مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةقراءة في كتاب

مدخل إلى علم المخطوط

تمهيد: 

يحاول جاك لومير في هذا المدخل الى علم المخطوطات أن يقارب مجالا تخصصيا ما زال يبحث عن تقعيده العلمي، بل إن الكاتب يطمح حسب قوله إلى تكوين مدخل  إلى علم المخطوطات، ويقول إن الكتاب موجه إلى المبتدئين غير المتمرسين في هذا العلم. كما يحاول الكاتب ان يجيب على أحد الأسئلة المركزية في علم المخطوطات وهو : كيف صنع المخطوط في العصر الوسيط ؟

يبدأ الكاتب بتحديد مفهوم علم المخطوطات أو “الكوديكولوجيا “codicoligie   ، انظلاقا من تحديد موضوعه الذي يدرسه، لأن الشرط الرئيسي لكل علم هو الموضوع المتميز، والمنهج الواضح. ويفهم من الكوديكولوجيا أنه العلم  الذي يدرس الكتاب والمخطوط، أي علم آثار الكتاب، ومعنى ذلك أنه يهتم بدراسة مختلف مظاهر الصناعة المادية الأولية للكراس أو المخطوط، ويطرح عدة أسئلة توجه الباحث أو يحاول هذا العلم الإجابة عليها، مثل كيف ومتى وأين صنع هذا الكتاب؟ ولأي غاية تم إنجازه؟ ومن هو مستكتبه؟  كما يهتم بأساليب صنع الكتاب في زمن معطى وفي مكان محدود النطاق بعض الشيء، وأيضا يهتم بتقنيات المخطوط في العصر الوسيط. وبهذا المعنى يعتبر علم المخطوطات علما مساعدا للتاريخ باعتباره يبحث في المخطوط كوثيقة تاريخية.

غير أن علم المخطوطات لا يهتم بتاتا بمضمون المخطوط، أو قيمته الفكرية أو المتن الداخلي، وإنما يدرس الكتاب من الناحية الخارجية، مثل نوع الورق أو الرق المستعمل وطبيعته وكيف كان يصنع الرق من جلد الحيوان، وكذلك طريقة جمع أوراق الكتاب، شكل الخط، طريقة وضع أرقام الصفحات،  الناسخين للمخطوطات، وأساليب نسخهم للمخطوط، ثم التسفير وتغليف الكتب …. وبجملة واحدة كل ما يهم الكتاب المخطوط من ألفه إلى يائه، أي من إزالة الجلد المستعمل في الكتابة حتى تسفيره وإخراجه وأيضا مصيره بعض ذلك.

وسنحاول عرض مضامين الكتاب عبر تناول مجموعة من المصطلحات التي تهم علم المخطوطات وتشكل أساس المخطوط القروسطي مثل مصطلح الرق، الملزمة، الخزم، التسطير، نسخ، التسفير.

  1 . الرق والورق:

يعرف الرق بأنه جلد الحيوان منتوف ومجلف، تمت معالجته من غير دباغة أو بدباغته، ثم يوضع للتنشيف، الشيء الذي يجعله صالحا للكتابة، ويؤخذ الرق من جلود الحيوانات، من جلد الخنزير أو من جلد الماعز أو الخروف… ويسمى عادة تبعا لنوع الحيوان المأخوذ عنه الجلد، أو تبعا لسن الحيوان، أو تبعا لطريقة اعداده . ويصف الكاتب مراحل وكيفية إعداد الرق، فصانع الجلد يختار الجلد ثم يمرطه أي يزيل عنه الشعر وذلك بغطسه في الماء الممرط، وهو ماء الجير، ثم يعرض للتعريق ويكشط لإزالة اللحم و الشحوم ثم يوضع في مطاطات الجلود.

ويحاول الباحث في علم الكوديكولوجيا التمييز بين الجهة العليا والسفلى من الرق، ويستعمل لذلك عدة وسائل او علامات يلاحظها على الرق، مثل أن الجهة السفلى تكون أكثر وضوحا وبياضا من الجهة العليا، ثم بملاحظة علامات انغراز الشعر على الجهة العليا، وكذلك العلامات التي تتركها علامات التعريق، مثل أثار السكين التي تقع عند السلخ وكذلك لسعات البعوض على جلد الحيوان المأخوذ عنه الجلد .

ويتتبع الكاتب تاريخ صناعة الرق في العصور الوسطى وأساليب صنع الرق، فقبل القرن الثاني عشر كانت تلك الصناعة ضعيفة ورديئة ولم تعرف نهضتها إلى مع نهاية القرن الثاني عشر، عند توسع صناعة الرق بظهور الجامعات الكبرى، وقد جعل الرهبان والكهان من صناعة الكتب تخصصهم واستمر ذلك إلى أن اخترعت المطبعة في نهاية القرن الخامس عشر.

كما أن هناك ظاهرة إعادة استعمال الصحائف المكتوبة وإعادة الكتابة عليها مرة أخرى، وهذه الأوراق أو الكتب المعاد الكتابة عليها بعد معالجتها تسمى “الطروس”. وباستعمال  الأشعة فوق البنفسجية يمكن قراءة النص السابق الممحو.

وكان الظهور الأول للرق مع الصينيين فهم من اخترعه، وقد أدخله العرب الى الغرب أثناء العصور الوسطى، وانتشر على سواحل البحر الأبيض المتوسط ابتداء من القرون الوسطى. ويبحث الكاتب عن مرحلة الاستغناء عن الرق في صناعة المخطوط قبل نهاية العصر الوسيط وتغيره بالورق. والورق هو مادة اصطناعية صنعت سابقا بواسطة لفائف نباتية محولة إلى عجين، ويمدد الصناع هذا العجين وينشفونه و يصنعون منه ورقة ذات سمك محدد. ويستطرد الكاتب في وصف طريقة الصناعة والتقنيات والآلات المستعملة لذلك، وطريقة تقطيع الورق واستعماله وأحجام الورق. وتساعد العلامات الموجودة على الورق على تحديد حجم الورق ونوعه وعلى تاريخ وضبط مكان مادة الكراس.

ويفصل الكاتب في جل المراحل الدقيقة لصناعة الورق حتى لا يترك جزئية بسيطة إلا وأبرز أهميتها للباحث في الكديكولوجيا .

 2 – الملزمة:

تعني الملزمة في علم المخطوطات مجموع الصحائف المندمجة التي يخيطها المسفر دفعة واحدة، وتتكون عموما من عدد معين من الصحائف المطوية من الوسط والمندمجة الواحدة في الأخرى بشكل يجعل مثيل الصحيفة الأولى من الملزمة الصحيفة الأخيرة منها، وتسمى الملزمة حسب عدد الصحف المكونة لها، ثلاثية أو رباعية….كما يستطرد الكاتب في إبراز طريقة صنع الملازم وأنواع الطرق وأماكن الخياطة والدمج، ويذكر الكاتب طريقة تدعى قاعدة “غريغوري” والمسماة أيضا قاعدة المواجهة، وهي احترام الصناع اتجاه الرق في صنع الملزمة، فلكي تدار بسلاسة يجب أن تحترم مكان العمود الفقري للحيوان المستعمل جلده لصناعة الورقة، وإن خولف ذلك الاتجاه يصعب طي الورقة .

كما يبحث الكاتب في أنماط ترقيم الملازم وتاريخ تطور الترقيم، فقد كانت تكتب حروف متوالية بترتيب معين ليضمن التسلسل الترقيمي، ثم بعد ذلك الترقيم أو وضع حرف وبجانبه رقم مثلاD1 D2 D3 … . ويخلص الكاتب بعد إبرازه جل عمليات الترقيم والملزمة إلى القول إن عالم المخطوطات عليه أن يحدد بأقصى الوضوح الظواهر – العادية أو الشاذة – المرتبطة بصناعة الكتاب.

3 – الخزم :

الخزم هي علامات أو ثقوب صغيرة موضوعة في نهاية السطور، وتستعمل في توجيه تركيب صفحات النص الذي كتبه الناسخ، فهذه الثقوب أو العلامات كانت تستعمل أضواء لرسم الخطوط المستقيمة التي تحيط بالمساحة المكتوبة، وكانت تصنع هذه العلامات بآلة معدنية ثاقبة، ويمكن أن تثقب مجموعة من الصحائف في الوقت عينه. كما ان هناك أنوعا عديدة من الخزم، فهناك خزم التجليد الذي يوجه عمل خياطة التجليد، وهناك خزم التسطير ووظيفته أن يحدد بالضبط موضع النص من الصفحة وأن يحدد المساحة المكتوبة. ويستطرد الكاتب هنا أيضا في تتبع جميع مراحل وأنواع الخزم التي كانت تستعمل في العصور الوسطى.

4 – التسطير:

يتكون التسطير من مجموع الخطوط المستقيمة العمودية أو الافقية التي تمكن الناسخ و المزخرف من أن يرتب نصه او زخرفته وفق نظام دقيق، وهو مجموع الخطوط المرسومة على الصفحة لتحديد المساحة المكتوبة وينجز بأداة تسمى المنحت. ويستعمل لذلك الرصاص أو الفضة، وكيفما كانت الأداة المستعملة في التسطير فإنها تظل مستترة ولا تعوق قراءة النص.

وتكمن مهمة عالم المخطوطات في وصفه لطرق التسطير والتنبيه على الألوان المستعملة في ذلك والمنحت والمداد …الخ. كما يورد الكاتب نماذج مصورة للتسطير ويشرحها بتفصيل. ويوصي علماء المخطوطات أن يعدوا جذاذات التسطير تضم كل تفاصيله والمعلومات المأخوذة من مخطوطة معينة.

5 – نسخ النصوص :

بعد أن يتم اختيار مادة الكتابة وتحديد نوع الملازم وإنجاز تركيب الصفحات، تأتي مرحلة نسخ النصوص في صناعة الكراس أو المخطوط الوسطي. كانت عمليات النسخ غالبا ما تتم في أماكن يتوفر فيها الصمت والهدوء مثل الأديرة، حيث يعمل الناسخ بعيدا عن الضجيج الذي قد يربكه ويوقعه في الأخطاء، وطريقة النسخ إما تتم مباشرة عبر النقل من الكتاب الأصلي إلى النسخة، أو تتم عن طريق الإملاء، ويمكن أن يكون مجموعة من النساخ ينسخون بطريقة متزامنة في نفس المخطوط. ويستعمل في النسخ القلم أو الريشة، وفي أغلب الأحيان كانت تؤخذ الريشة من ريش الإوز البري، فيتم شق رأسها إلى اثنين لتيسير جريانه على مادة الكتابة .

ويستعمل في النسخ مداد داكن اللون يصنع من العفص أو من سلفات الحديد مرققا في سائل حامض من الخل مثلا او يستعملون الصمغ العربي كمداد.

وقبل أن يشرع الناسخ في النسخ، يجب عليه أن يختار نوع وحجم الصحائف التي سيكتب عليها، فيختارها حسب وجهتها، أي إن كان موجها إلى الأمير مثلا فيجب أن يكون غلافه ملوكيا، وسيختار له رقا جيدا وأبيضا ناصعا، وإذا كان الكتاب سيقرأ في المكتبات العامة مثل الكتاب المقدس فإنه يكون أكبر حجما وأكثر متانة، ويكون صغيرا إذا كان مخطوطا في الشعر ليسهل حمله دون عناء.

وكان النساخ يدونون أحيانا إشارات تحدد زمن النسخ أو الثمن الضروري لإنجازه، وقد تبين هذه الإشارات كيف يتم نشاط النساخ في العصر الوسيط.

-6 الزخرفة :

بعد المرور بكل المراحل المذكورة لإعداد المخطوط تأتي مرحلة الزخرفة، غير أنه لم تكن كل المخطوطات مزخرفة، فقد كانت الزخرفة تعتبر من كماليات المخطوطات. لكن هذا لا يعني أن علم المخطوطات يهتم بالمظاهر الفنية للمخطوط، فهذا من اختصاص مؤرخ الفن، فهو الذي يهتم بتحليل القيم الفنية للزخرفة التي عرفها العصر الوسيط. فعالم المخطوطات يبحث أو يدرس تقنيات إنجاز الزخارف وكل المظاهر المرتبطة بالرسم التي تسمح بتأريخ أو ضبط مكان السفر. و أيضا تقييد المعطيات الشاذة، وكل خصوصيات الزخرفة التي يمكن أن تظهر أصل مخطوط معين وشروط انجازه.

وتضم زخرفة المخطوطات رسم الحروف الأولى للصفحات وتزويقها والتي كانت تكتب على أرضية ملونة سواء بماء الذهب أو الفضة. كما نجد رسومات لمشاهد أو أشكال. واستطرد الكاتب في وصف عمليات الإعداد للزخرفة واصفا الأدوات المستعملة وطريقة خلطها والشروع في الزخرفة.

7- التسفير :

يعتبر التسفير آخر عملية من عمليات إنجاز المخطوط في العصر الوسيط، وهو عملية جمع مختلف الملازم وحفظ كل الصحائف المشكلة بواسطة دفتين صلبتين. وذلك لمواجهة الأضرار التي تصيب المخطوطات. لذا يجب على عالم المخطوطات الانتباه إلى تفاصيل عملية التسفير وتدوين الدلائل المادية التي تفيد في معرفة تاريخ المخطوط ومكان تسفيره، كما يعرف إن كان الكتاب قد أعيد تسفيره مرة ثانية بعد ضياع الغلاف الأول، فمثلا الملاحظة الدقيقة تفيد في معرفة إن كان مخطوط ما من القرن 9 م قد أعيد تسفيره بغلاف من القرن 17م وذلك بملاحظة تقنيات التسفير.

وكان الغلاف يصنع من جلد الخنزير غالبا ويرمم بالخشب لكي يحفظ من الاحتكاك الذي قد يفسده، وتتم معرفة ذلك ببقايا الخشب أو المسامير والمشابك وكذلك أركان المخطوط الخارجية. كما يمكن أن تستعمل ألواح مصنوعة من صفائح العاج أو المعدن المنقوش. وقد يجد الباحث في الغلاف أسماء بعض المجلدين في حواشي الغلاف، ويقول الكاتب أن بعد المسفرين يستحقون الترجمة لسيرتهم والتعريف بهم.

ويقول  الكاتب  انه على عالم المخطوطات أن يتأكد من الترتيب الجيد لتسفير المخطوط سواء كان قديما أم حديثا، فربما قد يكتشف الباحث بعض معطيات الصنع الأصلية مثل التذهيب أو نقش الحوافي أو إهمال خياطة الملازم، ويجب عليه أن يفحص الواقيات في تيقظ، ويقول الكاتب أن هذه الأخيرة غالبا ما تحمل معلومات تاريخية مفيدة، لأن قطع التقوية عادة ما كانت تقطع في شكل صفحات زائدة مأخوذة من كتب ضائعة نهائيا.

ويختم الكاتب بحثه بقوله إن عالم المخطوطات يريد أن يثبت أن الكتاب الوسيطي يشكل موضوعا أثريا لا يتطابق مع النص الذي يحمله، ولكنه يمكن أن يساعد على ضبط اثر معين، وتاريخه، ودراسة نشأته وإعادة رسم تاريخه.

وهكذا يمكن القول إن علم المخطوطات يصبح سندا أساسيا في ممارسة النقد الخارجي أو النقد التوثيقي. فهو يجيب على الأسئلة المتعلقة بأصول الوثيقة التي يدرسها الفيلولوجي أو المؤرخ. ويساعد على تحديد التاريخ (وحتى المحْتَرف) الذي ظهرت فيه الوثيقة. وتمكن المعلومات التاريخية التي يقدمها عالم المخطوطات باحث اليوم من أن يقف على المسالك التي مرت عبرها الوثيقة قبل أن تصل إلينا، وذلك عبر التحليل الدقيق للتجليد وللدفة الواقية والتقاييد المتنوعة.

هكذا ننتهي إلى أن جاك لومير Jacques Lemaire قدم في هذا الكتاب مدخلا إلى علم المخطوطات أو الكوديكولوجيا la codicologie ويميزه عن العلوم الأخرى المهتمة هي أيضا بالمخطوطات والتي قد تتقاطع مع علم المخطوطات. ويفيد هذا العلم مرممي المخطوطات، فهو يبين لهم كل الجوانب المادية للمخطوط، مما يسهل عليهم تعويض المواد المفقودة أو المتلفة ويبين لهم الأدوات التي صنعت بها ومنها. كما يقدم للمحقق أيضا معلومات عن المخطوط الذي أمامه ويحيطه بالجوانب المادية التي قد لا يجد الوقت للإهتمام بها، أو قد لا تكون له الدراية الكافية للتعمق فيها. وكذلك يفيد المؤرخ بشكل كبير للتعرف على مخطوطات أهمل أو أغفل ذكر تاريخها ومنطقتها أو صاحبها.

قراءة: مراد لمخنتر

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق