم إلى الله تعالى، فكان يأمر أمير سريته أن يدعو عدوه قبل القتال إلى ثلاث خصال:

الخصلة الأولى: الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين

الخصلة الثانية: فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية.

الخصلة الثالثة: فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان بالله وقاتلهم([10])

الثاني: في الغزو: وكان يتأنى في الغزو  فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار فعن أنس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا  بنا قوما لم يغز بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانا كف عنهم وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم([11])

الخاتمة:

فهذه نفحات من خلق الحلم والتأني عند النبي  ﷺ أوردت بعضا من نماذجه من خلال سيرته الطاهرة، وأسأل الله تعالى أن يتقبل مني هذا العمل، ويجعله في ميزان حسناتي.والصلاة والسلام على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وأصحابه أولي النهى، والحمد لله رب العالمين.

*****************

هوامش المقال:

([1]) الحِلم لغة: العقل. القاموس المحيط (ص: 1096) مادة:«حلم »، والأناة لغة: التثبت وعدم العجلة، يقال: تأنى في الأمر: مكث ولم يعجل، والاسم: أناة.المصباح المنير (ص: 11) مادة: «أنى».

([2]) سورة البقرة من الآية: (135).

([3]) سورة آل عمران من الآية: (159).

([4]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /29)، كتاب الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه، برقم: (17).

([5]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /404)كتاب فرض الخمس، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس، برقم: (3150)،  ومسلم في صحيحه (1 /470)، كتاب الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه برقم: (1062).

([6]) فتح الباري (8 /62).

([7]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /341) كتاب الجهاد، باب: الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، برقم: (2737)، ومسلم في صحيحه (2 /1174-1175) كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل غفار وأسلم وجهينة وأشجع وتميم ودوس وطيء برقم: (2524).

([8]) انظر: زاد المعاد (3 /547).

([9]) أخرجه البخاري في صحيحه (3 /122) كتاب: المغازي، باب: غزوة بني المصطلق برقم: (4139)، ومسلم في صحيحه (2 /1083) كتاب: الفضائل، باب:  توكله على الله تعالى وعصمة الله تعالى له من الناس برقم: (843).

([10]) انظر نص الحديث في صحيح مسلم (2 /828)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها برقم: (1731).

([11]) أخرجه البخاري في صحيحه (1 /207)، كتاب: الأذان، باب: ما يحقن بالأذان من الدماء، برقم: (610).

*************************

لائحة المراجع المعتمدة

1-الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1 / 1400هـ.

2-زاد المعاد في هدي خير العباد. ابن القيم الجوزية. تحقيق: شعيب الأرنؤوط- عبد القادر الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة. ط 1418-1998.

3-صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمحمد مرتضى الزبيدي. مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري. دار طيبة الرياض ط1/ 1427-2006.

4-فتح الباري شرح صحيح البخاري. ابن حجر العسقلاني. دار السلام الرياض. ط1/ 1421-2000.

5-القاموس المحيط. مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي. تحقيق: مكتب تحقيق التراث بإشراف: محمد نعيم العرقسوسي. مؤسسة الرسالة بيروت . 1426-2005.

6-المصباح المنير. أحمد بن محمد بن علي الفيومي. مكتبة لبنان بيروت. 1987.

راجع المقال: الباحث: عبد الفتاح مغفور

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق