مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

الإمام البوصيري

يعد الإمام البوصيري إمام الشعراء، وأشعر العلماء، غزير العلم، متعدد الجوانب، اشتهر بمدائحه النبوية التي اتسمت بالرصانة والجزالة، وجودة الألفاظ، وبراعة النظم، فكانت مثالا يتبعه الشعراء لينهجوا على منواله ويسيروا عليه، وفي هذه الحلقة سنعرف بهذا العالم الجليل الذي أنار الطريق إلى المدائح النبوية وجعلها نبراسا يهتدى بها. 

 نبذة عن حياته:

اسمه ونسبه:

أجمع المؤرخون على أن اسمه محمد، واسم أبيه سعيد، ثم اختلفوا في سائر نسبه؛ فقد ذكر الكتبي أن اسمه محمد بن سعيد بن حماد بن  محسن بن  عبد الله بن صنهاج بن ملال الصنهاجي؛ كان أحد أبويه من أبو صير والآخر من دلاص، فركبت له نسبة منهما وقيل الدلاصيري، لكنه اشتهر بالبوصيري، (1) كما ذكر الصفدي أن أصله مُحَمَّد بن سعيد بن حَمَّاد بن محسن بن عبد الله ابْن حياني بن صنهاج بن ملال الصنهاجي شرف الدّين أَبُو عبد الله كَانَ أحد أَبَوَيْهِ من بوصير والآخر من دلاص فَركب له نسبة منهمَا وَقَالَ الدلاصيري وَلَكِن اشْتهر بالبوصيري، وكانت له أشياء مثل هَذَا يركبهَا من لفظتين مثل قَوْله فِي كسَاء لَهُ كساط فَقيل لَهُ لماذَا سميته بذلك قال لأَنِّي تارة أجلس عليه فهو بساط وتارة أرتدي بِه فَهو كسَاء وَأهل العلم تسمى مثل هَذَا منحوتاً كَقَوْلِهِم عبشمي نِسْبَة إِلَى عبد شمس، وأَصله من المغرب من قلعة حَمَّاد من قبيل يعْرفُونَ ببني حبنون.(2)

فاتفق أنه أصابه فالج أبطل نصفه، وتعطل مدة، فلما أَمَضَّهُ ذلك عزم على نظم قصيدة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشفع بها إلى الله تعالى ينجيه مما به، فنظم القصيدة التي تعرف بالبردة.(3)

 وكان مختصر الجسم، وفيه كرم، وله شعر فائق، وكان يعاني صناعة الكتابة الديوانية ويتصرف في المباشرات.(4) 

ولادته ووفاته:

ولد البوصيري يوم الثلاثاء مستهل شوال سنة ثمان وست مائة، وقيل سنة عشر، وقيل سنة سبع ويرجح بعضهم أنه توفي سنة 608هــ (5)، وكما اختلفوا في ولادته فقد اختلفوا في وفاته أيضا؛ يقول الصفدي وهي رواية أثير الدين أبي حيان:«وأظن وفاته كانت في سنة ست وتسعين أو سبع وتسعين وست مائة، أو ما حولهما»(6)، ويقول المقريزي:«ومات في يوم … سنة خمس وتسعين وستمائة بالمارستان المنصوري»(7).

 شيوخه وتلامذته:

انتقل البوصيري إلى القاهرة حيث تلقى علوم العربية والأدب ، فحفظ القرآن في طفولته، وتتلمذ على عدد من أعلام عصره، حيث اجتمع بالشيخ أبي العباس المرسي، وهو الذي تلقى علوم الأستاذ الجليل القطب الواصل أبي الحسن الشاذلي، فانتفع الإمام البوصيري بصحبته كثيرا، كما اشتهر الإمام البوصيري بأنه كان يجيد الخط وقد أخذ أصول هذا الفن وقواعده على يد إبراهيم بن أبي عبد الله المصري وقد تلقى عنه هذا العلم عدد كبير من الدارسين بلغوا أكثر من ألف طالب أسبوعيا،  كما تتلمذ على البوصيري  نخبة طيبة وعدد كبير من العلماء المعروفين، منهم أبو حيان أثير الدين محمد بن يوسف الغرناطي الأندلسي، وفتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد العمري الأندلسي المصري المعروف بابن سيد الناس، والعز ابن جماعة وغيرهم، وكان رحمه الله يحمل عقلا مستنيرا ولسانا صيرفيا.(8) 

ثناء العلماء عليه:

وبسبب تفوقه في  شعر المديح النبوي أثنى عليه العديد من العلماء البارعين ومؤرخي هذا العصر، فقال عنه ابن حجر الهيتمي في مقدمة «المنح المكية شرح الهمزية البوصيرية»: «هذا وإن من أبلغ ما مدح به النبي صلى الله عليه وسلم من النظم الرائق البديع، وأحسن ما كشف عن كثير من شمائله من الوزن الفائق المنيع وأجمع ما حوته قصيدة من مآثره وخصائصه ومعجزاته هو الشيخ الإمام العارف الكامل الهمام المتفنن المحقق، البليغ الأديب المدقق الإمام، إمام الشعراء، وأشعر العلماء، وبليغ الفصحاء وأفصح البلغاء الشيخ أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج بن هلال الصنهاجي»(9)، وقال الشيخ الباجوري في شرحه على البردة: «ومن أَجَلِّ الشعراء الإمام الكامل والهمام العالم العامل البليغ الأديب أشعر العلماء وأفصح الحكماء الشيخ شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري»(10). 

وقال الشيخ بسام محمد بارود في حاشيته على العمدة «شرح بردة البوصيري»: «هو إمام الشعراء، وشاعر أئمة العلماء، بل هو الفرقد الوضاء الذي أنار الطريق إلى المدائح النبوية: شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن، بن عبد الله بن صنهاج بن هلال الصنهاجي البوصيري»(11).

ومن مؤرخي هذا العصر الذي أثنوا عليه، ابن شاكر الكتبي قال :« وشعره في غاية الحسن واللطافة، عذب الألفاظ منسجم التركيب»(12).

وقال فيه ابن العماد العكري الحنبلي: «هو أحسن من الجزّار والورّاق»(13). 

آثار الإمام البوصيري الشعرية والنثرية المطبوعة:

ترك الإمام البوصيري عددا كبيرا من القصائد والأشعار ضمها  ديوانه الشعري الذي حققه محمد سيد كيلاني، حيث كان البوصيري يحب أن يسمي قصائده بأسماء تدل على مضامينها، مما لم يفعله غيره من الشعراء فيما نعلم، ومن جملة هذه القصائد،(14) قصيدته الشهيرة بالبردة «الكواكب الدرية في مدح خير البرية» والقصيدة «المضرية في مدح خير البرية» والقصيدة «الخمرية» وقصيدة «ذخر المعاد» على وزن بانت سعاد، ولامية في الرد على اليهود والنصارى بعنوان«المخرج والمردود على النصارى واليهود» نشرها الشيخ أحمد فهمي محمد بالقاهرة سنة 1372-1953وله أيضا تهذيب الألفاظ العامية، وقد طبع كذلك بالقاهرة، ونالت مدائحه النبوية من البيان والبلاغة أعلى نصيب واستحوذت على قصب السبق في كل رهان.(15) 

شعره:

يجري في شعر البوصيري النكت المستملحة، وله في شكوى حاله والموظفين قصائد لا تخلو من ذكاء، وفي شعره وصف للحالة الاجتماعية في عصره، فهو يذكر أن الموظفين كانوا يسرقون الغلال، وأنهم لولا ذلك ما لبسوا الحرير ولا شربوا الخمور، يقول في ذلك:

ثَكِلْتُ طَوَائِفَ المُسْتَخْدَمينا       فَلَمْ أَرَ فِيهمُ رَجُلًا أَمِينا

فَخُذْ أَخْبَارَهُمْ مِنِّي شِفاهًا         وَأَنْظِرْنِي لِأُخْبِرْكَ اليَقِينَا

فَقَدْ عَاشَرْتُهُم وَلَبِثْتُ فِيهِمْ       مَعَ التَّجْرِيب من عُمْرِي سِنينَا

حَوَتْ بِلْبِيسُ طَائِفَةً لُصُوصًا      عَدَلْتُ بِوَاحِدٍ مِنْهُم مِئينا

فُرُيْجِي والصَّفيَّ وصاحِبَيْهِ         أَبَا يَقْطُونَ والنَّشْوَ السَّمِينَا

فَكُتَّابُ الشَّمَالِ هُمُ جَمِيعًا           فَلاَ صَحِبَتْ شِمَالُهُم اليَمِينَا

وَقَدْ سَرَقُوا الغِلاَلَ وَمَا عَلِمْنَا     كَمَا سَرَقَتْ بَنُو سَيْفِ الجُرُونَا

وَكَيْفَ يُلَامُ فُسَّاقُ النَّصَارَى        إذَا خَانَتْ عُدُولُ المُسْلِمِينَا؟

وَجُلُّ النَّاسِ خُوَّانٌ وَلَكِنْ         أُنَاسٌ مِنْهُمُ لاَ يَسْتُرونَا

وَلَوْلاَ ذَاكَ مَا لَبِسُوا حَرِيرًا        وَلَا شَرِبُوا خمُورَ الأنْدَرِينَا (16)

وفي قصيدة أخرى يذكر فيها سوء حاله، وأنه فقير، وفي ذلك يقول:

إِلَيْكَ نَشْكُو حَـالَنَا؛ إِنَّنَا                         عَائِلةٌ في غَايَةِ الكَثْرَه

أُحدِّثُ الموْلَي الحديثَ الذي                جَرَى لهم بالخيْطِ والإبرَه

صاموا مع الناس ولكنَّهمْ                       كانوا لَمِنْ يُبْصِرُهُمْ عِبْرَه

إِنْ شَرِبوا فالبِئْرُ زِيرٌ لهُمْ                         ما بَرِحَتْ والشَّرْبَة ُ الجَرَّه

لهم من الخُبَّـيْزِ مسلوقة ٌ                       في كلِّ يومٍ تُشْبِهُ النَّشْرَه

أَقُولُ مَهْمَا اجْتَمَعُوا حَوْلَهَا:                تَنَزَّهُوا في المَاءِ والخُضْرَهْ

وَأَقْبَلَ العِيدُ وَمَا عِنْدَهُم                 قَمْحٌ وَلَا خُبْزٌ وَلَا فِطْرَهْ

فارْحَمْهُم إنْ أبْصَرُوا كَعْكَة ً         فِي  يَدِ طِفْلٍ أَوْ رَأَوْا تَمره(17)

مديحه النبوي:

كان البوصيري رحمه الله كثير الإنتاج في المدح النبوي، وأكثر من نصف شعره خصه لهذا الغرض، قال الكتبي:« وللبوصيري في مديح النبي صلى الله عليه وسلم قصائد طنانة»(18)، وهذه المدائح بعضها قيل قبل حجه، وبعضها نظمه وهو على قبر النبي – صلى الله عليه وسلم -، وبعضها الآخر نظمه بعد عودته من الديار المقدسة، وكان كلما تألم من جور الحكام والموظفين طابت نفسه إلى مديح النبي صلى الله عليه وسلم وكلما اشتد به الفقر نظم واحدة، وكلما حن إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم نظم واحدة، حتى اشتهرت قصائده، فكان يرتاح إلى مديح النبي صلى الله عليه وسلم فلعل الله يرزقه أو يمحو ذنوبه، (19) ومع غزارة مدائحه النبوية اشتهرت له قصيدتان:

البردة، ومطلعها:

أمِن تذكُّر جيرانٍ بذي سَلَمِ       مزجْتَ دمعًا جَرى من مقلةٍ بدَمِ؟

أَمِنْ هَبَّتْ الريحُ مِنْ تِلْقَاءِ كَاظِمَةٍ       وأوْمِضَ البَرْقُ فِي الظَّلْمَاءِ مِنْ إِضَمِ؟(20)

وعدد أبياتها مائة وستون بيتا، وقد فاقت هذه القصيدة شهرة جميع قصائده الدينية، وحظيت بشهرة لم تحظ بها قصيدة «كعب» التي اسمها ومطلعها «بانت سعاد» والظروف التي واكبت نظم القصيدة عملت على شهرتها.

فحين أصيب  بالفالج نظمها يستشفع بها إلى الله عز وجل في أن يعافيه، وكرر إنشادها ونام، فقال البوصيري:«فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح وجهي بيده الكريمة، وألقى علي بردة، فانتبهت ووجدت في نهضة». (21) 

وقد ضمت القصيدة: النسيب، والتحذير من هوى النفس، والرحلة، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم، والكلام على مولده، ومعجزاته، وعظمة القرآن، فقصة الإسراء والمعراج، والحث على الجهاد، والتوسل والمناجاة.

فالنسيب في البردة يتصل بالشوق إلى المعالم العربية، حيث اختار البوصيري تلك المواطن لصلتها بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو نسيب وقع موقع التمهيد لقصيدة دينية، ولولا حرص الشاعر على متابعة القدماء في افتتاح القصائد بالنسيب لما كان للتغزل في مثل هذه القصيدة مكان يقول:

أَيَحْسَبُ الصَّبُّ أَنَّ الحُبَّ مُنْكَتِمٌ            مَا بَيْنَ مُنْسَجِمٍ مِنْهُ وَمُضْطَرِمِ

لَوْلاَ الهَوَى لَمْ تَرِقْ دَمْعًا عَلَى طَلَلِ        وَلاَ أَرِقْتَ لِذِكْرِ البَانِ وَالْعَلَمِ

فَكَيْفَ تُنْكِرُ حُبًّا بَعْدَمَا شَهِدَتْ                بِهِ عَلَيْكَ عُدُولُ الدَّمْعِ وَالسِّقَمِ

وَأَثْبَتَ الوَجْدُ خَطَّيْ عَبْرَةٍ وَضَنىً           مِثْلَ البَهَارِ عَلَى خَدَّيْكَ وَالعَنَمِ

نَعَمْ سَرَى طَيْفُ مَنْ أَهْوَى فَأَرَّقَنِي         وَالحُبُّ يَعْتَرِضُ اللَّذَّاتَ بِالأَلَمِ(22)

أما التحذير من هوى النفس  فقد ابتدأه الشاعر بالكلام عن عذل الشيب يقول في ذلك:

فَإِنَّ أَمَّارَتيِ بِالسُّوءِ مَا اتَّعَظَتْ     مِنْ جَهْلِهَا بِنَذِيرِ الشَّيْبِ وَالهَرَمِ

وقوله:

إَنِّي اتَّهَمْتُ نَصِيحَ الشَّيْبِ فِي عَذَليِ       وَالشَّيْبُ أَبْعَدُ فِي نُصْحِ عَنِ التُّهَمِ (23)

وقوله:

فَلاَ تَرُمْ بِالمَعَاصِي كَسْرَ شَهْوَتِهَا       إِنَّ الطَّعَامَ يُقَوِّي شَهْوَةَ النَّهِمِ(24)

وقوله:

فَاصْرِفْ هَوَاهَا وَحَاذِرْ أَنْ تُوَلِّيَهُ      إِنَّ الهَوَى مَا تَوَلَّى يُصْمِ أَوْ يَصِمِ(25)

وقوله:

وَاخْشَ الدَّسَائِسَ مِنْ جُوعٍ وَمِنْ شَبَعِ          فَرُبَّ مَخْمَصَةٍ شَرُّ مِنَ التُّخَمِ(26)

وقوله:

أَمَرْتُكَ الخَيْرَ لَكِنْ مَا ائْتَمَرْتُ بِهِ       وَمَا اسْتَقَمْتُ فَمَا قَوْليِ لَكَ اسْتَقِمِ؟(27)

وفي مدح النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث عن تهجده، فيذكر أنه أدام قيام الليل حتى تورمت قدماه، ويتحدث عن إيثاره الجوع، فيذكر أنه كان يشد أحشاءه من السغب، ويتكلم عن زهده، فيذكر أنه سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب، ومن عجم، وأنه الآمر والناهي، وأنه فاق النبيين في الخَلْقِ والخُلُقِ، يقول في ذلك:

ظَلَمْتُ سُنَّةَ مَنْ أَحْيَا الظَّلاَمَ إِلى      أَنْ اشْتَكَتْ قَدَمَاهُ الضُّرَّ مِنْ وَرَمِ

وَشَدَّ مِنْ سَغَبٍ أَحْشَاءَهُ وَطَوَى      تَحْتَ الحِجَارَةِ كَشْحًا مُتْرَفَ الأَدَمِ

وَرَاوَدَتْهُ الجِبَالُ الشُّمُّ مِنْ ذَهَبٍ       عَنْ نَفْسِهِ فَأَرَاهَا أَيَّمَا شَمَمِ

وَأَكَّدَتْ زُهْدَهُ فِيهَا ضَرُورَتُهُ            إِنَّ الضَرُورَةَ لاَ تَعْدُو عَلىَ العِصَمِ

وَكَيْفَ تَدْعُو إِلىَ الدُّنْيَا ضَرُورَةُ مَنْ       لَوْلاَهُ لَمْ تُخْرَجِ الدُّنْيَا مِنَ العَدَمِ

مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ وَالثَّقَلَيْـ          ـنِ وِالفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ

نَبِيُّنَا الآمِرُ النَّاهِي فَلاَ أَحَدٌ        أَبَرَّ فيِ قَوْلِ لاَ مِنْهُ وَلاَ نَعَمِ(28)

وقوله:

لَوْ نَاسَبَتْ قَدْرَهُ آيَاتُهُ عِظَمًا      أَحْيَا أسْمُهُ حِينَ يُدْعَى دَارِسَ الرِّمَمِ(29)

وفي مولده صلى الله عليه وسلم ذكر البوصيري أبياتا جيدة في هذا الصدد يقول:

أَبَانَ مَوْلِدُهُ عَنْ طِيبِ عُنْصُرِهِ        يَا طِيبَ مُبْتَدَإٍ مِنْهُ وَمُخْتَتَمِ

يَوْمٌ تَفَرَّسَ فِيهِ الفُرْسُ أَنَّهُمُ          قَدْ أُنْذِرُوا بِحُلُولِ البُؤْسِ وَالنِّقَمِ

وَبَاتَ إِيوَانُ كِسْرَى وَهُوَ مُنْصَدِعٌ     كَشَمْلِ أَصْحَابِ كِسْرَى غَيْرَ مُلْتَئِمِ(30)

وفي معجزاته صلى الله عليه وسلم يقول:

جَاءَتْ لِدَعْوَتِهِ الأَشْجَارُ سَاجِدَةً          تَمْشِي إِلَيْهِ عَلَى سَاقٍ بِلاَ قَدَمِ

كَأَنَّمَا سَطَرَتْ سَطْرًا لِمَا كَتَبَتْ          فُرُوعُهَا مِنْ بَدِيعِ الْخَطِّ بِاللَّقَمِ(31)

وقد ظهرت نفحات التصوف ظهورا قويا في الجزء الأخير من بردته، وهو التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم:

يَا أكرمَ الرُّسْلِ مَا لِي مَنْ ألوذُ بهِ               سِوَاكَ عندَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمَمِ؟

وَلَنْ يَضِيقَ، رَسُولَ اللهِ جَاهُكَ بِي         إِذَا الكَرِيمُ تَحَلَّى بِاسْمِ مُنْتَقِمِ

فَإنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا             وَمن عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ (32)

ويخاطب نفسه ويدعو ربه فيقول:

يَا نَفْسُ لاَ تَقْنَطِي مِنْ زَلَّةٍ عَظُمَتْ    إِنَّ الكَبَائِرَ فِي الغُفْرَانِ كاللَّمَمِ

لَعَلَّ رَحْمَةَ رَبِّي حِينَ يَقْسِمُهَا      تَأْتِي عَلَى حَسَبِ العِصْيَانِ في القِسَمِ

يَا رَبِّ وَاجْعَلْ رَجَائِي غَيْرَ مُنْعَكسٍ    لَدَيْكَ وَاجْعَل حِسَابِي غَيْرَ مُنخَرِمِ(33)

«ديوان البوصيري ص 440»

وزاد من شهرة قصيدة البردة أن الشاذليين أنشدوها، ونسخوها، وتنقلوا في أسفارهم ينشدونها على العامة، كما خمست وشطرت، وسبعت، وتسعت، وعشرت، وشرحت، وعورضت… حتى نجم عنها وعن الهمزية مكتبة دينية.(34) 

وكان لقصيدة البردة أثر في تعليم الأدب والتاريخ والأخلاق، فعن البردة تلقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير غنيت بها لغة التخاطب، وعن البردة عرفوا أبوابا من السيرة النبوية، واستطاع البوصيري بتصوفه أن يؤثر في الأدب والأخلاق تأثيرا لا يدرك كنهه إلا من رأى كيف تدور البردة على ألسنة العوام، وأن يكون الحرص على تلاوتها وحفظها من وسائل التقرب إلى الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم.(35)

الهمزية، ومطلعها:

كيف ترْقَى رُقِيَّكَ الأَنْبِيَاءُ       يا سماءً ما طاوَلَتْها سماءُ؟

وعدد أبياتها أربعمائة وسبعة وخمسون بيتا، مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر حياته وغزواته، ومعجزاته بتفصيل شديد، فلم يترك جانبا لم يوله شرحا وافيا، وقد لقيت الهمزية شهرة كبيرة، فطبعت على حدة في عدد من البلدان العربية، عدة طبعات، وشرحت في كتب كثيرة، وحواش عديدة، وعلى رغم مكانة الهمزية وشهرتها وأهميتها فقد فاقتها البردة في ذلك كله.(36) 

من خصائص شعره الديني:

كان في كل قصيدة مدحية يعلن توبته عن مدح الناس، لكنه يعود إلى مديح الوزراء وبعض كبار الموظفين كما كان يصف العلماء بأنهم متعبدون، محاربون، ومن ذلك قوله:

وما علماؤنا إلا سيُوفٌ              مواضٍ لا تُفَلُّ لَها غُروبُ

لَهُ في الليلِ دمعٌ ليس يرْقَا        وقلبٌ ما يَغِبُّ له وجِيبُ

  ومن خصائص شعره الديني أيضا، الإكثار من الأدعية والرجاء، والإكثار من ذكر المعجزات حتى كان بعضها يتكرر عدة مرات، كما كان يسبغ على الممدوح صفات عامة، ويركز على الناحية الدينية، كأدائه الصلاة، ودفعه الزكاة، ومراعاته لحقوق الإسلام، كقوله:

وصلَ النهارَ بليلهِ في طاعةٍ          وَصَلاتُهُ موصولةٌ بصيامِ

كما كان البوصيري يكثر من الصور الفنية، والصنعة اللفظية، ويحسن السبك، و يطيل قصائده في المدائح الدينية، ويأتي بأسلوب أرقى من أسلوب شعره الآخر، ويأتي بالألفاظ المنتقاة، ويختار المناسب منها، كما أنه اعتمد التكرار للتفصيل كحديثه في الهمزية عن إعجاز القرآن، ثم تفصيله وتأكيده في البردة. (37)

ويأتي مديحه للأعلام في المرتبة الثانية بعد المديح الديني مكانة وغزارة، فقد مدح خيرة أعيان عصره من سلاطين، ووزراء، ومسؤولين وعلماء، ومنهم: السلطان قلاوون الألفي، والوزير بهاء الدين ابن حنا، والصاحبي الزيني، والأمير السابقي، والأمير أيدمر عز الدين، وشمس الدين سنقر، والوزير ابن الزبير وغيرهم.

وعلى رغم كثرة الأعداد فإنه ظل يشكو الفاقة، ويبدو أن عطاءهم قليل، وكان كلما مدح واحداً منهم ادعى أنه لا يحب المديح، ولا يريد الكسب، وأنه يخصه بخير شعره، ثم يستجديه بدريهمات، أو بوظيفة، وكان كلما مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم  أعلن أنه تاب عن مدح الناس ولذلك نراه يصمم على عدم المديح، يقول:

لا ينظمُ الشعرُ إلا في المديح، وما       غيرُ المديح له سُؤلٌ ولا وطرُ

ومن جميل مدائحه أنه يمدح المسؤولين حين يجيدون إدارة الأعمال، ويقومون بأمور تخدم الشعب كالري، والبناء، ونشر الأمن في القرى.

ولأن أغلب الممدوحين لم يكونوا عربا فقد مدحهم بصفات بعيدة عن العراقة، والنجابة، ومال إلى وصف البطولة، وحسن الإدارة، والجمال الخلقي والخلقي، وسخائه على المتصوفة، وتدينه، وصومه وصلاته.

ولكنه كان يبالغ في المقام، والألقاب، ويدخل روح الدعابة في مديحه أو في وصفه، ويقحم بعض القصص والأخبار عن زوجه وأولاده، ويغالي في وصف فقره وبؤسه ليستدر عطف الممدوح. (38)

وسنتطرق إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة إلى أغراض شعره في «قصيدة البردة».

ــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) «فوات الوفيات 3/362».

(2) «الوافي بالوفيات 3/91-92».«المقفى الكبير، ج:5،ص662».

(3) «المقفى الكبير 5/662».

(4) «المقفى الكبير، ج:5،ص661»«مقدمة ديوان البوصيري ص 13».

(5) «مقدمة ديوان البوصيري ص 14-15»«الوافي بالوفيات 3/92»

(6) «الوافي بالوفيات 3/93»..

(7)«المقفى الكبير، ج:5،ص661»

(8) «المنح المكية في شرح الهمزية، ابن حجر الهيتمي ص: 69-70»..«العمدة في شرح البردة، أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي ص: 64-66-65».

(9) «مقدمة المنح المكية شرح الهمزية البوصيرية ص:69»

(10) «التحفة في نشر محاسن البردة ص:18»..

(11) «العمدة في شرح البردة، أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي ص: 64»

(12) «فوات الوفيات، 3/364».

 (13). «شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد العَكري الحنبلي، ج:7،  ص:774، حققه: محمود الأرناؤوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط،  منشورات: دار ابن كثير، دمشق –بيروت، الطبعة: الأولى، 1406 هـ – 1986 م.»

(14)«ديوان البوصيري ص: 33»

(15) «العمدة في شرح البردة69-70»..

(16)«ديوان البوصيري ص 464-465»

(17)« ديوان البوصيري ص 221»

(18)«فوات الوفيات، 3/368»

(19): «مقدمة ديوان البوصيري ص 25»

(20)« ديوان البوصيري ص 420»

(21) «ديوان البوصيري ص 26-27».

(22)«ديوان البوصيري ص 420-421»

(23)«ديوان البوصيري ص 421»

(24)«ديوان البوصيري ص 422»

(25)«ديوان البوصيري ص 422».

(26)«ديوان البوصيري ص 422»

(27)«ديوان البوصيري ص 423»

(28)«ديوان البوصيري ص 424-423».

(29)«ديوان البوصيري ص 425»

(30)«ديوان البوصيري ص 427»

(31)«ديوان البوصيري ص 427»

 (32)«ديوان البوصيري ص 440»

(33)«ديوان البوصيري ص 440»

(34) «ديوان البوصيري ص 26-27».

(35)«المدائح النبوية ص:162»

(36) « مقدمة ديوان البوصيري ص 26».

(37)«ديوان البوصيري ص 24-25».

(38) «ديوان البوصيري ص 28»..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق