من أنماط التصنيف البارزة في التراث الإسلامي؛ تلك الأعمال المبسوطة الجامعة الشاملة التي يعجز اللسان. عن وصف المجهودات التي بذلت في تأليفها، والأوقات التي صرفت في نسخها وكتابتها، ومثل هذه الأعمال الموسوعية جديرة بالعناية والاهتمام، وحري بالباحثين أن ينكبوا عليها قراءة وبحثا ونقدا؛ نظرا لجمعها ما تفرق في غيرها من المصادر ، وما تميزت بـه مـن إبداع في ترتيبها، وإحكام في تصنيفها، وكثرة ما تحتوي عليه من فرائد وفوائد؛ وقد كان للمغاربة إسهام بارز في هذا النمط من التصنيف؛ نذكر على سبيل المثال كتاب : « العبر ، وديوان المبتدأ والخبر»، للعلامة المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون (ت808هـ)، وكتاب: «المعسول في الإلغيين وأساتذتهم وتلامذتهم وأصدقائهم ، لمحمد المختار السوسي (ت 1383هـ)، وهو كتاب كبير في تراجم علماء منطقة سوس، يقع في عشرين مجلدا. وأكبر منهما حجما كتاب «فتح الفتاح على مختصر خليل»، لمؤلفه العلامة الفقيه أبي الحسن علي بن رحّال المعداني (ت 1140هـ) ، وهو کتاب حافل جليل المقدار كاد أن يحتوي على جميع نصوص المذهب، ورغم ضخامة حجم هذا الكتاب وموسوعيته فإنه لا يتضمن شرح أبواب العبادات التي استغنى عن شرحها بما سبقه إليه شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني الطرابلسي المالكي المعروف بالحطاب (ت954هـ) في كتابه: مواهب الجليل على مختصر خليل».

ومن الأعمال الموسوعية الخالدة لعلماء الأندلس كتاب: «التصريف لمن عجز عن التأليف، للعالم الطبيب أبي القاسم خلف بن عباس الزَّهْرَاوي - نسبة إلى مدينة الزهراء القريبة من قرطبة . (ت 427هـ)، وهو كتاب كبير يقع في ثلاثين مجلدا لم يُؤلف في الطب أجمع منه، وقد نال شهرة واسعة في البلاد الغربية بفضل ترجمته إلى اللغة اللاتينية والعبرية وغيرهما من اللغات. ومن أبرز الكتب الكبار لعلماء الأندلس كتابا: «التمهيد لما في الموطا من المعاني والأسانيد، وكتاب: «الاستذكار لمذاهب العلماء الأمصار فيما تضمنه موطأ مالك من معاني الرأي والآثار؛ كلاهما للحافظ الكبير أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (ت 463هـ)، وكتاب: البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل»، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي (ت 520هـ)، ومن أعمالهم الموسوعية التي نتأسف لضياعها: «الكتاب المُظَفَرِي» الذي يقع في خمسين مجلدا؛ ألّفه صاحب بَطَلْيَوْس أبو بكر الله . محمد بن عبد بن محمد بن مسلمة التجيبي المظفر المعروف بابن الأفطس (ت 460هـ)، جمع فيه العديد من العلوم والفنون من سير ومغازي وأخبار وأمثال، وجميع ما يختص به الأدب، وكتاب: «أنوار الفجر»، تأليف القاضي أبي بكر بن العربي المعافري (ت 543 هـ)، كـان مـن ذخائر خزانة السلطان أبي عنان المريني، وهو في ثمانين سفرا، وكتاب: «ريّ الظمآن في تفسير القرآن»، لأبي الحسن علي بن عبد الله بن خلف الأنصاري المَرَوِي البلنسي المعروف بابن النِّعْمَة (ت 567هـ) ، يقع في سبعة وخمسين مجلدا.

أما في المشرق العربي فكان هذا النمط من التصنيف حاضرا شائعا في أعمال كثيـر مـن المصنفين؛ لا سيما في القرن السابع للهجرة، الذي تناوله بالبحث والدرس الأستاذ العلامة الأديب الدكتور أحمد شوقي بنبين ـ مدير الخزانة المولوية حفظه الله ـ في بحث نفيس بعنوان: «الإبـداع والموسوعية في التراث العربي في القرن السابع للهجرة، ياقوت وابن عربي وابن خلكان نموذجا»،

وهذا البحث الفريد المُفيد هو أوّل بحوث هذا العدد الجديد من مجلة مرآة التراث الذي يتميز باحتوائه على بحوث في غاية الإفادة؛ منها بحث أتحفنا به فضيلة الأستاذ الأديب المحقق الناقد الدكتور عباس ارحيلة عن ترجمة الأقوال الحكمية من اليونانية إلى العربية، وكتاب آداب الفلاسفة لحنين بن إسحاق (ت 260هـ)؛ أثار فيه موضوع الصلة بين الثقافة العربية والثقافة اليونانية في الجانب الأخلاقي، وأثر حركة الترجمة التي نشطت في العصر العباسي في ذلك، وطرح في بحثه الإشكاليات التي تطرحها منهجية الترجمة، مُنَوِّهاً بما تميّزت به الترجمات العربية من أداء بياني رائق، وإضافات مهمة مستمدة من رسالة الإسلام الأخلاقية.

ومن الدراسات القيمة التي اشتمل عليها هذا العدد الجديد من المجلة بحث بعنوان: من مزالق محققي الكتب الشرعية المغربية الأندلسية والكتب الخادمة لها وسبل اجتنابها»، للأستاذ الدكتور مصطفى عكلي.

وبحث عن «فهرسة المخطوطات منهاجها، وعناصرها الأساسية»، للباحث التونسي الدكتور علي بن أحمد العلايمي.

وفي باب: (خزائن ومكتبات أنجز الباحث الدكتور الأزرق الركراكي تعريفا مفصلا بإحدى خزائن الكتب الشهيرة بمنطقة سوس بالجنوب المغربي، وهي «الخزانة الأزاريفية»،

وفي بـاب مراجعات نقدية كتب الباحث الأستاذ السعيد الصمدي بحثا في نقد تحقيق كتاب «الإشراف على نكت مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب البغدادي (ت 422هـ).

وفي باب (نصوص محققة؛ تضمن هذا العدد نصين محققين؛

أولهما: تحقيق رسالة فقهية لطيفة للعلامة الفقيه أبي العباس أحمد بابا السوداني التنبكتي (ت: 1036هـ) بعنوان: «إِرْشَادُ الْوَاقِفِ لِمَعْنَى وَخَصَّصَتْ نِيَةُ الْحَالِفِ ، . ، بتحقيق الدكتور أحمد بن المدني لكلمي.

وتليها رسالة أخرى في علم أصول الفقه، وهي بعنوان: «مِرْقَاةُ الوُصُولِ إِلَى وَرَقَاتِ الأُصُولِ، أَوْ المِرْقَاةِ إِلَى الوَرَقَات»، للعلامة الحافظ أبي المحاسن محمد المَدَنِي بن الحُسني الرباطي (ت1378هـ)، وتصدّى لتحقيقها والتعريف بها الدكتور رشيد قباظ.