مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

عرض موقف بعض متكلمي الأشاعرة من الفلسفة والفلاسفة بالغرب الإسلامي برأي الدكتور حمو النقاري

 

في بحث سابق حاولت فيه تتبع مواقف المتكلمين الأشاعرة من الفلسفة والفلاسفة بالغرب الإسلامي، وقع اهتمامي بأحد أعلامهم وهو “أبو الحجاج يوسف المكلاتي” الذي عاصر ما بين مولده ووفاته (ولد حوالي سنة 550هـ، وتوفي سنة 626هـ) دولة الموحدين التي ظهرت في أعقاب سقوط دولة المرابطين في النصف الأول من القرن السادس الهجري.
 و”أبو الحجاج يوسف المكلاتي” متكلم مغربي أشعري من فترة الترسيم والترسيخ للمذهب الأشعري بهذه البلاد، وقد تتلمذ في الأصلين على كل من “ابن الكتاني” و”ابن نموي”، وإن لم تذكر المصادر القديمة من مؤلفاته سوى كتابه الذي عُرف به وهو كتاب «لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول»؛ وهو كتاب فلسفي كلامي بامتياز، أما غير ذلك فلم تفدنا المصادر التاريخية بشيء إلا ما قال صاحب «الذيل والتكملة»: (وله مقالات ومصنفات وجيزة ومتوسطة وأجوبة عن مسائل كان يسأل عنها في علم الكلام وأصول الفقه)[1] ، إلا أنه ومع ذلك يعد –المكلاتي – أحد أبرز علماء الكلام والفلسفة في الأندلس والمغرب العربي بعد “ابن حزم” (ت 456هـ) و”ابن رشد الحفيد” (ت595هـ).
وكتابه «لباب العقول»؛ مجموعة من الردود على الفلاسفة في مسائل العقيدة والأصول والفكر بصفة عامة، يشير فيه إلى كيفية الرد والنقض لأفكار وآراء الفلاسفة في التوحيد والوجود والزمان والذات والصفات وخلود النفس والعلم الإلهي، وموضوعات أخرى.. ويمكن إرجاع هذا النوع من الكتابات إلى ما قاله “ابن خلدون” في «المقدمة» حين حديثه عن تطور التأليف في مجال علم الكلام الإسلامي ونشوء ما اصطلح عليه بكتب الرد على الفلاسفة، ومن هنا يتبين أن مسمى الرد على الفلاسفة في علم الكلام هو نوع من هذه الفنون المتأخرة تطور مع علم الكلام المتأخر وبالأخص عند الأشعرية بعد تطور الدراسات الفلسفية وانفتاح المسلمين عليها وانتشار مقالاتها في الساحة الإسلامية. 
وقد بيَّن لنا “المكلاتي” في مقدمة كتابه سبب تأليفه لكتاب «اللباب» فقال: (سألتني أن أضع كتابا في الرد على الفلاسفة يكون فيه شفاء العليل المرتسم ريح العلم العقلي، وطمحت همته إلى شرف مرماه العلي. فأجبناك إلى مطلوبك وأسعفناك في مرغوبك، رجاء ثواب الله الجزيل.. وقصدنا فيه الرد على أرسطوطاليس ومن تبعه من فلاسفة المشائين، ولم نلتفت إلى الرواقيين لبيان فساد مذاهبهم ووضوح سقوط أدلتهم. فشننا على رؤساء الفلاسفة الغارة، وكلناهم على موجب اصطلاحاتهم وأغراضهم، فأنصفنا القارة وكشفنا بعون الله عن تلك المعايب، وخلصنا الصفو عن دنس الشوائب، وأتينا فيه بالغاية في الباب، وانتهينا فيه إلى غاية انتهاء الألباب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم..)[2].
ومن خلال تتبعي مواقف المتكلمين الأشاعرة من الفلسفة والفلاسفة بالغرب الإسلامي في دراسات سابقة، سأعرض في هذه المقالة لما فصَّله الدكتور “حمو النقاري” في أحد إصداراته الأخيرة ملخصا حسب ما يسمح به وقتها ومكانها.
إذ بيَّن د.”حمو النقاري” طريقة “المكلاتي” في معالجة هذه القضايا من خلال خيوط ناظمة وفق النقاط التالية: 
– وابتدأ هذه الطريقة أولا بالتعريف بكتاب المكلاتي «لباب العقول» بالقول: ( كتاب «لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول» لأبي الحجاج يوسف المكلاتي (ت626هـ) كتاب أشعري المنزع، يتوجه فيه صاحبه إلى قارئ مخصوص، بإرادة محددة سلفا، ليس مبادرة إلى القول ولكن استجابة لسؤال وجه إليه.. لقد سئل المكلاتي وضع كتاب في الرد على الفلاسفة فكان «لباب العقول» استجابة لهذا الطلب. والفلاسفة المقصودون هنا هم – كما يقول المكلاتي- أرسطوطاليس ومن تبعه من فلاسفة المشائين..)[3].
– ثم تطرق ثانيا لغرض المكلاتي من الكتاب فقال: (توخى “المكلاتي” من «لباب العقول» الانتهاء، بصفة عامة، إلى نسبة القول الفلسفي إلى السفسطة..ونسبة مقالات الفلاسفة إلى السفسطة يعني بحسب التحديد الفلسفي المشائي لمعنى السفسطة أمورا أربعة: 
1- الطابع الظني لمبادئ القول الفلسفي ومقدماته..
2- الطابع التغالبي الغالط أو المغالط لطبيعة النظر الفلسفي..
3- ابتعاد المعرفة الفلسفية عن الحقيقة..
4- تبجح الفلاسفة وادعاؤهم الكمال وهم قاصرون عن الكمال..)[4].
 هذه هى الأركان الأربعة التي بحثها “حمو النقاري” واستجلاها من طريقة “المكلاتي” في رده على الفلاسفة، ليستخلص نتيجة مفادها أن الرد على الفلاسفة في علم الأصول هو تخسيس لمقالات فلسفية أرسطية مشائية وتنقيص من شأنها وقدرها العلميين. ومن هذه المقالات الفلسفية المستحضرة مقالات تدور حول قضايا العالم، والنفس، الخلق، الله، النبوة، النعم والأرزاق، الآجال والإعادة والحشر. ولهذا فالرد على الفلاسفة في علم الأصول، – انطلاقا من ذلك كما يقول د. “حمو النقاري”- سيكون إذن مجالا يظهر فيه التناظر بين الكلام والفلسفة، مجالا يكون فيه كل من الفيلسوف والمتكلم منتصبا للادعاء وللاعتراض، للإنشاء وللحفظ[5]، يقول في ذلك: (إن غرضنا منحصر في محاولة إبراز الصورة البنائية لمجهود المكلاتي في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، وهي صورة تشهد لوقوعه في أسر منطق الفلاسفة الأرسطي واستلابه)[6].
– وانتهى- د.”حمو النقاري”- ثالثا في بحثه هذا إلى القول بأن مجهود “المكلاتي” في «لباب العقول»: (يندرج في الانفعال بالفلسفة في صورته الرافضة المقابلة وأيضا في صورته المسلمة القابلة. إن “المكلاتي” وإن كان يرد المدركات الفلسفية المشائية ويعترض عليها فإنه – مع ذلك- يسلم ويقبل مشروعية تصور القول الفلسفي، بل كل قول (عاقل)، كتسلسل تدليلي ينبغي أن يعيَّر بمعيار الصور الاستدلالية النموذجية المعهودة..)[7]. 
ويضيف إلى ذلك أن “المكلاتي”: يؤمن – مثله في ذلك كمثل متأخري الأشعرية- لوجوب البناء القياسي للمعرفة من جهة- معرفة فلسفية كانت أم معرفة عقدية- وبوجوب الالتزام بضوابط ومعايير النظرية القياسية في التفاعل، في هذه المعرفة الفلسفية أو العقدية إثباتا وإبطالا، إبراما ونقضا، ادعاء وانتقادا من جهة أخرى..[8]. 
وهذا المجهود – يقول د. حمو النقاري- مكَّن “المكلاتي” من الرد على الفلاسفة بعد استيعاب هذه الأفكار والنظر في مدى ملاءمتها للنظرة الإسلامية للعالم والإنسان والحياة.. مضيفا إلى ذلك أن الانفعال بالفلسفة الذي يجسده “المكلاتي” انفعال مقابل وقابل في نفس الوقت، انفعال رافض للمدركات الفلسفية باعتبارها نتائج ومداليل، وانفعال مسلم بالمبدأ الفلسفي القاضي بوجوب لزوم بناء القول الفلسفي بناء قياسيا، وهو هنا يعتمد أو يقبل بالمنهج الأرسطي المنطقي.
 وهذا ما فصله د.”النقاري” في الفصل الموالي من كتابه في مسألة وجوه إثبات الحق، يقول “د. حمو النقاري”: (يتجلى رفض “المكلاتي” للمعلوم المشائي في تقديمه للمعلوم الأشعري والاحتجاج له باعتباره المذهب الحق)[9]، أي أقوال مذهبه الأشعري- وهنا يتجلى استلاب “المكلاتي” بالنظرية القياسية الأرسطية في التدليل لمذاهب الحق على مقتضى المنطق الأرسطي من خلال استعماله لأدلة مثل آلية العكس أو آلية عكس النقيض، أو من خلال استعمال مختلف أشكال الأقيسة؛ كالقياس الشرطي المتصل أو القياس الشرطي المنفصل، أو الرد إلى المحال، بالإضافة إلى إدراجه لمجموعة من الوجوه الانفصالية والانتقادية – بحسب قوله- على هذه الردود ومنها: الإلزام، والاتهام بالسفسطة، والاتهام بالمصادرة على المطلوب، والاتهام بالتغليط من طريق استغلال الاشتراك اللفظي، والاتهام بالتغليط من طريق استغلال المجاز اللفظي، والمؤاخذة بالاستناد إلى الاستقراء في التصحيح، والمؤاخذة بالاستناد إلى التمثيل في التصحيح، والمواجهة ببقاء النزاع.. 
– وهكذا يخلص “د. حمو النقاري” أخيرا إلى مدح طريقة “المكلاتي” في ردوده بالقول: (إن “المكلاتي” – هنا- يمثل محطة من محطات السير اللاغط، لا بمشروعية توظيف المنطق الأرسطي كآلة فقط، وإنما بضرورة هذا التوظيف أيضا. ومعلوم أن هذه المحطات ابتدأت في علم الكلام مع “ابن حزم” في «تقريبه» و”أبي حامد الغزالي” في «معياره» و«محكه» و«قسطاسه»، وقد أدى في النهاية إلى انتهاض البعض إلى مواجهة هذا النوع من السير أو السعي الكلامي كما يشهد لذلك “تقي الدين أحمد بن تيمية” في «رده على المنطقيين» و«نقضه للمنطق»)[10]. 
– ومن ثم اعتبر د.”النقاري” في الشطر الأخير من كتابه أن طريقة “المكلاتي” لا تنطوي على التناظر مع الفلاسفة المشائين فقط، وإنما جاوزتها إلى التناظر مع من ناظر هؤلاء الفلاسفة من النظار المسلمين؛ أي من المتكلمين الذين حاولوا، قبل المكلاتي، الرد على الفلاسفة والتقصي عنهم في بعض من المسائل الفلسفية، وإن كان لم يفصح عن هؤلاء المتكلمين بأسمائهم – ولعل الغزالي كان واحدا منهم أو أوحدهم- باعتبار قرب تواجد المكلاتي من عصر ابن رشد وإمكانية اطلاعه على مؤلفاته وخاصة تهافت التهافت، وقصد بالفلاسفة هنا جل فلاسفة الإسلام ابتداء من الفارابي وابن سينا من المشرق العربي وانتهاء بفلاسفة الغرب الإسلامي أمثال ابن باجة وابن رشد وغيرهما- وإن لم يفصح عن أسمائهم كذلك-.
الهوامش: 
[1] – الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة (السفر الثامن)- تقديم وتحقيق وتعليق: د.محمد بن شريفة- مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية/1984- ترجمة رقم: 1227
[2] لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الصول- أبو الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي- تقديم وتحقيق وتعليق: دة. فوقية حسين-توزيع: دار الأنصار/القاهرة- الطبعة الأولى/1977 – ص: 3-4 من قسم التحقيق.
[3] المنطق في الثقافة الإسلامية- حمو النقاري- دار الكتاب الجديد المتحدة/ لبنان- الطبعة الأولى/2013 – ص: 100
[4] نفسه
[5] نفسه- ص: 100-101
[6] نفسه- ص: 101-102 
[7] نفسه- ص: 104
[8] نفسه – ص: 104
[9] نفسه- ص: 104
[10] نفسه- ص: 106-107
إعداد الباحث: منتصر الخطيب

في بحث سابق حاولت فيه تتبع مواقف المتكلمين الأشاعرة من الفلسفة والفلاسفة بالغرب الإسلامي، وقع اهتمامي بأحد أعلامهم وهو “أبو الحجاج يوسف المكلاتي” الذي عاصر ما بين مولده ووفاته (ولد حوالي سنة 550هـ، وتوفي سنة 626هـ) دولة الموحدين التي ظهرت في أعقاب سقوط دولة المرابطين في النصف الأول من القرن السادس الهجري.

 و”أبو الحجاج يوسف المكلاتي” متكلم مغربي أشعري من فترة الترسيم والترسيخ للمذهب الأشعري بهذه البلاد، وقد تتلمذ في الأصلين على كل من “ابن الكتاني” و”ابن نموي”، وإن لم تذكر المصادر القديمة من مؤلفاته سوى كتابه الذي عُرف به وهو كتاب «لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول»؛ وهو كتاب فلسفي كلامي بامتياز، أما غير ذلك فلم تفدنا المصادر التاريخية بشيء إلا ما قال صاحب «الذيل والتكملة»: (وله مقالات ومصنفات وجيزة ومتوسطة وأجوبة عن مسائل كان يسأل عنها في علم الكلام وأصول الفقه)[1] ، إلا أنه ومع ذلك يعد –المكلاتي – أحد أبرز علماء الكلام والفلسفة في الأندلس والمغرب العربي بعد “ابن حزم” (ت 456هـ) و”ابن رشد الحفيد” (ت595هـ).

وكتابه «لباب العقول»؛ مجموعة من الردود على الفلاسفة في مسائل العقيدة والأصول والفكر بصفة عامة، يشير فيه إلى كيفية الرد والنقض لأفكار وآراء الفلاسفة في التوحيد والوجود والزمان والذات والصفات وخلود النفس والعلم الإلهي، وموضوعات أخرى.. ويمكن إرجاع هذا النوع من الكتابات إلى ما قاله “ابن خلدون” في «المقدمة» حين حديثه عن تطور التأليف في مجال علم الكلام الإسلامي ونشوء ما اصطلح عليه بكتب الرد على الفلاسفة، ومن هنا يتبين أن مسمى الرد على الفلاسفة في علم الكلام هو نوع من هذه الفنون المتأخرة تطور مع علم الكلام المتأخر وبالأخص عند الأشعرية بعد تطور الدراسات الفلسفية وانفتاح المسلمين عليها وانتشار مقالاتها في الساحة الإسلامية. 

وقد بيَّن لنا “المكلاتي” في مقدمة كتابه سبب تأليفه لكتاب «اللباب» فقال: (سألتني أن أضع كتابا في الرد على الفلاسفة يكون فيه شفاء العليل المرتسم ريح العلم العقلي، وطمحت همته إلى شرف مرماه العلي. فأجبناك إلى مطلوبك وأسعفناك في مرغوبك، رجاء ثواب الله الجزيل.. وقصدنا فيه الرد على أرسطوطاليس ومن تبعه من فلاسفة المشائين، ولم نلتفت إلى الرواقيين لبيان فساد مذاهبهم ووضوح سقوط أدلتهم. فشننا على رؤساء الفلاسفة الغارة، وكلناهم على موجب اصطلاحاتهم وأغراضهم، فأنصفنا القارة وكشفنا بعون الله عن تلك المعايب، وخلصنا الصفو عن دنس الشوائب، وأتينا فيه بالغاية في الباب، وانتهينا فيه إلى غاية انتهاء الألباب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم..)[2].

ومن خلال تتبعي مواقف المتكلمين الأشاعرة من الفلسفة والفلاسفة بالغرب الإسلامي في دراسات سابقة، سأعرض في هذه المقالة لما فصَّله الدكتور “حمو النقاري” في أحد إصداراته الأخيرة ملخصا حسب ما يسمح به وقتها ومكانها.

إذ بيَّن د.”حمو النقاري” طريقة “المكلاتي” في معالجة هذه القضايا من خلال خيوط ناظمة وفق النقاط التالية: 

– وابتدأ هذه الطريقة أولا بالتعريف بكتاب المكلاتي «لباب العقول» بالقول: ( كتاب «لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول» لأبي الحجاج يوسف المكلاتي (ت626هـ) كتاب أشعري المنزع، يتوجه فيه صاحبه إلى قارئ مخصوص، بإرادة محددة سلفا، ليس مبادرة إلى القول ولكن استجابة لسؤال وجه إليه.. لقد سئل المكلاتي وضع كتاب في الرد على الفلاسفة فكان «لباب العقول» استجابة لهذا الطلب. والفلاسفة المقصودون هنا هم – كما يقول المكلاتي- أرسطوطاليس ومن تبعه من فلاسفة المشائين..)[3].

– ثم تطرق ثانيا لغرض المكلاتي من الكتاب فقال: (توخى “المكلاتي” من «لباب العقول» الانتهاء، بصفة عامة، إلى نسبة القول الفلسفي إلى السفسطة..ونسبة مقالات الفلاسفة إلى السفسطة يعني بحسب التحديد الفلسفي المشائي لمعنى السفسطة أمورا أربعة: 

1- الطابع الظني لمبادئ القول الفلسفي ومقدماته..

2- الطابع التغالبي الغالط أو المغالط لطبيعة النظر الفلسفي..

3- ابتعاد المعرفة الفلسفية عن الحقيقة..

4- تبجح الفلاسفة وادعاؤهم الكمال وهم قاصرون عن الكمال..)[4].

 هذه هى الأركان الأربعة التي بحثها “حمو النقاري” واستجلاها من طريقة “المكلاتي” في رده على الفلاسفة، ليستخلص نتيجة مفادها أن الرد على الفلاسفة في علم الأصول هو تخسيس لمقالات فلسفية أرسطية مشائية وتنقيص من شأنها وقدرها العلميين. ومن هذه المقالات الفلسفية المستحضرة مقالات تدور حول قضايا العالم، والنفس، الخلق، الله، النبوة، النعم والأرزاق، الآجال والإعادة والحشر. ولهذا فالرد على الفلاسفة في علم الأصول، – انطلاقا من ذلك كما يقول د. “حمو النقاري”- سيكون إذن مجالا يظهر فيه التناظر بين الكلام والفلسفة، مجالا يكون فيه كل من الفيلسوف والمتكلم منتصبا للادعاء وللاعتراض، للإنشاء وللحفظ[5]، يقول في ذلك: (إن غرضنا منحصر في محاولة إبراز الصورة البنائية لمجهود المكلاتي في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، وهي صورة تشهد لوقوعه في أسر منطق الفلاسفة الأرسطي واستلابه)[6].

– وانتهى- د.”حمو النقاري”- ثالثا في بحثه هذا إلى القول بأن مجهود “المكلاتي” في «لباب العقول»: (يندرج في الانفعال بالفلسفة في صورته الرافضة المقابلة وأيضا في صورته المسلمة القابلة. إن “المكلاتي” وإن كان يرد المدركات الفلسفية المشائية ويعترض عليها فإنه – مع ذلك- يسلم ويقبل مشروعية تصور القول الفلسفي، بل كل قول (عاقل)، كتسلسل تدليلي ينبغي أن يعيَّر بمعيار الصور الاستدلالية النموذجية المعهودة..)[7]. 

ويضيف إلى ذلك أن “المكلاتي”: يؤمن – مثله في ذلك كمثل متأخري الأشعرية- لوجوب البناء القياسي للمعرفة من جهة- معرفة فلسفية كانت أم معرفة عقدية- وبوجوب الالتزام بضوابط ومعايير النظرية القياسية في التفاعل، في هذه المعرفة الفلسفية أو العقدية إثباتا وإبطالا، إبراما ونقضا، ادعاء وانتقادا من جهة أخرى..[8]. 

وهذا المجهود – يقول د. حمو النقاري- مكَّن “المكلاتي” من الرد على الفلاسفة بعد استيعاب هذه الأفكار والنظر في مدى ملاءمتها للنظرة الإسلامية للعالم والإنسان والحياة.. مضيفا إلى ذلك أن الانفعال بالفلسفة الذي يجسده “المكلاتي” انفعال مقابل وقابل في نفس الوقت، انفعال رافض للمدركات الفلسفية باعتبارها نتائج ومداليل، وانفعال مسلم بالمبدأ الفلسفي القاضي بوجوب لزوم بناء القول الفلسفي بناء قياسيا، وهو هنا يعتمد أو يقبل بالمنهج الأرسطي المنطقي.

 وهذا ما فصله د.”النقاري” في الفصل الموالي من كتابه في مسألة وجوه إثبات الحق، يقول “د. حمو النقاري”: (يتجلى رفض “المكلاتي” للمعلوم المشائي في تقديمه للمعلوم الأشعري والاحتجاج له باعتباره المذهب الحق)[9]، أي أقوال مذهبه الأشعري- وهنا يتجلى استلاب “المكلاتي” بالنظرية القياسية الأرسطية في التدليل لمذاهب الحق على مقتضى المنطق الأرسطي من خلال استعماله لأدلة مثل آلية العكس أو آلية عكس النقيض، أو من خلال استعمال مختلف أشكال الأقيسة؛ كالقياس الشرطي المتصل أو القياس الشرطي المنفصل، أو الرد إلى المحال، بالإضافة إلى إدراجه لمجموعة من الوجوه الانفصالية والانتقادية – بحسب قوله- على هذه الردود ومنها: الإلزام، والاتهام بالسفسطة، والاتهام بالمصادرة على المطلوب، والاتهام بالتغليط من طريق استغلال الاشتراك اللفظي، والاتهام بالتغليط من طريق استغلال المجاز اللفظي، والمؤاخذة بالاستناد إلى الاستقراء في التصحيح، والمؤاخذة بالاستناد إلى التمثيل في التصحيح، والمواجهة ببقاء النزاع.. 

– وهكذا يخلص “د. حمو النقاري” أخيرا إلى مدح طريقة “المكلاتي” في ردوده بالقول: (إن “المكلاتي” – هنا- يمثل محطة من محطات السير اللاغط، لا بمشروعية توظيف المنطق الأرسطي كآلة فقط، وإنما بضرورة هذا التوظيف أيضا. ومعلوم أن هذه المحطات ابتدأت في علم الكلام مع “ابن حزم” في «تقريبه» و”أبي حامد الغزالي” في «معياره» و«محكه» و«قسطاسه»، وقد أدى في النهاية إلى انتهاض البعض إلى مواجهة هذا النوع من السير أو السعي الكلامي كما يشهد لذلك “تقي الدين أحمد بن تيمية” في «رده على المنطقيين» و«نقضه للمنطق»)[10]. 

– ومن ثم اعتبر د.”النقاري” في الشطر الأخير من كتابه أن طريقة “المكلاتي” لا تنطوي على التناظر مع الفلاسفة المشائين فقط، وإنما جاوزتها إلى التناظر مع من ناظر هؤلاء الفلاسفة من النظار المسلمين؛ أي من المتكلمين الذين حاولوا، قبل المكلاتي، الرد على الفلاسفة والتقصي عنهم في بعض من المسائل الفلسفية، وإن كان لم يفصح عن هؤلاء المتكلمين بأسمائهم – ولعل الغزالي كان واحدا منهم أو أوحدهم- باعتبار قرب تواجد المكلاتي من عصر ابن رشد وإمكانية اطلاعه على مؤلفاته وخاصة تهافت التهافت، وقصد بالفلاسفة هنا جل فلاسفة الإسلام ابتداء من الفارابي وابن سينا من المشرق العربي وانتهاء بفلاسفة الغرب الإسلامي أمثال ابن باجة وابن رشد وغيرهما- وإن لم يفصح عن أسمائهم كذلك-.

 

الهوامش: 

[1] – الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة (السفر الثامن)- تقديم وتحقيق وتعليق: د.محمد بن شريفة- مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية/1984- ترجمة رقم: 1227

[2] لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الصول- أبو الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي- تقديم وتحقيق وتعليق: دة. فوقية حسين-توزيع: دار الأنصار/القاهرة- الطبعة الأولى/1977 – ص: 3-4 من قسم التحقيق.

[3] المنطق في الثقافة الإسلامية- حمو النقاري- دار الكتاب الجديد المتحدة/ لبنان- الطبعة الأولى/2013 – ص: 100

[4] نفسه

[5] نفسه- ص: 100-101

[6] نفسه- ص: 101-102 

[7] نفسه- ص: 104

[8] نفسه – ص: 104

[9] نفسه- ص: 104

[10] نفسه- ص: 106-107

 

                                                  إعداد الباحث: منتصر الخطيب

 

 

 

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. كيف يقول: (إن "المكلاتي" – هنا- يمثل محطة من محطات السير اللاغط، لا بمشروعية توظيف المنطق الأرسطي كآلة فقط، وإنما بضرورة هذا التوظيف أيضا.) ثم يكون المكلاتي ينقض طريقة الفلاسفة وأن طريقتهم سفسطائية، علما أن المنطق هو أساس التفكير عند الفلاسفة؟
    فإذا كان المكلاتي تبنى علم المنطق فما هو وجه نقده للفلاسفة؟
    هذا قول متناقض !
    كما قال الشاعر:
    أعلمه الرماية كل يوم…فلما اشتد ساعده رماني
    وكم علمته نظم القوافي…فلما قال قافية هجاني.

  2. شكرا لكم على الإفادة وبارك الله في قلم أستاذنا الدكتور نقاري

  3. بداية الكلام كلام الدكتور حمو النقاري ولذا علينا أن نبحث عن أصل رأيه هذا ومساءلته، لكن يظهر لي والله أعلم أن ردود المكلاتي لم تكن لتتضح لنا لولا أنها اعتمدت نفس أسلحة خصومه من الفلاسفة وهو المنطق. فالرجل ألف كتابه ليرد على الفلاسفة وأنى له أن يرد عليهم لو لم يتبع نفس أسلوبهم.. أظن أن الجواب واضح.. شكرا لك على التواصل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق