مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

في معرفة الضعفاء

يقول الإمام الحافظ تقي الدين ابن دقيق العيد (ت702هـ) مُبيناً

أسباب الجرح وضوابطه:

وهو من الأَسباب والعلوم الضرورية في هذا الفَن؛ إذ به يزولُ ما لا يُحتجّ به من الأحاديث.

وقد اختلف الناس في أسباب الجرح، ولأجل ذلك قال من قال: إنه لا يُقبَل إلا مفَسَّرا، وقد عقد الحافظ الإمام أبو بكر الخطيب بابا فيمن جَرَح فاستُفسِر فذكر ما ليس بجرح هذا أو معناه، وفي بعض ما يذكر في هذا ما يمكن توجيهه.

وهذا الباب تدخل فيه الآفة من وجوه:

أحدها: وهو شرها: الكلام بسبب الهوى والغرض والتحامل، وهذا مجانب لأهل الدين وطرائقهم، وهذا وإن كان تنزه عنه المتقدمون لتوفر أديانهم فقد تأخر أقوام ووضعوا تواريخ ربما وقع فيها شيء من ذلك، على أن الفلتات من الأنفس لا يُدَّعى العصمة منه، فإنه ربما حدث غضب لمن هو من أهل التقوى فبدرت منه بادرة لفظ.

وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر الحافظ أمورا كثيرة عن أقوام من المتقدمين وغيرهم حكم بأنه لا يلتفت إليها، وحمل بعضَها على أنها خرجت عن غضب وحرج من قائلها هذا أو قريب منه. ومن رأيه أن من اشتهر بحمل العلم فلا يقبل فيه جرح إلا ببيان هذا أو معناه.

وثانيها: المخالفة في العقائد فإنها أوجبت تكفير الناس بعضهم لبعض أوتبديعهم، وأوجبت عصبية اعتقدوها دينا يتدينون به ويتقربون به إلى الله تعالى، ونشأ من ذلك الطعن بالتكفير أو التبديع، وهذا موجود كثيرا في الطبقة المتوسطة من المتقدمين.

   والذي تقرر عندنا أنه لا تعتبر المذاهب في الرواية إذ لا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة، فإذا اعتقدنا ذلك وانضم إليه التقوى والورع والضبط والخوف من الله تعالى فقد حصل مُعتمَدُ الرواية، وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه فيما حُكي عنه حيث يقول: “أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الروافض”، وعلة ذلك أنهم يرون جواز الكذب لنُصرة مذهبهم. ونقل ذلك أيضا عن بعض الكرّامية.

نعم ههنا نظر في أمرين:

   أحدهما: أنه هل تقبل رواية المبتدع فيما يؤيد به مذهبه أم لا؟ هذا محل نظر، فمن يرى رد الشهادة بالتهمة فيجيء على مذهبه أن لا يقبل ذلك.

   الثاني: أنا نرى أن من كان داعية لمذهبه المبتدَع متعصبا له متجاهرا بباطله أن تترك الرواية عنه إهانةً له وإخمادا لبدعته، فإن تعظيم المبتدِع تنويه لمذهبه به، اللهم إلا أن يكون ذلك الحديث غير موجود لنا إلا من جهته، فحينئد تقدم مصلحة حفظ الحديث على مصلحة إهانة المبتدِع.

    ومن هذا الوجه – أعني وجه الكلام بسبب المذاهب- يجب أن تُتَفقد مذاهب الجارحين والمزكين مع مذاهب من تكلموا فيه، فإن رأيتها مختلفة فتوقف عن قبول الجرح غاية التوقف حتى يتبين وجهه بيانا لا شبهة فيه. وما كان مطلقا أو غير مفسَّر فلا يجرح به. فإن كان المجروح موثقا من جهة أخرى فلا تحفلن بالجرح المُبهَم ممن خالفه، وإن كان غير موثق فلا تحكُمن بجرحه ولا بتعديله، فاعتبر ما قلت لك في هؤلاء المختلفين كائنا من كانوا.

وثالثها: الاختلاف الواقع بين المتصوفة وأصحاب العلوم الظاهرة؛ فقد وقع بينهم تنافر أوجب كلام بعضهم في بعض، وهذه غمرة لا يخلص منها إلا العالم الوافي بشواهد الشريعة.

ولا أحصر ذلك في العلم بالفروع المذهبية، فإن كثيرا من أحوال المحققين من الصوفية لا يفي بتمييز حقه من باطله علم الفروع، بل لا بد مع ذلك  من معرفة القواعد الأصولية، والتمييز بين الواجب والجائز والمستحيل العقلي والمستحيل العادي، فقد يكون المتميز في الفقه جاهلا بذلك حتى يعد المستحيلَ عادةً مستحيلا عقلا.

وهذا المقام خطر شديد فإن القادح في المحق من الصوفية معادٍ لأولياء الله تعالى، وقد قال فيما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم[1]:  “من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة”.

والتارك لإنكار الباطل مما يسمعه عن بعضهم تارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عاص لله تعالى بذلك، فإن لم ينكر بقلبه فقد دخل تحت قوله عليه السلام[2]:  “وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”.

ورابعها: الكلام بسبب الجهل بالعلوم ومراتبها، والحق والباطل منها، وهذا محتاج إليه في المتأخرين أكثر مما يحتاج إليه في المتقدمين، وذلك لأن الناس انتشرت بينهم أنواع من العلوم المتقدمة والمتأخرة حتى علوم الأوائل.

وقد علم أن علوم الأوائل قد انقسمت إلى حق وباطل، ومن الحق علم الحساب والهندسة والطب، ومن الباطل ما يقولونه في الطبيعيات وكثير من الإلهيات وأحكام النجوم، وقد تحدث في هذه الأمور أقوام.

ويحتاج القادح بسبب ذلك إلى أن يكون مميزا بين الحق والباطل لئلا يُكَفِّر من ليس بكافر، أو يقبل رواية الكافر، والمتقدمون قد استراحوا من هذا الوجه لعدم شيوع هذه الأمور في زمانهم.

وخامسها: الخلل الواقع بسبب عدم الورع والأخد بالتوهم والقرائن التي قد تتخلف، فمن فعل ذلك فقد دخل تحت قوله عليه السلام: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث”.[أخرجه البخاري في صحيحه:كتاب الوصايا:باب قول الله عز وجل: ﴿ من بعد وصية توصون بها أو دين ﴾].

وهذا ضرره عظيم فيما إذا كان الجارح معروفا بالعلم وكان قليل التقوى، فإن علمه يقتضي أن يجعل أهلا لسماع قوله وجرحه، فيقع الخلل بسبب قلة ورعه وأخده بالوهم.

ولقد رأيت رجلا لا يختلف أهل عصرنا في سماع قوله إن جَرَحَ، ذَكر له إنسان أنه سمع من شيخ فقال له: أين سمعت منه؟ فقال له: بمكة أو قريبا من هذا وقد كان جاء إلى مصر يعني في طريقه للحج فأنكر ذلك وقال: ذاك صاحبي لو جاء إلى مصر لاجتمعَ بي، أو كما قال. فانظر إلى هذا التعلق  بهذا الوهم البعيد والخيال الضعيف فيما أنكره.

ولصعوبة اجتماع هذه الشرائط عَظُم الخطر في الكلام في الرجال لقلة اجتماع هذه الأمور في المزكين، ولذلك قلت: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام.

الاقتراح في بيان الاصطلاح ص: 55-59.

الطبعة الأولى

1427هـ/2006م

شركة دار المشاريع

بيروت/لبنان 

الهوامش:


[1] “أخرجه البخاري في صحيحه:كتاب الرقاق:باب التواضع بلفظ:”من عادى لي وليا فقد ءاذنته بالحرب”الحديث،قال الحافظ ابن حجر في الفتح 11/287 ما نصه:في رواية الكشميهني:”فقد ءاذنته بحرب”اهـ،،ثم قال:وفي حديث معاذ”فقد بارز الله بالمحاربة” وفي حديث أبي أمامة وأنس:”فقد بارزني”اهـ

[2] أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه:كتاب الإيمان:باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق