مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةشذور

شرح الدعاء الناصري (الحلقة الثانية)

وَيــَا قَرِيبَ الْعَفْوِ يَا مَوْلاَهُ           وَيــَا مُغِيثَ كُلِّ مَنْ دَعــَاهُ

قُرْبُ الله سبحانه وتعالى نوعان، أشار الشيخ، رضي الله عنه، إلى النوع الأول منهما في الشطر الأول من البيت، وأشار إلى النوع الثاني منهما في الشطر الثاني منه.

فأما النوع الأول فهو القرب الخاص بالداعين والعابدين. وهو قرب يقتضي المحبة، والنصرة، والتأييد في الحركات والسكنات، والإجابة للداعين، والقبول والإنابة للعابدين. وإليه الإشارة بقوله: ويا قريب العفو يا مولاه.

وأما النوع الثاني، فهو القرب العام: وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو بمعنى المعية العامة. وإياه عنى بقوله: ويا مجيب كل من دعاه.

وقد ذكر الشيخ القرب باللفظ في الشطر الأول من البيت، وجعل معناه مضمنا في الشطر الثاني منه، لأنه لا تكون إجابة إلا عن قرب ومَعِيَّة. وذلك قوله تعالى:” وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ”. هود 61. وقوله سبحانه: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ”.البقرة: 186.

وهو مثل قوله، عز وجل: “وَهوَ مَعَكُم أَيْنَ مَا كُنتُمْ”. الحديد: 4. وقوله سبحانه:” ما يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ، وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُم أَيْنَ مَا كَانُوا”. المجادلة: 9. وقوله عز من قائل: “وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ”. ق: 16.

وعن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، أنهم كانوا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، في سفرٍ، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال: “يا أيها الناس ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدْعُون أَصَمَّ ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقربُ إلى أحدكم من عُنُقِ راحلته”.

ولاقتران الدعاء بالقرب قال النبي، صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عنه أبو هريرة، رضي الله عنه:” أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء”. أي: أقرب ما يكون من رحمة ربه وفضله.

وقول الشيخ: ويا مغيث كل من دعاه، ضمنه قول النبي، صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عنه ابن عمر، رضي الله عنهما:” من فُتح له في الدعاء، فُتحت له أبواب الإجابة”.

            وقد أشار في هذا البيت إلى ثلاثة أسماء من أسماء الله الحسنى، وهي: العَفُوُّ، والقريب، والمغيث. فأما العفو، فهو من الأسماء المذكورة في حديث أبي هريرة الوارد في جامع الترمذي، وهو حديث:” إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا: مِائَةٌ غَيْرَ وَاحِدٍ، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ”. وأما القريب والمغيث فإنهما من الأسماء التي لم ترد في هذا الحديث، على أنهما يُذكران في الأسماء الزائدة في الكتاب والسنة على ما ورد فيه. وقد اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى. فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة.

وأصل العفو، المحو والطمس، مأخوذ من عفت الرياح الآثار إذا أخفتها ومسحتها، وهو من صيغ المبالغة على وزن “فعول”. والعفو في حقه تعالى عبارة عن إزالة آثار الذنوب بالكلية، فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين، ولا يطالب العبد بها يوم القيامة، ويُنْسِيه إياها كي لا يخجل عند تذكرها.

ومن عرف عفو الله تعالى طمع في كرمه، وخضع له، ولجأ في الخلاص إليه، ولذلك كان من دعاء، النبي صلى الله عليه وسلم:” اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي”. وفي سنن ابن ماجه “عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ: ” تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي”.

فحسن في أول القصيدة، من جهة البلاغة، أن يُذكر هذا المعنى لدوران معانيها عليه، ولما فيه أيضا من دعوة للتخلق بهذا الاسم، فيعفو المؤمن عمَّن ظلمه، ويتجاوز عمن أساء إليه. وهذا مما يليق بالمستغيث أن يذكره، لأن الله تعالى إنما يرحم من عباده الرحماء. كما في حديث أسامة بن زيد عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ”.

ومعنى القريب ذكرناه، وذكرنا أنه إلى قسمين: قرب عام يكون بعلمه، سبحانه، ومراقبته، ومشاهدته، وإحاطته، وقرب خاص لا تُدْرَك حقيقته، وإنما تعلم آثاره.

والمغيث هو المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه، ويرجع معنى هذا الاسم إلى اسمه تعالى: القريب.

فظهر أنه أدار البيت على معاني أسماء هي: العَفُوُّ، والمجيب، والقريب، والمغيث. وهذه كلها أسماء مناسبة لمن أراد الاستغاثة. وأحسنَ بجعل: المغيث آخر اسم ذكره. وذلك أنه استعمل النداء للاستغاثة ثلاث مرات، ومعنى النداء الذي للاستغاثة هو: أدعو الله وأستغيث به، فهو أسلوب من أساليبها، فلما كانت الثالثة، أضاف إلى أسلوب الاستغاثة ذكر لفظ المغيث، فترقى في الإلحاح، وهو المطلوب في الدعاء، والترقي هنا بأربعة أمور:

1 ـ باستعمال أسلوب الاستغاثة، والنداء بيا. وهو الحرف المتعين في نداء اسم الله تعالى من بين أحرف النداء السبعة، فلا ينادى بغيره، وفي الاستغاثة، فلا يستغاث بغيره.

 2 ـ وباستعمال اللفظ الدال على معناها مباشرة، وهو: المغيث.

 3 ـ واستحضار الاسم المناسب لذلك من بين أسماء الله الحسنى جملة واحدة في آخر نداء استعمله في هذا البيت.

 4 ـ وفي دلالة الاستغاثة على نوع الدعاء المراد، وهو الدعاء الذي فيه رفع صوت. فكأنه يدعو قارئ البيت إلى أن يرفع صوته عند قوله: ويا مغيث كل من دعاه. وذلك أن معنى “غَوَّثَ الرجل واستغاث: صاح واغوثاه. ومنه قوله تعالى:{وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِن إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} الأحقاف: 17. وقوله سبحانه:{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} الكهف: 29.

            وهو، أيضا، يدعو قارئه إلى مد الصوت عند قوله: يا مولاه، لما في ذلك من تعبير عن صدق طلب العون والنصرة، ورد الآفات قبل وقوعها. فإن الهاء هنا إنما زيدت في الوقف للاستغاثة، ومد الصوت.

ويظهر بالنظر في مجموع ما كرره من نداء للاستغاثة، بالنظر إلى البيت مستقلا عن غيره، أنه كرره ثلاث مرات، أخذا بما قرروه من أنه يستحب التثليث حالة الاستغاثة. ومن ذلك ما ذكره الهروي في “مرقاة المفاتيح” عند شرحه لحديث جَابِرٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – ونصه: «أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تَحْتَ سَمُرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: ” إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا. قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ، ثَلَاثًا “. وَلَمْ يُعَاقِبْهُ، وَجَلَسَ».

قال الهروي: “…(ثَلَاثًا) . أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَثْلِيثُ لَفْظِ الْجَلَالَةِ حَالَةَ الِاسْتِغَاثَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ”.

            قلت: ولو قال: يستحب التكرير فقط، لما أَبْعَدَ.

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق