مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات وأبحاث

أَهَمِّيَة قُيُود السَّمَاع فِي المَخْطُوطَات: (مع نموذج طباق سماع كتاب الشفا من طريق الرَّحالة ابن جُبير الأندلسي): – مكتبة ليدن –

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه

تمهيد:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة  والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى أهل بيته الطاهرين، وصحابته الغر الميامين.

وبعد؛ فقد دأب العلماء المعتنين بقراءة الكتب، وسماعها مسندة إلى مصنفيها إلى إثبات ذلك، وتقييده في صدور المخطوطات، أو في ذيولها، وهو ما يطلق عليه لفظ: (السماع)، أو (الطباق)، وهي عملية في غاية الدقة تدل على أن الكتاب الفلاني تم سماعه على مصنفه، أو على شيخ ثقة عالم، أو على عدة شيوخ، وقد تتعدد هذه الإجازات، وطباق السماع في الكتاب الواحد، بحيث يتم الفصل بين طباق وآخر بخط فاصل دقيق، ويقيد في هذا الطباق: من حضر مجلس السماع، ومن سُمع عليهم من العلماء، ومكان السماع، وتاريخه، ومقيده، والكتاب المسموع…الخ.

فبهذا الاعتبار لا يماري أحد ممن له شغف بالمخطوط أن لطباق السماع في المخطوطات العربية أهميته وفائدته التي لا تخفى على المشتغلين بتحقيق المخطوطات وفهرستها.

 ولهذا تنبه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم قديما لقيمة هذه السماعات العلمية، فأولوها العناية الفائقة، بحيث كانوا  يحرصون أشد الحرص على رواية الكتب المسموعة دون غيرها من الكتب الخلو من قيود السماع؛ في حين نجد اليوم إهمال بعض الباحثين المعتنين بتحقيق المخطوطات لهذه السماعات عند نشرهم للكتب، مع ما لها من أهمية وقيمة علمية كبرى.

ولأهمية الموضوع أفردته بهذا المقال لبيان بعض الفوائد التي نجنيها من دراسة طباق السماع في المخطوطات العربية والإسلامية.

فأقول وبالله التوفيق:

أهمية قيود السماع في المخطوطات:

وتكمن أهمية قيود السماع في المخطوطات في الآتي:

1- تعد قيود طباق السماع بمثابة وثيقة قانونية تثبت صحة نسبة الكتاب إلى مؤلفها، من خلال السند الذي انتقل به الكتاب سماعا ورواية جيلا بعد جيل، وعصرا بعد عصر، إلى مؤلفه، وقديما قيل: (الأسانيد أنساب الكتب)[1] وحق لنا أن نقول أيضا: (الطباق أنساب المخطوطات)، فالسماعات بهذا الاعتبار توثيق دقيق للكتب ومصنفيها، وإثبات نسبتها لهم.

2- تعد قيود السماع والقراءة المُثبتة على المخطوطات العربية أحد الدعائم الراسخة للتعليم في الحضارة الإسلامية، فهي الشهادة العلمية التي يمنحها العالم لتلميذه حتى يشتغل بنقل العلم فيروى عنه أو عن غيره، وهي بذلك ضمان لعدم تعرض كتبهم للتحريف[2].

3- قيود السماع تدل على صحة النسخة المسموعة؛ لأن السامع يصحح الأخطأ في مجالس السماع ويثبتها في هوامش نسخته المسموعة.

4- قيود السماع وسيلة لمعرفة كثير من الكتب، أو الأجزاء التي كانت متداولة، ثم انقطع خبرها[3].

5- قيود السماع تمكننا من معرفة تاريخ تأليف الكتاب أو الجزء؛ بالرجوع إلى تاريخ أول سماع على المؤلف، وكثرة السماعات تدل على مدى الاهتمام بهذا الكتاب، زمن المؤلف وبعد وفاته[4].

6- قيود السماع تعيننا على تصحيح بعض الأخطاء والقضايا الواردة في كتب التاريخ، حيث نجد مثلا بعض المصادر تذكر تاريخ ميلاد فلان في سنة معينة، لكن نجد له سماعات متعددة بتواريخ تخالف ما هو مثبت في كتب التاريخ، وغالبا ما يكون التاريخ المثبت في طباق السماع أصح، وأثبت، وأدق مما ورد في تلك المصادر التاريخية التي قد يطالها التصحيف، والتحريف، والسقط.

7- قيود السماع تعيننا على الوقوف والتعرف على الأماكن والأمصار المختلفة التي سُمع فيها الكتاب، فهي بمثابة مِسبر جغرافي يُعيننا على التعرف على رحلة المخطوطات من بلد لآخر.

8- قيود السماع تعيينا على التعرف على مُلَّاك الكتاب المسموع، وطبقاتهم الاجتماعية: ملوك، قادة، أعيان، فقهاء، تجار…عامة الناس.

9- قيود السماع تمكننا من معرفة القرابة بين الأُسَر، ونَسَبها، والحرص على حضور مجالس العلم وبخاصة: النساء، والأطفال. 

10-  قيود السماع تعيينا على الوقوف على حجم الحركة العلمية في زمن ما، والوقوف على مختلف العلوم والفنون التي راجت ورافقت هذه الحركة العلمية، والوقوف على أعلام هذه الحركة ونتاجهم المعرفي.

11- قيود السماع تعيينا على الوقوف على خطوط الكثير من النساخ والعلماء مما لا نجده في موضع آخر، وهو أمر في غاية الأهمية؛ لأنه يعين المحقق على حل اشكالات تباين خطوط العلماء، والتفريق بينها، وصحتها من خلال المقارنة بين خطوطهم.

12- قيود السماع تعد مصدرا ومنجما غنيا للتراجم ” فهي تتضمن أسماء أعلام كثيرين لا نجد لهم ترجمة، أو ذكرا في كتب التراجم المعروفة، وقد يَرد اسم علم واحد في سماعات عديدة؛ فيمكن صنع ترجمة له بذكر ما سمع من كتب، وما لقي من شيوخ، وما عاصر من رفاق في طلب العلم، وما زار من بلدان، ولو أن باحثا انصرف إلى هذا الأمر لاستخرج من السماعات أسماء آلاف من العلماء لم تعرفهم كتب التراجم”[5].

13- قيود السماع وسيلة لمعرفة مراكز العلم في البلاد الإسلامية، وحركة تنقل الأفراد من بلدان مختلفة نحوها. ففي سماع على الزَّكِي البِرْزَالِي تاريخه سنة 662هـ، في مسجد دمشق، نجد بين السَّامعين: ” الزنَاتي، والصِّقلي، والمُرسي، والحجازي، والصنهاجي، والبَعلبكي، والمَعَرِّي، والبغدادي، والمقدسي، والبصراوي، والهمذاني، والكفركني…فهولاء جميعا وردوا في بلدان مختلفة لينهلوا العلم في دمشق إبان النهضة العلمية التي قامت فيها أيام الأيوبيين”[6].

14- قيود السماع المثبت على كتاب ما دليل على: قيمته العلمية، وصحته، وقدمه، وتاريخه، “فكلما كثرت السماعات كان ذلك أدعى للوثوق بالمخطوط، وبخاصة إذا شارك في تلك السماعات حُفاظ، أو أئمة بارزون، فإن ذلك يعطي المخطوط أهمية، فيقدم على غيره من النسخ الأخرى التي لم تحظ بهذا الاهتمام[7]، كما تشير نوعية السامعين إلى قيمة السماع، فالعلماء مثلا لا يحرصون على حضور مجالس السماع إلا حينما يبدو النص المسموع ذا قيمة علمية، وأنه صار محلا للاهتمام به[8].

15- تعد السماعات حرزا وصيانة للكتاب أن يُزاد فيه، أو يُنقص، أو يُغير، أو يُبدل، أو يُحرف من طرف من يدعي سماعه، أو إجازته[9].

16- قيود السماع تعين على تحديد أعمار بعض المُثْبَتِين فيها (كَاتب السَّماع)، ومعرفة أسمائهم، أو من شارك من علماء الأمصار الأخرى في مجالس العلم، مما يفيد في معرفة الرحلة، أو انتقال المصنفات، وغير ذلك مما قد لا يوجد في كتب التراجم والتاريخ منصوصا عليه[10].

(نموذج سماع كتاب الشفا للقاضي عياض)

 من طريق الرَّحالة

 ابن جُبير الأندلسي:

نص السَّماع:

[سمع عليَّ جميع “الشفا بتعريف شرف المصطفى” صَاحبه الشيخ الأجل، الفقيه، الإمام، العابد، الزاهد شمس الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الأجل بن المظفر بن أحمد …، وأجزته أنني سمعته من الشيخ الأجل أبي الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني،  وعليه أيضا رحمه الله تعالى نحو روايته عن الشيخ الفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن القاضي أبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي نحو سماعه أباه على مصنفه القاضي الفقيه الإمام العالم أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي رحمه الله تعالى، وأذنت له في الرواية عني، ورواية ما يصح عندَهُ من جميع ما أرويه على الشرط المعتبر بين أهل العلم بالحديث والرواية.

وكتب عيسى بن سلامة بن سليم بن عبد الوارث الحضرمي في أواخر شهر رجب الفرد سنة 621 هـ، والحمد لله وحده وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه، وهو حسبي ونعم الوكيل].

صورة قيد سماع الشفا للقاضي عياض من طريق ابن جبير الأندلسي

 الخاتمة:

على الرغم من أهمية قيود السماع، وما تمثله من قيمة كوديكولوجية بالنسبة للمشتغل بالتراث الإسلامي المخطوط، فإنه للأسف لم تعط لها بعد ما تستحقه من رعاية واعتناء، مما يدعونا بشدة إلى ضرورة البدء بالاهتمام بها، من خلال وضع كشافات وفهارس خاصة بالمخطوطات التي تحمل طباق السماع، ورقمنت الكتب الخطية المسموعة الإسلامية المحفوظة بالخزائن العامة والخاصة بالعالم، مع العمل على دراسات كوديكولوجية لمضامين هذه السماعات، واستنباط ما تحويه من معلومات قيمة: باعتبارها وثائق قانونية في نسبة الكتب إلى مؤلفيها، وباعتبارها منجما للتراجم  التي لا توجد في مكان آخر سواها، وغير ذلك.. وهذا مجال واسع للباحثين المختصين ينبغي التنبيه عليه، والانكباب عليه لما فيه من فوائد علمية نفيسة.

وفي الختام أحمد الله  تعالى الذي وفقني لإتمام هذا المقال حول: « أهمية قيود السماع في المخطوطات الإسلامية »، راجيا منه سبحانه وتعالى أن ينفع به، ويذخر لي أجره يوم لقائه. 

وصل الله على نبينا المجتبى، وعلى آله وأصحابه أولي النهى.

 والحمد لله رب العالمين.

*******************

هوامش المقال:

[1]- قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري (1/ 5): “وقد رأيت أن أبدأ الشرح بأسانيدي إلى الأصل بالسماع، أو الإجازة، وأن أسوقها على نمط مخترع؛ فإني سمعت بعض الفضلاء يقول: الأسانيد أنساب الكتب، فأحببت أن أسوق هذه الأسانيد مساق الأنساب”. وللسيوطي كتاب سماه” أنشاب الكتب في أنساب الكتب”.

[2]- بيانات وقيود التوثيق في المخطوط العربي: مخطوطات خزائن توات أنموذجا: أطروحة لنيل الدكتوراه من إعداد الطالب: حاج قويدر العيد، إشراف: د. الحمدي أحمد، كلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية، قسم علم المكتبات والعلوم الوثائقية، جامعة وهران، الجزائر (ص: 82).

[3]- الجانب العلمي في نشأة المخطوط العربي: محمد مطيع الحافظ، دبي، دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري، 2015م.(ص: 92).  

[4]- بيانات وقيود التوثيق في المخطوط العربي: حاج قويدر العيد (ص: 82).

[5]- إجازات السماعات في المخطوطات العربية: د. صلاح الدين المنجد، بحث منشور في مجلة معهد المخطوطات العربية سنة 1955م 1 /2/ (ص: 241).

[6]- المصدر السابق (ص: 241).

[7]- عناية المحدثين بتوثيق المرويات وأثر ذلك في تحقيق المخطوطات، دمشق، دار المامون للتراث، 1987أحمد محمد نور سيف (ص: 16).

[8]- مقدمة في الكتابة العربية والمخطوط العربي، دار الجوهرة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014محمد شريف زكريا(ص: 161)

[9]- (التصحيف وأثره في الحديث وجهود المحدثين في مكافحته: د. جمال أسطيري، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، د.ت(ص: 437) .

[10]- عناية المحدثين بتوثيق المرويات وأثر ذلك في تحقيق المخطوطات: أحمد محمد نور سيف (ص: 33).

جريدة المصادر والمراجع:

إجازات السماعات في المخطوطات العربية: د. صلاح الدين المنجد، بحث منشور في مجلة معهد المخطوطات العربية سنة 1955م.

بيانات وقيود التوثيق في المخطوط العربي: مخطوطات خزائن توات أنموذجا: أطروحة لنيل الدكتوراه من إعداد الطالب: حاج قويدر العيد، إشراف: د. الحمدي أحمد، كلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية، قسم علم المكتبات والعلوم الوثائقية، جامعة وهران، الجزائر  السنة الجامعية: 1438-1439هـ/2017-2018م.

التصحيف وأثره في الحديث وجهود المحدثين في مكافحته: د. جمال أسطيري، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، د.ت.

الجانب العلمي في نشأة المخطوط العربي: محمد مطيع الحافظ، دبي، دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري، 2015م.

عناية المحدثين بتوثيق المرويات وأثر ذلك في تحقيق المخطوطات: أحمد محمد نور سيف، دمشق، دار المامون للتراث، 1987م.

فتح الباري.

مجلس السماع في المخطوطات العربية قيمته العلمية ودلالته الحضارية: مأمون  الصاغرجي، بحث مقدم إلى مؤتمر المخطوطات العربية في إيران.

مقدمة في الكتابة العربية والمخطوط العربي: محمد شريف زكريا، دار الجوهرة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014م.

راجع المقال الباحث: عبد الفتاح مغفور  

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق