مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

البلاغةُ الجَديدةُ والبلاغةُ الباليةُ

كثيراً ما يُردّدُ بعضُ مَن لا علمَ له بالنّصِ والموادِّ التي بُنيَ منها، وعُلومِ الآلَةِ التي تضبِطُه، والنّصوصِ التي دَخَلَت في جوفِه، أنّ العبرَةَ في الدّرسِ والتّحليلِ إنّما هي بالنّصّ لا بصاحبِه، وبالمُنجَزِ في ذاتِه، لا بشُروطِ توثيقِه ونسبتِه، وليكُنِ النّصُّ هَمَلاً لَقيطاً. وإنّما العبرةُ عندَ هؤلاءِ الجَهَلَةِ: بالنّصِّ لا بصاحبِه ولا بتوثيقِه، ويشْرَعونَ بعدّ ذلكَ في استخراجِ بلاغتِه بزعمِهِم، وأيّةُ بلاغةٍ؟ إنّها البَلاغةُ الجديدةُ، وما الجديدُ في البَلاغةِ الجديدَةِ؟

الجديدُ في البَلاغَةِ الجَديدةِ الذي يميزُها عن البَلاغة الباليَةِ: إنّها بضعُ كلماتٍ تَلوكُها الأسنةُ وتتداوَلُها بعضُ الأطروحاتِ التي تُناقَشُ هنا وهناك، وقوامُها كلامٌ عن القارئ والمتلقّي ومُصطلَحاتٌ أجنبيّةٌ في جمالِ التلقّي وأفقِ الانتظارِ وما لَم يقُلْه النّصُّ وما اختَفى بين السّطورِ ويجبُ البحثُ عنه والتلصُّصُ عليْه، أمّا السطورُ الماثلَةُ فقَد ضلّ عنهُم أن يَقرَؤوها، وأمّا ما غابَ فهوَ محورُ القضيّة، ويبحثونَ في البَلاغةِ الجديدةِ أيضاً عن عتبات النّصّ ونهايةِ والنّصّ والنّصّ المُولَّدِ [بالمعنى المُعاصر] والنّصّ الباطنِ ولُغةِ لُغةِ النّصّ، وغير ذلِك من مَفاهيم “البَلاغةِ الجَديدَة”، وإذا سألْتَهُم عن التشبيه التمثيليّ والمَجازِ العقليّ والمَجازِ المُرسَل والكنايَةِ والاستعارةِ المكنيةِ والطّباقِ والجناسِ التّامّ والنّاقصِ والتّوريةِ والإردافِ والتّتميمِ والتّذييلِ وحُسنِ ؤالتّنسقِ، وغيْرِها من المَفاهيمِ التي تدخُلُ في صَميمِ بَلاغَةِ النّصّ نظروا إليْك كارهينَ واتّهموكَ بالاشتغالِ ببلاغةِ البِلى وتَرْك بلاغة الحَداثةِ والجِدّةِ

***

والحقيقَةُ أنّهُم لم يكُن لهُم في حياتِهِم العلميّةِ نصيبٌ كبيرٌ من الدّرْسِ والتّحصيلِ للبلاغَةِ الأصيلَةِ التي هي قوامُ مَبْنى النّصوصِ الفَصيحَةِ، ومَحْرومُ الشّيءِ لا يُعطيه. 

وما مَنَعهُم أنْ يَعْلموا البَلاغةَ الأصيلةَ إلاّ بُعدُهم عن مَكانها وقلّةُ زادِهم من أغراضِها؛ ولو راموا تحليلَ النّصوص على قلّةِ ما عندَهُم منها بل فراغهم وانقطاعِ موادِّهم وبُعدِهم؛ لدَخَلوا من بابٍ ولَخرجوا من بابٍ آخَرَ كَما دَخَلوا، أمّا إن تكلّموا في البَلاغَة المُسَمّاةِ عندَهُم بالباليةِ فإنّهم سيَبخَسونَ أقوامَ البَلاغةِ القَديمةِ حظّهُم وينقُصونَهم فضلَهُم، ويتعرّضون للأئمّة بالهمزِ واللّمزِ والطّعنِ والتّجهيلِ، بَل يوهِمونَ مَن رأى بَلاغَتَهم الجديدةَ، بقلّةِ زادِ البلاغيّينَ ونهايةِ وُسعهِم وأنهم ليسوا من الفضل في الفنّ كالذي عليه أهلُ البَلاغةِ الجديدةِ.

فلا بُدّ من التّنبيه على الحاجةِ إلى علم البَلاغةِ في نشأتها الأولى، والتّنويه بعُلَمائها وفُضلائها والتّوقيف على أغراضِها وتَحقيقِ مُصطلحاتها ومَفاهيمها، وشرحِ أصولها وامتداداتها حتّى ينتفعَ طلاّبُ العصرِ من فوائدها وثُمُرِها وتَصيرَ جَنىً دانيَ القطافِ لمَن رامَ تفسيرَ آيةٍ أو فَهمَ حديثٍ أو شرحَ شعرٍ أو تَحلبلَ قصيدةٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق