مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

تقرير عن المحاضرة الافتتاحية للدكتور عبد الرحمن بودرع ”البحث العلمي وسؤال البيان”

 

بتنسيق مع مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية التابع للرابطة المحمدية للعلماء، وفرقة البحث الأدبي والسيميائي، وماستر الأدب العربي في المغرب العلوي الأصول والامتدادات، وفرقة البحث في العلوم الشرعية قضايا التأصيل  والتجديد، نظم ملتقى الدراسات المغربية والأندلسية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان محاضرة افتتاحية في موضوع البحث العلمي وسؤال البيان، ألقاها الدكتور عبد الرحمن بودرع وذلك يوم الخميس 9 ربيع الأول 1444هـ الموافق لـ 6 أكتوبر 2022م، على الساعة العاشرة والنصف صباحا بقاعة الندوات رقم 46 كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان.

وقد ترأس الدرس الافتتاحي للموسم الجامعي الدكتور أحمد هاشم الريسوني رئيس شعبة اللغة العربية مرحبا في البداية بالدكتور عبد الرحمن بودرع وبالحضور الكريم أساتذة وطلبة وباحثين، وتلا ذلك تلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، ثم تناول الكلمة رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية الدكتور محمد الحافظ الروسي مرحبا بالحضور وشاكرا لهم، وذكَرَ أننا نستمع إلى محاضرة مؤسس من مؤسسي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، ومحاضرته اليوم هي خلاصة تجربة وعلم ودرس وتدريس.

ثم أعطيَ الكلمةَ الدكتور عبدُ الرحمن بودرع  مستهلا حديثه بأن البحث العلمي مصطلح مركب من موصوف وصفة، وهذا المصطلح المركب والمترجم من اللاتينية يراد به مجموع الأفعال والإجراءات المبتدعة لتطوير الأفكار العلمية، وقد تطور المفهوم ابتداء من القرن السادس عشر بحسب تطور العلوم الطبيعية خاصة.

ومحور هذه الجلسة حديثه عن البحث العلمي وسؤال البيان؛ والمقصود بالسؤال هنا الإشارة أو إثارة الإشكال واتخاذه موضوع البحث والاستشكال والبيان، أمّا “البيان” فهو مركب من الألف واللام ومن الاسم «بيان»، فأما الألف واللام فتدل على وظيفة الإحالة وهي وظيفة تنوب فيها «أل» عن ضمير مقدر والتقدير: البحث العلمي وسؤال بيانه أو البيان فيه، كما نابت «أل» عن الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: «فأمّا مَن خافَ مَقامَ ربِّه ونَهى النَّفْسَ عن الهَوَى فإنّ الجنّةَ هي المأوى» ، أي هي مأواه، فنابَت أل عن الضمير، فالبيان إذن بيان البحث العلمي وليس مطلق البيان وإن كان لهذا البيان المقيد علاقة بالبيان اللغوي العام:

 فمن البيان التدبر والتفكر والملاحظة قبل الشروع في الاستنتاج نحو قوله تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا»[النمل: 69]، ومن البيان أن لا يقفو الباحث ما ليس له به علم كقوله عز وجل: «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا» [الإسراء: 36]، وهنا تساءل الأستاذ المحاضر عن  مدى مركزية البيان في البحث العلمي مجيبا أن هذه المفردة من جوامع المفردات ومن فرائد المصطلحات، أو هي من المصطلح المشترك، فالبيان بوصفه إظهارا أو إفهاما أو بيانا وكشفا منتهى أخير تسبقه مرحلة البيان بوصفه مفهوما تركيبيا علاقيا رابطا أجزاء النص بعضها ببعض، كما أن البيان من حيث هو كشف وإيضاح هو الوجه اللغوي الذي يدركه المتلقي أو السامع أو القارئ والغاية التي ينتهي إليها، أما قوانين تركيب البيان فهي ما تستكشف دراسات الأبحاث اللغوية والبيانية، والبيان القرآني ظاهر في سوره ومجازاته وتشبيهاته واستعاراته وكذلك البيان الشعري واللغوي الفصيح.

وأضاف المُحاضرُ أن للبيان دلالات كثيرة تطورت عبر التاريخ، ولا شك في أن معرفتها تساعد على معرفة ربط البيان بالبحث العلمي، فالبيان كانت له دلالة قريبة مألوفة من المعنى ثم تطورَت الدلالة إلى معرفة كل الأدوات والفنون التي تبلغ بالقارئ  إلى تَبَيُّنِ بلاغة الكلام ووصولا إلى الدلالة العلاقية التركيبية؛ أي في الهيئة النهائية التي يبنى عليها النص وما يدخل في هذه الهيئة من عناصر ومؤلفات تسهم جميعا في بناء النص أو بناء البحث. والمقصود بالمعنى العلاقي التركيبي لمفهوم البيان ما له صلة بماقبلَه وما بعدضه من المفاهيم العَلاقية الأخرى التي لها صلة بالبيان كالفصل والوصل، والوقف والابتداء، والتناسب والمشاكلة، وغيرها من المفاهيم التي تُحدث في النص الاتساق وتقيم البناء والنسيج، فالمفاهيم العلاقية كلها مردها إلى البيان بوصفه أساس التركيب اللغوي ومبدأ تحقيق البلاغة في النص. فالمصطلح كلمة في الأصل وحدة لغوية مؤلفة من سلسلة من الأصوات المتصلة لها بدء وانتهاء ولها وظيفة تركيبية وتدل على معنى في ذاتها، ويدور المعجم حول الكلمة إيضاحا وشرحا ليجلو المعنى المعجمي، ولاشك أن المعنى المعجمي معنى لغوي قبل أن يكون ذا معنى اصطلاحي خاص؛ لأنه قابل أن يعرف به في المداخل المعجمية لأن الكلمة نواة المعجم بل نواة اللغة كلها ووحدتها الأساس، واللغة أداة إدراك ومعرفة وتفكير كما أنها كذلك وسيلة البيان والتعبير، وهذه صفات مألوفة معروفة تتلقاها النفوس بالقبول وتتآلف من جمل دالة مركبة من ألفاظ دالة، لكن هذه الألفاظ ليست محدودة المعاني حدا قاطعا في كل لسان بل تحتمل أكثر من معنى وأكثر من وجه.

والبيان وسيلة طبيعية للإعراب عن المعاني القائمة في الصدور والمُتَصَورة في الأذهان، وإنما تنتعش تلك المعاني الخفيات وتحيا بالإخبار عنها وباستعمالها بالبيان، فالبيان اللغوي سلوك يُقَرِّب المعاني من الفهم ويجعل الخفي ظاهرا والبعيد قريبا، وقد مدح الله عز وجل ملكة البيان وذكر جميل بلائه  في تعليم البيان وعظيم نعمته في تقويم اللسان فقال سبحانه: «الرَّحْمَن  عَلَّمَ الْقُرْآن  خَلَقَ الإِنسَان عَلَّمَهُ الْبَيَان»[الرحمن: 2-4] وقال تعالى: «هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِين»[آل عمران: 138] ومدح الله تعالى  القرآن الكريم بالبيان فقال: «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِين»[الشعراء: 195] وقال: « وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ»[النحل: 89]، وقال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ»[إبراهيم:4] لأن مدار الأمر على البيان والتبيين وعلى الإفهام والتفهيم، ولا شك أن للبيان خطره في مخاطبة الإنسان به والتأثير فيه وتحميله رسالة وحمله على فعل من الأفعال، وقد كان النبي في المحل الأقصى في فصاحة اللسان وجزالة القول وصحة المعاني وقلة التكلف، خصوصا في بدائع الحكم وعُلّمَ ألسنة العرب فقد كان يخاطب كل أمة بلسانها، قال له أصحابه ما رأينا أفصح منك، قال ما يمنعني، وأُنزل القرآن بلسانه.

وذكر المحاضرأن الكلمة القرآنية بيان وحضورها في علوم العربية، فالأصل الدلالي للجذر المعجمي يفيد الانفصال والظهور؛ يقال: بان كذا؛ أي انفصل وظهر ما كان مستترا منه، وقد أطلق البيان في المعاجم وأريد به الظهور والإظهار وما به يحصل ذلك، أي أريد به تارة ما يتم به البيان، وأريد به فعل المبين، وأريد به حال المُبَيِّن لدى المُتَبَيِّن. وقد ورد في القرآن الكريم صيغ مشتقة من مادة بَيَنَ وتوزعت على مواضع مختلفة يحكمها السياق الخاص، فلكل سياق صيغته الاشتقاقية تناسب ألفاظه منها البيان كما في قوله عز وجل: «هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِين» [آل عمران:138]، والبيان في القرآن الكريم أتى اسما وأتى مصدرا؛ فالبيان مصدر يدل على التبيين كالكلام الذي يدل على التَّكليم، والسلام الذي يدل على التَّسليم، والبيان إيضاح وكشف الحقائق الواقعة، والبيان الإعراب عما في النفس من المقاصد، والبيان نطق لسان وبه انماز الإنسان فهو نعمة من أعظم النعم، والرحمن علم الإنسان البيان؛ أي مكنه من ذلك وأقدره على إصدار ما يحصل بالبيان، وركب فيه الاستعداد لعلمه وألهمه اتخاذ اللغة للتواصل ولمعرفة التكاليف الدينية وتَعلُّم العلوم، أما البيان اسما فيدل على نفس المُبَيَّن كما في قوله تعالى: «هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِين» [آل عمران:138]، ومن المشتقات كذلك البَيِّنة كما في قوله تعالى: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَة» [البيِّنة:1]، وأصل البينة أنها وصف مؤنث للبين فهي صفة جرت على الموصوف المحذوف للعلم به في الكلام أي حجة بينة.فمادة بَيَنَ ذات اشتقاقات كثيرة ولكل صيغة مشتقة معنى، وكلما دخل اللفظ الواحد في سياق أخذ معنى زائدا على المعنى الأصلي، ويدخل في دائرة مفهوم البيان مفاهيم أخرى ذات علاقات اتصال أو تفرع وتفصيل، أو علاقة تضاد أو تقابل، وكانت هذه المعاني الأولى الحاضرة في أعمال المفسرين الأولين كعبد الرحمن بن زيد في القرن الثاني في تفسير البيان، وأبي جعفر بن جرير الطبري في القرن الرابع في تفسيره البيان الذي فسر البيان بالشرح والتفصيل.

ثم تحدث عن البيان في السنة النبوية الشريفة وهو صفة دلالية في السنة وهو بعض السنة وجزء منها، لأن الألسنة قول وفعل وتقرير، والبيان قول وإفصاح وتصريح باللسان، ويعنينا هنا من السنة شطرها القولي لأن القول مناط البلاغة النبوية والسنة بيان للقرآن أو زيادة على ذلك كما قال الله عز وجل: « وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»[النحل: 44]، وتطورت دلالة مصطلح البيان من أصل التعريف؛ فقد دل البيان في الأصل على معنى انفصال الشيء عن غيره وظهوره في ذاته.

ثم تطرق المحاضر إلى مراحل تطور المصطلح البياني الذي مر على وجه الإجمال، فقد استخدم في الأول بمعناه اللغوي المألوف الذي يعني الانفصال والكشف والإيضاح، والدلالة الظاهرة عن المعنى الخفي على النحو الذي نجد في المعاجم الأولى، ومنها معجم مقاييس اللغة لابن فارس، واستخدم لفظ البيان في كتب غريب القرآن بمعنى الكلام، والمقصود بالكلام الذي يدل على التبيين وقد جعل الراغب الأصفهاني في المفردات في غريب القرآن  البيان  أعم من النطق، فهو يدل على النطق وعموم البيان والكشف، ويدل على أداة البيان نفسها كما يدل على الحجة والدليل أيضا. وخلص في ذلك إلى أن البحث العلمي كشف وبيان وأداة لبيان معنى جديد، وحجة ودليل على جودة التعبير.

وقد أطلق البيان وأريد به اتجاه خاص في القول، وهو صفة جودة التعبير وحسن الإبانة، وبالاضافة إلى عناية كتب الغريب بمصطلح البيان  سميت الكتب في عناوينها بالبيان، ودل فيها على بيان العلم والمنهج كما في كتاب: «جامع البيان» لابن جرير الطبري وهو تفسير مشهور، وكتاب: «بيان إعجاز القرآن» للإمام أبي سليمان الخطابي، وكتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، وكتاب: «مجمع البيان في تفسير القرآن» لأبي علي الفضل حسن الطوسي، وكتاب: «البيان في غريب القرآن» للأنباري أبي البركات، ثم استخدم مصطلح البيان مرادفا لمصطلح البلاغة بمعنى العبارة الفنية والتعبير الجميل والصورة المجازية التي تخرج عن إطار التعبير المباشر إلى الإيحاء والتصوير، وأعلى أنواع البيان البيان القرآني  فهو ظاهر في  الخطاب القرآني في كل جهاته ومراتبه في النظم والعبارة والأسلوب والأصوات والكلمات، وقد كتب العلماء قديما في الإعجاز البياني  في القرآن الكريم وكتب فيه المحدثون. والبحث العلمي جودة في التعبير وحسن انتقاء للألفاظ وبلاغة وإيجاز، ولم يستقل البيان بشعبة من شعب البلاغة إلا بعد أن مر بمرحلة مجاز القرآن لمعمر بن المثنى، ثم جاء الجاحظ فوسع دائرة ما وضعه أبو عبيدة في كتابه البيان والتَّبَيُّن، ثم جاء بن قتيبة في القرن الثالث  فرتب وبوب ما تركه الجاحظ، ثم ابن المعتز صاحب كتاب البديع الذي أتى بأنواع مما بنيت عليه البلاغة والبيان بعده، ثم قدامة بن جعفر الذي زاد في كتابه نقد الشعر على ما أورده ابن المعتز من فنون، ومر البيان إلى مرحلة التأليف في إعجاز القرآن فألف  فيه كثير، ففي تلك المصادر وغيرها كان البيان يطلق على البلاغة عامة مع اختلاف وتفاوت، وربما أطلقت مرادفات أخرى للبيان  كالفصاحة والبديع والبراعة. ومن هنا كان علماء البلاغة معنيين كثيرا بالبحث في وسائل الإبلاغ وأداء المعنى بأحسن الطرق وأوجزها وهذا يدخل في موضوعنا.

وفي جانب آخر ذكر المحاضر أن البيان بلوغ المعنى بالوضوح التام، حيث أطلق البيان أخيرا وأريد به ما يفيد البلاغة في القول والمعنى وما يفضي إليها، وقد وضع أسس البيان بمعنى البلاغة عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة عندما عقد فصولا ومباحث للتشبيه والاستعارة والمجاز وغيرها من مباحث البيان.ثم أتى أبو القاسم جار الله الزمخشري في تفسيره الكبير «الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل» ففصل فيما أجمله عبد القاهر الجرجاني وأشار إلى الفرق بين علم المعاني والبيان من غير أن يريد القسمة الصارمة التي جاءت مع من بعده، فقد أطلق مصطلح البيان والبيان البليغ أيضا وأراد به البلاغة ولطائف المعان، وأَطلق حسن البيان وقارنه بالنظم، وأطلق صفة الغرابة على البيان وأراد به جمالها وتميزها كما في تفسيره مطلع سورة الحجر «الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِين»[الحجر:1]، وسَمَّى البلاغيين علماء البيان وأَطلق مصطلح علم البيان وأدخل فيه مباحث بلاغية ونحوية؛ كالالتفات، والاستئناف البياني، وعطف البيان، والتبعيض في بعض حروف المعاني، وأطلق البيان أيضا على الأصل في الدلالة وهو الكشف والإيضاح والإعلام، وغالبا ما كان يقرن البيان بالكشف ويعطفه عليه في تفسيره، وأطلق البيان والمبين وأراد بهما الشيئين المتلازمين الذين تعترض بينهما الجملة الاعتراضية، وأطلق البيان وأراد به تفسير القرآن الكريم.

والبيان منهج بحث أعم، وأصبح علم البيان عند المتأخرين يعني معرفة إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة وبالنقصان، ليحترز في ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام بتمام المراد منه. وهكذا اتسع مفهوم البيان وانتظمت عناصره في مصطلح واحد، فكلما أطلق علم البيان فهم منه الطرق المختلفة لإيراد المعنى، والبيان مصطلح مركزي في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وفي علوم البلاغة وعلوم النقد، والبيان وسيلة طبيعية للإعراب عن المعاني، أو منهج طبيعي للإعراب عن المعاني باختصار، وإنما تتجلى تلك المعاني في الإخبار عنها بالبيان فالبيان اللغوي سلوك يقرب المعاني من الفهم وعلى قدر وضوح الدلالة يظهر وضوح المعنى.

ومن المفاهيم العلاقية التي تتصل بالبيان التناسب الذي يختصر القيم العلاقية الكلية التي تتظافر في إحداث وظيفة البيان، والتناسب قانون كلي دل عليه قوله تبارك وتعالى: « تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِير» [الحجر الآيات: 1-2-3-4] والقراءة التناسبية دراسة تتناول أوجه التناسب المعنوي واللفظي والصوتي في البيان القرآني بطريقة تجمع بين النظرية والتطبيق، ومفهوم التناسب ليس منحصرا في علم واحد من علوم القرآن ولا في جانب واحد من البلاغة، بل هو دراسة تركيبية تقوم على التقاط ثمرات علوم كثيرة وتسخيرها في تدبر خصائص البيان القرآني.

وفي حديثه أشار المحاضر إلى أن  من التناسب اللفظي، تناسب المشاكلة وتناسب المجاورة والاتباع، ومن مظاهر تناسب الأصوات التوازن في النظم الصوتي وتناسب الفواصل، ويدخل في المناسبة باب من أبواب البديع وهو التتميم؛ وهو إرداف كلمة بأخرى ترفع عنها اللَّبس وتقربها من الفهم وتتم المعنى إما مبالغة أو احترازا، ويدخل في المناسبة أيضا تجانس الألفاظ، ومن مظاهر الانسجام  والتناسب البياني حسن النسق  وهو أن يأتي المتكلم بكلمات متتاليات معطوفات متلاحمات تلاحما سليما مستحسنا بحيث إذا أفردت كل جملة منه قامت بنفسها واستقل معناها بلفظها، ومن أجمل ما ذكره أهل البلاغة والتفسير وعلوم القرآن في ذلك الآية الرابعة والأربعون من سورة هود « وَقِيلَ يا أرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ ويا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِين» [هود:44]، وما تحدث عنه ابن معصوم المدني في باب حسن النسق حيث بين تنسيق الصفات وهو ذكر كلمات معطوفات متلاحمات تلاحما سليما مستحسنا، بحيث إذا أفردت كل جملة منه قامت بنفسها واستقل معناها بلفظها، وأكبر شاهد على ذلك فاتحة الكتاب.

ومن مظاهر الانسجام والتناسب البياني اللف والنشر وهو أن يذكر شيئان أو أكثر، إما إجمالا أو تفصيلا بالنص على كل واحد، فمن الإجمال قوله تعالى: «وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى» [البقرة: 111]؛ أي قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، والذي سوغ الإجمال في اللف ثبوت العناد بين اليهود والنصارى؛ إذ يقصر كل فريق دخول الجنة على فريقه وملته.

ومن مظاهر الانسجام والتناسب البياني المشاكلة والتشاكل وهو ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في سياقه، فكلمات النص تدخل في علاقة مشاكلة، فتكون كل كلمة من تلك الكلمات محملة بخصائص تخصصها، فترجح خصائص وتستغني عن أخرى، حتى تنسجم أجزاء الكلام، وذلك أن الكلمة في ذاتها تكون متعددة السمات والدلالات، وما تتخلص من كثافتها إلا عندما تندرج في سياق تركيبي معين، وذلك لتحصيل التشاكل الدلالي، ومن التشاكل قوله تعالى: «تَعْلَمُ مَا في نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ» [المائدة: 116]، وقوله تعالى: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ واللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ»[آل عمران: 54] فإن إطلاق النفس في جنب الله سبحانه إنما ورد للمشاكلة ما معه وكذلك المكر.

ومن مظاهر الانسجام والتناسب البياني المطابقة والمقابلة وهي الجمع بين متضادين في النص نحو قوله تعالى: «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»[التوبة: 82]، وقوله تعالى: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا أَتَاكُمْ واللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»[الحديد: 23]، وقوله تعالى: «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ»[الكهف: 17] ومن أخفى المطابقات في القرآن الكريم قوله تعالى: «وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»[البقرة: 189] لأن معنى القصاص القتل فصار القتل سبب الحياة.

وختم المحاضر ورقته بنتائج بين فيها أن مصطلح البيان يمكن تتبعه واستقرائه في النصوص من أقدم ظهور لها، ولكن ظهورها في القرآن الكريم منحها مركزية خاصة لأنها شغلت حيزا كبيرا في الاستعمال البلاغي والنقدي والتفسيري، ثم إن مفردة البيان ذات مركزية ملحوظة في تاريخ العلوم عند العرب وفي اختياراتهم الاصطلاحية، فقد خرج اللفظ من حد إفادة مجرد الكشف إلى آفاق دلالية واسعة يجتمع فيها كل بيان وكل فن أفاد قواعد البيان، وهنا يمكن استثمار البيان في استخراج طرق البحث العلمي وأدواته وهي طرق وأدوات ومسالك منظمة ومضبوطة بالقواعد، وتفضي هذه الأدوات والمسالك إلى النتائج المرجوة، ثم يقترح توسيع مصطلح البيان على دراسة النص الفصيح صوتا وكلمة مفردة وتركيبا ونصا وخطابا، فيصح أن نطلق البيان على الفن الذي يدرس النصوص ويفسرها، كما يعم لفظ البيان الكلمات الجوامع في القران الكريم أو الكلمات الفرائد؛ وهي الألفاظ المحورية المفردة الفصيحة التي تتنزل منزلة الفريدة من العقد كالجوهرة التي لا نظير لها، وهي التي تدل على عظم بيان النص الفصيح وقوة عارضته وجزالة منطقه وأصالة عربيته، كما يشمل البيان العلم ببلاغة النص وشروط بنائه والعلم ببلاغة الخطاب وأركانه ويدخل في هذا الفن المصطلحات والمفاهيم التي تتناول بالدرس والتحليل الجانب العلاقي في النص وتَعَمُّل مباحث التماسك، وتمتلك هذه الدلالات الأصلية والطارئة القديمة والحديثة جميعا في أصل معنى البيان في القرآن الكريم وفصيح الكلام بإفراده وتركيبه وغايته ومقاصده، ويظل القرآن الكريم المصدر الأول في استخراج معاني مصطلح البيان.

وختمت المحاضرة الافتتاحية بمناقشات شارك فيها الأساتذة المتدخلون والطلبة الباحثون فكانت إجابات الدكتور عبد الرحمن بودرع مسك ختام هذه المحاضرة.

‫2 تعليقات

  1. شكرا جزيلا لمَن نظَّم المُحاضرَة
    وشكرا جزيلا لمَن كتب هذا التقريرَ
    وشكراً جزيلا لمَن نشرَ هذا التقرير ونسَّقَ صورَه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق