مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمعالم

الحركة العلمية بالقرويين على عهد المولى إسماعيل

ظلت جامعة القرويين عنصرا من العناصر الأساسية التي أطرت المجتمع المغربي، وشخصت جسده، وشكلت سماكه الرافع لبنيانه، فكانت مصهرا للإنسان، ومصدرا لإشعاع الثقافة، ومركزا لغليان الأفكار.

وغدت إحدى المقومات الراسخة في المشهد العلمي المغربي عبر التاريخ، تماهيا مع هالتها الفكرية وسمتها العلمي، واضطلاعها بالمهمة التثقيفية التي تنسج خيوط العقلية المعرفية.

وقد شهدت القرويين عبر وجودها ازدهار كثير من العلوم النقلية والعقلية، وحفلت بالعديد من الكراسي العلمية المتخصصة في شتى مشارب المعرفة، وحظيت بإقبال طلاب التحصيل العلمي من كل ربوع البلاد.

وإبان العهد الإسماعيلي انبجست نهضة علمية بالجامع، أغنت الخزانة المغربية برصيد لا يستهان به من المصنفات، تنبئ عن تبلور الإنتاج المعرفي، من علوم شرعية، وتراجم وفهارس، وطب وهندسة وأدب ورحلات وما شاكلها. وسجلت الفترة بروز أسماء لامعة من عيار: محمد بن أحمد ميارة، ومحمد المرابط الدلائي، وأبو سالم العياشي، والحسن بن مسعود اليوسي، وعبد القادر بن علي الفاسي، والمسناوي الدلائي.

ويمكن رصد الحركة العلمية في الفترة الإسماعيلية، على مستويين:

– مستوى الإسهام الرسمي مجسدا في السلطان إسماعيل،

– وعلى مستوى دينامية الهيئة العلمية.

1-الإسهام السلطاني في الحركة العلمية: 

   تضمنت كتب التاريخ والتراجم، صورا عن الرعاية التي أولاها العلويون للحركة العلمية ورجالها بفاس، نظرا لما تمثله شريحة العلماء والفقهاء من ثقل اجتماعي ناجم عن دورهم الملموس في تشكيل الذهنية والعقلية الجمعية، وفي تحديد مسارات الرؤى الموجهة للرأي العام، مما يدل على شدة تمفصلهم مع الأدوار والعلاقات المجتمعية.

   ورغم أن السلطان إسماعيل قد طغت لديه الشخصية العسكرية، تجاوبا مع أولويات المرحلة من توحيد للبلاد واسترداد للثغور، إلا أنه لم يغفل هذا الجهاز العلمي المهم الذي تعتمده الدولة لتكوين مختلف أطرها السياسية والقضائية والتوجيهية، لذلك نجده يلتفت لجامع القرويين لمكانته الثقافية، فإذا كانت مكناس كرسي المملكة السياسي، فقد كانت فاس كرسي المملكة العلمي، وتبدى الاهتمام السلطاني على صعيدين : الصعيد التنظيمي والصعيد العلمي.

   ففي الجانب التنظيمي عمل المولى إسماعيل على تفقد الأوقاف المتعلقة بالقرويين وضبط جباياتها وتنمية أموالها، لتوفير سيولة مالية كافية لتغطية نفقاتها. وهذا نظير ما ورد في إحدى الحوالات الإسماعيلية:

 “فرفع اعتناءه وجميل خصاله وكريم خلاله إلى ترفيعها وتجبلها بتفقد جباياتها وتنمية أموالها، وخصوصا جامع القرويين شرفه بدوام الذكر فيه، فرأى سدده الله… أن يوجه إليها من يلم شعثها ويضم متفرقها، من عرف بالصفا، وسار في الأحباس بسيرة الوفا، فعين لذلك خديم المقام العالي بالله، الناظر المبجل، الذكي الأنبل، السيد الحاج سيدي عبد الوهاب حجاج..”[1].

  ويعقب المؤرخ عبد الهادي التازي في كتابه : “القرويين”، على هذا النص، قائلا: “لقد كان رأيه أن يضم الأوقاف بعضها إلى بعض ويجعلها جميعها إلى ناظر واحد، ليجنبها استئثار بعض الأفراد بالوقف وادعائهم ملكيته، وقصر الأوقاف على أساسين: الأول يخص جامع القرويين والعلماء والطلبة والسير المادي للجامعة من حيث الإنارة والسقي والفرش، والثاني لأعمال البر”[2].

لقد سهر المولى إسماعيل على ترتيب خزانة القرويين وأهدى إليها الكتب التي كان يجمع الخطاطين لنسخها، ووضع للمخطوطات فهارس، منها ما يتعلق بكتب التفسير والقراءات وكتب الحديث والتصوف، والفقه والتاريخ وعلم الكلام والمنطق والأصول والتوقيت والحساب والطب.

وقد ورد بعد لائحة المخطوطات المسجلة في الفهرس الإسماعيلي، هذه الوثيقة: ” الحمد لله، جملة ما سطر من الكتب العلمية على اختلاف فنونها بهذه الورقة، وبالإحدى وعشرين ورقة قبل هذه، متوالية في ثمانمائة رسم وتسعة وثمانين رسما: أولها المصحف الكبير، وآخرها كتب ابن الخطيب في الطب، الكتب المعروفة والمنسوبة والمحوزة لجانب الخزانة العلمية الأحمدية بقبلي القرويين الموقوفة هناك للانتفاع بها بالمطالعة والمراجعة، وردها لمحلها بعد قضاء الغرض منها على حسب ما ألفي من ذلك بعد الاستقصاء والاستقراء، ومراجعة الزمامات وتتبعها واستحصال ما بها، أوائل ذي الحجة الحرام من العام الخامس عشر بعد الألف” [3].

وعلى الصعيد الفكري حرص السلطان إسماعيل على تجديد الإشعاع العلمي للقرويين، عقب الوقائع التي شهدها مغرب القرن الحادي عشر الهجري / السابع عشر الميلادي، من أفول نجم الدولة السعدية وقيام الدولة العلوية، وما تخلل ذلك من تشرذم سياسي، صاحبه غياب جزئي أو كلي للأمن والاستقرار، الأمر الذي ساعد على تعطيل المد الثقافي.

يذكر القادري في كتابه ” نشر المثاني”، أثناء الترجمة للسلطان إسماعيل: “وجدد الناس لأيام العلوم عهدا، فكانت أسواق العلم في خلافته عامرة، ونجوم أفلاكه نيرة زاهرة.”[4]

وهو نفس ما قاله الضعيف الرباطي، في كتابه عن تاريخ الدولة العلوية: “وجدد الناس في أيامه للعلوم عهدا.. وقام فيه كثير من الناس بالعلم والدين أتم قيام”[5].

وقد وجه المولى إسماعيل رسالة إلى علماء فاس والأوربيين قصد استنهاض هممهم للحفاظ على الدور الطلائعي للجامعة في شتى أنحاء البلاد، مع استشعار أهمية العلم في حياة الأمم والشعوب.

أورد عبد الرحمان ابن زيدان في كتابه ” المنزع اللطيف، نص الرسالة التي نقتطع منها قول السلطان: ” فانتم عالمون ما ورد في فضل التعلم والتعليم… وقد جعلكم الله نظاما لهذا الدين القويم … وجعل ما أنعم به عليكم من العلم غير قاصر على أنفسكم، فأجرى النفع لعامة المسلمين وخاصتهم، كبيرهم وصغيرهم، شريفهم ومشروفهم، وصار بكم ليل الجهل نهارا، وصرتم شموسا يستضاء بها وأقمارا “[6].

وقوله : ” فإنني أعلم أن الملوك حكام على الدنيا والعلماء حكام على الملوك، وأعلم أن العالم في الأرض كالنجم في السماء، من ترك العالم ضل، ومن غاب عنه النجم تحير، وأن العالم كالسراج من جاء اقتبس من نوره ولا ينقص من علمه شيء، وأعلم بأن بالعلم ساد من ساد، وانتظمت مصالح الدين والدنيا” [7].

وقوله أيضا : ” وبلغني أنه حصل منكم تقصير في التعليم حتى كاد أن يضيع العلم من فاس وهي أم مدن المغرب فيكون في غيرها أضيع، فنأمركم أن ترجعوا لما كنتم عليه من الاجتهاد ونفع الحاضر والباد… وستعمكم منا عطايا تعم المعلم والمتعلم متبوعة بغيرها” [8].

هذا الخطاب السلطاني أبرز المكانة التي تسنمها علماء القرويين، على اعتبار أنهم معيارية علمية تقاس بها درجات الصعود والتراجع العلمي المغربي، مما يحتم تفانيهم في المهام الفكرية المنوطة بهم مثل التنظير والاستنباط والتشريع، مقابل تقديم تحفيزات مادية حيث تجرى الرواتب من بيت المال، لتكفيهم مؤونة الانشغالات المعيشية، والتفرغ للعلم والمعرفة[9].

كما يوحي الخطاب بأن على علماء القرويين أن يعتبروا أنفسهم وقفا على كل أراضي المغرب[10].

وهو ما تحقق فعلا في ظل انبساط الأمن في الزمن الإسماعيلي، حيث تحولت القرويين إلى جامعة متحركة، يحل علماؤها بمكناس ومراكش وبقية الحواضر والبوادي، في إطار مهام علمية، مما عزز لحمة التواصل مع باقي المراكز ذات الصبغة الثقافية مثل الزاوية الناصرية التي تولت نشر المعرفة بالربوع السوسية والجنوب عموما، والزاوية الشرقاوية ناحية تادلا التي خلفت زاوية الدلاء في مهمتها التعليمية.

وهذا الاهتمام الإسماعيلي بالقرويين، كان له أثره في ابتعاث عناصر النهضة ومقومات التطور، الهادفة إلى الإبقاء على ريادة الجامعة الفاسية.

2-دينامية الهيئة العلمية:

نستشف من خلال المسار الثقافي لجامع القرويين، وما تخلله من تطورات شابت الحياة الفكرية، جراء الوضع السياسي الذي يترك بصماته على العطاء الفكري، مدى جزالة العطاءات العلمية، وحفاظ الجامع على مكانته كنبراس للعلم، حتى في أحلك الظروف السياسية، حيث تشع جنباته بأنوار العلوم، من حديث وفقه وفرائض وأصول ورواية ونحو وأدب وبيان، وعلم كلام ومنطق، وقراءات وتفسير، وعقائد، وتاريخ وطب وهندسة… وتعج رحابه بالعلماء والمحدثين والفقهاء والأدباء والشعراء، ورجال الفكر، ونبهاء العلوم والفنون.

وخلال العهد الإسماعيلي طعم فضاؤه بأعلام وأقطاب الدلاء، الذين نقلوا إلى فاس عقب انهيار الزاوية الدلائية.

فشكلوا إمكانا بشريا وقيمة مضافة للرصيد المعرفي للجامع، وسرعان ما تصدر هؤلاء العلماء كراسي التدريس، ونافسوا منافسة قوية علماء الحاضرة الإدريسية[انظر عبد العزيز بنعبد الله: معطيات الحضارة المغربية، الجزء الأول، ص: 71.]، ومنحوا بذلك نفسا جديدا للقرويين، مما أسهم في انبثاق دينامية علمية متعددة الأبعاد، قوامها أطر ذات قدرات وكفاءات معرفية متنوعة. ومن تجليات هذه الدينامية: الإسهام المعرفي والتعاطي السياسي.

حافظ الجامع على مكانته كنبراس للعلم، حتى في أحلك الظروف السياسية، حيث شعت جنباته بأنوار العلوم

الإسهام المعرفي:

تحددت معالم التعاطي الفكري خلال هاته الفترة، في ظل توحد مناهج التدريس في القرويين وغيرها من الجوامع، وتوحد أساليب البحث وطرق التصنيف، انسجاما مع النهل من نفس النبع، حيث علماء القرويين ينتجعون الشرق لإتمام المعارف والمزيد من التحصيل، وتبادل الإجازات والخبرات.

والمعطيات حول تطور الحقل المعرفي تؤكد على غزارة الإنتاج المكتوب، وعلى ظاهرة التنوع في مجالات التأليف.

وتراوحت الحصيلة الإنتاجية بين الكتب الفقهية كالدر الثمين لميارة، وكتب الرحلات كمحاضرات اليوسي والرحلة العياشية، وكتب التراجم والمناقب كالدرر المرصعة، ومرآة المحاسن، ونشر المثاني، والأراجيز كالأقنوم، وكتب أدبية، وشروح وحواشي، وكتب طب وفلك وهندسة وغيرها[11]، وقد شمل التأليف كل المواد المدرسة بجامع القرويين.

مما يعطي انطباعا عن أن الجهاز الفكري المغربي شكل فسيفساء معرفية، عكست اهتمامات وأولويات علماء هذا العهد.

وإلى جانب الوفرة نجد التنوع، فالمؤلف الواحد يكتب في الفقه والتاريخ والطب والتصوف والتراجم والآداب وغيرها[12].

وهو ما يبينه عبد الرحمان ابن زيدان في كتابه : ” معجم طبقات المؤلفين على عهد دولة العلويين”[13] وتعزى هذه الدينامية العلمية فيما يتعلق بالإكثار من التصنيف وتعدد مجالاته، إلى مؤهلات الهيئة العلمية، التي شغلت كراسي جامع القرويين.

ففي ترجمة محمد بن أحمد الفاسي، يذكر عبد الله الفاسي في كتابه “الإعلام بمن غبر” : “الفقيه الخطيب البارع الجامع لما تشتت من درر الفنون اللوامع، القاضي الأعدل المشارك الأفضل… استوطن فاس، فانتفعنا به وانتفع به خلق كثير ودرس في سائر العلوم، وكان حفظه مما يبهر العقول… إمام معتبر في المعقول والمنقول، محدث نحوي، لغوي، بياني منطقي، أصولي، بارع في جميع ذلك، فصيح العبارة رائق الإشارة”[14].

وفي ترجمة محمد المسناوي الدلائي، يقول القادري في نشر المثاني: “الإمام الكبير، العلامة الشهير، الحافظ المتقن الدراكة المشارك المتفنن… تاج الكراسي والمنابر، وعين أعيان المشايخ الأكابر، شيخ الجماعة… كان صاحب الترجمة آية في العلوم…. وقد أعطي ملكة التدريس والفتيا، …. تتلمذ له جميع أهل عصره، وانفرد برئاسة التدريس… محقق كبير، فقيه محدث أصولي بياني، مفسر، أديب مؤرخ عالم بالأنساب، صوفي، آخر النظار بفاس…”[15]

ويحلي عبد الله الفاسي، ” في الإعلام بمن غبر”، عبد الرحمان بن القاضي بقوله:” الأستاذ الحافظ الراوية المقرئ المجود الفقيه… كان .. من الأساتيذ المبرزين في علوم القراءات، وممن يعول عليه في أحكامها ومعرفة توجيهاتها، وحفظ مذاهب أئمتها وترجيحاتها، وإليه يرجع طلبة العلم في ذلك، وبه يقتدون في تلك المسالك، فلا تجد أستاذا في المغرب إلا وقد روى عنه أو عن تلامذته، وله مصنفات في القراءات مشهورة وأبيات شتى في مسائل علمية… وله أجوبة نظما ونثرا في علم الرسم والضبط”[16].

إلى جانب تمتع علماء القرويين بهذه الملكات المعرفية، تعاطى معظمهم لفن الكتابة تماشيا مع غوصهم في بحار معارف عصرهم، وأخذهم بنصيب وافر من ضروب العلوم المتداولة آنذاك، ومن عينة هؤلاء الأعلام، نجد أبا سالم عبد الله العياشي والحسن بن مسعود اليوسي وعبد الرحمان بن عبد القادر الفاسي ومحمد بن عبد القادر الفاسي.

وفي هذا المعنى يقول القادري، لدى ترجمته لعبد الرحمان بن عبد القادر الفاسي: “الإمام العالم العلامة الحافظ المشارك المقرئ أبو زيد عبد الرحمان ابن الشيخ عبد القادر الفاسي … اتسعت مشاركته في العلوم وشاعت براعته في المنظوم، أحد الأعلام الحفاظ.. كثير التقييد .. ومن تأليف صاحب الترجمة كتاب أزهار البستان في مناقب الشيخ عبد الرحمان، وشرح المرصد، ومفتاح الشفا في سفرين، وشرح الطالع المشرق في المنطق، والباهر في اختصار الأشباه والنظائر، وألفية سماها رعاية الوطر في علم السير، واللمعة في قراءة السبعة، والقطب الداني في البيان والمعاني، وشرحه، ونظم الصغرى، والمقدمة، وألف في الأصول وفي مصطلح الحديث، ومصطلح التفسير والفرائض والحساب والجدول والعروض والسياسة والأوفاق والسيميا وأسرار الحروف، والهندسة والتكسير، والتوقيت والأسطرلاب، وعلوم غريبة ومحفوظات نفيسة عجيبة”[17].

وفي ترجمة الحسن بن مسعود اليوسي، يقول القادري: “الإمام الكبير، المحقق الشهير، أعجوبة الدهر، ونادرة العصر… كان صاحب الترجمة عالما ماهرا في العلوم والمعارف”[18]. ثم يقول: “ولصاحب الترجمة مؤلفات منها: “زهر الأكم في الأمثال والحكم، وله حاشية جليلة على مختصر الشيخ السنوسي في المنطق، وشرحه، وله تأليف في الهيللة .. وكتاب المحاضرات، وديوان في الشعر، وحاشية على شرح الكبرى، والقانون في ابتداء العلوم، وشرح على قصيدة الدالية، وشرح على جمع الجوامع سماه الكوكب الساطع، وحاشية على تلخيص المفتاح، وتقييد في قضية العكاكزة”[19].

وفي ترجمة أبي سالم العياشي يذكر عبد الله الفاسي في مصنفه “الإعلام بمن غبر” : “الفقيه المشارك الراوية، الرحلة، الأديب الأريب… قرأ بفاس الحديث والمنطق والأصلين والبيان وغير ذلك من علوم اللسان والأديان، … وسكن مدة بفاس ودرس بها وأخذ عنه جماعة، وله تآليف حسنة ونظم، ورحلته المسماة “بماء الموائد”، وتأليفه المسمى “باقتفاء الأثر” … وله ” تحفة الأخلاء بأسانيد الأجلاء”، ومنظومة في البيوع وشرحها، وتنبيه ذوي الهمم العالية على الزهد في الدار الفانية”، وتأليف في ” معاني لو الشرطية”، وكتاب الحكم بالعدل والإنصاف الرافع للخلاف فيما وقع بين فقهاء سجلماسة من الاختلاف”، وغير ذلك مما لم أقف عليه” [20].

الإسهام السياسي:

شكل علماء القرويين أحد أسس الحياة السياسية، فقد كانت السلطة الروحية لأهل العلم مواكبة لسلطة المولى إسماعيل في مواقع صناعة القرار السياسي، فأهم القرارات والقوانين يكون لهم فعل الحسم فيها، بحيث تصبح منطلقا لتحقيق أهداف الدولة.

فالقضايا الحساسة والشائكة التي تؤرق السلطان، يسند أمر دراستها والبث فيها إلى العلماء، فيقولون بما يرونه ويجمعون عليه اعتمادا على تعاليم الشرع[21]، وذلك حتى تبقى الممارسة السياسية على وفاق مع محيطها الثقافي والنفسي والاجتماعي دون الإخلال بالأساس الشرعي والعقدي.

ونظير هذا المحاورات التي نشأت بين المولى إسماعيل ومشايخ جامعة القرويين حول قضية تمليك العبيد، فأولوية السلطان تكمن في تكوين جيش قوي له إمكانية الحفاظ على الأمن وصد الغزو الخارجي للسواحل المغربية، ويطمح في الوقت ذاته إلى الحصول على موافقة العلماء على الطرق المنتهجة في تشكيل الجيش[22].

فنجده في رسالة مؤرخة بـ : 25 ذي الحجة عام ثمانية ومائة وألف، موجهة إلى محمد بن عبد القادر الفاسي يقول: ” محبنا في ذات الله العلامة الأجل الخير البركة السيد محمد بن الشيخ البركة السيد عبد القادر الفاسي، … أما بعد فلا يخفى على كريم علمكم.. ما أقامنا الله فيه من هذا المنصب… وقد علمتم حفظكم الله أن هذا الأمر لابد له من ناموس يحفظه.. وهو اتخاذ الجند… والوصفان من النجدة والحزم والقابلية والصبر ما ليس في غيرهم من الأحرار… اقتنينا منهم جندا … فأفتونا بفتوى تبيح ترك اقتناء الجند واتخاذه رأسا …”[23]

ويثمن هذا الحضور السياسي لرجال القرويين تقريب صفوة من العلماء وجعلهم بمثابة مستشارين يتدارس معهم السلطان شؤون دولته، وهو ما تؤكده اللقاءات الثنائية التي كانت تعقد مع العالم محمد بن أحمد ميارة، والمراسلات التي جرت بين المولى إسماعيل والعالم الحسن اليوسي والعالم محمد بن عبد القادر الفاسي.

وعلى صعيد العلاقات الخارجية نجد السلطان يختار أحد علماء القرويين محمد الطيب بن محمد بن عبد القادر الفاسي، ليكون ضمن أعضاء السفارة التي وجهها لعقد صلح مع أتراك الجزائر، وضم الوفد نجل السلطان الأمير عبد الملك والكاتب أبا عبد الله الوزير الغساني وغيرهما من وجوه الدولة الإسماعيلية، وذلك في حدود 1103 هـ[24].

من خلال هذا الرصد لدينامية الهيئة العلمية تبرز أهمية جامع القرويين كمكون ثقافي ومحضن فكري، تسلم زمام العملية التعليمية والتعلمية، وسجل حضوره ضمن مفصليات الفعل التاريخي في مغرب السلطان إسماعيل الذي دعم الحركة العلمية أسلوبا وروحا وغاية.

الهوامش:


[1] -عبد الحق ابن المجذوب الحسني، الحالة الاجتماعية بفاس في القرن الثاني عشر الهجري من خلال الحوالة الإسماعيلية، الجزء الأول، ص: 170.

[2] -عبد الهادي التازي، جامع القرويين، الجزء الثالث، ص: 70.

[3] -التازي، جامع القرويين، الجزء الثالث، ص : 668.

[4] -محمد بن الطيب القادري، نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني الجزء الثالث، ص: 290. تحقيق : محمد حجي وأحمد توفيق.

[5] -محمد بن عبد السلام الضعيف، تاريخ، ص : 58، تحقيق أحمد العماري.

[6] -عبد الرحمان ابن زيدان، المنزع اللطيف في مفاخر المولى إسماعيل ابن الشريف، ص : 104-105، تحقيق عبد الهادي التازي.

[7] -ابن زيدان، المنزع اللطيف، ص : 105-106، تحقيق عبد الهادي التازي.

[8] -نفسه، ص : 106.

[9] -انظر، آسية الهاشمي، المجالس العلمية السلطانية، الجزء الأول، ص : 237.

وتذكر أن المولى إسماعيل كان يقطع العلماء إقطاعات قيمة، ويصدر لبعضهم ظهائر التوقير والاحترام، ويجددها لأبنائهم.

[10] -التازي، جامع القرويين، الجزء الثالث، ص : 717.

[11] -عبد العزيز بنعبد الله، معطيات الحضارة المغربية، الجزء الأول، ص : 70.

[12] -نفسه، ص : 76.

[13] -ابن زيدان، معجم طبقات المؤلفين على عهد دولة العلويين، تحقيق : حسن الوزاني.

[14] -عبد الله بن محمد الفاسي، الإعلام بمن غبر من أهل القرن الحادي عشر، ص : 237، تحقيق : فاطمة نافع.

[15] -القادري، نشر المثاني، الجزء الثالث، ص : 265 إلى 278.

[16] -عبد الله الفاسي، الإعلام بمن غبر، ص : 237.

[17] ـ القادري، نشر، الجزء الثاني، ص : 327.

[18] – نفسه، الجزء الثالث، ص : 25.

[19] – نفسه، الجزء الثالث، ص : 43.

[20] – الفاسي، المصدر السابق، ص : 264-265.

[21] – انظر، آسية الهاشمي، المجالس العلمية السلطانية، الجزء الأول، ص : 240.

[22] – انظر، التازي، المرجع السابق، المجلد الثالث، ص : 717-718.

[23] – مكاتبات المولى إسماعيل للبيت الفاسي، مجلة هسبريس تامودا، عدد 1962، ص : 47.

[24] – محمد العابد الفاسي، ناطح صخرة، ص : 47.

الدكتورة فاطمة نافع

-أستاذة بشعبة التاريخ ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ فاس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق