وحدة الإحياءدراسات عامة

الوحي بين القلب والقبلة قراءة في نظام التواصل الرباني الكوني

 يرتبط مصطلح (الوحي) ارتباطا وثيقا بمعاني الاتصال والتواصل، فعندها تجتمع دلالاته في معاجم اللغة وذلك بالصورة التالية:

الوحي إعلام كما ورد في لسان العرب “أصل الوحي في اللغة كله إعلام في خفاء”. وهو أيضا إلقاء علم، كما ورد في معجم مقاييس اللغة لابن فارس حيث يقول: “إلقاء علم في إخفاء أو غيره إلى غيرك”، ويقول أيضا: “وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى علمه فهو وحي”. فهو إعلام في خفاء عند ابن منظور، وإلقاء بخفاء أو غيره عند ابن فارس. وهو أيضا التفهيم كما نقله ابن حجر في (الفتح) إذ قال: “قيل أصله التفهيم”. وجعله الكفوي في “الكليات” مشروطا بـ”التبليغ” فقال: “الوحي مشروط بالتبليغ دون الإلهام”.

 فبين، إذن، أن الإعلام، وإلقاء العلم إلى الغير، والتفهيم والتبليغ، كلها إشارات إلى الجانب التواصلي والاتصالي لهذا المفهوم.

 وقد أجمع اللغويون وأصحاب المعاجم على أن الوحي يفيد أيضا معاني أخرى تتقاطع مع هذا المعنى الذي ذكرناه، ومن هذه المعاني: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والأمر، والإيماء، والكلام الخفي.

فالكلمة، إذن، غنية وكل معانيها تقريبا ترتبط ارتباطا وثيقا بالتواصل بمختلف أشكاله؛ خفيا كان أو جليا، إشارة كان أو عبارة، كتابة كان أو إيماء، رسالة كان أو إلهاما.

 وبناء على هذا، فإننا لا نرى معنى لما قاله نصر حامد أبو زيد في كتابه “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن”، من قوله: “إذا كانت الدلالة المركزية للوحي هي الإعلام، فإن من شرط هذا الإعلام أن يكون خفيا سريا”[1]، فهذا الشرط الذي ذكره لا تؤيده المادة اللغوية، صحيح أننا نجد عند بعضهم، كما هو الأمر في اللسان، عبارة الإعلام في خفاء، ولكن لا أحد منهم استعمل لفظ السر أو السرية أو جعله شرطا لازما. فهو لفظ نقله نقلا عن الباحث الياباني توشيهيكو أزوتسو وتابعه فيه دون تمحيص[2].

وبالنظر إلى الغنى المفهومي لمصطلح “الوحي”، فقد جعله الله تعالى، كما سنبين بتفصيل فيما بعد، لغة التواصل الكوني. فالتواصل الكوني الرباني كما يتبين في الاستعمال القرآني لكلمة “وحي” يمكن التمييز فيه بين ثلاثة أنواع من التواصل:

أولا: التواصل الأمري الملكوتي 

وهو التواصل العام الذي يشمل الكون كله بأجرامه وأشيائه ومخلوقاته، وهو اتصال قائم على “وحي الله” بمعنى “أمره”، وهو “الأمر” المبثوث في الكون بكل مكوناته ليسبح بحمد الله وليهتدي إلى وظيفته المقدرة بمقتضى أمر الله. كما يظهر ذلك في آيات عديدة منها:

ـ “إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا.. (الأنفال: 12).

ـ “وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءَامِنُوا بِي وَبِرَسُولِي” (المائدة: 113).

ـ “وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ…” (القصص: 6).

ـ “وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ” (النحل: 68).

ـ “فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا” (فصلت: 12).

ـ “يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا” (الزلزلة: 4-5).

فهذا وحي يحمل معنى الأمر المتطلب للفعل و الاستجابة، و غير القابل للرد أو المجادلة.

ثانيا: التواصل التنزيلي الملكي

يدخل هذا النوع في عموم النوع السابق، ولكنه ينفصل عنه في كونه أعظم صور التواصل وأجلها، حيث تتصل السماء برجل مختار من رجال الأرض يسمى نبيا، ويكون هذا الاتصال بوساطة ملك من ملائكة الله ولذلك سميناه بالاتصال الملكي، ولكونه نازلا من الأعلى سميناه التواصل التنزيلي استنادا إلى عبارة القرآن.

وهذا الاتصال خاص لا مثيل له، بل إنه من أكبر آيات الله وأعظمها، ولهذا التواصل صور تحدث عنها العلماء وتوسعوا في ذكر آثار الوحي على الأنبياء حين التلقي. ولن نستطرد في الحديث عن ذلك فهو مبثوث في المصادر[3].

هذا النمط من التواصل روح من أمر الله، ونور هدفه الأسمى هو هداية العباد كما ورد في سورة الشورى: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا” (الآية: 49).

أساس هذا التواصل هو نزول كلام الله على قلب بشر، وهو من الأحداث الجليلة، فالكلام الذي يصل إلى البشر هو كلام العلي المتعالي العظيم جل في علاه، ولذلك فإن هذا التواصل محصور في بشر بأعيانهم هم الرسل والأنبياء، ومخصوص بكيفيات بذاتها، كما نصت على ذلك آية سورة الشورى في قوله تعالى: “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ” (الشورى: 48).

وصورة الوحي هذه تعم جميع الأنبياء كما قال تعالى: “إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا” (النساء: 162-163).

ولن ندخل في تفاصيل الوحي للأنبياء عليهم السلام التي توسع فيها العلماء، لكن يكفي أن نشير، كما قال ابن خلدون، إلى “أن في حالة الوحي كلها صعوبة وشدة قد أشار إليها القرآن، قال تعالى: “إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا” (المزمل: 4)، وقالت عائشة رضي الله عنها: “كان مما يعاني من التنزيل شدة”[4]، وقالت كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا”[5].

ثالثا: التواصل التبليغي (النبوي)

وهو امتداد للتواصل التنزيلي الملكي، وهو الغاية منه، وإلى هذا النوع تشير آية المائدة في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ” (المائدة: 69).

فالآية واضحة في أنها ترتب التبليغ على التنزيل، وتجعل التبليغ أساس إيصال الرسالة إلى الناس.

ولأهمية هذا الاتصال التبليغي واستناد الدين عليه، فقد تكرر في القرآن الكريم كثيرا بأسلوب القصر والحصر تأكيدا على أهميته وجوهريته. تأمل الآيات الكريمة التالية:

ـمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ” (المائدة: 100).

ـ “فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ” (المائدة: 94).

ـ “فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ” (النحل: 35).

ـ “وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ” (يس: 17).

ويستند التبليغ على المعنى اللغوي للوحي الذي يجعل منه رسالة يجب إيصالها إلى الناس. ولما كان الوحي رسالة فإنه لا يتصور تبليغ الرسالة إلا بلسان ولغة، ولذلك اختص وحي الأنبياء عليهم السلام بألسنة أقوامهم حتى يتم التبليغ على أكمل وجه وأتمه وتتحقق بذلك الغايات التواصلية المطلوبة من تبليغ الرسالة. قال تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (إبراهيم: 5).

والتبيين المذكور في هذه الآية هو الغاية الكبرى من التبليغ، فليس المطلوب هو حصول البلاغ وحده، وإنما أن يردف البلاغ بالتبيين أو يكمل به. وفي التمييز بين هذين المفهومين دقة وغور لا نحتاج إلى اكتناهه هنا لأن له موضعا سنفصله فيه إن شاء الله.

وبناء على هذا كان تأكيد القرآن الكريم المتكرر على أن الرسالة الإلهية الخاتمة جاءت بلسان عربي مبين، كما في سورة الشعراء: “وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين” (الآيات: 192-195). فقد جمعت هذه الآيات نوعي التواصل المذكورين أعلاه؛ التنزيلي الملكي في قوله عز وجل: “لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ“، والتبليغي النبوي في قوله تعالى: “لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين” ومعلوم أن الإنذار صورة من صور التبليغ.

وقد فسر القرآن الكريم الغاية من تيسير عملية التواصل التبليغي هذه في آية سور الدخان في قوله تعالى: “فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” (الدخان: 55)؛ فالتذكر كما شرحنا غير مرة هو المرتبط بالنظام الكوني الأمري القائم على تذكر العهد الأول الذي أخذ على كافة البشر في الأزل أن يكونوا عبيدا لله وحده لا شريك له، و إنما جاءت الأديان لتذكير الناس بهذا العهد وإعادتهم إلى الفطرة الصحيحة، وجعل الله اللسان المألوف للناس وسيلتهم للتذكر.

ولما كان هذا الاتصال التبليغي النبوي هو المعنى الأخص للوحي، وكان الاتصال التنزيلي الملكي هو المعنى الخاص الذي يتأسس عليه التبليغ، وكان الاتصال الأمري الملكوتي هو المعنى العام الذي يشمل النوعين السابقين ويؤطرهما ويوجههما ويحفظ حدودهما، فإننا سنركز في حديثنا عن الوحي على صورتين تواصليتين هما التنزيل والتبليغ، مع توسيع معناهما لجعل كل تلق للإيمان عن طريق التبليغ و تفاعل معه مستمدا من معنى التنزيل، فكأنه صورة من صور التنزيل بالتذكر، وهو ما سيتولد منه عند كل متذكر متلق انتهاض للقيام بالتبليغ والتبيين متبعا سنن الأنبياء وخصوصا إذا كان من العلماء الذين هم ورثة الأنبياء. فكأن عملية التنزيل تتم مجازا في قلب كل مؤمن يتلقى الإيمان فتنهضه إلى التبليغ لينشر الإيمان في الكون.

وبهذا يمكن التمييز بين صورتين متكاملتين للتواصل بالوحي وهما:

1. صورة الاتصال العمودي.

2. صورة الاتصال الأفقي.

وهما متكاملتان يستند ثانيهما على أولهما استنادا جوهريا، وهذا أوان تفصيل الحديث عنهما:

1. الاتصال العمودي

هذا النوع من الاتصال هو الأصل المكين الذي ينبني عليه نظام التواصل الرباني الكوني كله، وذلك لكونه قائما على معجزات متراكبة؛ معجزة النبوة، ومعجزة إنزال الملك، ومعجزة تبليغ كلام الله، ومعجزة الرسالة. ولذلك فإنه يقع في “القلب” الذي هو جهاز التواصل الداخلي في الإنسان، وهو الجهاز الوحيد الذي يمكنه أن يرتبط بعالم الغيب و بالملكوت الأعلى.

 فـ”الوحي في معناه الأعم، كما قال الدكتور طه عبد الرحمن، هو ما يلقى في القلب من العلم، ويبدو أن صلة الوحي بالقلب هي أقوى صلة تمكن أن تكون لأي فعل إدراكي به، بحيث لا وحي إلا في القلب… أما الوحي في معناه الأخص، فالمقصود به هو الاصطلاح الشرعي؛ أي كل كلام أنزله الحق سبحانه وتعالى على نبي من أنبياءه؛ وقد تقرر بموجب كلام الله نفسه، أن هذا الكلام لا يكون نزوله إلا في القلب”[6].

فالوحي، إذن، إنما ينزل في القلب لأنه العضو المهيأ للاتصال بالسماء، كما في قوله تعالى: “نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ.عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ” (الشعراء: 193-194).

وقوله: “مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ” (البقرة: 96).

فالقلب هو العنصر الفاعل في هذا النمط من التواصل، والأحاديث الواردة في أهمية القلب ودوره الإدراكي والعقلي والإيماني كثيرة جدا[7]. وسأشير هنا إلى حديث قدسي جاء فيه: “ما وسعني أرضي ولا سمائي لكن وسعني قلب عبدي المؤمن”، وهو حديث ذكر ابن تيمية أنه من الإسرائيليات وليس له سند معروف عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولكنه شرح معناه فقال: “ومعناه: وسع قلبه محبتي ومعرفتي، وما يروى “القلب بيت الرب” هذا من جنس الأول، فإن القلب بيت الإيمان بالله تعالى ومعرفته ومحبته”[8]. وشرح ابن تيمية لمعنى الحديث على الرغم من أنه لا أصل له يدل على استحسانه لمعناه وهذا ما يهمنا في هذا السياق.

ومرد هذا إلى خصوصية القلب، وقد فسر الإمام الغزالي هذه الخصوصية تفسيراً لطيفًا في كتابه الجليل “الإحياء” حيث قال: “إن للقلب بابين؛ باب مفتوح إلى عالم الملكوت؛ وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة، وباب مفتوح إلى الحواس الخمسة المتمسكة بعالم الملك والشهادة. وعالم الملك والشهادة يحاكي عالم الملكوت نوعا من المحاكاة. فأما انفتاح باب القلب إلى الاقتباس من الحواس فلا يخفى عليك، وأما انفتاح بابه إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوح المحفوظ فتعلمه يقينيا بالتأمل في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل أو كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس، وإنما ينفتح ذلك الباب لمن انفرد بذكر الله تعالى”[9].

فالقلب، إذن، مهيأ للاتصال العمودي بالملكوت و بعالم الغيب، وصورته العليا والمثلى هي قلب النبي الذي يتنزل عليه الوحي تنزلا حقيقيا، وصورته الدنيا هي قلب المؤمن الذي ينفتح قلبه على عوالم الغيب بذكر الله تعالى، ويشترك المؤمنون جميعا في توفر قلوبهم على أثر الشهادة الأزلية التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، والتي هي ذاكرة مخفية في القلب حسب اجتهاد أستاذنا طه عبد الرحمن، وهي ذاكرة تتضمن شهادة الخلق في الأزل بوحدانية الله وربوبيته، كما قال تعالى في سورة الأعراف: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ” (الآية: 172).

فالغاية من الوحي بهذا المعنى هي تفعيل هذه الشهادة الأزلية في القلب ليتذكر عهدا قطعه في عالم الغيب بالإيمان بالله وحده لا شريك له، وتصدق ذلك آيات كثيرة توضح الارتباط بين الوحي والتوحيد، كما في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ” (الأنبياء: 25).

وقوله سبحانه: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا” (الكهف: 105).

وبهذا يكون القلب هو مستودع الإيمان والمعرفة، وهو الذي يتوجه إليه الذكر والتذكير، ولذلك استحق عند العارفين أن يكون اسما جامعا يقتضي مقامات الباطن كلها كما قال الحكيم الترمذي.

ولأهمية القلب بوصفه جهاز التواصل المركزي، يجب على الإنسان حفظ هذا الجهاز ونفي كافة مشوشات التواصل التي يمكن أن تفسد وظيفته، أو تحرف مساره، أو تشوه حقيقته. وقد عبر القرآن الكريم عن كثير من هذه المشوشات بآثارها، فتحدث عن الإغفال والإقفال وعن المرض والقسوة وعن الطبع والأكنة، وعن اللهو والارتياب في آيات عديدة لا نريد التطويل بسردها.

وإذا انتفت المشوشات ومعوقات التواصل تحقق الصفاء فكان توجه القلب نحو الحق وانفتاحه على عالم الغيب موصولا، فتنشأ عن ذلك رتبتان للقلب؛ رتبة السلامة ورتبة الطمأنينة. أما رتبة السلامة فهي الرتبة الدنيا التي تؤدي إلى النجاة، كما في قوله تعالى: “يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” (الشعراء: 88).

وأما رتبة الطمأنينة فهي الرتبة العليا، وهي كما عرفها ابن عجيبة: “سكون القلب إلى الله عاريا عن التقلب والاضطراب ثقة بضمانه أو اكتفاء بعلمه أو رسوخا في معرفته”[10]، فهي، إذن، رتبة السكينة. قال تعالى: “الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (الرعد: 29)، وقال تعالى: “قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى” [رتبة السلامة] “وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي” [رتبة الطمأنينة] (البقرة: 259).

وقوله تعالى: “هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا” (الفتح: 4).

وهذه الرتبة العليا هي التي توجه القلب ليندمج في نظام الوحي الكوني الذي هو نظام التواصل الأمري الملكوتي العام.

2. الاتصال الأفقي

نأتي الآن إلى الاتصال الأفقي المبني أصلا على ما رسخ في القلب خلال الاتصال العمودي، ولكون هذا الاتصال نابعا من القلب ومتوجها إلى الغير من الأناسي فإننا سنشتغل بمفهوم “الوجه” الذي نراه مكملا لمفهوم “القلب”. وهذا المفهوم، على الرغم من ذكره في القرآن الكريم فإن العلماء المسلمين أهملوه[11].

ولذلك سوف نركز عليه مستمدين من معناه اللغوي ومتجاوزين له في الآن نفسه، فالوجه هو “ما يقبل من كل شيء”، وهو أيضا “نفس الشيء وذاته”، هذا في اللغة، ولكننا سنفهم من (الوجه) أنه الجهاز الخارجي الذي ينعكس عليه ما يصدر عن القلب الذي هو الجهاز الداخلي كما سلفت الإشارة. فالوجه هو الذي تنطبع عليه مكنونات القلب، فكأنه مرآة القلب وظاهره، وإن شئت قلت: هو ظاهر الذات والقلب باطنها، وبذلك يكون الوجه هو تجلي الأخلاق الظاهرة حسنة كانت أو سيئة. وبذلك جرى الحديث الفصيح والعامي في الكلام عن وجوه الناس، حيث نجد في الاستعمال المألوف جعل المشاعر والأحاسيس الباطنة في النفس تتبدى متجلية في الوجه حيث يظهر عليه الحزن والفرح والغضب والطرب والخبث والطيبة والمكر وسلامة النية والخير والشر وغيرها من الخصال النابتة في القلب!

ويبدو أن ما يستقر في القلب لا ينطبع على الوجه وحسب، وإنما أيضا يتم نقله إلى الغير عن طريق الوجه، فالناس لا يعاملون ولا يتعارفون إلا بوجوههم.

يقول الإمام الغزالي، في إشارة لطيفة إلى المقابلة بين القلب والوجه: “فيا عجبا ممن يهتم بوجهه الذي هو موضع نظر الخلق فيغسله وينظفه من الأقذار والأدناس، ويزينه بما أمكنه لئلا يطلع مخلوق فيه على عيب، ولا يهتم بقلبه الذي هو موضع نظر رب العالمين فيطهره ويزينه ويطيبه، كي لا يطلع الرب جل ذكره على دنس فيه وشين وآفة وعيب”[12]. وما يهمنا من كلام الغزالي هنا هو حديثه عن الوجه بوصفه موضع نظر الخلق.

ولذلك فإن ” الوجه” هو ظاهر أخلاق الرجل الذي يتعامل به مع الناس، ولكي تكون هذه الأخلاق موافقة للنظام الكوني الأمري الملكوتي وتكون منسجمة مع ما تنزل على القلب من الإيمان يجب أن يكون الوجه مسلما إلى الله تعالى.

ومن أجل أن نضبط مسار التواصل الأفقي القائم على مفهوم “الوجه”، فإننا نحتاج إلى بيان أمرين اثنين: أولهما الوجهة أي مسار توجه الوجه، والثاني: كيفيات تواجه الوجه مع المخلوقات.

1. الوجهة والقبلة

أما الوجهة فهي مبنية على ابتغاء “وجه الله”، وعلى إقامة الوجه للدين، فالدين هو الطريق لبلوغ وجه الله، فهو الفطرة المركوزة في قلب الإنسان بمقتضى الشهادة الأزلية التي أشرنا إليها سابقا. وقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة في آية سورة الروم في قوله: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ” (الروم: 29).

وعبر عنها قول إبراهيم، عليه السلام، في سورة الأنعام في قوله تعالى: “إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا(الآية: 79)، فالوجهة هي الله، سبحانه وتعالى، وقد وردت آيات كثيرة تجعل أفعال الخير كلها موجهة إلى الخالق سبحانه، كما في قوله: “ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ” (الروم: 37) وقوله: “وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ(الروم: 38) وقوله: “إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا” (الإنسان: 9) وقوله: “وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى. إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى(الليل: 19-20).

وقد جمع القرآن الكريم بين الوجه والوجهة في آية سورة البقرة في قوله تعالى: “قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ” (البقرة: 143).

فالنبي، صلى الله عليه وسلم، مدرك لأهمية القبلة الرمزية التي تأخذ بمجامع القلب وتجعل الوجه راضيا مطمئنا بإقباله نحو المسجد الحرام. ثم جعل الإقبال على القبلة رمزا للإقبال على الدين كما في قوله تعالى: “وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (يونس: 105) وقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا” (الروم: 29) وقوله: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ” (الروم: 42).

فكأن “الوجه” لا يطمئن إلا إذا اهتدى إلى قبلة ووجهة، وقد عبر القرآن عن هذا المعنى في أكثر من آية كريمة بعبارة (إسلام الوجه)، كما في قوله تعالى: “بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ” (البقرة: 111) وفي قوله: “وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى” (لقمان: 21)، وقوله تعالى: “وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ” (النساء: 124)، فإسلام الوجه لا شك أنه متفرع عن سلامة القلب التي أشرنا إليها سابقا.

 ويتضح ذلك بصورة أكبر في سياق حجاجي كما في قوله تعالى في سورة آل عمران: “فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [أي وجوهكم] فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ” (الآية: 20).

فالنبي، صلى الله عليه وسلم، الذي أسلم قلبه ووجهه لله تعالى، طولب أن يسأل أهل الكتاب وغيرهم ممن بعث إليهم من الناس هل يريدون إسلام الوجه إلى الله؟ فإن استجابوا فقد تحقق الاتصال التبليغي ونجحت مهمة التواصل بتحقق الهداية، وإن تولوا فقد أدى الرسول، صلى الله عليه وسلم، ما عليه بإنجاز التبليغ (فإنما عليك البلاغ).

ولأن الله تعالى جعل أمر تدين الخلق أمر تواصليا قائما على التبليغ والحجاج والإقناع والتذكير بالشهادة الأزلية دون إكراه او إجبار أو استعمال للسلطان كيفما كان ذلك السلطان سوى سلطان الحجة والدليل والبرهان، فقد قال الله تعالى: “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (الغاشية: 21-22) وقال تعالى في آية أخرى: “نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ (ق: 45).

ولعل سبب ذلك هو أن يتحقق انسجام الإنسان مع نظام الكون واتباعه للدين وابتغاؤه لوجه الله مما يمكن أن يترتب عليه الجزاء. فإذا أسلم وجهه لله كان له جزاء من جنس العمل حيث تبيض وجوه المؤمنين (آل عمران: 106) وتكون وجوههم يوم القيامة: “وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (القيامة: 21-22) و”تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ” (المطففين: 24).

أما إذا أبى إسلام الوجه واختار الانقلاب والإكباب كما قال تعالى: “وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ (الحج: 11) وكما قال أيضا: “أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(الملك: 23).

فهؤلاء لأنهم لم يتقوا بوجوههم سوء العذاب يوم القيامة كما في آية 24 من سور الزمر، فإن عذابهم يرتبط ارتباطا وثيقا بوجوههم، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك بصيغ مختلفة وفي مواضع متعددة حيث أشار إلى أن وجوه هؤلاء تسودّ (آل عمران: 106)، كما أن الملائكة تضرب وجوههم عند وفاتهم: “وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (الأنفال: 51)، ثم عندما يصيرون إلى القيامة: “تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ” (المؤمنون: 105)، ثم: “يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا(الأحزاب: 66)، وهي على كل حال: “وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ” (عبس: 41-42)، وإذا فكروا في الاستغاثة فإن العقاب يكون على وجوههم: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ” (الكهف: 29).

2. التواجه

ونقصد به صلة الوجه مع الغير ومقابلته له، وينبغي أن نميز فيه صورتين:

أ.  صورة التواجه مع الكون؛ حيث ينظر الإنسان المؤمن إلى الكون بمقتضى رسوخ القلب في تلقي الوحي الملكوتي فلا يرى فيه غير آيات تدل على وجود الله وتوحيده. وبذلك يتم ربط “الفطرة” المركوزة في الإنسان بالفطرة المبثوثة في الكون والقائمة على إخلاص العبادة للخلاق العليم. وبهذا يكون الإنسان منسجما مع الكون انسجاما تاما في التسليم والإسلام لله وحده. وقد أشار إلى هذا بحق مفسر معاصر قال: “إن حقيقة التوحيد ليست مركوزة في فطرة “الإنسان” وحده، ولكنها كذلك مركوزة في فطرة هذا الوجود من حوله، وما الفطرة البشرية إلا قطاع من فطرة الوجود كله، موصولة به غير منقطعة عنه، محكومة بذات الناموس الذي يحكمه، بينما هي تتلقى كذلك أصداءه وإيقاعاته المعبرة عن تأثره واعترافه بتلك الحقيقة الكونية الكبيرة”[13].

وبهذا التواجه يصبح الإنسان حلقة منسجمة مع حلقات الكون الكبير المسبح لربه على الدوام.

ب. صورة التواجه مع الخلق؛ حيث يكون تواجهه مع المؤمنين بصور التعاون القائمة على معاني المعروف التي فصلناه في بحثنا عن نظرية المعرفة القرآنية. ويكون تواجهه مع غير المؤمنين من الأقوام والأجناس بمقتضى صور التعاون القائمة على معاني التعارف الذي يحفظ القيم الإنسانية ولا يخدش مسار التوجه إلى الخالق بالانشغال بمحاسبة الخلق أو محاربتهم، وإنما بالرحمة التي تراعي عمق صلة القلب بالله، وتضع في الحسبان إسلام الوجه لله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف”.

وإذا بلغ المرء هذه المرتبة التواجهية الموازية لرتبة الطمأنينة القلبية فقد استقامت وجهته واستبان توجهه إلى المعنى الأكبر للاتصال بالوحي، بوصفه نظاما ربانيا شاملا للكون، فيكون الإنسان بقلبه ووجهه، بمقتضى التبليغ، سابحا في نظام كوني شامل قائم على التسبيح الذي هو لغة العبادة الكونية: “وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ” (الإسراء: 44) “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ” (النور: 40) ولذلك صدر الأمر إلى الإنسان بالانضمام إلى نشيد التسبيح الكوني كما في قوله تعالى: “فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ” (الحجر: 98).

وعند هذا الحد تكتمل دائرة التواصل بالعودة إلى الاتصال بملكوت الله حيث الأنوار الإلهية والتجليات السرمدية، كما قال الإمام العارف ابن عطاء: “اهتدى الراحلون إليه بأنوار التوجه والواصلون لهم أنوار المواجهة. فالأولون للأنوار وهؤلاء الأنوار لهم لأنهم لله لا لشيء دونه: “قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ” (الأنعام: 92)”[14].

والذي يتحصل لدينا في نهاية هذا الحديث؛ أن مفهوم “الوحي” مفهوم جليل، وأنه مفتاح نظام التواصل الكوني الرباني الذي تقوم دائرته الأوسع والأشمل على التواصل الأمري الملكوتي الذي يعم كل كائنات الكون السائرة وفق أمر الله، والمنتظمة انتظام الطاعة والخضوع لإرادة الخالق، والمتواصلة مع الحق بالحمد والتسبيح. ثم تليها الدائرة الوسطى التي سميناها بالتواصل التنزيلي الملكي وفقا لإرادة الحق سبحانه باختصاص الإنس والجن بالتكليف، وتشريفهم بالاختيار والإرادة؛ فأنزل الروح الأمين لتبليغ وحيه إلى قلوب أنبيائه ورسله، ثم كلف الأنبياء والرسل في الدائرة الأخيرة للتواصل بالتبليغ إلى الخلق.

ولما كان نور الوحي المتنزل مستقره القلب، فإن النور المنعكس من القلب عند التبليغ يكون مقره الوجه، وعندما يتقابل النوران، نور القلب ونور الوجه، يتوجه الإنسان إلى وجهته الصحيحة التي هي وجه الله تعالى ودينه القيم، ويتواجه مع الكون والمخلوقات بمقتضى المعاني التي استمدها من توجهه إلى القبلة فيسير على مقتضيات المعروف والتعارف لتتكامل له الأنوار بالدخول في نشيد الكون الأزلي القائم على تسبيح الله وحمده وتمجيد آلائه وشكر نعمه.

الهوامش


[1]. نصر حامد أبو زيد، “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن”، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990، ص36.

[2]. نشير إلى أن نصر حامد أبو زيد قد سلخ بحث توشيهيكو أوزوتسو المعنون بـ: (Revelation as a linguistic concept in islam) المنشور عام 1962، واعتمده اعتمادا كليا في كتابه “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن”، واكتفى بالإشارة الإجمالية لبحث إزوتسو في نهاية الفصل الأول، مع أن كل كلامه إنما هو حاشية موسعة على عمل أزوتسو. ونشير هنا إلى أننا لا نوافقهما في كثير مما ذهبا إليه.

[3]. انظر كتاب: ستار جبر حمود الأعردي، الوحي ودلالاته في القرآن الكريم والفكر الإسلامي، دار الكتب العلمية، 2001، ورشيد رضا، الوحي المحمدي، مؤسسة العز الدين، 1406ﻫ.

[4] . صحيح البخاري، بدء الوحي.

[5] . عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، ط1، (1425ﻫ/2004م)، 1/410.

[6]. طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2012، ص95.

[7]. انظر كتاب: سليمان زيد سلمان اليماني، القلب ووظائفه في الكتاب والسنة، الدمام: دار ابن القيم للنشر والتوزيع/المملكة العربية السعودية، (1425ﻫ/2005م).

[8]. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، المدينة النبوية: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف/المملكة العربية السعودية، (1416ﻫ/1995م)، 18/122.

[9] . أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، إعداد ودراسة: إصلاح عبدالسلام الرفاعي، إشراف ومراجعة: عبدالصبور شاهين، القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط1، (1408ﻫ/1988م)، 3/28.

[10]. عبدالله أحمد ابن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، الدار البيضاء: مركز التراث الثقافي المغربي، تقديم وتحقيق: عبدالمجيد خيّالي، د. ط، د. ت، ص20.

[11]. يشار إلى أن هذا المفهوم اهتم به الغربيون فلاسفة ولغويين، واشتهر من بينهم الفيلسوف الفرنسي ليفيناس، واهتم به اللسانيون التداوليون في باب “التهذيب والاحترام”.

[12] . أبو حامد الغزالي، منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين، تحقيق: محمود مصطفى حلاوني، ص113.

[13]. سيد قطب، في ظلال القرآن، بيروت-القاهرة: دار الشروق، ط17، 1412ﻫ، ص1394.

[14]. انظر: أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني، إيقاظ الهمم في شرح الحكم، تقديم ومراجعة: محمد أحمد حسب الله، تحقيق: محمد أحمد حسب الله، دار المعارف، ص108.

Science

الدكتور عبد الجليل هنوش

• عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض مراكش.
• دكتوراه الدولة في النقد الأدبي من جامعة القاهرة.
• أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، مادة النقد والبلاغة.
• منسق ماستر: الأدب العربي القديم: أصوله اللغوية ومناهجه، بكلية الآداب مراكش.
من أعماله:
ـ التأسيس اللغوي للبلاغة العربية في القرن 2 هـ.
ـ ابن طبا طبا العلوي والتصور التداولي للشعر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق