مركز الدراسات القرآنيةمفاهيم

تفسير القرآن بالقرآن المفهوم والمنهج

سعاد كوريم
باحثة في الدراسات القرآنية
في هذه المساهمة تستعرض الباحثة أهم ما جاء في رسالتها لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في الدراسات الإسلامية(2005) من وحدة التكوين والبحث: “الدرس القرآني والعمران البشري” بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، في جامعة مولاي إسماعيل- مكناس، والتي يتناول موضوعها “تفسير القرآن بالقرآن: المفهوم والمنهج”. 
1ـ فرضية الدراسة
تعددت المناهج التي اعتمدها المفسرون لفهم كتاب الله عز وجل، والتعرفِ على دقائقه، وإبرازِها للمتلقين، كما تنوعت المصادر التي استقوا منها مادتهم التفسيرية. وفي ضوء هذه المصادر والمناهج تحددت أنواع التفسير، غير أن هذه الأنواع مهما تعددت، تبعا لتعدد مصادر المفسرين ومناهجهم، فإنها تلتقي عند إرادة إدراك قصد الله تعالى من كلامه بغرض إيصاله إلى المخاطبين به. وتُترجم هذه الإرادة من خلال اقتراح كل نوع لمعادلة تفسيرية طرفها الأول هو النص المفسَّر وطرفها الثاني هو المقولة المفسِّرة، بحيث يكون أقرب الأنواع إلى الوفاء بالمقصود هو أقدرها على تقليص الفرق بين طرفي المعادلة، ويكون الحكم عليه بالاعتبار أو عدمه تابعا لكفاية المنهج والمصدر الموظفين في سبيل ذلك التقليص.
من هذا المنظور، يمكن تصور الحرج الذي يقع فيه المفسر حين يكون أحد طرفي المعادلة في تفسير القرآن الكريم هو كلام الله تعالى؛ إذ ما من مقولة تفسيرية ترقى إلى مرتبة مطابقته والنطق عن مراده ما لم تكن من نفس مصدره ومادته، وما لم تنسجم منهجيا مع نسقه. فأي نوع من التفسير كفيل بتحقيق هذا الغرض ورفع ذاك الحرج؟
يُفترض أن المدخل الأقدر، في هذه الحالة، على إيجاد معادلة متكافئة الأطراف هو تفسير القرآن بالقرآن، نظرا لما قد يكفله من وحدة في النسق وانسجام في الدلالة ناتجين عن اتحاد المفسِّر والمفسَّر في النظم والمصدر. ويستلزم التحقق من هذا الافتراض القيام بدراسة لمفهوم ومنهج تفسير القرآن بالقرآن، تهدف إلى تكوين تصور دقيق عن مصاديقه وأدواته على نحو يمكِّن من اختبار كفايته والحكم على طبيعته ووظيفته.
2ـ أهمية الدراسة
إن من شأن البحث في تفسير القرآن بالقرآن أن يؤكد أو ينفي أفضليته على باقي أنواع التفسير، وأن يكشف عن حدود قدرته على تقليص هامش التأويل، وتقليلِ فوارق المعنى بين النص وتفسيره، وتأمينِ طريق الفهم عن الله تعالى وإدراك قصده من كلامه. ومن شأن تحقيق مفهومه والتنظير لمنهجه أن يمهد لضبط الأعمال المتزايدة التي تروم فقه الخطاب الشرعي وإنشاءَ عمران بشري وفقا لمتطلبات الإرادة الإلهية، وذلك بأن يحول دون وقوعها ضحية سذاجة إبستمولوجية تخلط بين تفسير خديج لا يعرف من تفسير القرآن بالقرآن إلا اسمه، وبين تفسير كامل يقدِّم صورةً تنطق عن مراد الله.
وتزداد الحاجة إلى تناول هذا الموضوع إلحاحا نظرا لافتقار الدراسات القرآنية إلى أدبيات تفرده بالبحث والتصنيف؛ إذ الملاحظ أن الأعمال المتوفرة – في حدود ما اطلعت عليه- وإن تضمنت مادة مهمة في تفسير القرآن بالقرآن، وشملت جملة من مباحثه وأنواعه، إلا أنها لم تخصه بمؤلف حامل لاسمه، جامع لكل ما يتعلق به على نحو يتسم بالإحاطة والاستيعاب، يفصل في مفهومه ويؤصل لمنهجه ويشرح طريقة اشتغاله. ويمكن التأكد من ذلك بالرجوع إلى مكتبة التراث التفسيري بمعناه الواسع الذي يشمل كل عمل تناول القرآن الكريم بنوع من الدرس العلمي كما هو الحال بالنسبة لكتب التفسير وعلوم القرآن والمناسبة والوجوه والنظائر وتوجيه المتشابه وغيرها.
3ـ منهج الدراسة
تطلب البحث في مفهوم ومنهج تفسير القرآن بالقرآن اتباع المنهج الوصفي بالأساس، مع الاستعانة بالتحليل والتركيب، وذلك انسجاما مع غرض الدراسة المتمثل في تقديم صورة علمية دقيقة تصف المقصود بهذا التفسير، والأمور التي تنتظر منه، وطريقة مقاربته للنص القرآني، ومنهجه في الاشتغال، مع عرض خطوات عمله في مختلف مراحله. وقد برز التحليل والتركيب في دراسة المفهوم خاصة؛ حيث استدعى تجديد النظر في دلالة “تفسير القرآن بالقرآن” تفكيك العبارة إلى مكوناتها الجزئية، وتحديد الوظيفة الخاصة بكل جزء منها على حدة، ثم بحسب موضع ذلك الجزء من الكل، وصولا إلى إعادة تركيب الجزئيات وتحديد دلالتها بحسب ما يربطها من علاقات.
4ـ تقسيم الدراسة
تم تقسيم البحث إلى فصلين، أحدهما خاص بمفهوم تفسير القرآن بالقرآن، والثاني خاص بمنهجه. وقد تناول كل منهما عددا من المباحث، وذلك على النحو التالي:
 تفسير القرآن بالقرآن…المفهوم والدلالات
وقد تناول تحليلَ مفهوم “تفسير القرآن بالقرآن”، من خلال تحقيق الألفاظ المفردة المكونة له، وتحصيل معانيها المستقلة المستفادة من معطيات دلالية متنوعة، وصولا إلى استخراج دلالة الألفاظ المركبة، على اعتبار أن المركب لا يعلم إلا بعد العلم بمفرداته. وذلك من خلال مبحثين؛ خصص الأول منهما لتحليل المفردات على المستويات الصوتية والصرفية والمعجمية ثم التداولية الاصطلاحية. فلكل واحد من هذه الأوصاف المتضافرة لصياغة بنية اللفظة وظيفته الأساس في بناء دلالتها، والإحاطة بمعناها الذي تفيده في أصل الوضع وواقع الاستعمال. إذ لابد لكل دراسة دلالية تتحرى دقة الفهم وتتوخى عمق التحليل من استحضار معطيات الدرس اللغوي وأدواته الاشتغالية التي تمكن من الاستثمار الوظيفي لما يفيده الواقع الاستعمالي المحقَّقُ للكلمة ونظامُها الافتراضي المجرد على حد سواء.
أما المبحث الثاني فقد خصص لإعادة تركيب المفهوم ودراسة قضاياه، وذلك من خلال مطلبين اثنين؛ تناول أولهما مفهوم تفسير القرآن وما يثيره من إشكالات معرفية، يترجمها التساؤل عن مدى حاجة القرآن الفعلية إلى مفسر يضطلع بمهمة بيانه ويتولى النطق عن مراده، وعما إذا كانت تلك الحاجة – في حال تأكدها – ذاتية لصيقة بالنص ونابعة عن اعتقاد النقصان في قدرته البيانية، أو عرضية راجعة إلى التدني التدريجي لملكات المتلقي ومحدودية سقفه المعرفي. وقد اقتضى حل هذا الإشكال تسليط الضوء على القدرة البيانية للنص القرآني، والطاقة الاستيعابية للمتلقي البشري، سواء منها ما تعلق بقدرة استيعابه الكامنة أو بمستوى تفهمه الفعلي، مما أفضى إلى تحديد وجه الحاجة إلى التفسير، ومعرفة القصور – الذي يتهدد كل قناة اتصال- إن حصل أين حصل. وقد تناول المطلب الثاني مفهوم تفسير القرآن بالقرآن، حيث عمل على تحديد ماهية هذا النوع من التفسير، وذلك من خلال بيان الجهة المسؤولة عنه، وتعيين المقدار الذي يدخل في مسماه، والنظر في مدى حجيته.
نحو منهج لتفسير القرآن بالقرآن
استدعى الحديث عن “منهج تفسير القرآن بالقرآن” اعتمادَ ثلاثة مداخل؛ مدخل معرفي تناول التعريف بهذا المنهج وبأهميته، ومدخل إجرائي عرف بالأصول النظرية للأدوات الإجرائية التي يوظفها المنهج لتحليل النص القرآني، كما عرف بطريقة اشتغالها، ومدخل ثالث تناول نموذجا تطبيقيا من خلال واحد من التفاسير التي تبنت هذا المنهج، ويتعلق الأمر بأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين الشنقيطي. وقد تم إفراد كل مدخل بمبحث على النحو التالي:
تعرض المبحث الأول، الخاص بالمدخل المعرفي، لبيان دلالة مفهوم المنهج عموما ودلالة إضافته إلى تفسير القرآن بالقرآن على وجه الخصوص. وكشف عن أهمية التفكير المنهجي وفائدته بالنسبة إلى التفاسير التي تعتمد القرآن الكريم مصدرا للاستمداد. كما أبرز في غضون ذلك جملة من الخصائص المنهجية التي يتفرد بها تفسير القرآن بالقرآن عن غيره من أنواع التفسير.
وبالنسبة للمبحث الثاني، الخاص بالمدخل الإجرائي، فقد خصص للتأصيل لأبرز الأدوات الإجرائية التي يعتمدها منهج تفسير القرآن بالقرآن، ثم رصفِها ووصفها تبعا لاعتبارات متعددة، يترجم كل واحد منها مستوى من مستويات التعامل مع النص القرآني، ومن ذلك التصنيف باعتبار نقل النص، وبنيته، ومجاله الدلالي، والقرب منه موضعيا أو موضوعيا.
أما المبحث الثالث فهو خاص بالنموذج التطبيقي، وقد تضمن بيانا عمليا لطريقة اشتغال إحدى الأدوات الإجرائية المعتمدة في منهج تفسير القرآن بالقرآن، والتي يصطلح على تسميتها في حقل الدراسات القرآنية بـ “التفسير الموضوعي”، حيث تم بيان كيفية الاشتغال بهذه الأداة، ورصد تطبيقاتها من “أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن”. والضابط الموضوعي عمل إجرائي يبدأ بجمع الآيات القرآنية التي يربطها رابط معين في مقام واحد ثم يدرسها على أساس من ذلك. وهو يتخذ ثلاثة أشكال؛ أولها يعنى بدراسة المصطلح القرآني، والثاني يدرس الموضوع من خلال السورة الواحدة، والثالث يدرس الموضوع من خلال القرآن كله. وهذه الأشكال هي التي تم الكشف عنها في “أضواء البيان” من خلال مصطلح الزينة، وسورة العلق، وموضوع الخلافة والاستخلاف.
5ـ نتائج الدراسة
ويمكن إجمال أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة فيما يلي:
– أنها ضبطت مفهوم تفسير القرآن بالقرآن، وبيّنت خصائص القرآن، وخصائص تفسيره، وخصائص التفسير به.
– أنها كشفت عن مبعث حاجة المتلقي إلى التفسير، ووضعت موضع تساؤل مؤهلاته الإدراكية وقدرته على استيعاب الخطاب الإلهي، معتبرة أن هذين العاملين هما السبب الحقيقي الكامن وراء استشكال بعض النصوص القرآنية.
– أنها بيّنت الجهة المسؤولة عن تفسير القرآن بالقرآن، وأوضحت بالأدلة أنه من عمل المفسر البشري، وأن القرآن الكريم لا يعدو أن يكون غير مصدر لاستقاء المادة التفسيرية.
– أنها حدّدت مقدار التفسير الذي ينضوي تحت مسمى تفسير القرآن بالقرآن، فبينت أنه يتضمن كل ربط بين الآيات القرآنية سواء كانت ذات صلة بيانية مباشرة أو غير مباشرة، وسواء كانت الآية المفسَّرة في حاجة إلى بيان أم لم تكن كذلك.
– أنها فصّلت القول في حجية تفسير القرآن بالقرآن، وبيّنت أنه ليس ملزما على الإطلاق، وأن الحسم في منزلته يقتضي استحضار دور المفسر ومدى تدخله في الربط بين الآيات، إذ بحسب مقامه في العلم ونزاهته في الفهم يكون حال تفسيره قبولا أو ردا.
– أنها أصّلت لمنهج تفسير القرآن بالقرآن، ووضعت لبناته الأساس، وبينت سبل استقاء أدواته الإجرائية، ومرجعها في ذلك هو البيان النبوي للقرآن بالقرآن، على اعتبار أن أصح ربط تفسيري بين آيات القرآن الكريم هو الربط الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6ـ آفاق الدراسة
نبّهت الدراسة إلى بعض الآفاق التي تحتاج إلى مزيد من البحث وتعميق النظر، وتتمثل فيما يلي:
– إنجاز دراسة تاريخية ترصد تطور تفسير القرآن بالقرآن منذ بداية نشأته في عهد النبوة إلى حاله في واقع الدراسات القرآنية المعاصرة.
– البحث عن مضان تفسير القرآن بالقرآن، واستخراج مادته العلمية منها.
– التأصيل لسائر الأدوات الإجرائية المعتمدة في منهج تفسير القرآن بالقرآن بردها إلى أصولها النظرية التي تستمد منها مشروعيتها.
– إنجاز دراسات نقدية تتم فيها محاكمة التفاسير التي ترفع شعار تفسير القرآن بالقرآن للنظر في مدى تمثلها بمفهومه والتزامها بمنهجه.
وإضافة إلى هذه الجوانب فإن مجال التفكير يبقى مفتوحا لمعالجة قضية ذات طبيعة جوهرية تثيرها النهايات المعرفية لمفهوم ومنهج تفسير القرآن بالقرآن. ذلك أن حصر الصحيح المعتبر من هذا التفسير في البيان النبوي للقرآن بالقرآن، وفي التفاسير التي تستقي منه ضوابط المنهج ثم تُوظفها في الربط بين الآيات، يفرض معالجة الأسئلة الآتية: هل يفضي اعتماد البيان النبوي واستصحاب منهجه إلى حصول اليقين من إدراك القصد الإلهي الثاوي في القرآن الكريم، ومن ثم الاطمئنان إلى أن ما توصل إليه المفسر هو عين مراد الله تعالى؟ وهل يُمَكِّن البيان النبوي ومنهجه من الوصول إلى المعنى الأول المقصود في أصل النظم؟ أم أن المعنى الذي تقترحه المعادلة التفسيرية يبقى محتمِلا لأن يصيب القصد أو يخطئه مهما كانت العدة المنهجية التي يعتمد عليها المفسر؟
       سعاد كوريم
باحثة في الدراسات القرآنية

في هذه المساهمة تستعرض الباحثة أهم ما جاء في رسالتها لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في الدراسات الإسلامية(2005) من وحدة التكوين والبحث: “الدرس القرآني والعمران البشري” بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، في جامعة مولاي إسماعيل- مكناس، والتي يتناول موضوعها “تفسير القرآن بالقرآن: المفهوم والمنهج”.

 فرضية الدراسة

تعددت المناهج التي اعتمدها المفسرون لفهم كتاب الله عز وجل، والتعرفِ على دقائقه، وإبرازِها للمتلقين، كما تنوعت المصادر التي استقوا منها مادتهم التفسيرية. وفي ضوء هذه المصادر والمناهج تحددت أنواع التفسير، غير أن هذه الأنواع مهما تعددت، تبعا لتعدد مصادر المفسرين ومناهجهم، فإنها تلتقي عند إرادة إدراك قصد الله تعالى من كلامه بغرض إيصاله إلى المخاطبين به. وتُترجم هذه الإرادة من خلال اقتراح كل نوع لمعادلة تفسيرية طرفها الأول هو النص المفسَّر وطرفها الثاني هو المقولة المفسِّرة، بحيث يكون أقرب الأنواع إلى الوفاء بالمقصود هو أقدرها على تقليص الفرق بين طرفي المعادلة، ويكون الحكم عليه بالاعتبار أو عدمه تابعا لكفاية المنهج والمصدر الموظفين في سبيل ذلك التقليص.

من هذا المنظور، يمكن تصور الحرج الذي يقع فيه المفسر حين يكون أحد طرفي المعادلة في تفسير القرآن الكريم هو كلام الله تعالى؛ إذ ما من مقولة تفسيرية ترقى إلى مرتبة مطابقته والنطق عن مراده ما لم تكن من نفس مصدره ومادته، وما لم تنسجم منهجيا مع نسقه. فأي نوع من التفسير كفيل بتحقيق هذا الغرض ورفع ذاك الحرج؟

يُفترض أن المدخل الأقدر، في هذه الحالة، على إيجاد معادلة متكافئة الأطراف هو تفسير القرآن بالقرآن، نظرا لما قد يكفله من وحدة في النسق وانسجام في الدلالة ناتجين عن اتحاد المفسِّر والمفسَّر في النظم والمصدر. ويستلزم التحقق من هذا الافتراض القيام بدراسة لمفهوم ومنهج تفسير القرآن بالقرآن، تهدف إلى تكوين تصور دقيق عن مصاديقه وأدواته على نحو يمكِّن من اختبار كفايته والحكم على طبيعته ووظيفته.

أهمية الدراسة

إن من شأن البحث في تفسير القرآن بالقرآن أن يؤكد أو ينفي أفضليته على باقي أنواع التفسير، وأن يكشف عن حدود قدرته على تقليص هامش التأويل، وتقليلِ فوارق المعنى بين النص وتفسيره، وتأمينِ طريق الفهم عن الله تعالى وإدراك قصده من كلامه. ومن شأن تحقيق مفهومه والتنظير لمنهجه أن يمهد لضبط الأعمال المتزايدة التي تروم فقه الخطاب الشرعي وإنشاءَ عمران بشري وفقا لمتطلبات الإرادة الإلهية، وذلك بأن يحول دون وقوعها ضحية سذاجة إبستمولوجية تخلط بين تفسير خديج لا يعرف من تفسير القرآن بالقرآن إلا اسمه، وبين تفسير كامل يقدِّم صورةً تنطق عن مراد الله.

وتزداد الحاجة إلى تناول هذا الموضوع إلحاحا نظرا لافتقار الدراسات القرآنية إلى أدبيات تفرده بالبحث والتصنيف؛ إذ الملاحظ أن الأعمال المتوفرة – في حدود ما اطلعت عليه- وإن تضمنت مادة مهمة في تفسير القرآن بالقرآن، وشملت جملة من مباحثه وأنواعه، إلا أنها لم تخصه بمؤلف حامل لاسمه، جامع لكل ما يتعلق به على نحو يتسم بالإحاطة والاستيعاب، يفصل في مفهومه ويؤصل لمنهجه ويشرح طريقة اشتغاله. ويمكن التأكد من ذلك بالرجوع إلى مكتبة التراث التفسيري بمعناه الواسع الذي يشمل كل عمل تناول القرآن الكريم بنوع من الدرس العلمي كما هو الحال بالنسبة لكتب التفسير وعلوم القرآن والمناسبة والوجوه والنظائر وتوجيه المتشابه وغيرها.

منهج الدراسة

تطلب البحث في مفهوم ومنهج تفسير القرآن بالقرآن اتباع المنهج الوصفي بالأساس، مع الاستعانة بالتحليل والتركيب، وذلك انسجاما مع غرض الدراسة المتمثل في تقديم صورة علمية دقيقة تصف المقصود بهذا التفسير، والأمور التي تنتظر منه، وطريقة مقاربته للنص القرآني، ومنهجه في الاشتغال، مع عرض خطوات عمله في مختلف مراحله. وقد برز التحليل والتركيب في دراسة المفهوم خاصة؛ حيث استدعى تجديد النظر في دلالة “تفسير القرآن بالقرآن” تفكيك العبارة إلى مكوناتها الجزئية، وتحديد الوظيفة الخاصة بكل جزء منها على حدة، ثم بحسب موضع ذلك الجزء من الكل، وصولا إلى إعادة تركيب الجزئيات وتحديد دلالتها بحسب ما يربطها من علاقات.

تقسيم الدراسة

تم تقسيم البحث إلى فصلين، أحدهما خاص بمفهوم تفسير القرآن بالقرآن، والثاني خاص بمنهجه. وقد تناول كل منهما عددا من المباحث، وذلك على النحو التالي:

 تفسير القرآن بالقرآن…المفهوم والدلالات

وقد تناول تحليلَ مفهوم “تفسير القرآن بالقرآن”، من خلال تحقيق الألفاظ المفردة المكونة له، وتحصيل معانيها المستقلة المستفادة من معطيات دلالية متنوعة، وصولا إلى استخراج دلالة الألفاظ المركبة، على اعتبار أن المركب لا يعلم إلا بعد العلم بمفرداته. وذلك من خلال مبحثين؛ خصص الأول منهما لتحليل المفردات على المستويات الصوتية والصرفية والمعجمية ثم التداولية الاصطلاحية. فلكل واحد من هذه الأوصاف المتضافرة لصياغة بنية اللفظة وظيفته الأساس في بناء دلالتها، والإحاطة بمعناها الذي تفيده في أصل الوضع وواقع الاستعمال. إذ لابد لكل دراسة دلالية تتحرى دقة الفهم وتتوخى عمق التحليل من استحضار معطيات الدرس اللغوي وأدواته الاشتغالية التي تمكن من الاستثمار الوظيفي لما يفيده الواقع الاستعمالي المحقَّقُ للكلمة ونظامُها الافتراضي المجرد على حد سواء.

أما المبحث الثاني فقد خصص لإعادة تركيب المفهوم ودراسة قضاياه، وذلك من خلال مطلبين اثنين؛ تناول أولهما مفهوم تفسير القرآن وما يثيره من إشكالات معرفية، يترجمها التساؤل عن مدى حاجة القرآن الفعلية إلى مفسر يضطلع بمهمة بيانه ويتولى النطق عن مراده، وعما إذا كانت تلك الحاجة – في حال تأكدها – ذاتية لصيقة بالنص ونابعة عن اعتقاد النقصان في قدرته البيانية، أو عرضية راجعة إلى التدني التدريجي لملكات المتلقي ومحدودية سقفه المعرفي. وقد اقتضى حل هذا الإشكال تسليط الضوء على القدرة البيانية للنص القرآني، والطاقة الاستيعابية للمتلقي البشري، سواء منها ما تعلق بقدرة استيعابه الكامنة أو بمستوى تفهمه الفعلي، مما أفضى إلى تحديد وجه الحاجة إلى التفسير، ومعرفة القصور – الذي يتهدد كل قناة اتصال- إن حصل أين حصل. وقد تناول المطلب الثاني مفهوم تفسير القرآن بالقرآن، حيث عمل على تحديد ماهية هذا النوع من التفسير، وذلك من خلال بيان الجهة المسؤولة عنه، وتعيين المقدار الذي يدخل في مسماه، والنظر في مدى حجيته.

نحو منهج لتفسير القرآن بالقرآن

استدعى الحديث عن “منهج تفسير القرآن بالقرآن” اعتمادَ ثلاثة مداخل؛ مدخل معرفي تناول التعريف بهذا المنهج وبأهميته، ومدخل إجرائي عرف بالأصول النظرية للأدوات الإجرائية التي يوظفها المنهج لتحليل النص القرآني، كما عرف بطريقة اشتغالها، ومدخل ثالث تناول نموذجا تطبيقيا من خلال واحد من التفاسير التي تبنت هذا المنهج، ويتعلق الأمر بأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين الشنقيطي. وقد تم إفراد كل مدخل بمبحث على النحو التالي:

تعرض المبحث الأول، الخاص بالمدخل المعرفي، لبيان دلالة مفهوم المنهج عموما ودلالة إضافته إلى تفسير القرآن بالقرآن على وجه الخصوص. وكشف عن أهمية التفكير المنهجي وفائدته بالنسبة إلى التفاسير التي تعتمد القرآن الكريم مصدرا للاستمداد. كما أبرز في غضون ذلك جملة من الخصائص المنهجية التي يتفرد بها تفسير القرآن بالقرآن عن غيره من أنواع التفسير.

وبالنسبة للمبحث الثاني، الخاص بالمدخل الإجرائي، فقد خصص للتأصيل لأبرز الأدوات الإجرائية التي يعتمدها منهج تفسير القرآن بالقرآن، ثم رصفِها ووصفها تبعا لاعتبارات متعددة، يترجم كل واحد منها مستوى من مستويات التعامل مع النص القرآني، ومن ذلك التصنيف باعتبار نقل النص، وبنيته، ومجاله الدلالي، والقرب منه موضعيا أو موضوعيا.

أما المبحث الثالث فهو خاص بالنموذج التطبيقي، وقد تضمن بيانا عمليا لطريقة اشتغال إحدى الأدوات الإجرائية المعتمدة في منهج تفسير القرآن بالقرآن، والتي يصطلح على تسميتها في حقل الدراسات القرآنية بـ “التفسير الموضوعي”، حيث تم بيان كيفية الاشتغال بهذه الأداة، ورصد تطبيقاتها من “أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن”. والضابط الموضوعي عمل إجرائي يبدأ بجمع الآيات القرآنية التي يربطها رابط معين في مقام واحد ثم يدرسها على أساس من ذلك. وهو يتخذ ثلاثة أشكال؛ أولها يعنى بدراسة المصطلح القرآني، والثاني يدرس الموضوع من خلال السورة الواحدة، والثالث يدرس الموضوع من خلال القرآن كله. وهذه الأشكال هي التي تم الكشف عنها في “أضواء البيان” من خلال مصطلح الزينة، وسورة العلق، وموضوع الخلافة والاستخلاف.

 نتائج الدراسة

ويمكن إجمال أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة فيما يلي:

– أنها ضبطت مفهوم تفسير القرآن بالقرآن، وبيّنت خصائص القرآن، وخصائص تفسيره، وخصائص التفسير به.

– أنها كشفت عن مبعث حاجة المتلقي إلى التفسير، ووضعت موضع تساؤل مؤهلاته الإدراكية وقدرته على استيعاب الخطاب الإلهي، معتبرة أن هذين العاملين هما السبب الحقيقي الكامن وراء استشكال بعض النصوص القرآنية.

– أنها بيّنت الجهة المسؤولة عن تفسير القرآن بالقرآن، وأوضحت بالأدلة أنه من عمل المفسر البشري، وأن القرآن الكريم لا يعدو أن يكون غير مصدر لاستقاء المادة التفسيرية.

– أنها حدّدت مقدار التفسير الذي ينضوي تحت مسمى تفسير القرآن بالقرآن، فبينت أنه يتضمن كل ربط بين الآيات القرآنية سواء كانت ذات صلة بيانية مباشرة أو غير مباشرة، وسواء كانت الآية المفسَّرة في حاجة إلى بيان أم لم تكن كذلك.

– أنها فصّلت القول في حجية تفسير القرآن بالقرآن، وبيّنت أنه ليس ملزما على الإطلاق، وأن الحسم في منزلته يقتضي استحضار دور المفسر ومدى تدخله في الربط بين الآيات، إذ بحسب مقامه في العلم ونزاهته في الفهم يكون حال تفسيره قبولا أو ردا.

– أنها أصّلت لمنهج تفسير القرآن بالقرآن، ووضعت لبناته الأساس، وبينت سبل استقاء أدواته الإجرائية، ومرجعها في ذلك هو البيان النبوي للقرآن بالقرآن، على اعتبار أن أصح ربط تفسيري بين آيات القرآن الكريم هو الربط الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

آفاق الدراسة

نبّهت الدراسة إلى بعض الآفاق التي تحتاج إلى مزيد من البحث وتعميق النظر، وتتمثل فيما يلي:

– إنجاز دراسة تاريخية ترصد تطور تفسير القرآن بالقرآن منذ بداية نشأته في عهد النبوة إلى حاله في واقع الدراسات القرآنية المعاصرة.

– البحث عن مضان تفسير القرآن بالقرآن، واستخراج مادته العلمية منها.

– التأصيل لسائر الأدوات الإجرائية المعتمدة في منهج تفسير القرآن بالقرآن بردها إلى أصولها النظرية التي تستمد منها مشروعيتها.

– إنجاز دراسات نقدية تتم فيها محاكمة التفاسير التي ترفع شعار تفسير القرآن بالقرآن للنظر في مدى تمثلها بمفهومه والتزامها بمنهجه.

وإضافة إلى هذه الجوانب فإن مجال التفكير يبقى مفتوحا لمعالجة قضية ذات طبيعة جوهرية تثيرها النهايات المعرفية لمفهوم ومنهج تفسير القرآن بالقرآن. ذلك أن حصر الصحيح المعتبر من هذا التفسير في البيان النبوي للقرآن بالقرآن، وفي التفاسير التي تستقي منه ضوابط المنهج ثم تُوظفها في الربط بين الآيات، يفرض معالجة الأسئلة الآتية: هل يفضي اعتماد البيان النبوي واستصحاب منهجه إلى حصول اليقين من إدراك القصد الإلهي الثاوي في القرآن الكريم، ومن ثم الاطمئنان إلى أن ما توصل إليه المفسر هو عين مراد الله تعالى؟ وهل يُمَكِّن البيان النبوي ومنهجه من الوصول إلى المعنى الأول المقصود في أصل النظم؟ أم أن المعنى الذي تقترحه المعادلة التفسيرية يبقى محتمِلا لأن يصيب القصد أو يخطئه مهما كانت العدة المنهجية التي يعتمد عليها المفسر؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق